الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٩

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

على مخاليف الجند لينصره ، فلمّا انتهى إلى بطن نخلة سقط عن راحلته فانكسرت رجله فانصرف إلى أهله.

ـ ١٤ ـ

حديث سهل بن حنيف أبي ثابت الأنصاري (بدريّ)

ـ ١٥ ـ

حديث رفاعة بن رافع بن مالك أبي معاذ الأنصاري (بدريّ)

ـ ١٦ ـ

حديث الحجّاج بن غزيّة الأنصاري

قال البلاذري في الأنساب (١) (٥ / ٧٨) : قال أبو مخنف في روايته : إنّ زيد بن ثابت الأنصاري قال : يا معشر الأنصار إنّكم نصرتم الله ونبيّه فانصروا خليفته. فأجابه قوم منهم ، فقال سهل بن حنيف : يا زيد أشبعك عثمان من عضدان المدينة ـ والعضيدة نخلة قصيرة ينال حملها ـ فقال زيد : لا تقتلوا الشيخ ودعوه حتى يموت فما أقرب أجله. فقال الحجّاج بن غزيّة الأنصاري أحد بني النجّار : والله لو لم يبقَ من عمره إلاّ بين الظهر والعصر لتقرّبنا إلى الله بدمه.

وجاء رفاعة بن مالك الأنصاري ثمّ الزرقي بنار في حطب ، فأشعلها في أحد البابين فاحترق وسقط ، وفتح الناس الباب الآخر واقتحموا الدار.

وفي لفظ للبلاذري (٢) (ص ٩٠) : قال زيد للأنصار : إنّكم نصرتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكنتم أنصار الله فانصروا خليفته تكونوا أنصاراً لله مرّتين. فقال الحجّاج بن غزيّة : والله إن تدري هذه البقرة الصيحاء ما تقول ، والله لو لم يبقَ من أجله إلاّ ما بين العصر إلى الليل لتقرّبنا إلى الله بدمه.

__________________

(١) أنساب الأشراف : ٦ / ١٩٧.

(٢) أنساب الأشراف : ٦ / ٢١١.

١٨١

وقال ابن حجر في الإصابة (١ / ٣١٣) : روى للحجّاج بن غزيّة أصحاب السنن حديثاً صرّح بسماعه فيه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحجّ ، قال ابن المديني : هو الذي ضرب مروان يوم الدار حتى سقط (١).

قال الأميني : نظريّة هؤلاء الثلاثة ليست بأقلّ صراحة من نظريّات إخوانهم المهاجرين والأنصار في استباحة دم الخليفة ، وإزالته عن منصّة الملك الإسلامي الديني.

ـ ١٧ ـ

حديث أبي أيوب الأنصاري

من السابقين من جلّة الصحابة البدريّين

قال في خطبة له : إنّ أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ قد أسمع من كانت له أُذن واعية ، وقلب حفيظ ، إنّ الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حقّ قبولها ، حيث نزل بين أظهركم ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخير المسلمين وأفضلهم وسيّدهم بعده ، يفقّهكم في الدين ويدعوكم إلى جهاد المحلّين ، فو الله لكأنّكم صمٌّ لا تسمعون ، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون. عباد الله أليس إنّما عهدكم بالجور والعدوان أمس؟ وقد شمل العباد ، وشاع في الإسلام ، فذو حقّ محروم مشتوم عرضه ، ومضروب ظهره ، وملطوم وجهه ، وموطوء بطنه ، ومُلقىً بالعراء ، فلمّا جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحقّ ، ونشر العدل ، وعمل بالكتاب ، فاشكروا نعمة الله عليكم ولا تتولّوا مجرمين ، ولا تكونوا كالذين قالوا : سمعنا وهم لا يسمعون ، اشحذوا السيوف ، وجدّدوا آلة الحرب ، واستعدّوا للجهاد ، فإذا دعيتم فأجيبوا ، وإذا أُمرتم فأطيعوا ، تكونوا بذلك من الصادقين.

الإمامة والسياسة (١ / ١١٢) في طبع ، وفي آخر (ص ١٢٨) ، جمهرة الخطب

__________________

(١) سيوافيك حديث ضربه مروان. (المؤلف)

١٨٢

(١ / ٢٣٦) (١).

قال الأميني : هذا أبو أيّوب الأنصاري ، عظيم الصحابة الذي اختار الله داره منزلاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين الأنصار ، وحسبه ذلك شرفاً ، وهو من البدريّين ، وشهد المغازي كلّها ، وقد دعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أخذ شيئاً من كريمته الشريفة بقوله : «لا يصيبك السوء يا أبا أيّوب» (٢) ، وهذا يعمّ الأسواء الظاهرة من قتلٍ بهوان ، وأسر وسجن في مذلّة ، وأمراض مخزية من جذام وبرص وغيرهما واختلال في العقل ، والأسواء المعنويّة من تزحزح عن الإيمان وتضعضع في العقيدة ، وانحياز عن الدين ، فهو رضوان الله عليه مكلوء عن هذه كلّها بتلك الدعوة المجابة ، وهو مع فضله هذا يعدّ عهد عثمان عهد جور وعدوان ، ويعدّد ما حدث هنالك من البوائق النازلة على صلحاء الأُمّة كأبي ذر وعمّار وابن مسعود وغيرهم ممّا مرّ تفصيله ، ولو لم يكن إلاّ شهادة أبي أيّوب لكفت حجّة في كلّ مهمّة ، فكيف وقد صافقه على ما يقول سروات المهاجرين والأنصار؟

ـ ١٨ ـ

حديث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري

سيد الخزرج ، (بدري)

١ ـ من خطبة له خطبها بمصر ، في أخذ البيعة لأمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه ، قال : الحمد لله الذي جاء بالحقّ ، وأمات الباطل ، وكبت الظالمين. أيّها الناس ؛ إنّا قد بايعنا خير من نعلم بعد محمد نبيّنا ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقوموا أيّها الناس فبايعوا على كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

تاريخ الطبري (٥ / ٢٢٨) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ١١٥) ، شرح ابن أبي

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٣١ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٤٢٣ خطبة ٣٢١.

