تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

الأعليان بقرينة المقام كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا ابن عبد المطّلب».

وجملة (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل بتمجيد هذه النعم ، وأنها كائنة على وفق علمه وحكمته ، فعلمه هو علمه بالنفوس الصالحة لهذه الفضائل ، لأنّه خلقها لقبول ذلك فعلمه بها سابق ، وحكمته وضع النعم في مواضعها المناسبة.

وتصدير الجملة ب (إِنَ) للاهتمام لا للتّأكيد إذ لا يشك يوسف ـ عليه‌السلام ـ في علم الله وحكمته. والاهتمام ذريعة إلى إفادة التعليل. والتفريع في ذلك تعريض بالثناء على يوسف ـ عليه‌السلام ـ وتأهّله لمثل تلك الفضائل.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧))

جملة ابتدائية ، وهي مبدأ القصص المقصود ، إذ كان ما قبله كالمقدمة له المنبئة بنباهة شأن صاحب القصة ، فليس هو من الحوادث التي لحقت يوسف ـ عليه‌السلام ـ ولهذا كان أسلوب هذه الجملة كأسلوب القصص ، وهو قوله : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) [سورة يوسف : ٨] نظير قوله تعالى : (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [سورة ص : ٧٠ ، ٧١] إلى آخر القصة.

والظرفية المستفاد من (فِي) ظرفية مجازية بتشبيه مقارنة الدليل للمدلول بمقارنة المظروف للظرف ، أي لقد كان شأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ وإخوته مقارنا لدلائل عظيمة من العبر والمواعظ ، والتعريف بعظيم صنع الله تعالى وتقديره.

والآيات : الدلائل على ما تتطلب معرفته من الأمور الخفية.

والآيات حقيقة في آيات الطريق ، وهي علامات يجعلونها في المفاوز تكون بادية لا تغمرها الرمال لتكون مرشدة للسائرين ، ثم أطلقت على حجج الصدق ، وأدلة المعلومات الدقيقة. وجمع الآيات هنا مراعى فيه تعدّدها وتعدّد أنواعها ، ففي قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ دلائل على ما للصّبر وحسن الطويّة من عواقب الخير والنصر ، أو على ما للحسد والإضرار بالنّاس من الخيبة والاندحار والهبوط.

وفيها من الدلائل على صدق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وأنّ القرآن وحي من الله ، إذ جاء في هذه السورة ما لا يعلمه إلّا أحبار أهل الكتاب دون قراءة ولا كتاب وذلك من المعجزات.

٢١

وفي بلاغة نظمها وفصاحتها من الإعجاز ما هو دليل على أنّ هذا الكلام من صنع الله ألقاه إلى رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معجزة له على قومه أهل الفصاحة والبلاغة.

والسائلون : مراد منهم من يتوقع منه السؤال عن المواعظ والحكم كقوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [سورة فصلت : ١٠]. ومثل هذا يستعمل في كلام العرب للتشويق ، والحثّ على تطلب الخبر والقصة. قال طرفة :

سائلوا عنّا الذي يعرفنا

بقوانا يوم تحلاق اللمم

وقال السموأل أو عبد الملك الحارثي :

سلي إن جهلت الناس عنّا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول

وقال عامر بن الطفيل :

طلّقت إن لم تسألي أيّ فارس

حليلك إذ لاقى صداء وخثعما

وقال أنيف بن زبان النبهاني :

فلمّا التقينا بين السّيف بيننا

لسائلة عنا حفي سؤالها

وأكثر استعمال ذلك في كلامهم يكون توجيهه إلى ضمير الأنثى ، لأنّ النساء يعنين بالسؤال عن الأخبار التي يتحدث الناس بها ، ولمّا جاء القرآن وكانت أخباره التي يشوق إلى معرفتها أخبار علم وحكمة صرف ذلك الاستعمال عن التوجيه إلى ضمير النسوة ، ووجّه إلى ضمير المذكّر كما في قوله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [سورة المعارج : ١] وقوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [سورة النبأ : ١].

وقيل المراد ب (السائلين) اليهود إذ سأل فريق منهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك. وهذا لا يستقيم لأنّ السورة مكيّة ولم يكن لليهود مخالطة للمسلمين بمكة.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨))

(إِذْ) ظرف متعلق ب (كان) من قوله : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) [سورة يوسف : ٧] ، فإنّ ذلك الزمان موقع من مواقع الآيات فإن في قولهم ذلك حينئذ عبرة من عبر الأخلاق التي تنشأ من حسد الإخوة والأقرباء ، وعبرة من المجازفة في تغليطهم أباهم ، واستخفافهم برأيه غرورا منهم ، وغفلة عن مراتب موجبات ميل الأب إلى

٢٢

بعض أبنائه. وتلك الآيات قائمة في الحكاية عن ذلك الزمن.

وهذا القول المحكي عنهم قول تآمر وتحاور.

وافتتاح المقول بلام الابتداء المفيدة للتّوكيد لقصد تحقيق الخبر. والمراد : توكيد لازم الخبر إذ لم يكن فيهم من يشك في أنّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ وأخاه أحبّ إلى أبيهم من بقيّتهم ولكنّهم لم يكونوا سواء في الحسد لهما والغيرة من تفضيل أبيهم إيّاهما على بقيتهم ، فأراد بعضهم إقناع بعض بذلك ليتمالئوا على الكيد ليوسف ـ عليه‌السلام ـ وأخيه ، كما سيأتي عند قوله : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) ، وقوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) [سورة يوسف : ١٠] ؛ فقائل الكلام بعض إخوته ، أي جماعة منهم بقرينة قوله بعد (اقْتُلُوا يُوسُفَ) [سورة يوسف : ٩] وقولهم : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ)[سورة يوسف : ١٠].

