الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٩

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

عثمان وعاتبوه فأعتبهم من كلّ شيء فقالوا : اكتب بهذا كتاباً. فكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين ، إنّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، يُعطى المحروم ، ويُؤمن الخائف ، ويردّ المنفي ، ولا تجمّر (١) البعوث ، ويُوفّر الفيء ، وعليّ بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء [بما] (٢) في هذا الكتاب.

شهد : الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن مالك بن أبي وقّاص (٣) ، وعبد الله بن عمرو (٤) ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حُنيف ، وأبو أيوب خالد ابن زيد.

وكتب في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين.

فأخذ كلّ قوم كتاباً فانصرفوا.

وقال عليّ بن أبي طالب لعثمان : «أخرج فتكلّم كلاماً يسمعه الناس ويحملونه عنك وأَشهِد اللهَ ما في قلبك ، فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك ، ولا تأمن أن يأتي ركب آخر من الكوفة أو من البصرة أو من مصر فتقول : يا عليّ اركب إليهم. فإن لم أفعل قلت : قطع رحمي ، واستخفّ بحقّي» ، فخرج عثمان فخطب الناس فأقرّ بما فعل واستغفر الله منه ، وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من زلّ فليُنب». فأنا أوّل من اتّعظ ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليردّوني برأيهم ، فو الله لو ردّني إلى الحقّ عبد

__________________

(١) تجمّر الجيش : تحبّس في أرض العدو ولم يقفل. (المؤلف)

(٢) الزيادة من المصدر.

(٣) هو سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب الزهري.

(٤) في المصدر : عبد الله بن عمر.

٢٤١

لاتّبعته وما عن الله مذهب إلاّ إليه ، فسرّ الناس بخطبته واجتمعوا إلى بابه مبتهجين بما كان منه. فخرج إليهم مروان فزبرهم وقال : شاهت وجوهكم ما اجتماعكم؟ أمير المؤمنين مشغول عنكم ، فإن احتاج إلى أحد منكم فسيدعوه ، فانصرفوا ، وبلغ عليّا الخبر فأتى عثمان وهو مُغضب فقال : «أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بإفساد دينك ، وخديعتك عن عقلك؟ وإنّي لأراه سيوردك ثمّ لا يُصدرك ، وما أنا بعائدٍ بعد مقامي هذا لمعاتبتك».

وقالت له امرأته نائلة بنت الفرافصة : قد سمعت قول عليّ بن أبي طالب في مروان وقد أخبرك أنّه غير عائد إليك ، وقد أطعت مروان ولا قدر له عند الناس ولا هيبة ، فبعث إلى عليّ فلم يأتِه.

وأخرج ابن سعد من طريق أبي عون قال : سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ذكر مروان فقال : قبّحه الله خرج عثمان على الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر حتى استهلّت دموعه ، فلم يزل مروان يفتله في الذروة والغارب (١) حتى لفته عن رأيه.

قال : وجئت إلى عليّ فأجده بين القبر والمنبر ومعه عمّار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولان : صنع مروان بالناس. قلت : نعم (٢).

صورة أخرى من توبة الخليفة :

أخرج الطبري من طريق عليّ بن عمر عن أبيه ، قال : إنّ عليّا جاء عثمان بعد

__________________

(١) لم يزل يفتل في الذروة والغارب. مثل في المخادعة ، أي يدور من وراء خديعته. (المؤلف)

(٢) وأخرج الطبري [في تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٣٦٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍] حديث أبي عون هذا وتبعه ابن الأثير [في الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٨٥ حوادث سنة ٣٥ ه‍] وسيوافيك لفظه ، وأوعز إليه الدميري في حياة الحيوان : ١ / ٥٣ [١ / ٧٧]. (المؤلف)

٢٤٢

انصراف المصريّين ، فقال له : «تكلّم كلاماً يسمعه الناس منك ، ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة ، فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك ، فلا آمن ركباً آخرين يقدمون من الكوفة فتقول : يا عليّ اركب إليهم ، ولا أقدر أن أركب إليهم ولا أسمع عذراً ، ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول : يا عليّ اركب إليهم ، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقّك». قال : فخرج عثمان وخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة ، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثمّ قال :

أمّا بعد ؛ أيّها الناس فو الله ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله ، وما جئت شيئاً إلاّ وأنا أعرفه ، ولكنّي منّتني نفسي وكذّبتني ، وضلّ عنّي رشدي ، ولقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من زلّ فليتب (١) ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة ، إنّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق» ، فأنا أوّل من اتّعظ ، أستغفر الله ممّا فعلت ، وأتوب إليه ، فمثلي نزع وتاب ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليُروني رأيهم ، فو الله لئن ردّني إلى الحقّ عبد لأستننّ بسنّة العبد ، ولأذلنّ ذلّ العبد ، ولأكوننّ كالمرقوق ، إن مُلك صبر ، وإن عُتق شكر ، وما من الله مذهب إلاّ إليه ، فلا يعجزنّ عنكم خياركم أن يدنوا إليّ ، لئن أبت يميني لتتابعني شمالي.

قال : فرقّ الناس له يومئذٍ ، وبكى من بكى منهم ، وقام إليه سعيد بن يزيد (٢) فقال : يا أمير المؤمنين ليس بواصل لك من ليس معك ، الله الله في نفسك ، فأتمم على ما قلت.

فلمّا نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيداً (٣) ونفراً من بني أُميّة ولم يكونوا

__________________

(١) كذا في تاريخ الطبري : والصحيح ما مرّ في رواية البلاذري : من زلّ فليُنب. (المؤلف)

(٢) في تاريخ الطبري : سعيد بن زيد.