(٢) كنز العمّال : ٣ / ٦١٤ ح ٣٧٥٦٨.

١٨٣

الحديد (٢ / ٢٣) (١).

٢ ـ من كتاب لمعاوية إلى قيس بن سعد قبل وقعة صفّين : أمّا بعد ؛ فإنّكم إن كنتم نقمتم على عثمان بن عفّان رضى الله عنه في أثرة رأيتموها ، أو ضربة سوط ضربها ، أو شتيمة رجل ، أو في تسييره آخر ، أو في استعماله الفُتي ، فإنّكم قد علمتم إن كنتم تعلمون أنّ دمه لم يكن يحلّ لكم ، فقد ركبتم عظيماً من الأمر وجئتم شيئاً إدّا ، فتب إلى الله عزّ وجلّ يا قيس بن سعد! فإنّك كنت في المجلبين على عثمان بن عفّان رضى الله عنه إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئاً.

فأمّا صاحبك فإنّا استيقنّا أنّه الذي أغرى به الناس ، وحملهم على قتله حتى قتلوه ، وأنّه لم يسلم من دمه عظم قومك ، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل ، تابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان ، وسلني غير هذا ممّا تحبّ فإنّك لا تسألني شيئاً إلاّ أُوتيته ، واكتب إليّ برأيك فيما كتبت به إليك. والسلام.

فكتب إليه قيس :

أمّا بعد ؛ فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من قتل عثمان رضى الله عنه ، وذلك أمر لم أُقارفه ولم أطف به. وذكرت صاحبي هو أغرى الناس بعثمان ، ودسّهم إليه حتى قتلوه ، وهذا لم أطّلع عليه ، وذكرت عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان ، فأوّل الناس كان فيه قياماً عشيرتي. إلخ.

وفي لفظ : فلعمري إنّ أولى الناس في أمره عشيرتي. فلعمري إنّ أوّل الناس كان فيه قياماً عشيرتي ولهم أُسوة.

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٥٤٩ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٥٤ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ٥٩ خطبة ٦٧.

١٨٤

تاريخ الطبري (٥ / ٢٢٧) ، كامل ابن الأثير (٣ / ١١٦) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٢٣) ، النجوم الزاهرة (١ / ٩٩) ، جمهرة الرسائل (١ / ٥٢٤) (١).

٣ ـ تحاور قيس بن سعد والنعمان بن بشير بين الصفَّين بصفّين ، فقال النعمان : يا قيس بن سعد أما أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه؟ إنّكم يا معشر الأنصار أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار ، وقتلكم أنصاره يوم الجمل ، وإقحامكم على أهل الشام بصفّين ، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليّا كان هذا بهذا ، ولكنّكم خذلتم حقّا ، ونصرتم باطلاً ، ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس ، شعلتم الحرب ، ودعوتم إلى البراز ، فقد والله وجدتم رجال الحرب من أهل الشام سراعاً إلى برازكم ، غير أنكاس عن حربكم ... الكلام.

فضحك قيس وقال : والله ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذا المقام ، أمّا المنصف المُحقّ فلا ينصح أخاه من غشّ نفسه ، وأنت والله الغاشّ لنفسه ، المبطل فيما نصح غيره.

أمّا ذكر عثمان فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه : قتل عثمان من لست خيراً منه ، وخذله من هو خير منك ، وأمّا أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث ، وأمّا معاوية فلو اجتمعت العرب على بيعته لقاتلتهم الأنصار ، وأمّا قولك : إنّا لسنا كالناس ، فنحن في هذه الحرب كما كنّا مع رسول الله ، نلقى السيوف بوجوهنا والرماح بنحورنا ، حتى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون. ولكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلاّ طليقاً أعرابيّا ، أو يمانيّا مستدرجاً؟ وانظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟ ثمّ انظر هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك (٢)؟

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٥٥٠ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٥٥ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ٦٠ خطبة ٦٧.

(٢) يعني به عمرو بن العاص. (المؤلف)

١٨٥

ولستما والله بدريّين ولا عقبيّين (١) ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن.

كتاب صفّين لابن مزاحم (ص ٥١١) ، الإمامة والسياسة (١ / ٩٤) ، وفي طبعة (ص ٨٣) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٢٩٨) ، جمهرة الخطب (١ / ١٩٠) (٢).

٤ ـ قدم المدينة قيس بن سعد ، فجاءه حسّان بن ثابت شامتاً به ، وكان حسّان عثمانيّا ، فقال له : نزعك عليّ بن أبي طالب وقد قتلت عثمان ، فبقي عليك الإثم ، ولم يحسن لك الشكر. فقال له قيس : يا أعمى القلب والبصر ، والله لو لا أن ألقي بين رهطي ورهطك حرباً لضربت عنقك ، أُخرج عنّي.

تاريخ الطبري (٥ / ٢٣١) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٢٥) (٣).

