الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٩

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

من سادات عبد القيس وزهّادها ونسّاكها. وأثنى عليه مولانا أمير المؤمنين بقوله كما في الكامل (١) (٣ / ٩٦):

دعا حكيم دعوةً سميعه

نال بها المنزلة الرفيعه

يالهف ما نفسي على ربيعه

ربيعة السامعة المطيعه

قد سبقتني فيهم الوقيعه

وإنّ ما جرى في غضون تلكم المعامع ، وتضاعيف ذلك الحوار من أخذ وردّ وهتاف وقول ، كلّها تنمّ عن صلاح القوم وتقواهم ، وأنّهم لم يغضبوا إلاّ لله ، ولا دعوا إلاّ إلى أمره ، ولا نهضوا إلاّ لإقامة الأمت والعوج ، وتقويم دين الله وتنزيهه عن المعرّات والأحداث ، ولم يجلبهم إلى ذلك الموقف مطمع في إمارة ، أو نزوع إلى حكم أو هوى في مال ، ولذلك كان يرضيهم كلّ ما يبديه الخليفة من النزول على رغباتهم ، والنزوع عن أحداثه ، والإنابة إلى الله ممّا نقموا به عليه ، غير أنّه كان يثيرهم في الآونة بعد الأخرى ما كانوا يشاهدونه من المقام على الهنات ، ونقض العهد مرّة بعد مرّة حتى إذا اطمأنّوا إلى أنّ الرجل غير منكفئ عمّا كان يقترفه ، ولا مطمئنّ عمّا كان يفعله ، فاطمأنّوا إلى بقاء التكليف عليهم بالوثوب ، فوقفوا لإزالة ما رأوه منكراً ذلك الموقف الشديد حتى قضى من الأمر ما كان مقدوراً.

ولو كان للقوم غاية غير ما وصفناه لما أثنى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام على المصريّين منهم بقوله من كتاب كتبه إلى أهل مصر : «إلى القوم الذين غضبوا لله حين عُصي في أرضه ، وذُهب بحقّه» ، إلى آخر ما مرّ في صفحة (٧٤). ولما كانوا مذكورين في المعاجم والكتب بالثناء الجميل عليهم بعد تلكم المواقف المشهودة ، ولو صدر عن أيّ أحد أقلّ ممّا صدر من أولئك الثائرين على عثمان في حقّ فرد من أفراد المسلمين

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٢٦ حوادث سنة ٣٦ ه‍.

٢٦١

فضلاً عن الخليفة لعُدّ جنايةً لا تغفر ، وذنباً لا يبرّر ، وسقط صاحبه إلى هوّة الضعة ، ولا تبقى له بعد حرمة ولا كرامة ، غير أنّ ....

الثاني من مواقع النظر في الأحاديث المذكورة : أنّ الخليفة كانت عنده جرائم يستنكرها المسلمون وينكرونها عليه وهو يعترف بها فيتوب عنها ، ثمّ يروغ عن التوبة فيعود إليها ، ولا أدري أنّه في أيّ الحالين أصدق؟ أحين اعترف بالأحداث فتاب؟ أم حين عبث به مروان فرقى المنبر وقال : إنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلمّا تيقّنوا أنّه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم؟

الثالث : أنّه أعطى العهود والمواثيق المؤكّدة على النزوع عمّا كان يرتكبه ممّا ينقمونه عليه وسجّل ذلك في صكوك يبثّها في البلاد بأيدي الناهضين عليه ، إذ كان على علم بأنّ البلاد قد تمخّضت عليه كما مرّ في كلام لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ثمّ لم يلبث حتى نكثها بعد ما ضمن له العمل على ذلك مثل مولانا أمير المؤمنين ومحمد ابن مسلمة ذلك الصحابيّ العظيم ، وقد شهدت ذلك الضمان أُمّة كبيرة من الصحابة ، فكأنّه ما كان يرى للعهد لزوماً ، ولا للضمان حرمة ، ولا للضامنين مكانة ، ولا لنكث العهد معرّة ، ولعلّه كان يجد مبرّراً لتلكم الفجائع أو الفضائح ، وعلى أيّ فالمسلمون ـ ويقدمهم الصحابة العدول ـ لم يرُقهم ذلك المبرّر ولا اعترفوا به ، فمضوا إلى ما فعلوه قدماً غير مُتحوّبين ولا متأثّمين.

الرابع : أنّ التزامه في كتاب عهده في الحصار الأوّل بالعمل بالكتاب والسنّة وهو في حيّز النزوع عمّا كان يرتكبه قبل ذلك ، وقد أعتب بذلك المتجمهرين عليه المنكرين على أحداثه المنحازة عنهما ، يرشدنا إلى أنّه كان في أعماله قبل ذلك الالتزام حائداً عن الكتاب والسنّة ، وحسب أيّ إنسان من الضعة أن تكون أعماله منتئية عنهما.