وأخو يوسف ـ عليه‌السلام ـ أريد به (بنيامين) وإنّما خصّوه بالأخوة لأنّه كان شقيقه ، أمهما (راحيل) بنت (لابان) ، وكان بقية إخوته إخوة للأب ، أمّ بعضهم (ليئة) بنت (لابان) ، وأمّ بعضهم (بلهة) جارية (ليئة) وهبتها (ليئة) لزوجها يعقوب ـ عليه‌السلام ـ.

و (أَحَبُ) اسم تفضيل ، وأفعل التفضيل يتعدّى إلى المفضّل ب (من) ، ويتعدّى إلى المفضّل عنده ب (إلى).

ودعواهم أنّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ وأخاه أحبّ إلى يعقوب ـ عليه‌السلام ـ منهم يجوز أن تكون دعوى باطلة أثار اعتقادها في نفوسهم شدّة الغيرة من أفضليّة يوسف ـ عليه‌السلام ـ وأخيه عليهم في الكمالات وربّما سمعوا ثناء أبيهم على يوسف ـ عليه‌السلام ـ وأخيه في أعمال تصدر منهما أو شاهدوه يأخذ بإشارتهما أو رأوا منه شفقة عليهما لصغرهما ووفاة أمّهما فتوهّموا من ذلك أنّه أشدّ حبّا إيّاهما منهم توهما باطلا. ويجوز أن تكون دعواهم مطابقة للواقع وتكون زيادة محبّته إيّاهما أمرا لا يملك صرفه عن نفسه لأنّه وجدان ولكنّه لم يكن يؤثرهما عليهم في المعاملات والأمور الظاهريّة ويكون أبناؤه قد علموا فرط محبّة أبيهم إيّاهما من التوسّم والقرائن لا من تفضيلهما في المعاملة فلا يكون يعقوب ـ عليه‌السلام ـ مؤاخذا بشيء يفضي إلى التباغض بين الإخوة.

وجملة (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) في موضع الحال من (أَحَبُ) ، أي ونحن أكثر عددا. والمقصود من الحال التعجّب من تفضيلهما في الحبّ في حال أنّ رجاء انتفاعه من

٢٣

إخوتهما أشدّ من رجائه منهما ، بناء على ما هو الشائع عند عامّة أهل البدو من الاعتزاز بالكثرة ، فظنوا مدارك يعقوب ـ عليه‌السلام ـ مساوية لمدارك الدّهماء ، والعقول قلما تدرك مراقي ما فوقها ، ولم يعلموا أنّ ما ينظر إليه أهل الكمال من أسباب التفضيل غير ما ينظره من دونهم.

وتكون جملة (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) تعليلا للتعجّب وتفريعا عليه ، وضمير (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) لجميع الإخوة عدا يوسف ـ عليه‌السلام ـ وأخاه. ويجوز أن تكون جملة (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) عطفا على جملة (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا). والمقصود لازم الخبر وهو تجرئة بعضهم بعضا عن إتيان العمل الذي سيغريهم به في قولهم : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) سورة يوسف : ٩] ، أي إنّا لا يعجزنا الكيد ليوسف ـ عليه‌السلام ـ وأخيه فإنّا عصبة والعصبة يهون عليهم العمل العظيم الذي لا يستطيعه العدد القليل كقوله : (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) [سورة يوسف : ١٤] ، وتكون جملة (إِنَّ أَبانا) تعليلا للإغراء وتفريعا عليه.

و «العصبة : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، مثل أسماء الجماعات ، ويقال : العصابة. قال جمهور اللّغويين : تطلق العصبة على الجماعة من عشرة إلى أربعين». وعن ابن عبّاس أنّها من ثلاثة إلى عشرة ، وذهب إليه بعض أهل اللغة وذكروا أنّ في مصحف حفصة قوله تعالى : «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة أربعة (مِنْكُمْ).

وكان أبناء يعقوب ـ عليه‌السلام ـ اثني عشر ، وهم الأسباط. وقد تقدّم الكلام عليهم عند قوله تعالى : أم يقولون (إِنَّ إِبْراهِيمَ) الآية في سورة البقرة [١٤٠].

والضلال إخطاء مسلك الصّواب. وإنّما : أراد وأخطأ التّدبير للعيش لا الخطأ في الدين والاعتقاد. والتخطئة في أحوال الدّنيا لا تنافي الاعتراف للمخطئ بالنبوءة.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩))

جملة مستأنفة استئنافا بيانيّا لأنّ الكلام المتقدم يثير سؤالا في نفوس السّامعين عن غرض القائلين ممّا قالوه فهذا المقصود للقائلين. وإنّما جعلوا له الكلام السابق كالمقدمة لتتأثّر نفوس السّامعين فإذا ألقي إليها المطلوب كانت سريعة الامتثال إليه.

٢٤

وهذا فنّ من صناعة الخطابة أن يفتتح الخطيب كلامه بتهيئة نفوس السّامعين لتتأثّر بالغرض المطلوب. فإنّ حالة تأثّر النفوس تغني عن الخطيب عناء جمل كثيرة من بيان العلل والفوائد ، كما قال الحريري في المقامة الحادية عشرة «فلما دفنوا الميت ، وفات قول ليت ، أشرف شيخ من رباوة ، متأبّطا لهراوة ، فقال لمثل هذا فليعمل العاملون». وانهلّ في الخطب.