قال الأميني : إنّ فتى الأنصار وأمير الخزرج وابن أميرها قيس بن سعد الذي تقدّمت فضائله وفواضله في الجزء الثاني (ص ٦٩ ـ ١١٠) ؛ تراه يتبجّح في كتابه إلى معاوية بأنّ عشيرته الأنصار كانوا أوّل الناس قياماً في دم عثمان ، وفي خطبته يرى أنّ الحقّ المحيى مع مولانا أمير المؤمنين ، وأنّ الباطل الذي أُميت كان في العهد البائد بقتل عثمان ، وأنّ المقتولين في واقعة الدار هم الظالمون ، وأعطف على هذه كلّها محاورته مع النعمان بن بشير بصفّين ، فالكلّ لهجة واحدة من رئيّ في الدين والدنيا واحد.

ـ ١٩ ـ

حديث فروة بن عمرو بن ودقة البياضي الأنصاري (بدريّ)

أخرج مالك في الموطّأ حديثه في باب العمل في القراءة ، وسكت عن اسمه ولم

__________________

(١) يعني ممّن بايعوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة. (المؤلف)

(٢) وقعة صفّين : ص ٤٤٨ ، الإمامة والسياسة : ١ / ٩٧ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٨٧ خطبة ١٢٤ ، جمهرة خطب العرب : ١ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧ خطبة ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٣) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٥٥٥ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ٦٤ خطبة ٦٧.

١٨٦

يسمّه ، بل ذكره بلقبه البياضي. وقال ابن وضاح (١) وابن مزين (٢) : إنّما سكت مالك عن اسمه ، لأنّه كان ممّن أعان على قتل عثمان.

وعقّبه أبو عمر في الاستيعاب فقال : هذا لا يُعرف ولا وجه لما قالاه في ذلك ولم يكن لقائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار.

الاستيعاب ترجمة فروة ، أُسد الغابة (٤ / ١٧٩) ، الإصابة (٣ / ٢٠٤) ، شرح الموطّأ للزرقاني (١ / ١٥٢) (٣).

قال الأميني : الذي يشهد ببطلان ما قالاه أنّ ما حسبوه جريمة من فروة إن كان مسقطاً لعدالته فالإخراج عنه باطل سمّاه أو لم يسمّه ، وإن كان غير مسقط لها فهو مشمول لما عمّ الصحابة عند القوم من الفضل والعدالة ، وإنّ روايته حجّة يُؤخذ بها ولا يضرّه إذن إلغاء الاسم ، ثمّ إن كانت هذه الجريمة ممّا يُؤاخذ به صاحبه فهي عامّة للأنصار كلّهم كما أوعز إليه أبو عمر بقوله : لم يكن لقائل هذا علم بما كان من الأنصار يوم الدار. فيجب إسقاط رواياتهم أو السكوت عن أسمائهم جمعاء. وبالجملة : أنّ هذا الأنصاريّ البدريّ عُدّ ممّن أعان على قتل عثمان ، ولم يشذّ في رأيه عن الأنصار أو عن بقيّة الصحابة أجمع.

ـ ٢٠ ـ

حديث محمد بن عمرو بن حزم أبي سليمان الأنصاري

أحد المحامدة الذين سمّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمداً. قال أبو عمر في الاستيعاب (٤)

__________________

(١) أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عليّ بن الوضاح الأنباري المتوفّى : ٣٤٥. (المؤلف)

(٢) كذا في الاستيعاب وأُسد الغابة وشرح الموطّأ للزرقاني ، وفي الإصابة : ابن سيرين. (المؤلف)

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٦٠ رقم ٢٠٧٤ ، أُسد الغابة : ٤ / ٣٥٧ رقم ٤٢١٣ ، شرح موطّأ مالك : ١ / ١٦٧ ح ١٧٤.

(٤) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٣٧٥ رقم ٢٣٣٩.

١٨٧

في ترجمته : يقال : إنّه كان أشدّ الناس على عثمان المحمّدون : محمد بن أبي بكر ، محمد ابن أبي حذيفة ، محمد بن عمرو بن حزم.

ـ ٢١ ـ

حديث جابر بن عبد الله أبي عبد الله الأنصاريّ

الصحابيّ العظيم وقوم آخرين من الصحابة

لمّا فرغ الحجّاج من أمر ابن الزبير كنس المسجد الحرام من الحجارة والدم وأتته ولاية مكة والمدينة ، وكان عبد الملك حين بعثه لقتال عبد الله بن الزبير عقد له على مكة ولكنّه أحبّ تجديد ولايته إيّاها ، فشخص الحجّاج إلى المدينة ، واستخلف على مكة عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث الخزاعي ، فلمّا قدم المدينة أقام بها شهراً أو شهرين فأساء إلى أهلها واستخفّ بهم وقال : إنّهم قتلة أمير المؤمنين عثمان ، وختم يد جابر بن عبد الله برصاص وأيدي قوم آخرين كما يُفعل بالذمّة ، منهم : أنس بن مالك ختم عنقه ، وأرسل إلى سهل بن سعد فدعاه فقال : ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفّان؟ قال : قد فعلت. قال : كذبت. ثمّ أمر به فختم في عنقه برصاص.

أنساب البلاذري (٥ / ٣٧٣) ، تاريخ الطبري (٧ / ٢٠٦) ، الكامل لابن الأثير (٤ / ١٤٩) (١).

قال الأميني : تُعطي هذه الرواية أنّ مؤاخذة الحجّاج لبقيّة الصحابة وفيهم جابر ـ صاحب الحلقة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُؤخذ منه العلم كما في الإصابة (١ / ٢١٣) ـ كانت لتدخّلهم في واقعة عثمان بمباشرة أو تخذيل عنه أو بتقاعد

__________________

(١) أنساب الأشراف : ٧ / ١٣٤ ، تاريخ الأُمم والملوك : ٦ / ١٩٥ حوادث سنة ٧٤ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٣ / ٧٤ حوادث سنة ٧٣ ه‍.