(٣) هو سعيد بن العاص. (المؤلف)

٢٤٣

شهدوا الخطبة ، فلمّا جلس قال مروان : يا أمير المؤمنين : أتكلّم أم اصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبيّة : لا بل اصمت فإنّهم والله قاتلوه ومؤثِّموه ، إنّه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها. فأقبل عليها مروان فقال : ما أنتِ وذاك؟ فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ. فقالت له : مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء ، تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه ، وإنّ أباك لا يستطيع أن يدفع عنه ، أما والله لو لا أنّه عمّه وأنّه يناله غمّه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. قال : فأعرض عنها مروان ، ثم قال : يا أمير المؤمنين أتكلّم أم اصمت؟ قال : بل تكلّم. فقال مروان : بأبي أنت وأُمّي والله لوددت أنّ مقالتك هذه كانت وأنت مُمنّع منيع فكنت أوّل من رضي بها وأعان عليها ولكنّك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطُبيين ، وخلف السيل الزبى ، وحين أعطى الخطّة الذليلة الذليل ، والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوّف عليها ، وإنّك إن شئت تقرّبت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة ، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس. فقال عثمان : فاخرج إليهم فكلّمهم فإنّي استحي أن أُكلّمهم. قال : فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً فقال : ما شأنكم قد اجتمعتم؟ كأنّكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه ، كلّ إنسان آخذ بأذن صاحبه ألا من أُريدَ (١)؟ جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اخرجوا عنّا ، أما والله لئن رُمتمونا ليمرنّ عليكم منّا أمر لا يسرّكم ولا تحمدوا غبّ رأيكم ، ارجعوا إلى منازلكم ، فإنّا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا ، قال : فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى عليّا فأخبره الخبر ، فجاء عليّ عليه‌السلام مغضباً حتى دخل على عثمان فقال : «أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك (٢) عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يُقاد حيث يسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ،

__________________

(١) كذا في تاريخ الطبري ، وفي الكامل : شاهت الوجوه إلى من أريد. (المؤلف)

(٢) في لفظ البلاذري : إلاّ بإفساد دينك ، وخديعتك عن عقلك. وفي لفظ ابن كثير : إلاّ بتحويلك عن دينك وعقلك ، وإنّ مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به. (المؤلف)

٢٤٤

وايم الله إنّي لأراه سيوردك ثمّ لا يُصدرك ، وما أنا بعائدٍ بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغُلبت على أمرك».

فلمّا خرج عليّ دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته ، فقالت : أتكلّم أو أسكت؟ فقال : تكلّمي. فقال : قد سمعت قول عليّ لك وأنّه ليس يعاودك ، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء ، قال : فما أصنع؟ قالت : تتّقي الله وحده لا شريك له وتتّبع سنّة صاحبيك من قبلك ، فإنّك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبّة ، وإنّما تركك الناس لمكان مروان ، فأرسل إلى عليّ فاستصلحه فإنّ له قرابة منك وهو لا يُعصى. قال : فأرسل عثمان إلى عليّ فأبى أن يأتيه ، وقال : «قد أعلمته أنّي لست بعائد». فبلغ مروان مقالة نائلة فيه ، فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه ، فقال : أتكلّم أو أسكت؟ فقال : تكلّم. فقال : إنّ بنت الفرافصة ، فقال عثمان : لا تذكرنّها بحرف فأسوء لك وجهك فهي والله أنصح لي منك ، فكفّ مروان (٣).

صورة أخرى من التوبة :

من طريق أبي عون ، قال : سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث يذكر مروان بن الحكم ، قال : قبّح الله مروان ، خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرضا ، وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت إلى لحية عثمان مخضلّة من الدموع وهو يقول : اللهمّ إنّي أتوب إليك ، اللهمّ إنّي أتوب إليك ، اللهمّ إنّي أتوب إليك ، والله لئن ردّني الحقّ إلى أن أكون عبداً قنّا لأرضينّ به ، إذا دخلت منزلي فادخلوا عليّ ، فو الله

__________________

(٣) الأنساب للبلاذري : ٥ / ٦٤ و ٦٥ [٦ / ١٧٧ و ١٧٩] ، تاريخ الطبري : ٥ / ١١١ [٤ / ٣٦٠ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٦٨ [٢ / ٢٨٥ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٧ / ١٧٢ [٧ / ١٩٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٦٣ و ١٦٤ [٢ / ١٤٦ ـ ١٤٧ خطبة ٣٠] ، تاريخ ابن خلدون : ٢ / ٣٩٦ و ٣٩٧ [٢ / ٥٩٧ ـ ٥٩٨]. (المؤلف)

٢٤٥

لا أحتجب منكم ولأعطينّكم [الرضا] (١) ولأزيدنّكم على الرضا ، ولأُنَحِيَنَّ مروان وذويه.

قال : فلمّا دخل أمر بالباب ففتح ، ودخل بيته ودخل عليه مروان ، فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه ، وأزاله عمّا كان يريد ، فلقد مكث عثمان ثلاثة أيّام ما خرج استحياء من الناس ، وخرج مروان إلى الناس ، فقال : شاهت الوجوه إلاّ من أُريد ، ارجعوا إلى منازلكم ، فإن يكن لأمير المؤمنين حاجةبأحد منكم يرسل إليه وإلاّ قرّ في بيته. قال عبد الرحمن : فجئت إلى عليّ فأجده بين القبر والمنبر وأجد عنده عمّار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولان : صنع مروان بالناس وصنع. قال : فأقبل عليَّ عليٌّ ، فقال : «أحضرت خطبة عثمان؟» قلت : نعم. قال : «أفحضرت مقالة مروان للناس؟» قلت : نعم. قال عليّ : «عياذ الله يا للمسلمين ، إنّي إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وقرابتي وحقّي ، وإنّي إن تكلّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان ، فصار سيقة له يسوقه حيث شاء بعد كبر السنّ وصحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