والأمر مستعمل في الإرشاد. وأرادوا ارتكاب شيء يفرّق بين يوسف وأبيه ـ عليهما‌السلام ـ تفرقة لا يحاول من جرّائها اقترابا بأن يعدموه أو ينقلوه إلى أرض أخرى فيهلك أو يفترس.

وهذه آية من عبر الأخلاق السيّئة وهي التّخلّص من مزاحمة الفاضل بفضله لمن هو دونه فيه أو مساويه بإعدام صاحب الفضل وهي أكبر جريمة لاشتمالها على الحسد ، والإضرار بالغير ، وانتهاك ما أمر الله بحفظه ، وهم قد كانوا أهل دين ومن بيت نبوءة وقد أصلح الله حالهم من بعد وأثنى عليهم وسمّاهم الأسباط.

وانتصب (أَرْضاً) على تضمين (اطْرَحُوهُ) معنى أودعوه ، أو على نزع الخافض ، أو على تشبيهه بالمفعول فيه لأنّ (أَرْضاً) اسم مكان فلما كان غير محدود وزاد إبهاما بالتّنكير عومل معاملة أسماء الجهات ، وهذا أضعف الوجوه. وقد علم أنّ المراد أرض مجهولة لأبيه.

وجزم (يَخْلُ) في جواب الأمر ، أي إن فعلتم ذلك يخل لكم وجه أبيكم.

والخلوّ : حقيقته الفراغ. وهو مستعمل هنا مجازا في عدم التوجّه لمن لا يرغبون توجّهه له ، فكأنّ الوجه خلا من أشياء كانت حالة فيه.

واللّام في قوله (لَكُمْ) لام العلة ، أي يخل وجه أبيكم لأجلكم ، بمعنى أنّه يخلو ممّن عداكم فينفرد لكم.

وهذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبّته لهم دون مشارك.

وعطف (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد يوسف ـ عليه‌السلام ـ على (يَخْلُ) ليكون من جملة الجواب للأمر. فالمراد كون ناشئ عن فعل المأمور به فتعيّن أن يكون المراد من الصلاح فيه الصلاح الدنيوي ، أيّ صلاح الأحوال في عيشهم مع أبيهم ، وليس المراد الصلاح الديني.

٢٥

وأنّما لم يدبروا شيئا في إعدام أخي يوسف ـ عليه‌السلام ـ شفقة عليه لصغره.

وإقحام لفظ (قَوْماً) بين كان وخبرها للإشارة إلى أنّ صلاح الحال صفة متمكّنة فيهم كأنّه من مقوّمات قوميّتهم. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] وعند قوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة يونس [١٠١].

وهذا الأمر صدر من قائله وسامعيه منهم قبل اتّصافهم بالنبوءة أو بالولاية لأنّ فيه ارتكاب كبيرة القتل أو التّعذيب والاعتداء ، وكبيرة العقوق.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

فصل جملة (قالَ قائِلٌ) جار على طريقة المقاولات والمحاورات ، كما تقدّم في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنّه منهم.

والعدول عن اسمه العلم إلى التنكير والوصفيّة لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنّما المهمّ أنّه من جماعتهم. وتجنّبا لما في اسمه العلم من الثقل اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه. قيل : إنّه (يهوذا) وقيل : (شمعون) وقيل (روبين) ، والذي في سفر التّكوين من التّوراة أنه (راوبين) صدّهم عن قتله وأن يهوذا دل عليه السيارة كما في الإصحاح ٣٧. وعادة القرآن أن لا يذكر إلّا اسم المقصود من القصّة دون أسماء الذين شملتهم ، مثل قوله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [سورة غافر : ٢٨].

والإلقاء : الرمي.

والغيابات : جمع غيابة ، وهي ما غاب عن البصر من شيء. فيقال : غيابة الجبّ وغيابة القبر والمراد قعر الجبّ.

والجبّ : البئر التي تحفر ولا تطوى.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر «غيابات» بالجمع. ومعناه جهات تلك الغيابة ، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم ، كقوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) [سورة النور : ٤٠] وقرأ الباقون (فِي غَيابَتِ الْجُبِ) بالإفراد.

٢٦

والتّعريف في (الْجُبِ) تعريف العهد الذهني ، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم : ادخل السوق. وهو في المعنى كالنكرة.

فلعلّهم كانوا قد عهدوا جبابا كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم ، وقد توخوا أن تكون طرائقهم عليها ، وأحسب أنّها كانت ينصب إليها ماء السيول ، وأنّها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أنّ إلقاءه في الجبّ لا يهشّم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه.

و (يَلْتَقِطْهُ) جواب الأمر في قوله : (وَأَلْقُوهُ). والتّقدير : إن تلقوه يلتقطه. والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أنّ ما أشار به القائل من إلقاء يوسف ـ عليه‌السلام ـ في غيابة جبّ هو أمثل ممّا أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنّه يحصل به إبعاد يوسف ـ عليه‌السلام ـ عن أبيه إبعادا لا يرجى بعده تلاقيهما دون إلحاق ضرّ الإعدام بيوسف ـ عليه‌السلام ـ ؛ فإنّ التقاط السيّارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده ، لأنّه إذا التقطه السيّارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعدا على بعد.

والالتقاط : تناول شيء من الأرض أو الطريق ، واستعير لأخذ شيء مضاع.