١٨٨

عن نصرته ، نحن لا نقول بوثاقة الرجل فيما يرويه كما لا نقول بسداده فيما يرتئيه ، غير أنّ الحالة تشهد أنّ تلكم النسبة كانت مشهورة بين الملأ فاحتجّ بها الحجّاج على ما ارتكبه من إهانتهم ولم يظهر من القوم أيّ إنكار لما رُموا به ردءاً لعادية الطاغية ، لكنّهم صبروا على البلاء وشدّة النازلة ثباتاً منهم على ما ارتكبوه في واقعة الدار.

ـ ٢٢ ـ

حديث جبلة بن عمرو (١) بن ساعدة الساعدي الأنصاري (بدريّ)

أخرج الطبري من طريق عثمان بن الشريد قال ؛ مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره ومعه جامعة ، فقال : يا نعثل والله لأقتلنّك ولأحملنّك على قلوص جرباء ، ولأخرجنّك إلى حرّة النار ، ثمّ جاءه مرّة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه.

وأخرج من طريق عامر بن سعد ؛ قال : كان أوّل من اجترأ على عثمان بالمنطق السيّئ جبلة بن عمرو الساعدي ، مرّ به عثمان وهو جالس في نديّ قومه ، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة ، فلمّا مرّ عثمان سلّم ، فردّ القوم ، فقال جبلة : لم تردّون على رجل فعل كذا وكذا؟ قال : ثمّ أقبل على عثمان فقال : والله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركنّ بطانتك هذه. قال عثمان : أيّ بطانة؟ فو الله إنّي لأَتخيّر الناس. فقال : مروان تخيّرته! ومعاوية تخيّرته! وعبد الله بن عامر بن كريز تخيّرته! وعبد الله بن سعد تخيّرته! منهم من نزل القرآن بذمّه وأباح رسول الله دمه (٢) قال : فانصرف عثمان ، فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.

__________________

(١) قال البلاذري في الأنساب : ٥ / ٤٧ [٦ / ١٦٠] : قال الكلبي : هو رخيلة بن ثعلبة البياضي ، بدريّ. (المؤلف)

(٢) هو عبد الله بن سعد ، راجع ما أسلفناه في : ٨ / ٢٨٠. (المؤلف)

١٨٩

تاريخ الطبري (٥ / ١١٤) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٧٠) ، تاريخ ابن كثير (٧ / ١٧٦) شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٦٥) (١).

وأخرج البلاذري في الأنساب (٢) (٥ / ٤٧) الحديث الأوّل باللفظ المذكور فقال : ثمّ أتاه وهو على المنبر فأنزله ، وكان أوّل من اجترأ على عثمان وتجهّمه بالمنطق الغليظ وأتاه يوماً بجامعة فقال : والله لأطرحنّها في عنقك ، أو لتتركنّ بطانتك هذه ، أطعمت الحارث بن الحكم السوق وفعلت وفعلت ، وكان عثمان ولّى الحارث السوق فكان يشتري الجَلَب (٣) بحكمه ويبيعه بسومه ، ويجبي مقاعد المتسوّقين ، ويصنع صنيعاً منكراً ، فكلّم في إخراج السوق من يده فلم يفعل.

وقيل لجبلة في أمر عثمان وسُئل الكفّ عنه ، فقال : والله لا ألقى الله غداً فأقول : إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل.

وأخرج ابن شبّة في أخبار المدينة (٤) من طريق عبد الرحمن بن أزهر : أنّهم لمّا أرادوا دفن عثمان ، فانتهوا إلى البقيع ، فمنعهم من دفنه جبلة بن عمرو ، فانطلقوا إلى حشّ كوكب فدفنوه فيه (٥).

قال الأميني : إنّك جدّ عليم بما في هذا الرجل المبجّل البدريّ الذي أثنى عليه أبو عمر في الاستيعاب (٦) بقوله : كان فاضلاً من فقهاء الصحابة. وهو أحد

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٣٦٥ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٨٧ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، البداية والنهاية : ٧ / ١٩٧ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ١٤٩ خطبة ٣٠.

(٢) أنساب الأشراف : ٦ / ١٦٠.

(٣) الجَلَب : ما جُلِب من خيل وإبلٍ ومتاع.

(٤) تاريخ المدينة : ١ / ١١٢ ، ٤ / ١٢٤٠.

(٥) الإصابة : ١ / ٢٢٣ [رقم ١٠٨٠]. (المؤلف)

(٦) الاستيعاب : القسم الأوّل / ٢٣٦ رقم ٣١٧.

١٩٠

الصحابة العدول الذين يُحتجّ بما رووه أو رأوه من شدّة على عثمان وثبات عليها ، حتى إنّه يعدّ المحايدة يومئذٍ من الضلال الذي يأمر به السادة والكبراء الضالّون ، ويهدّد عثمان ويرعد ويبرق وينهى عن ردّ السلام عليه الذي هو تحيّة المسلمين ، ومن الواجب شرعاً ردّها ، وينزله عن منبر الخطابة إنزالاً عنيفاً بين الملأ ، ثمّ لم يزل يستخفّ به ويهينه ولا تأخذه فيه هوادة حتى منعه عن الدفن في البقيع ، فدفن في حشّ كوكب مقابر اليهود ، وكلّ هذه لا تلتئم مع حسن ظنّه به فضلاً عن حسن عقيدته.

نعم ، إنّ جبلة فعل هذه الأفاعيل بين ظهراني الملأ الديني الصحابة العدول وهم بين متجمهر معه ، ومخذّل عن الخليفة المقتول ، ومتثبّط عنه ، وراضٍ بما دارت على الخليفة من دائرة سوء ، ما خلا شذّاذاً من الأمويّين الذين وصفهم جبلة في بيانه ، وقدّمنا نحن تفصيل ما نزل من القرآن فيهم في الجزء الثامن (١) ، ولم تقم الجامعة الدينيّة لهم ولآرائهم وزناً.