قال عبد الرحمن بن الأسود : فلم يزل حتى جاء رسول عثمان : ائتني. فقال عليّ بصوت مرتفعٍ عالٍ مغضب : «قل له : ما أنا بداخل عليك ولا عائد». قال : فانصرف الرسول ، فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين جائياً (٢) ، فسألت ناتلاً غلامه : من أين جاء أمير المؤمنين؟ فقال : كان عند عليّ ، فقال عبد الرحمن بن الأسود : فغدوت فجلست مع عليّ عليه‌السلام فقال لي : «جاءني عثمان البارحة ، فجعل يقول : إنّي غير عائد وإنّي فاعل ، قال : فقلت له : بعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعطيت من نفسك ، ثمّ دخلت بيتك ، وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك ويؤذيهم؟ قال :

__________________

(١) الزيادة من المصدر.

(٢) في المصدر : خائباً.

٢٤٦

فرجع وهو يقول : قطعت رحمي وخذلتني وجرّأت الناس عليّ. فقلت : والله إنّي لأذبّ الناس عنك ، ولكنّي كلّما جئتك بهنةٍ أظنّها لك رضاً جاء بأخرى ، فسمعت قول مروان عليّ واستدخلت مروان». قال : ثمّ انصرف إلى بيته ، فلم أزل أرى عليّا منكّباً عنه لا يفعل ما كان يفعل (١).

عهد آخر بعد حنث الأوّل :

أخرج الطبري من طريق عبد الله بن الزبير عن أبيه ، قال : كتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ، ويحتجّون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبداً حتى يقتلوه ، أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ الله ، فلمّا خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته ، فقال لهم : قد صنع القوم ما قد رأيتم فما المخرج؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى عليّ بن أبي طالب فيطلب إليه أن يردّهم عنه ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه أمداده ، فقال : إنّ القوم لن يقبلوا التعليل ، وهم محمّلي عهداً وقد كان منّي في قدمتهم الأولى ما كان ، فمتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به.

فقال مروان بن الحكم : يا أمير المؤمنين مقاربتهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب ، فأعطهم ما سألوك ، وطاولهم ما طاولوك ، فإنّما هم بغوا عليك فلا عهد لهم.

فأرسل إلى عليّ فدعاه ، فلمّا جاءه قال : يا أبا حسن إنّه قد كان من الناس ما قد رأيت ، وكان منّي ما قد علمت ، ولست آمنهم على قتلي ، فارددهم عنّي ، فإنّ لهم الله عزّ وجلّ أن أُعتبهم من كلّ ما يكرهون ، وأن أُعطيهم الحقّ من نفسي ومن غيري وإن كان في ذلك سفك دمي.

فقال له عليّ : «الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، وإنّي لأرى قوماً

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٥ / ١١٢ [٤ / ٣٦٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٩٦ [٢ / ٢٨٦ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

٢٤٧

لا يرضون إلاّ بالرضا ، وقد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأولى عهداً من الله لترجعنّ عن جميع ما نقموا ، فرددتهم عنك ، ثمّ لم تفِ لهم بشيء من ذلك ، فلا تغرّني هذه المرّة من شيء ، فإنّي معطيهم عليك الحقّ».

قال : نعم ، فأعطهم فو الله لَأَفِينّ لهم.

فخرج عليّ إلى الناس ، فقال : «أيّها الناس إنّكم إنّما طلبتم الحقّ فقد أُعطِيتموه ، إنّ عثمان قد زعم أنّه منصفكم من نفسه ومن غيره ، وراجع عن جميع ما تكرهون ، فاقبلوا منه ووكّدوا عليه». قال الناس : قد قبلنا ، فاستوثق منه لنا ، فإنّا والله لا نرضى بقول دون فعل. فقال لهم عليّ : «ذلك لكم». ثمّ دخل عليه فأخبره الخبر ، فقال عثمان : اضرب بيني وبينهم أجلاً يكون لي فيه مهلة ، فإنّي لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد ، قال له عليّ : «ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك» ، قال : نعم ، ولكن أجّلني في ما بالمدينة ثلاثة أيّام. قال عليّ : «نعم». فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك ، وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجّله فيه ثلاثاً على أن يردّ كلّ مظلمة ، ويعزل كلّ عامل كرهوه ، ثمّ أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق ، وأشهد عليه ناساً من وجوه المهاجرين والأنصار ، فكفّ المسلمون عنه ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه.

فجعل يتأهّب للقتال ويستعدّ بالسلاح ، وقد كان اتّخذ جنداً عظيماً من رقيق الخمس ، فلمّا مضت الأيّام الثلاثة وهو على حاله لم يغيّر شيئاً ممّا كرهوه ، ولم يعزل عاملاً ، ثار به الناس ، وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتى أتى المصريّين وهم بذي خُشب ، فأخبرهم الخبر وسار معهم حتى قدموا المدينة ، فأرسلوا إلى عثمان : ألم نفارقك على أنّك زعمت أنّك تائب من إحداثك ، وراجع عمّا كرهنا منك ، وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه؟ قال : بلى أنا على ذلك. قال : فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك؟ الحديث (٢).