والسيّارة : الجماعة الموصوفة بحالة السّير وكثرته ، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلّاحة والبحّارة.

والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنّهم علموا أنّ الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتّجارة والميرة.

وجملة (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة (وَأَلْقُوهُ) ، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألقوه في غيابات الجبّ ولا تقتلوه.

وفيه تعريض بزيادة التريّث فيما أضمروه لعلّهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه ، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو (إِنْ) إيماء إلى أنّه لا ينبغي الجزم به ، فكان هذا القائل أمثل الإخوة رأيا وأقربهم إلى التّقوى ، وقد علموا أنّ السيّارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء ، لأنّها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر. وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط.

٢٧

[١١ ، ١٢] (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢))

استئناف بيانيّ لأنّ سوق القصّة يستدعي تساؤل السامع عمّا جرى بعد إشارة أخيهم عليهم ، وهل رجعوا عمّا بيتوا وصمّموا على ما أشار به أخوهم.

وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم : (يا أَبانا) يقضي أنّ تلك عادتهم في خطاب الابن أباه.

ولعل يعقوب ـ عليه‌السلام ـ كان لا يأذن ليوسف ـ عليه‌السلام ـ بالخروج مع إخوته للرعي أو للسّبق خوفا عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم ، ولم يكن يصرّح لهم بأنّه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزّلوه منزلة من لا يأمنهم ، وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان.

وفي التّوراة أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون ، وإذا لم يكن تحريفا فلعلّ يعقوب ـ عليه‌السلام ـ بعد أن امتنع من خروج يوسف ـ عليه‌السلام ـ معهم سمح له بذلك ، أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك.

وتركيب (ما لَكَ) لا تفعل. تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) في سورة يونس [٣٥] ، وانظر قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) في سورة براءة [٣٨]. وقوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) في سورة النساء [٨٨].

واتفق القرّاء على قراءة (لا تَأْمَنَّا) بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلّمين ، وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة. واختلفوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض ، وإدغام بإشمام ، وإخفاء بلا إدغام ، وهذا الوجه الأخير مرجوح ، وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام ، وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين.

وحرف (عَلى) التي يتعدّى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكّن من تعلّق الائتمان بمدخول (عَلى).

والنّصح عمل أو قول فيه نفع للمنصوح ، وفعله يتعدّى باللّام غالبا وبنفسه. وتقدّم في قوله تعالى : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) في سورة الأعراف [٦٢].

٢٨

وجملة (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) معترضة بين جملتي (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) وجملة (أَرْسِلْهُ). والمعنى هنا : أنهم يعملون ما فيه نفع ليوسف ـ عليه‌السلام ـ.

وجملة (أَرْسِلْهُ) مستأنفة استئنافا بيانيّا لأن الإنكار المتقدّم يثير ترقب يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لمعرفة ما يريدون منه ليوسف ـ عليه‌السلام ـ.

و (يَرْتَعْ) قرأه نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب ـ بياء الغائب وكسر العين ـ. وقرأه ابن كثير ـ بنون المتكلّم المشارك وكسر العين ـ وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعى وهو افتعال من الرّعي للمبالغة فيه.

فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأنّ الناس إذا خرجوا إلى الرّياض والأرياف للّعب والسّبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلا ذريعا فلذلك شبّه أكلهم بأكل الأنعام. وإنّما ذكروا ذلك لأنّه يسرّ أباهم أن يكونوا فرحين.

وقرأه أبو عمرو ، وابن عامر ـ بنون وسكون العين ـ. وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بياء الغائب وسكون العين ـ وهو على قراءتي هؤلاء الستة مضارع رتع إذا أقام في خصب وسعة من الطعام. والتحقيق أنّ هذا مستعار من رتعت الدّابة إذا أكلت في المرعى حتّى شبعت. فمفاد المعنى على التأويلين واحد.

واللّعب : فعل أو كلام لا يراد منه ما شأنه أن يراد بمثله نحو الجري والقفز والسّبق والمراماة ، نحو قول امرئ القيس :

فظلّ العذارى يرتمين بشحمها

يقصد منه الاستجمام ودفع السآمة. وهو مباح في الشرائع كلّها إذا لم يصر دأبا. فلا وجه لتساؤل صاحب «الكشاف» على استجازة يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لهم اللعب.

والذين قرءوا نرتع بنون المشاركة قرءوا ونلعب بالنون أيضا.

وجملة (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) في موضع الحال مثل (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) [سورة يوسف : ١٠]. والتّأكيد فيهما للتّحقيق تنزيلا لأبيهم منزلة الشّاك في أنّهم يحفظونه وينصحونه كما نزّلوه منزلة من لا يأمنهم عليه من حيث إنّه كان لا يأذن له بالخروج معهم للرعي ونحوه.

وتقديم (لَهُ) في (لَهُ لَناصِحُونَ) و (لَهُ لَحافِظُونَ) يجوز أن يكون لأجل الرعاية

٢٩

للفاصلة والاهتمام بشأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ في ظاهر الأمر ، ويجوز أن يكون للقصر الادّعائي ؛ جعلوا أنفسهم لفرط عنايتهم به بمنزلة من لا يحفظ غيره ولا ينصح غيره.