ـ ٢٣ ـ

حديث محمد بن مسلمة أبي عبد الرحمن الأنصاري (بدريّ)

أخرج الطبري ؛ من طريق محمد بن مسلمة ، قال : خرجت في نفر من قومي إلى المصريّين وكان رؤساؤهم أربعة : عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وسودان بن حمران المرادي ، وعمرو بن الحمِق الخزاعي ، وابن النباع (٢) ، قال : فدخلت عليهم وهم في خباء لهم أربعتهم ، ورأيت الناس لهم تبعاً ، قال : فعظّمت حقّ عثمان ، وما في رقابهم من البيعة ، وخوّفتهم بالفتنة ، وأعلمتهم أنّ في قتله اختلافاً وأمراً عظيماً ، فلا

__________________

(١) راجع صفحة : ٢٤٧ ـ ٢٤٩ ، ٢٧٥ ، ٣١٨. (المؤلف)

(٢) كذا في تاريخ الطبري وفيما حكي عنه ، والصحيح : ابن البياع وهو عروة بن شُيَيم الليثي. (المؤلف)

١٩١

تكونوا أوّل من فتحه ، وأنّه ينزع عن هذه الخصال التي نقمتم منها عليه ، وأنا ضامن لذلك. قال القوم : فإن لم ينزع؟ قال : قلت : فأمركم إليكم. قال : فانصرف القوم وهم راضون ، فرجعت إلى عثمان ، فقلت : أَخلِني. فأخلاني ، فقلت : الله الله يا عثمان في نفسك ، إنّ هؤلاء القوم إنّما قدموا يريدون دمك وأنت ترى خذلان أصحابك لك ، لا بل هم يقوّون عدوّك عليك ، قال : فأعطاني الرضا ، وجزّاني خيراً. قال : ثمّ خرجت من عنده فأقمت ما شاء الله أن أُقيم.

قال : وقد تكلّم عثمان برجوع المصريّين ، وذكر أنّهم جاءوا لأمر فبلغهم غيره فانصرفوا. فأردت أن آتيه فأُعنّفه ، ثمّ سكتّ فإذا قائل يقول : قد قدم المصريّون وهم بالسويداء (١) قال : قلت : أحقّ ما تقول؟ قال : نعم. قال : فأرسل إليّ عثمان ، قال : وإذا الخبر قد جاءه ، وقد نزل القوم من ساعتهم ذا خُشب (٢) فقال : يا أبا عبد الرحمن هؤلاء القوم قد رجعوا ، فما الرأي فيهم؟ قال : قلت : والله ما أدري ، إلاّ أنّي أظنّ أنّهم لم يرجعوا لخير ، قال : فارجع إليهم فارددهم ، قال : قلت : لا والله ما أنا بفاعل ، قال : ولم؟ قال : لأنّي ضمنت لهم أموراً تنزع عنها ، فلم تنزع عن حرف منها ، قال : فقال : الله المستعان.

قال : وخرجت وقدم القوم وحلّوا بالأسواف وحصروا عثمان. وجاءني عبد الرحمن بن عديس ومعه سودان بن حمران وصاحباه ، فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ألم تعلم أنّك كلّمتنا ورددتنا وزعمت أنّ صاحبنا نازع عمّا نكره؟ فقلت : بلى ، فإذا هم يُخرجون إليّ صحيفة صغيرة ، وإذا قصبة من رصاص ، فإذا هم يقولون : وجدنا جملاً من إبل الصدقة عليه غلام عثمان ، فأخذنا متاعه ففتّشناه ، فوجدنا فيه هذا الكتاب. الحديث يأتي بتمامه (٣).

__________________

(١) السويداء : موضع على ليلتين من المدينة على طريق الشام [معجم البلدان : ٣ / ٢٨٦]. (المؤلف)

(٢) وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة [معجم البلدان : ٢ / ٣٧٢]. (المؤلف)

(٣) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٣٧٢ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٨٧ حوداث سنة ٣٥ ه‍.

١٩٢

تاريخ الطبري (٥ / ١١٨) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٧٠) (١).

قال الأميني : إنّك تجد محمد بن مسلمة هاهنا لا يشك في أنّ ما نقمه القوم على الخليفة موبقات يستحلّ بها هتك الحرمات ممّن ارتكبها ، لكنّه كره المناجزة وحاول الإصلاح حذار الفتنة المستتبعة لطامّات وهنابث ، وسعى سعيه في ردّ القوم بضمانه عسى أن ينزع الخليفة عمّا فرّط في جنب الله ، وأن يكون ذلك توبة نصوحاً ، فلعلّ الفورة تهدأ ، ولهيب الثورة يخبأ ، لكنّه لمّا شاهد الفشل في مسعاه ، وأخفق ظنّه بعثمان ، ورأى منه حنث الإلّ ، وعدم النزوع عن أحداثه ، تركه والقوم ، فارتكبوا منه ما ارتكبوا ولم يجبه حينما استنصره ، ولم يُقم لطلبته وزناً ، ولم يرَ له حرمة يدافع بها عنه ، ولذلك خاشنه في القول ، فكان ما كان مقضيّا.