__________________

(٢) تاريخ الطبري : ٥ / ١١٦ [٤ / ٣٦٩ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٧١ و ٧٢ [٢ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٦٦ [٢ / ١٤٩ خطبة ٣٠]. (المؤلف)

٢٤٨

سياسة ضئيلة :

لمّا تكلّم عليّ مع المصريّين ورجّعهم إلى بلادهم ورجع هو إلى المدينة دخل على عثمان وأخبره أنّهم رجعوا ، فمكث عثمان ذلك اليوم ، حتى إذا كان الغد جاءه مروان فقال له : تكلّم وأعلم الناس أنّ أهل مصر قد رجعوا ، وأنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً فإنّ خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه ، فأبى عثمان أن يخرج ، فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أمّا بعد : إنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلمّا تيقّنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم.

فناداه الناس من كلّ ناحية : اتّق الله يا عثمان وتب إلى الله. وكان أوّلهم عمرو ابن العاصي. قال : اتّق الله يا عثمان فإنّك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب إلى الله نتب. إلى آخر ما مرّ في هذا الجزء صفحة (١٣٧).

قصّة الحصار الثاني (١)

أخرج البلاذري من طريق أبي مخنف قال : لمّا شخص المصريّون بعد الكتاب

__________________

(١) مصادرها : الأنساب : ٥ / ٢٦ ـ ٦٩ و ٩٥ [٦ / ١٣٣ ـ ١٨٥ و ٢١٩] ، الإمامة والسياسة : ١ / ٣٣ ـ ٣٧ [١ / ٣٩] ، المعارف لابن قتيبة : ص ٨٤ [ص ١٩٤] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٦٣ [٤ / ١٠٦] ، تاريخ الطبري : ٥ / ١١٩ و ١٢٠ [٤ / ٣٧٢ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، الرياض النضرة : ٢ / ١٢٣ و ١٢٥ [٣ / ٥٦] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٧٠ و ٧١ [٢ / ٢٨٧ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٦٥ و ١٦٦ [٢ / ١٥١ خطبة ٣٠] ، تاريخ ابن خلدون : ٢ / ٣٩٧ [٢ / ٥٩٨] ، تاريخ ابن كثير : ٧ / ١٧٣ ، ١٧٤ و ١٨٦ و ١٨٩ [٧ / ١٩٤ ـ ٢١١ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، حياة الحيوان للدميري : ١ / ٥٣ [١ / ٧٧] ، الصواعق المحرقة : ص ٦٩ [ص ١١٧] ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ١٠٦ و ١٠٧ [ص ١٤٨ و ١٥١] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٨٤ و ٨٦ و ٨٧ [٢ / ٧٥ و ٧٧ و ٧٨] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٥٩ ، واللفظ للبلاذري والطبري. (المؤلف)

٢٤٩

الذي كتبه عثمان فصاروا بأيلة (١) أو بمنزل قبلها رأوا راكباً خلفهم يريد مصر فقالوا له : من أنت؟ فقال : رسول أمير المؤمنين إلى عبد الله بن سعد ، وأنا غلام أمير المؤمنين. وكان أسود ، فقال بعضهم لبعض : لو أنزلناه وفتّشناه ألاّ يكون صاحبه قد كتب فينا بشيء ، ففعلوا فلم يجدوا معه شيئاً ، فقال بعضهم لبعض : خلّوا سبيله ، فقال كنانة بن بشر : أما والله دون أن أنظر في إداوته فلا. فقالوا : سبحان الله أيكون كتاب في ماء؟ فقال : إنّ للناس حِيَلاً. ثمّ حلّ الإداوة فإذا فيها قارورة مختومة ، أو قال : مضمومة ، في جوف القارورة كتاب في أنبوب من رصاص فأخرجه فقرئ فإذا فيه :

أمّا بعد : فإذا قدم عليك عمرو بن بديل فاضرب عنقه ، واقطع يدي ابن عديس وكنانة وعروة ، ثمّ دعهم يتشحّطون في دمائهم حتى يموتوا ، ثمّ أوثقهم على جذوع النخل.

فيقال : إنّ مروان كتب الكتاب بغير علم عثمان ، فلمّا عرفوا ما في الكتاب ، قالوا : عثمان مُحلّ. ثمّ رجعوا عودهم على بدئهم حتى دخلوا المدينة فلقوا عليّا بالكتاب وكان خاتمه من رصاص ، فدخل به عليّ على عثمان فحلف بالله ما هو كتابه ولا يعرفه وقال : أمّا الخطّ فخطّ كاتبي ، وأمّا الخاتم فعلى خاتمي ، قال عليّ : «فمن تتّهم؟» قال : أتّهمك وأتّهم كاتبي. فخرج عليّ مغضباً وهو يقول : «بل هو أمرك». قال أبو مخنف : وكان خاتم عثمان بدءاً عند حمران بن أبان ثمّ أخذه مروان حين شخص حمران إلى البصرة فكان معه.

وفي لفظ جُهيم الفهري قال : أنا حاضر أمر عثمان فذكر كلاماً في أمر عمّار. فانصرف القوم راضين ، ثمّ وجدوا كتاباً إلى عامله على مصر أن يضرب أعناق رؤساء المصريّين ، فرجعوا ودفعوا الكتاب إلى عليّ فأتاه به فحلف له أنّه لم يكتبه ولم

__________________

(١) أيله بالفتح : مدينة على ساحل بحر القلزم ممّا يلي الشام. وقيل : هي آخر الحجاز وأوّل الشام [معجم البلدان : ١ / ٢٩٢]. (المؤلف)

٢٥٠

يعلم به. فقال له عليّ : «فمن تتّهم فيه؟» فقال : أتهم كاتبي وأتّهمك يا عليّ! لأنّك مُطاع عند القوم ولم تردّهم عنّي.