وفي هذا القول الذي تواطئوا عليه عند أبيهم عبرة من تواطئ أهل الغرض الواحد على التحيّل لنصب الأحابيل لتحصيل غرض دنيء ، وكيف ابتدءوا بالاستفهام عن عدم أمنه إيّاهم على أخيهم وإظهار أنّهم نصحاء له ، وحققوا ذلك بالجملة الاسمية وبحرف التوكيد ، ثمّ أظهروا أنّهم ما حرصوا إلّا على فائدة أخيهم وأنّهم حافظون له وأكّدوا ذلك أيضا.

[١٣ ، ١٤] (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

فصل جملة (قالَ) جار على طريقة المحاورة.

أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف ـ عليه‌السلام ـ معهم إلى الرّيف بأنّه يحزنه لبعده عنه أيّاما ، وبأنّه يخشى عليه الذئاب ، إذ كان يوسف ـ عليه‌السلام ـ حينئذ غلاما ، وكان قد ربّي في دعة فلم يكن مرنا بمقاومة الوحوش ، والذئاب تجترئ على الذي تحسّ منه ضعفا في دفاعها. قال الرّبيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف الشيخوخة :

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وقال الفرزدق يذكر ذئبا :

فقلت له لمّا تكشّر ضاحكا

وقائم سيفي من يدي بمكان

تعش فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فذئاب بادية الشّام كانت أشدّ خبثا من بقية الذئاب ، ولعلّها كانت كذئاب بلاد الرّوس. والعرب يقولون : إنّ الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتّى عضّ الإنسان وأسال دمه أنّه يضرى حين يرى الدم فيستأسد على الإنسان ، قال :

فكنت كذئب السّوء حين رأى دما

بصاحبه يوما أحال على الدم

وقد يتجمّع سرب من الذئاب فتكون أشدّ خطرا على الواحد من الناس والصغير.

والتعريف في (الذِّئْبُ) تعريف الحقيقة والطبيعة ، ويسمّى تعريف الجنس. وهو هنا مراد به غير معيّن من نوع الذئب أو جماعة منه ، وليس الحكم على الجنس بقرينة أن الأكل من أحوال الذّوات لا من أحوال الجنس ، لكن المراد أية ذات من هذا الجنس دون

٣٠

تعيين. ونظيره قوله تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [سورة الجمعة : ٥] أي فرد من الحمير غير معيّن ، وقرينة إرادة الفرد دون الجنس إسناد حمل الأسفار إليه لأنّ الجنس لا يحمل. ومنه قولهم : (ادخل السوق) إذا أردت فردا من الأسواق غير معين ، وقولك : ادخل ، قرينة على ما ذكر. وهذا التّعريف شبيه بالنّكرة في المعنى إلّا أنّه مراد به فرد من الجنس. وقريب من هذا التّعريف باللّام التعريف بعلم الجنس ، والفرق بين هذه اللام وبين المنكّر كالفرق بين علم الجنس والنكرة.

فالمعنى : أخاف أن يأكله الذّئب ، أي يقتله فيأكل منه فإنّكم تبعدون عنه ، لما يعلم من إمعانهم في اللّعب والشّغل باللهو والمسابقة ، فتجتري الذئاب على يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

والذئب : حيوان من الفصيلة الكلبيّة ، وهو كلب برّي وحشيّ. من خلقه الاحتيال والنفور. وهو يفترس الغنم. وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به فربّما مزّقه.

وإنّما ذكر يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أنّ ذهابهم به غدا يحدث به حزنا مستقبلا (١) ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به لأنّ شأن الابن البار أن يتّقي ما يحزن أباه.

وتأكيد الجملة بحرف التّأكيد لقطع إلحاحهم بتحقيق أنّ حزنه لفراقه ثابت ، تنزيلا لهم منزلة من ينكر ذلك ، إذ رأى إلحاحهم. ويسري التّأكيد إلى جملة (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ).

فأبوا إلّا المراجعة قالوا : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ).

واللّام في (لَئِنْ أَكَلَهُ) موطّئة للقسم ، أرادوا تأكيد الجواب باللّام. وإنّ ولام الابتداء وإذن الجوابيّة تحقيقا لحصول خسرانهم على تقدير حصول الشّرط. والمراد : الكناية عن عدم تفريطهم فيه وعن حفظهم إيّاه لأنّ المرء لا يرضى أن يوصف بالخسران.

__________________

(١) ذهب جمع كثير من النحاة فيهم الزمخشري في «الكشاف» و «المفصل» إلى أن لام الابتداء إذا دخلت على المضارع تخلصه لزمن الحال ، وخالفهم كثير من البصريين. والتحقيق أن ذلك غالب لا مطرد. فهذه الآية وقوله تعالى : أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم : ٦٦] تشهدان لعدم اطراد هذا الحكم.

٣١

والمراد بالخسران : انتفاء النفع المرجوّ من الرّجال ، استعاروا له انتفاء نفع التاجر من تجره ، وهو خيبة مذمومة ، أي إنّا إذن لمسلوبون من صفات الفتوة من قوة ومقدرة ويقظة. فكونهم عصبة يحول دون تواطيهم على ما يوجب الخسران لجميعهم. وتقدم معنى العصبة آنفا ، وفي هذا عبرة من مقدار إظهار الصّلاح مع استبطان الضرّ والإهلاك.