ـ ٢٤ ـ

حديث ابن عباس

حبر الأُمّة ابن عمّ النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١ ـ أخرج أبو عمر في الاستيعاب (٢) ؛ في ترجمة مولانا أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه من طريق طارق ، قال : جاء ناس إلى ابن عبّاس ، فقالوا : جئناك نسألك ، فقال : سلوا عمّا شئتم ، فقالوا : أيّ رجل كان أبو بكر؟ فقال : كان خيراً كلّه. أو قال : كالخير كلّه ، على حدّة كانت فيه. قالوا : فأيّ رجل كان عمر؟ قال : كان كالطائر الحذر الذي يظنّ أنّ له في كلّ طريق شركاً. قالوا : فأيّ رجل كان عثمان؟ قال : رجل ألهته نومته عن يقظته. قال : فأيّ رجل كان عليّ؟ قال : كان قد مُلئ جوفه حكماً وعلماً وبأساً ونجدةً مع قرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يظنّ أن لا يمدّ يده إلى

__________________

(١) راجع الصحائف ٢٤٣ ـ ٢٤٥.

(٢) الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٢٩ رقم ١٨٥٥.

١٩٣

شيء إلاّ ناله ، فما مدّ يده إلى شيء فناله.

٢ ـ من كتاب لمعاوية إلى ابن عبّاس : لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان (١).

فكتب إليه ابن عبّاس جواباً طويلاً يقول فيه : وأمّا قولك : إنّي من الساعين على عثمان والخاذلين له ، والسافكين له ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ؛ فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله ، والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به ، حتى بعثت إليه معذراً بأجرة ، أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يُقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك ، فطفقت تنعى عثمان وتُلزمنا دمه ، وتقول قُتل مظلوماً ، فإن يك قُتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً ، تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقّنا بالسفهاء ، حتى أدركت ما طلبت (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢).

قال الأميني : إنّ حبر الأُمّة وإن لم يكن له أيّ تدخّل في واقعة الدار ، وكان أمير الحاجّ في سنته تلك ، لكنّك تراه لا يشذّ عن الصحابة في الرأي حول الخليفة ، ولا يقيم له وزناً ، ولا يرى له مكانة ، ومن أجل ذلك أعطى المقام حقّه في جواب السائل عن الخلفاء ، غير أنّه لم يصف عثمان إلاّ بما يُنبئ عن عدم كفاءته برقدته الطويلة الغاشية على يقظته ، وسباته العميق الساتر لانتباهته ، ومن جرّاء ذلك الاعتقاد تجده لم يهتم

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ٥٨ [١٦ / ١٥٤ كتاب رقم ٣٧] قال : كتبه إليه عند صلح الحسن عليه‌السلام يدعوه إلى بيعته. (المؤلف)

(٢) الأنبياء : ١١١.

١٩٤

بشيء من أمره لمّا جاءه نافع بن طريف بكتاب (١) من الخليفة يستنجد الحجيج ويستغيث بهم ، على حين أنّه محصور ، فقرأه نافع على الناس بينما كان ابن عبّاس يخطب ، فلمّا نجزت قراءته أتمّ خطبته من حيث أفضت إليه ، ولم يلو إلى أمر عثمان وحصاره ، ولم ينبس في أمره ببنت شفة ، وكان في وسعه أن يستثيرهم لنصرته ، وهل ذلك كلّه لسوء رأي منه في الخليفة؟ أو لعدم الاهتمام في أمره؟ أو لحسن ظنّه بالثائرين عليه؟ إخترما شئت ، ولعلّك تختار تحقّق الجميع لدى ابن عبّاس ، وكأنّ عائشة شعرت منه ذلك ، فقالت يوم مرّ بها ابن عبّاس في منزل من منازل الحجّ : يا ابن عبّاس إنّ الله قد آتاك عقلاً وفهماً وبياناً فإيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية (٢).

ومن جرّاء رأيه الذائع الشائع كان يحذر معاوية ويخاف بطشه ، ولمّا قال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إذهب أنت إلى الشام فقد ولّيتكها». قال : إنّي أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان ، أو يحبسني لقرابتي منك ، ولكن اكتب معي إلى معاوية فمنّه وعِدْه. الحديث (٣).

وفي أثر ذلك الرأي كان يسكت عن لعن قتلة عثمان ، ولمّا كتب إليه معاوية : أن اخرج إلى المسجد والعن قتله عثمان. أجاب بقوله : لعثمان ولد وخاصّة وقرابة ، هم أحقّ بلعنهم منّي ، فإن شاءوا أن يلعنوا فليلعنوا ، وإن شاءوا أن يمسكوا فليمسكوا (٤).

__________________

(١) يأتي تفصيله في هذا الجزء عند ذكر كتب عثمان إن شاء الله. (المؤلف)

(٢) راجع ما مرّ في هذا الجزء من حديث عائشة. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٢٨ [٧ / ٢٥٥ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٨٣ [٢ / ٣٠٧ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

(٤) الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ١ / ١٤٨ [١ / ١٥٥]. (المؤلف)

١٩٥

ـ ٢٥ ـ

حديث عمرو بن العاصي

الذي عرّفناكه في (٢ / ١٢٠ ـ ١٧٦)

أخرج الطبري من طريق أبي عون مولى المسور ، قال : كان عمرو بن العاصي على مصر عاملاً لعثمان فعزله عن الخراج ، واستعمله على الصلاة ، واستعمل عبد الله ابن سعد على الخراج ، ثمّ جمعهما لعبد الله بن سعد ، فلمّا قدم عمرو بن العاصي المدينة جعل يطعن على عثمان ، فأرسل إليه يوماً عثمان خالياً به ، فقال : يا ابن النابغة ما أسرع ما قمل به جربّان جبّتك! إنّما عهدك بالعمل عاماً أوّل ، أتطعن عليّ وتأتيني بوجه وتذهب عنّي بآخر؟ والله لو لا أكلة ما فعلت ذلك. فقال عمرو : إنّ كثيراً ممّا يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل ، فاتّق الله يا أمير المؤمنين في رعيّتك ، فقال عثمان : والله لقد استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك ، فقال عمرو : قد كنت عاملاً لعمر بن الخطّاب ، ففارقني وهو عنّي راضٍ ، فقال عثمان : وأنا والله لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت ولكنّي لنت عليك فاجترأت عليّ ، أمّا والله لأنا أعزّ منك نفراً في الجاهليّة ، وقبل أن ألي هذا السلطان ، فقال عمرو : دع عنك هذا ، فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدانا به ، قد رأيت العاصي بن وائل ورأيت أباك عفّان ؛ فو الله للعاصي كان أشرف من أبيك (١). فانكسر عثمان وقال : مالنا ولذكر الجاهليّة.