وجاء المصريّون إلى دار عثمان فأحدقوا بها وقالوا لعثمان وقد أشرف عليهم : يا عثمان أهذا كتابك؟ فجحد وحلف ، فقالوا : هذا شرّ ، يكتب عنك بما لا تعلمه ، ما مثلك يلي أُمور المسلمين ، فاختلع من الخلافة. فقال : ما كنت لأنزع قميصاً قمّصنيه الله ، أو قال : سربلنيه الله. وقالت بنو أُميّة : يا عليّ أفسدت علينا أمرنا ودسست وألّبت ، فقال : «يا سفهاء إنّكم لتعلمون أنّه لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، وأنّي رددت أهل مصر عن عثمان ثمّ أصلحت أمره مرّة بعد أخرى فما حيلتي؟» وانصرف وهو يقول : «اللهمّ إنّي بريء ممّا يقولون ومن دمه إن حدث به حدث».

قال : وكتب عثمان حين حصروه كتاباً قرأه ابن الزبير على الناس يقول فيه : والله ما كتبت الكتاب ولا أمرت به ولا علمت بقصّته وأنتم مُعتبون من كلّ ما ساءكم ، فأمّروا على مصركم من أحببتم ، وهذه مفاتيح بيت مالكم فادفعوها إلى من شئتم. فقالوا : قد اتّهمناك بالكتاب فاعتزلنا.

وأخرج ابن سعد (١) من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : إنّ عثمان وجّه إلى المصريّين لمّا أقبلوا يريدونه محمد بن مسلمة في خمسين من الأنصار أنا فيهم فأعطاهم الرضا وانصرفوا ، فلمّا كانوا ببعض الطريق رأوا جملاً عليه ميسم الصدقة فأخذوه ، فإذا غلام لعثمان ففتّشوه ، فإذا معه قصبة من رصاص في جوف إداوة فيها كتاب إلى عامل مصر : أن افعل بفلان كذا ، وبفلان كذا ، فرجع القوم إلى المدينة فأرسل إليهم عثمان محمد بن مسلمة ، فلم يرجعوا وحصروه.

صورة أخرى :

عن سعيد بن المسيّب قال : إنّ عثمان لمّا ولي كره ولايته نفر من أصحاب

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٣ / ٦٥.

٢٥١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ عثمان كان يحبّ قومه ، فولي الناس اثنتي عشرة سنة ، وكان كثيراً ما يولّي بني أُميّة ممّن لم يكن له من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحبة ، وكان يجيء من أُمرائه ما يكره أصحاب محمد ، فكان يُستعتب فيهم فلا يعزلهم ، فلمّا كان في الحجج الآخرة استأثر ببني عمّه فولاّهم وولّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر ، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلّمون منه ، وقد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمّار بن ياسر ، فكان في قلوب هُذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها من غضب لأبي ذر ما فيها ، وحنقت بنو مخزوم لحال عمّار بن ياسر ، فلمّا جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح ، كتب إليه كتاباً يتهدّده فيه ، فأبى أن ينزع عمّا نهاهُ عثمان عنه وضرب بعض من شكاه إلى عثمان من أهل مصر حتى قتله ، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل إلى المدينة فنزلوا المسجد وشكوا ما صنع بهم ابن أبي سرح في مواقيت الصلاة إلى أصحاب محمد ، فقام طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة رضي الله تعالى عنها تسأله أن ينصفهم من عامله ، ودخل عليه عليّ بن أبي طالب ـ وكان متكلّم القوم ـ فقال له : «إنّما يسألك القوم رجلاً مكان رجل ، وقد ادّعوا قِبَله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم ، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه». فقال لهم : اختاروا رجلاً أُولّيه عليكم مكانه. فأشار الناس عليهم بمحمد بن أبي بكر الصدّيق فقالوا : استعمل علينا محمد بن أبي بكر. فكتب عهده وولاّه ووجّه معهم عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح ، فشخص محمد بن أبي بكر وشخصوا جميعاً ، فلمّا كانوا على مسيرة ثلاث من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير وهو يخبط البعير خبطاً كأنّه رجل يطلب أو يُطلب ، فقال له أصحاب محمد بن أبي بكر : ما قصّتك؟ وما شأنك؟ كأنّك هارب أو طالب. فقال لهم مرّة : أنا غلام أمير المؤمنين ، وقال أخرى : أنا غلام مروان ، وجّهني إلى عامل مصر برسالة ، قالوا : فمعك كتاب؟ قال : لا. ففتّشوه ، فلم يجدوا معه شيئاً وكانت معه إداوة قد يبست فيها شيء يتقلقل فحرّكوه ليخرج فلم يخرج ، فشقّوا

٢٥٢

الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح.

فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم ثمّ فكّ الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه : إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتاب محمد وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي ، واحبس من يجيء إليّ متظلّماً منك إن شاء الله ، فلمّا قرأوا الكتاب فزعوا وغضبوا ورجعوا إلى المدينة وختم محمد بن أبي بكر الكتاب بخواتيم نفر ممّن كان معه ودفعه إلى رجل منهم وقدموا المدينة ، فجمعوا عليّا وطلحة والزبير وسعداً ومن كان من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ فكّوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصّة الغلام وأقرأوهم الكتاب ، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلاّ حنق على عثمان ، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وعمّار بن ياسر وأبي ذر حنقاً وغيظاً ، وقام أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنازلهم ما منهم أحد إلاّ وهو مغتمّ لما في الكتاب.