وقرأ الجمهور بتحقيق همزة (الذِّئْبُ) على الأصل. وقرأه ورش عن نافع ، والسوسي عن أبي عمرو ، والكسائيّ بتخفيف الهمزة ياء. وفي بعض التفاسير نسب تخفيف الهمزة إلى خلف ، وأبي جعفر ، وذلك لا يعرف في كتب القراءات. وفي البيضاوي أنّ أبا عمرو أظهر الهمزة في التوقّف ، وأنّ حمزة أظهرها في الوصل.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥))

تفريع حكاية الذّهاب به والعزم على إلقائه في الجبّ على حكاية المحاورة بين يعقوب ـ عليه‌السلام ـ وبنيه في محاولة الخروج بيوسف ـ عليه‌السلام ـ إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على يعقوب ـ عليه‌السلام ـ حتّى أقنعوه فأذن ليوسف ـ عليه‌السلام ـ بالخروج معهم ، وهو إيجاز.

والمعنى : فلمّا أجابهم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ إلى ما طلبوا ذهبوا به وبلغوا المكان الذي فيه الجب.

وفعل (أجمع) يتعدّى إلى المفعول بنفسه. ومعناه : صمّم على الفعل ، فقوله : (أَنْ يَجْعَلُوهُ) هو مفعول (وَأَجْمَعُوا).

وجواب (لمّا) محذوف دلّ عليه (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) ، والتقدير : جعلوه في الجب. ومثله كثير في القرآن. وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن فهو تقليل في اللّفظ لظهور المعنى.

وجملة (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) معطوفة على جملة (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) ، لأنّ هذا الموحى من مهمّ عبر القصة.

وقيل : الواو مزيدة وجملة (أَوْحَيْنا) هو جواب (لمّا) ، وقد قيل بمثل ذلك في قوله امرئ القيس :

٣٢

فلمّا أجزنا ساحة الحي وانتحى

 ... البيت.

وقيل به في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) [سورة الصافات : ١٠٣ ، ١٠٤] الآية وفي جميع ذلك نظر.

والضمير في قوله : (إِلَيْهِ) عائد إلى يوسف ـ عليه‌السلام ـ في قول أكثر المفسّرين مقتصرين عليه. وذكر ابن عطية أنّه قيل الضمير عائد إلى يعقوب ـ عليه‌السلام ـ.

وجملة (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) بيان لجملة (أَوْحَيْنا). وأكّدت باللّام ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال. فعلى الأوّل فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما ألقاه الله في نفس يوسف ـ عليه‌السلام ـ حين كيدهم له ، ويحتمل أنّه وحي بواسطة الملك فيكون إرهاصا ليوسف ـ عليه‌السلام ـ قبل النّبوءة رحمة من الله ليزيل عنه كربه ، فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له ، وإيذان بأنّه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة ، وبأنه سينبىء في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية ، وذلك يستلزم نجاته وتمكّنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكّن منهم وأمن من شرهم.

ومعنى (بِأَمْرِهِمْ) : بفعلهم العظيم في الإساءة.

وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في موضع الحال ، أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعا على المغيبات متكهنا بها ، وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله تعالى : (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) [سورة يوسف : ٨٩] الآيتين.

وعلى احتمال عود ضمير (إِلَيْهِ) على يعقوب ـ عليه‌السلام ـ فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة الملك ، والواو أظهر في العطف حينئذ فهو معطوف على جملة (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) إلى آخرها (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) قبل ذلك. و (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) أمر ، أي أوحينا إليه نبّئهم بأمرهم هذا ، أي أشعرهم بما كادوا ليوسف ـ عليه‌السلام ـ ، إشعارا بالتعريض ، وذلك في قوله : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) [سورة يوسف : ١٣].

وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين ، أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك.

٣٣

وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف ـ عليه‌السلام ـ وقع في التوراة أنه في أرض (دوثان) ، ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا. والمراد : أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع. ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل. واتّفق واصفو الجب على أنه بين (بانياس) و (طبرية). وأنه على اثني عشر ميلا من طبرية ممّا يلي دمشق ، وأنه قرب قرية يقال لها (سنجل أو سنجيل). قال قدامة : هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية.

ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر. وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية وتمر على (دوثان) وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق ، وفي هذه الطريق جباب كثيرة في (دوثان). وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد ، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسّم وهي قائمة إلى الآن.

[١٦ ـ ١٨] (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) عطف على جملة (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) [سورة يوسف : ١٥] عطف جزء القصة.

والعشاء : وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها.

والبكاء : خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر. وتقدم في قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) [سورة التوبة : ٨٢]. وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي. وإنما اصطنعوا البكاء تمويها على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، ولعلّهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه ، وفي الناس عجائب من التمويه والكيد. ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة.

وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك ، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل

٣٤

ولا تنوط بها حكما ، وإنما يناط الحكم بالبينة.

جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي ، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها ، فقيل له : أما تراها تبكي؟! فقال : قد جاء إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة كذبة ، لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق. قال ابن العربي : قال علماؤنا : هذا يدلّ على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنّعا. ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر.

قلت : ومن الأمثال «دموع الفاجر بيديه» وهذه عبرة في هذه العبرة.

والاستباق : افتعال من السبق وهو هنا بمعنى التسابق قال في «الكشاف» : «والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل ، والارتماء والترامي ، أي فهو بمعنى المفاعلة. ولذلك يقال : السباق أيضا. كما يقال النضال والرماء». والمراد : الاستباق بالجري على الأرجل ، وذلك من مرح الشباب ولعبهم.

والمتاع : ما يتمتع أي ينتفع به. وتقدم في قوله تعالى : (لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) في سورة النساء [١٠٢]. والمراد به هنا ثقلهم من الثياب والآنية والزاد.