وخرج عمرو ، ودخل مروان فقال : يا أمير المؤمنين ، وقد بلغت مبلغاً يذكر عمرو بن العاصي أباك! فقال عثمان : دع هذا عنك ، من ذكر آباء الرجال ذكروا أباه.

قال : فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه ، يأتي عليّا مرّة فيؤلّبه على

__________________

(١) ليت شعري ما مكانة عفّان من الشرف إن كان يفضل عليه العاصي الساقط الشرف بقوله تعالى : (إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتَر) كما مرّ تفصيله في الجزء الثاني : ص ١٢٠. (المؤلف)

١٩٦

عثمان ، ويأتي الزبير مرةً فيؤلّبه على عثمان ويأتي طلحة مرّة فيؤلّبه على عثمان ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان ، فلمّا كان حصر عثمان الأوّل ؛ خرج من المدينة ، حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها : السبع ، فنزل في قصر له يقال له : العجلان ، وهو يقول : العجب ما يأتينا عن ابن عفّان. قال : فبينا هو جالس في قصره ذلك ، ومعه ابناه محمد وعبد الله ، وسلامة بن روح الجذامي إذ مرّ بهم راكب ، فناداه عمرو : من أين قدم الرجل؟ فقال : من المدينة ، قال : ما فعل الرجل؟ يعني عثمان. قال : تركته محصوراً شديد الحصار. قال عمرو : أنا أبو عبد الله ، قد يضرط العَير والمكواة في النار. فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مرّ به راكب آخر ، فناداه عمرو. ما فعل الرجل؟ يعني عثمان. قال : قتل. قال : أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها ، إن كنت لأحرّض عليه حتى إنّي لأحرّض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل. فقال له سلامة بن روح : يا معشر قريش إنّه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه ، فما حملكم على ذلك؟ فقال : أردنا أن نخرج الحقّ من حافرة الباطل ، وأن يكون الناس في الحقّ شرعاً سواء ، وكانت عند عمرو أُخت عثمان لأُمّه أُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، ففارقها حين عزله (١).

٢ ـ لمّا ركب عليّ وركب معه ثلاثون رجلاً من المهاجرين والأنصار إلى أهل مصر في أوّل مجيئهم المدينة ناقمين على عثمان وردّهم عنه فانصرفوا راجعين ، رجع عليّ عليه‌السلام إلى عثمان وأخبره أنّهم قد رجعوا ، حتى إذا كان الغد جاء مروان عثمان فقال له : تكلّم وأعلم الناس أنّ أهل مصر قد رجعوا ، وأنّ ما بلغهم عن إمامهم كان

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٥ / ١٠٨ و ٢٠٣ [٤ / ٣٥٦ حوادث سنة ٣٥ ه‍ و ٥٥٨ حوادث سنة ٣٦ ه‍] ، الأنساب للبلاذري : ٥ / ٧٤ [٦ / ١٩٢] ، الإمامة والسياسة : ١ / ٤٢ [١ / ٤٧] ، الاستيعاب ترجمة عبد الله بن سعد بن أبي سرح [القسم الثالث / ٩١٩ رقم ١٥٥٣] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٦٣ [٢ / ١٤٤ خطبة ٣٠] ، وأوعز إليه ابن كثير في تاريخه : ٧ / ١٧٠ [٧ / ١٩١ حوادث سنة ٣٥ ه‍] بصورة مصغّرة جرياً على عادته فيما لا يروقه. (المؤلف)

١٩٧

باطلاً ، فإنّ خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه. فأبى عثمان أن يخرج ، فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد : إنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلمّا تيقّنوا أنّه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم (١). فناداه عمرو ابن العاصي من ناحية المسجد : اتّق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير (٢) وركبناها معك فتب إلى الله نتب ، فناداه عثمان وإنّك هناك يا ابن النابغة! قملت والله جبّتك منذ تركتك من العمل ، فنودي من ناحية أخرى : تب إلى الله وأظهر التوبة يكفّ الناس عنك. فرفع عثمان يديه مدّا واستقبل القبلة فقال : اللهمّ إنّي أوّل تائب تاب إليك. ورجع إلى منزله ، وخرج عمرو بن العاصي حتى نزل منزله بفلسطين فكان يقول : والله إن كنت لألقى الراعي فأحرّضه عليه. وفي لفظ البلاذري : يا ابن النابغة وإنّك ممّن تؤلّب عليّ الطغام. وفي لفظ : قال عمرو : يا عثمان إنّك قد ركبت بهذه الأُمّة نهاية من الأمر وزغت فزاغوا فاعتدل أو اعتزل. وفي لفظ : ركبت بهذه الأمّة نهابير من الأُمور فركبوها منك ، وملت بهم فمالوا بك ، اعدل أو اعتزل.