وحاصر الناس عثمان وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم ، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله ، وكانت عائشة تقرصه كثيراً ، ودخل عليّ وطلحة والزبير وسعد وعمّار في نفر من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّهم بدريّ على عثمان ومع عليّ الكتاب والغلام والبعير ، فقال له عليّ : «هذا الغلام غلامك؟» قال : نعم. قال : «والبعير بعيرك؟» قال : نعم. قال : «وأنت كتبت هذا الكتاب؟» قال : لا ، وحلف بالله : ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علمت شأنه ، فقال له عليّ : «أفالخاتم خاتمك؟» قال : نعم. قال : «فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به؟» فحلف بالله : ما كتبت الكتاب ولا أمرت به ولا وجّهت هذا الغلام إلى مصر قطّ. وعرفوا أن الخطّ خطّ مروان فسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى ، وكان مروان عنده في الدار ، فخرج أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عنده غضاباً وعلموا أنّه لا يحلف بباطل ، إلاّ أنّ قوماً قالوا : لن يبرأ عثمان في قلوبنا إلاّ أن يدفع إلينا مروان

٢٥٣

حتى نبحثه عن الأمر ونعرف حال الكتاب ، وكيف يؤمر بقتل رجال من أصحاب رسول الله بغير حقّ؟ فإن يكن عثمان كتبه عزلناه ، وإن يكن مروان كتبه عن لسان عثمان نظرنا ما يكون منّا في أمر مروان ، فلزموا بيوتهم فأبى عثمان أن يخرج مروان.

فحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء ، فأشرف على الناس فقال : أفيكم عليّ؟ فقالوا : لا. قال : أفيكم سعد؟ فقالوا : لا. فسكت ، ثمّ قال ألا أحد يبلّغ عليّا فيسقينا ماءً؟ فبلغ ذلك عليّا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماءً فما كادت تصل إليه ، وجُرح بسببها عدّة من موالي بني هاشم وبني أُميّة حتى وصلت.

لفظ الواقدي :

من طريق محمد بن مسلمة ، وقد أسلفنا صدره في (ص ١٣٢ ، ١٣٣) ، وإليك بقيّته : فوجدنا فيه هذا الكتاب فإذا فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد : فإذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس فاجلده مائة ، واحلق رأسه ولحيته ، أَطِل حبسه حتى يأتيك أمري ، وعمرو بن الحمق ، فافعل به مثل ذلك ، وسودان بن حمران مثل ذلك ، وعروة بن البيّاع الليثي مثل ذلك. قال : فقلت : وما يدريكم أنّ عثمان كتب بهذا؟ قالوا : فيقتات (١) مروان على عثمان بهذا؟ فهذا شرّ ، فيخرج نفسه من هذا الأمر. ثمّ قالوا : انطلق معنا إليه فقد كلّمنا عليّا ووعدنا أن يكلّمه إذا صلّى الظهر ، وجئنا سعد بن أبي وقاص فقال : لا أدخل في أمركم ، وجئنا سعيد بن زيد بن عمرو فقال مثل هذا ، فقال محمد : فأين وعدكم عليّ؟ قالوا : وعدنا إذا صلّى الظهر أن يدخل عليه. قال محمد : فصلّيت مع عليّ ، قال : ثمّ دخلت أنا وعليّ عليه فقلنا : إنّ هؤلاء المصريّين بالباب فأذن لهم ، قال : ومروان جالس فقال مروان :

__________________

(١) لعله : يفتات. مخفف : يفتئت ، بمعنى : يفتري ويختلق.

٢٥٤

دعني جُعلت فداك أُكلّمهم. فقال عثمان : فضّ الله فاك اخرج عنّي ، وما كلامك في هذا الأمر؟ فخرج مروان وأقبل عليّ عليه ، قال : وقد أنهى المصريّون إليه مثل الذي أنهوا إليّ فجعل عليّ يُخبره ما وجدوا في كتابهم ، فجعل يُقسم بالله ما كتب ولا علم ولا شووِر فيه ، فقال محمدبن مسلمة : والله إنّه لصادق ، ولكن هذا عمل مروان ، فقال عليّ : «فأدخلهم عليك فليسمعوا عذرك». قال : ثمّ أقبل عثمان على عليّ فقال : إنّ لي قرابة ورحماً والله لو كنت في هذه الحلقة لحللتها عنك ، فاخرج إليهم فكلّمهم فإنّهم يسمعون منك. قال عليّ : «والله ما أنا بفاعل ولكن أدخلهم حتى تعتذر إليهم» قال : فأدخلوا.

قال محمد بن مسلمة : فدخلوا يومئذ فما سلّموا عليه بالخلافة ، فعرفت أنّه الشرّ بعينه ، قالوا : سلام عليكم ، فقلنا : وعليكم السلام. قال : فتكلّم القوم وقد قدّموا في كلامهم ابن عديس ، فذكر ما صنع ابن سعد بمصر وذكر تحاملاً منه على المسلمين وأهل الذمّة وذكر استئثاراً منه في غنائم المسلمين ، فإذا قيل له في ذلك قال : هذا كتاب أمير المؤمنين إليّ ، ثمّ ذكروا أشياء ممّا أحدث بالمدينة وما خالف به صاحبيه ، قال : فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلاّ دمك أو تنزع ، فردّنا عليّ ومحمد بن مسلمة وضمن لنا محمد النزوع عن كلّ ما تكلّمنا فيه ، ثمّ أقبلوا على محمد بن مسلمة فقالوا : هل قلت ذاك لنا؟ قال محمد : فقلت : نعم. ثمّ رجعنا إلى بلادنا نستظهر بالله عزّ وجلّ عليك ويكون حجّة لنا بعد حجّة ، حتى إذا كنّا بالبُويب (١) أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد تأمره فيه بجلد ظهورنا ، والمثل بنا في أشعارنا ، وطول الحبس لنا ، وهذا كتابك ، قال : فحمد الله عثمان وأثنى عليه ثم قال : والله ما كتبت ولا أمرت ولا شووِرت ولا علمت ، قال : فقلت وعليّ جميعاً : قد صدق. قال : فاستراح إليها عثمان ، فقال المصريّون : فمن كتبه؟ قال : لا أدري. قال : أفيُجترأ عليك