ومعنى (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) قتله وأكل منه ، وفعل الأكل يتعلق باسم الشيء. والمراد بعضه. يقال أكله الأسد إذا أكل منه. قال تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) [سورة المائدة : ٣] عطفا على المنهيات عن أن يؤكل منها ، أي بقتلها.

ومن كلام عمر حين طعنه أبو لؤلؤة «أكلني الكلب» ، أي عضّني.

والمراد بالذئب جمع من الذئاب على ما عرفت آنفا عند قوله : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [سورة يوسف : ١٣] ؛ بحيث لم يترك الذئاب منه ، ولذلك لم يقولوا فدفنّاه.

وقوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أن المتكلم علم بمضمون الخبر. وهو تعريض بأنهم صادقون فيما ادّعوه لأنهم يعلمون أباهم لا يصدقهم فيه ، فلم يكونوا طامعين بتصديقه إياهم.

وفعل الإيمان يعدّى باللام إلى المصدّق ـ بفتح الدال ـ كقوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [سورة العنكبوت : ٢٦]. وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) في سورة يونس [٨٣].

٣٥

وجملة (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) في موضع الحال فالواو واو الحال. (وَلَوْ) اتصالية ، وهي تفيد أنه مضمون ما بعدها هو أبعد الأحوال عن تحقق مضمون ما قبلها في ذلك الحال. والتقدير : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين في نفس الأمر ، أي نحن نعلم انتفاء إيمانك لنا في الحالين فلا نطمع أن نموّه عليك.

وليس يلزم تقدير شرط محذوف هو ضد الشرط المنطوق به لأن ذلك تقدير لمجرد التنبيه على جعل الواو للحال مع (لو وإن) الوصليتين وليس يستقيم ذلك التقدير في كل موضع ، ألا ترى قول المعري :

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما لم تستطعه الأوائل

كيف لا يستقيم تقدير إني إن كنت المتقدم زمانه بل وإن كنت الأخير زمانه. فشرط (لو) الوصلية و (إن) الوصلية ليس لهما مفهوم مخالفة ، لأن الشرط معهما ليس للتقييد. وتقدم ذكر (لو) الوصلية عند قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) في سورة البقرة [١٧٠] ، وعند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) في سورة آل عمران [٩١].

وجملة (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ) في موضع الحال. ولما كان الدم ملطخا به القميص وكانوا قد جاءوا مصاحبين للقميص فقد جاءوا بالدم على القميص.

ووصف الدم بالكذب وصف بالمصدر ، والمصدر هنا بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، أي مكذوب كونه دم يوسف ـ عليه‌السلام ـ إذ هو دم جدي ، فهو دم حقا لكنه ليس الدم المزعوم. ولا شك في أنهم لم يتركوا كيفية من كيفيات تمويه الدم وحالة القميص بحال قميص من يأكله الذئب من آثار تخريق وتمزيق مما لا تخلو عنه حالة افتراس الذئب ، وأنهم أفطن من أن يفوتهم ذلك وهم عصبة لا يعزب عن مجموعهم مثل ذلك. فما قاله بعض أصحاب التفسير من أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ قال لأبنائه : ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق قميصه ، فذلك من تظرفات القصص.

وقوله : (عَلى قَمِيصِهِ) حال من (دم) فقدم على صاحب الحال.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

حرف الإضراب إبطال لدعواهم أن الذئب أكله فقد صرح لهم بكذبهم.

٣٦

والتسويل : التسهيل وتزيين النفس ما تحرص على حصوله.

والإبهام الذي في كلمة (أَمْراً) يحتمل عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف ـ عليه‌السلام ـ : من قتل ، أو بيع ، أو تغريب ، لأنه لم يعلم تعيين ما فعلوه. وتنكير (أَمْراً) للتهويل.

وفرّع على ذلك إنشاء التصبر (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) نائب مناب اصبر صبرا جميلا. عدل به عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات والدوام ، كما تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) في سورة هود [٦٩]. ويكون ذلك اعتراضا في أثناء خطاب أبنائه ، أو يكون تقدير : اصبر صبرا جميلا ، على أنه خطاب لنفسه. ويجوز أن يكون (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه السياق ، أي فأمري صبر. أو مبتدأ خبره محذوف كذلك.

والمعنى على الإنشاء أوقع ، وتقدم الصبر عند قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) في سورة البقرة [٤٥]. ووصف (جَمِيلٌ) يحتمل أن يكون وصفا كاشفا إذ الصبر كله حسن دون الجزع.

كما قال إبراهيم بن كنيف النبهاني :

تصبّر فإنّ الصبر بالحرّ أجمل

وليس على ريب الزمان معوّل

أي أجمل من الجزع.

ويحتمل أن يكون وصفا مخصصا. وقد فسّر الصبر الجميل بالذي لا يخالطه جزع.

والجمال : حسن الشيء في صفات محاسن صنفه ، فجمال الصبر أحسن أحواله ، وهو أن لا يقارنه شيء يقلل خصائص ماهيته.

وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه‌السلام مر بامرأة تبكي عند قبر فقال لها : «اتقي الله واصبري» ، فقالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ـ ولم تعرفه ـ فلما انصرف مرّ بها رجل ، فقال لها : إنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأتت باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لم أعرفك يا رسول الله ، فقال : «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» أي الصبر الكامل.

وقوله : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) عطف على جملة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) فتكون محتملة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمل الصبر على ذلك ، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف ـ عليه‌السلام ـ على الخلاص مما أحاط به.