تاريخ الطبري (٥ / ١١٠ ، ١١٤) ، أنساب البلاذري (٥ / ٧٤) ، الاستيعاب ترجمة عثمان ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ١١٣) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٦٨) ، الفائق للزمخشري (٢ / ٢٩٦) ، نهاية ابن الأثير (٤ / ١٩٦) ، تاريخ ابن كثير (٧ / ١٧٥) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٣٩٦) ، لسان العرب (٧ / ٩٨) ، تاج العروس (٣ / ٥٩٢) (٣).

__________________

(١) ما عذر الخليفة في هذا الكذب الفاحش على منبر النبيّ الأعظم وهو بين يدي قبره الشريف ، لعلّه يعتذر بأنّ مروان حثّه عليه ولم يكن له منتدح من قبول أمره ، والملك عقيم. (المؤلف)

(٢) النهابير والنهابر : المهالك ، الواحدة : نهبرة ونهبور. (المؤلف)

(٣) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٣٥٩ و ٣٦٦ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، أنساب الأشراف : ٦ / ١٩٢ ، الاستيعاب : القسم الثالث / ١٠٤١ رقم ١٧٧٨ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ١٤٣ خطبة ٣٠ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٨٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، الفائق : ٤ / ٣٥ ، النهاية : ٥ / ١٣٤ ، البداية والنهاية : ٧ / ١٩٦ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، تاريخ ابن خلدون : ٢ / ٥٩٧ ، لسان العرب : ١٤ / ٢٩٩.

١٩٨

٣ ـ قال ابن قتيبة : ذكروا أنّ رجلاً من همدان يقال له برد قدم على معاوية فسمع عمراً يقع في عليّ ، فقال له : يا عمرو إنّ أشياخنا سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ، فحقّ ذلك أم باطل؟ فقال عمرو : حقّ ، وأنا أزيدك أنّه ليس أحد من صحابة رسول الله له مناقب مثل مناقب عليّ. ففزع الفتى ، فقال عمرو : إنّه أفسدها بأمره في عثمان ، فقال برد : هل أمر أو قتل؟ قال : لا ، ولكنه آوى ومنع ، قال : فهل بايعه الناس عليها؟ قال : نعم. قال : فما أخرجك من بيعته؟ قال : اتّهامي إيّاه في عثمان. قال له : وأنت أيضاً قد اتُّهمت. قال : صدقت ، فيها خرجت إلى فلسطين. فرجع الفتى إلى قومه فقال : إنّا أتينا قوماً أخذنا الحجّة عليهم من أفواههم ، عليٌّ على الحقّ فاتّبعوه.

الإمامة والسياسة (١) (١ / ٩٣).

٤ ـ أخرج الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٢٣٤) من طريق الواقدي ، قال : لمّا بلغ عمراً قتل عثمان رضى الله عنه قال : أنا أبو عبد الله ، قتلته وأنا بوادي السباع ، من يلي هذا الأمر من بعده؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيباً ، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلاّ سيستنظف الحقّ ، وهو أكره من يليه إليّ.

٥ ـ أسلفنا في حديث طويل في الجزء الثاني (ص ١٣٣ ـ ١٣٦) من قول الإمام الحسن السبط الزكي لعمرو بن العاصي «وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعّرت عليه الدنيا ناراً ثم لحقت بفلسطين ، فلمّا أتاك قتله قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكأت ـ أي قشرت ـ قرحة أدميتها ، ثمّ حبست نفسك إلى معاوية ، وبعت دينك بدنياه ، فلسنا نلومك على بغض ، ولا نعاتبك على ودّ ، وبالله ما نصرت عثمان حيّا ، ولا غضبت له مقتولاً».

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٧.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٥٦٠.

١٩٩

قال أبو عمر في الاستيعاب (١) في ترجمة عبد الله بن سعد بن أبي سرح : كان عمرو بن العاصي يطعن على عثمان ويؤلّب عليه ويسعى في إفساد أمره ، فلمّا بلغه قتل عثمان وكان معتزلاً بفلسطين قال : إنّي إذا نكأت قرحة أدميتها ، أو نحو هذا.

وقال (٢) في ترجمة محمد بن أبي حذيفة : كان عمرو بن العاص مذ عزله عثمان عن مصر يعمل حيلة في التأليب والطعن على عثمان.

وفي الإصابة (٣ / ٣٨١) : إنّ عثمان لمّا عزل عمرو بن العاص عن مصر قدم المدينة فجعل يطعن على عثمان ، فبلغ عثمان فزجره ، فخرج إلى أرض له بفلسطين فأقام بها.

قال الأميني : لعلّ ممّا يستغني عن الإفاضة فيه مناوأة ابن العاصي لعثمان ورأيه في سقوطه ، وتبجّحه بالتأليب عليه ، ومسرّته على قتله ، وقوله بملء فمه : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع. وقوله : إنّي إذا نكأت قرحة أدميتها. وهل الإحن بينهما استفحلت فتأثّرت بها نفسيّة ابن العاصي حتى أنّه اجتهد فأخطأ أو أنّه أصاب الحقّ ، فكان اجتهاده عن مقدّمات صحيحة مقطوعة عن الضغائن الثائرة ، معتضدة بآراء الصحابة ، وأيّا ما كان فهو عند القوم من أعاظم الصحابة العدول يرى في الخليفة هذا الرأي!

ـ ٢٦ ـ

حديث عامر بن واثلة أبي الطفيل

الشيخ الكبير الصحابي

قدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخٍ له من رجال معاوية ، فأخبر معاوية بقدومه ، فأرسل إليه فأتاه وهو شيخ كبير ، فلمّا دخل عليه قال له معاوية : أنت أبو

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ٩١٩ رقم ١٥٥٣.

(٢) الاستيعاب : القسم الثالث ص ١٣٦٩ رقم ٢٣٢٦.

٢٠٠