__________________

(١) البويب : مدخل أهل الحجاز إلى مصر [معجم البلدان : ١ / ٥١٢]. (المؤلف)

٢٥٥

فيُبعث غلامك وجمل من صدقات المسلمين ، ويُنقش على خاتمك ، ويُكتب إلى عاملك بهذه الأُمور العظام وأنت لا تعلم؟ قال : نعم. قالوا. فليس مثلك يلي ، اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه. قال : لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله عزّ وجلّ. قال : وكثرت الأصوات واللغط فما كنت أظنّ أنّهم يخرجون حتى يواثبوه قال : وقام عليّ فخرج ، فلمّا قام عليّ قمت وقال للمصريّين : اخرجوا ، فخرجوا ، ورجعت إلى منزلي ورجع عليّ إلى منزله فما برحوا محاصريه حتى قتلوه.

وأخرج الطبري من طريق عبد الرحمن بن يسار أنّ الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الأعور السلمي (١) وهو الذي كان يدعو عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام في قنوته مع أناس كما مرّ حديثه في (٢ / ١٣٢) ، وذكره ابن أبي الحديد في شرحه (٢) (١ / ١٦٥).

وأخرج من طريق عثمان بن محمد الأخنسي قال : كان حصر عثمان قبل قدوم أهل مصر ، فقدم أهل مصر يوم الجمعة ، وقتلوه في الجمعة الأخرى. تاريخ الطبري (٣) (٥ / ١٣٢).

الخليفة توّاب عوّاد :

أخرج الطبري من طريق سفيان بن أبي العوجاء ، قال : قدم المصريّون القدمة الأولى ، فكلّم عثمان محمد بن مسلمة ، فخرج في خمسين راكباً من الأنصار ، فأتوهم بذي خشب فردّهم ، ورجع القوم حتى إذا كانوا بالبويب وجدوا غلاماً لعثمان معه كتاب إلى عبد الله بن سعد ، فكرّوا وانتهوا إلى المدينة وقد تخلّف بها من الناس الأشتر

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٥ / ١١٥ [٤ / ٣٦٧ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٢ / ١٥٠ خطبة ٣٠.

(٣) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٣٩٤ حوادث سنة ٣٥ ه‍.

٢٥٦

وحكيم بن جبلة فأتوا بالكتاب ، فأنكر عثمان أن يكون كتبه ، وقال : هذا مُفتعل. قالوا : فالكتاب كتاب كاتبك؟ قال : أجل ، ولكنّه كتبه بغير إذني. قالوا : فالجمل جملك؟ قال : أجل ، ولكنّه أخذ بغير علمي. قالوا : ما أنت إلاّ صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرتَ به من سفك دمائنا بغير حقّها ، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تُخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك ، لأنّه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يُقتطع مثل [هذا] (١) الأمر دونه لضعفه وغفلته ، وقالوا له : إنّك ضربت رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عندما يستنكرون من أعمالك ، فأقِد من نفسك من ضربته وأنت له ظالم ، فقال : الإمام يُخطئ ويُصيب فلا أقيد من نفسي ؛ لأنّي لو أقدت كلّ من أصبته بخطإ آتي على نفسي. قالوا : إنّك قد أحدثت أحداثاً عظاماً فاستحققت بها الخلع ، فإذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ، ثمّ عدت إليها وإلى مثلها ، ثمّ قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحقّ ، ولامنا فيك محمد بن مسلمة ، وضمن لنا ما حدث من أمر ، فأخفرته فتبرّأ منك وقال : لا أدخل في أمره ، فرجعنا أوّل مرّة لنقطع حجّتك ونبلغ أقصى الأعذار إليك ، نستظهر بالله عزّ وجلّ عليك ، فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب. وزعمت أنّه كُتب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتمك ، فقد وقعت عليك بذلك التهمة القبيحة ، مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم والأثرة في القسم والعقوبة للأمر بالتبسّط من الناس ، والإظهار للتوبة ، ثمّ الرجوع إلى الخطيئة ، ولقد رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك ونستبدل بك من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لم يُحدث مثل ما جرّبنا منك ، ولم يقع عليه من التهمة ما وقع عليك ، فاردد خلافتنا واعتزل أمرنا ، فإنّ ذلك أسلم لنا منك ، وأسلم لك منّا ، فقال عثمان : فرغتم من جميع ما تريدون؟ قالوا : نعم. قال :

__________________

(١) من تاريخ الطبري.

٢٥٧

الحمد لله أَحمدَهُ وأستعينه ، وأومن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ، أمّا بعد ؛ فإنّكم لم تعدلوا في المنطق ولم تنصفوا في القضاء ، أمّا قولكم : تخلع نفسك ، فلا أنزع قميصاً قمّصنيه الله عزّ وجلّ وأكرمني به وخصّني به على غيري ، ولكنّي أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون ، فإنّي والله الفقير إلى الله الخائف منه.

قالوا : إنّ هذا لو كان أوّل حدث أحدثته ثمّ تُبت منه ولم تقم عليه ، لكان علينا أن نقبل منك ، وأن ننصرف عنك ، ولكنّه قد كان منك من الإحداث قبل هذا ما قد علمت ، ولقد انصرفنا عنك في المرّة الأولى وما نخشى أن تكتب فينا ، ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك ، وكيف نقبل توبتك؟ وقد بلونا منك أنّك لا تُعطي من نفسك التوبة من ذنب إلاّ عُدت إليه ، فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك ، فإن حال من معك من قومك وذوي رحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم ، حتى نخلص إليك فنقتلك ، أو تلحق أرواحنا بالله.