٣٧

والتعبير عما أصاب يوسف ـ عليه‌السلام ـ ب (ما تَصِفُونَ) في غاية البلاغة لأنه كان واثقا بأنهم كاذبون في الصفة وواثقا بأنهم ألحقوا بيوسف ـ عليه‌السلام ـ ضرا فلما لم يتعيّن عنده المصاب أجمل التعبير عنه إجمالا موجها لأنهم يحسبون أن ما يصفونه هو موته بأكل الذئب إياه ويعقوب ـ عليه‌السلام ـ يريد أن ما يصفونه هو المصاب الواقع الذي وصفوه وصفا كاذبا. فهو قريب من قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الصافات : ١٨٠].

وإنما فوض يعقوب ـ عليه‌السلام ـ الأمر إلى الله ولم يسع للكشف عن مصير يوسف ـ عليه‌السلام ـ لأنه علم تعذر ذلك عليه لكبر سنه ، ولأنه لا عضد له يستعين به على أبنائه أولئك. وقد صاروا هم الساعين في البعد بينه وبين يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، فأيس من استطاعة الكشف عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ بدونهم ، ألا ترى أنه لما وجد منهم فرصة قال لهم : (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) [سورة يوسف : ٨٧].

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩))

عطف على (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) [سورة يوسف : ١٦] عطف قصة على قصة. وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، والمعنى : وجاءت الجبّ.

و (السّيّارة) تقدم آنفا.

والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم.

والإدلاء : إرسال الدلو في البئر لنزع الماء.

والدلو : ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطويا على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو. والدلو مؤنثة.

وجملة قال يا بشراي مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ذكر إدلاء الدلو يهيّئ السامع للسؤال عمّا جرى حينئذ فيقع جوابه قال يا بشراي.

والبشرى : تقدمت في قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) في سورة يونس [٦٤].

٣٨

ونداء البشرى مجاز ، لأنّ البشرى لا تنادى ، ولكنها شبّهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له : هذا آن حضورك. ومنه : يا حسرتا ، ويا عجبا ، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية.

والمعنى : أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام.

وقرأ الجمهور يا بشراي بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بدون إضافة.

واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف ـ عليه‌السلام ـ ؛ خاطب الوارد بقية السيّارة ، ولم يكونوا يرون ذات يوسف ـ عليه‌السلام ـ حين أصعده الوارد من الجب ، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام ، فتعين أيضا أنهم لم يكونوا مشاهدين شبح يوسف ـ عليه‌السلام ـ حين ظهر من الجب ، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معيّنة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصل شيء فرح به غير مترقب ، كما يقول الصائد لرفاقه : هذا غزال! وكما يقول الغائص: هذه صدقة! أو لؤلؤة! ويقول الحافر للبئر : هذا الماء! قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه :

يقول راكبه الجنيّ مرتفقا

هذا لكنّ ولحم الشاة محجور

وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون. قال النابغة :

أو درّة صدفية غوّاصها

بهج متى يرها يهلّ ويسجد

والمعنى : وجدت في البئر غلاما ، فهو لقطة ، فيكون عبدا لمن التقطه. وذلك سبب ابتهاجه بقوله : يا بشراي هذا غلام.

والغلام : من سنه بين العشر والعشرين. وكان سنّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ يومئذ سبع عشرة سنة.

وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيليين كما في التّوراة ، أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم. وقيل : كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها ، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب.

ومعنى (أَسَرُّوهُ) أخفوه. والضمير للسيارة لا محالة ، أي أخفوا يوسف ـ عليه

٣٩

السّلام ـ ، أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردّى في الجب ، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت ، وكان الشأن أن يعرّفوا من كان قريبا من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللّقطة ، ولذلك كان قوله : (وَأَسَرُّوهُ) مشعرا بأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ أخبرهم بقصته ، فأعرضوا عن ذلك طمعا في أن يبيعوه. وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين.

و (بِضاعَةً) منصوب على الحال المقدّرة من الضمير المنصوب في (أَسَرُّوهُ) ، أي جعلوه بضاعة. والبضاعة : عروض التجارة ومتاعها ، أي عزموا على بيعه.

وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) معترضة ، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حقّ في استرقاقه ، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم ، لأنهم قد علموا خبره ، أو كان من حقهم أن يسألوه لأنه كان مستطيعا أن يخبرهم بخبره.

وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف ـ عليه‌السلام ـ آية من لطف الله به.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))

معنى (شَرَوْهُ) باعوه. يقال : شرى كما يقال : باع ، ويقال : اشترى كما يقال : ابتاع. ومثلهما رهن وارتهن ، وعاوض واعتاض ، وكرى واكترى.

والأصل في ذلك وأمثاله أن الفعل للحدث والافتعال لمطاوعة الحدث.

ومن فسر (شَرَوْهُ) باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ). وما ادّعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وهم إذ لا دليل يدل عليه.

والبخس : أصله مصدر بخسه إذا نقصه عن قيمة شيئه. وهو هنا بمعنى المبخوس كالخلق بمعنى المخلوق. وتقدم فعل البخس عند قوله تعالى : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) في سورة البقرة [٢٨٢].

و (دَراهِمَ) بدل من (بِثَمَنٍ) وهي جمع درهم ، وهو المسكوك. وهو معرّب عن الفارسية كما في «صحاح الجوهري».

وقد أغفله الذين جمعوا ما هو معرب في القرآن كالسيوطي في «الإتقان».

٤٠