فقال عثمان : أمّا أن أتبرّأ من الإمارة ؛ فإن تصلبوني أحبّ إليّ من أن أتبرّأ من أمر الله عزّ وجلّ وخلافته. وأمّا قولكم : تقاتلون من قاتل دوني ؛ فإنّي لا آمر أحداً بقتالكم (١) ، فمن قاتل دوني فإنّما قاتل بغير أمري ، ولعمري لو كنت أُريد قتالكم ، لقد كنت كتبت إلى الأجناد (٢) فقادوا الجنود وبعثوا الرجال ، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق ، فالله الله في أنفسكم فأبقوا عليها إن لم تُبقوا عليّ ؛ فإنّكم مجتلبون بهذا الأمر إن قتلتموني دماً. قال : ثمّ انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب ، وأرسل إلى محمد بن

__________________

(١) لم يكن معه هناك غير بني أبيه حتى يأمر أحداً بالقتال ، وهم ليسوا هناك وقد تحصّنوا يوم قتله بكندوج أمّ حبيبة كما يأتيك حديثه. (المؤلف)

(٢) كان يتأهّب للقتال ، ويستعدّ بالسلاح ، ويكتب إلى الأجناد ، ويجلب إلى المدينة الجنود المجنّدة من الشام وغيرها ، غير أنّه كان يغفّل الناس بكلماته هذه وستوافيك كتبه. (المؤلف)

٢٥٨

مسلمة فكلّمه أن يردّهم ، فقال : والله لا أكذب الله في سنة مرّتين. تاريخ الطبري (١) (٥ / ١٢٠ ، ١٢١).

نظرة في أحاديث الحصارين

أوّل ما يقع عليه النظر من هذه الأحاديث : أنّ المجهزين على عثمان هم المهاجرون والأنصار من الصحابة ـ ولم يشذّ عنهم إلاّ أربعة أسلفنا ذكرهم في صفحة (ص ١٦٣) ـ وهم الذين أصفقوا مع أهل مصر والكوفة والبصرة على مقت الخليفة وقتله بعد أن أعيتهم الحيل ، وأعوزهم السعي في استتابته ، وإكفائه عن الأحداث ، ونزوعه عمّا هو عليه من الجرائم وإنّ في المقبلين من تلكم البلاد من عظماء الصحابة ، ومن رجال الفضيلة والفقه والتقى من التابعين جماعات لا يستهان بعدّتهم ، ولا يُغمز في دينهم ، وهم رؤساء هاتيك الجماهير والمؤلّبين لهم على عثمان :

فمن الكوفيّين :

١ ـ زيد الخير ، له إدراك أثنى عليه النبيّ الأعظم ، وأنّه من الخيار الأبرار.

٢ ـ مالك بن الحارث الأشتر ، له إدراك ، أوقفناك على عظمته وفضله وموقفه من الإيمان ، ومبلغه من الثقة والصلاح.

٣ ـ كعب بن عبدة النهدي ، وقد سمعت عن البلاذري أنّه كان ناسكاً.

٤ ـ زياد بن النضر الحارثي ، له إدراك.

٥ ـ عمرو بن الأهتم ، صحابيّ خطيب بليغ شريف في قومه ، ترجمه (٢) ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وابن الأثير في أُسد الغابة ، وابن حجر في الإصابة.

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٣٧٥ و ٣٧٦ حوادث سنة ٣٥ ه‍.

(٢) الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٦٣ رقم ١٨٩٢ ، أُسد الغابة : ٤ / ١٩٦ رقم ٣٨٦٢ ، الإصابة : ٢ / ٥٢٤ رقم ٥٧٧٠.

٢٥٩

وفي المصريّين :

٦ ـ عمرو بن الحمق الخزاعي ، صحب النبيّ وحفظ عنه أحاديث ، وحظي بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له كما مرّ تفصيله (ص ٤٥).

٧ ـ عمرو بن بديل الخزاعي ، صحابيّ عادل مترجم في معاجم الصحابة.

٨ ـ عبد الله بن بديل الخزاعي ، قال أبو عمر : كان سيد خزاعة وخزاعة عيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشهد حنيناً والطائف وتبوك ، وكان له قدر وجلالة ، وكان من وجوه الصحابة.

راجع (١) : الاستيعاب ، وأُسد الغابة ، والإصابة.

٩ ـ عبد الرحمن بن عديس أبو محمد البلوي ، صحب النبيّ وسمع منه ، وكان ممّن بايع تحت الشجرة من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.

١٠ ـ محمد بن أبي بكر ، وحسبك فيه ما في الاستيعاب والإصابة (٢) من أنّ عليّا ـ أمير المؤمنين ـ كان يُثني عليه ويفضّله وكانت له عبادة واجتهاد ، وكان من أفضل أهل زمانه.

ورئيس البصريّين :

١١ ـ حكيم بن جبلة العبدي ، قال أبو عمر في الاستيعاب (٣) : أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان رجلاً صالحاً له دين ، مطاعاً في قومه. وقال المسعودي في المروج (٤) (٢ / ٧) : كان

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ٨٧٢ رقم ١٤٨١ ، أُسد الغابة : ٣ / ١٨٤ رقم ٢٨٣٢ ، الإصابة : ٢ / ٢٨٠ رقم ٤٥٥٩.

(٢) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٣٦٧ رقم ٣٢٢٠ ، الإصابة : ٣ / ٤٧٢ رقم ٨٢٩٤.

(٣) الاستيعاب : القسم الأوّل / ٣٦٦ رقم ٥٤٠.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٣٧٥.

٢٦٠