الخامس : إنّ الطريد ابن الطريد ، أو قل عن لسان النبيّ الأمين (١) : «الوزغ ابن

__________________

(١) راجع ما مرّ في الجزء الثامن : ص ٢٦٠. (المؤلف)

٢٦٢

الوزغ ، اللعين ابن اللعين» ، مروان بن الحكم كان يؤثّر في نفسيّات الخليفة حتى يحوّله كما قال مولانا أمير المؤمنين (٢) عن دينه وعقله ، ويجعله مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به. فلم يزل به حتى أربكه عند منتقض العهود ومنتكث المواثيق ، فأورده مورد الهلكة. وعجيب من الخليفة أن يتأثّر بتسويلات الرجل وهو يعلم محلّه من الدين وموقفه من الإيمان ، ومبوّأه من الصدق والأمانة ، وهو يعلم أنّه هو وزبانيته هم الذين جرّوا عليه الويلات وأركبوه النهابير ، وأنّهم سيوردونه ثمّ لا يصدرونه ، يعلم ذلك كلّه وهو بين الناب والمخلب وفي منصرم الحياة ، ومع ذلك كلّه لا يزال مقيماً على هاتيك الوساوس المروانيّة ، فيا للعجب.

وأعجب من ذلك أنّه مع هذا التأثّر يتّخذ نصح الناصحين له كمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وكثير من الصحابة العدول بأعتاب الناس ورفض تمويهات مروان الموبقة له ظهريّا فلا يُعير لهم بعد تمام الحجّة وقطع سُبل المعاذير أُذناً واعية ، وهو يعلم أنّهم لا يعدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدعونه إلى ما فيه نجاته ونجاح الأُمّة.

لفت نظر : وقع في عدّ أيّام حصار عثمان خلاف بين المؤرّخين فقال الواقدي : حاصروه تسعة وأربعين يوماً. وقال الزبير : حاصروه شهرين وعشرين يوماً. وفي رواية أنّهم حصروه أربعين ليلة. وقال ابن كثير : استمرّ الحصر أكثر من شهر. وقيل : بضعاً وأربعين. وقال الشعبي : كانت مدّته اثنتين وعشرين ليلة. وفي رواية للطبري : كان الحصر أربعين ليلة والنزول سبعين. وفي بعض الروايات : حصروه عشرين يوماً بعد قضيّة جهجاه المذكورة (ص ١٢٣) إلى أقوال أخرى ، ولعلّ كلاّ منها ناظر إلى ناحية من مدّة أيّام الحصارين أو مدّة أحدهما ، ومن مدّة نزول المتجمهرين حول داره ، ومن أيّام ضاق عليه الخناق ، ومُنِع من إدخال الماء عليه ،

__________________

(٢) راجع ما مضى في هذا الجزء صفحة : ١٧٤. (المؤلف)

٢٦٣

وحيل بينه وبين اختلاف الناس إليه ، ومن حصار الثائرين عليه من الأمصار ، ومن إصفاق أهل المدينة معهم على الحصار. إلى تأويلات أخرى يتأتّى بها الجمع بين تلكم الأقوال.

كتب عثمان أيام الحصار (١)

أخرج الطبري في تاريخه من طريق ابن الكلبي ، قال : إنّما ردّ أهل مصر إلى عثمان بعد انصرافهم عنه أنّه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم ، وأن يصلب بعضهم. فلمّا أتوا عثمان ، قالوا : هذا غلامك؟ قال : غلامي انطلق بغير علمي ، قالوا : جملك؟ قال : أخذه من الدار بغير أمري. قالوا : خاتمك؟ قال : نقش عليه. فقال عبد الرحمن بن عديس التجيبي حين أقبل أهل مصر :

أقبلن من بلبيس والصعيد (٢)

خوصاً كأمثال القسيِّ عود

مُستحقبات حلق الحديد

يطلبن حقَّ الله في الوليد

وعند عثمان وفي سعيد

يا ربّ فارجعنا بما نريد

فلمّا رأى عثمان ما قد نزل به وما قد انبعث عليه من الناس ، كتب إلى معاوية

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٢ / ٣٢ ـ ٣٣ [١ / ٣٧ ـ ٣٨] ، الأنساب : ٥ / ٧١ و ٧٢ [٦ / ١٨٨ و ١٨٩] ، تاريخ الطبري : ٥ / ١٠٥ ، ١١٥ ، ١١٦ ، ١١٩ [٤ / ٣٥١ و ٣٦٧ و ٣٦٩ و ٣٧٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٥٢ [٢ / ١٧٥] ، الكامل لابن الأثير : ٥ / ٦٧ ، ٧١ [٢ / ٢٨٧ و ٢٨٨ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٦٥ [٢ / ١٥٠ خطبة ٣٠] ، تاريخ ابن خلدون : ٢ / ٣٩٤ [٢ / ٥٩٥] ، الفتنة الكبرى : ص ٢٢٦ [المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين : ـ الفتنة الكبرى ـ : مج ٤ / ٤٢١]. (المؤلف)

(٢) بلبيس : بكسر الباءين وسكون اللام : مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام [معجم البلدان : ١ / ٤٧٩] ، الصعيد : بلاد واسعة كبيرة بمصر يقال : إنها تسعمائة وسبع وخمسون قرية [معجم البلدان : ٣ / ٤٠٨]. (المؤلف)

٢٦٤

ابن أبي سفيان وهو بالشام :

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد ، فإنّ أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة ، فابعث إليّ من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كلّ صعب وذلول.

فلمّا جاء معاوية الكتاب تربّص به وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد علم اجتماعهم ، فلمّا أبطأ أمره على عثمان كتب إلى يزيد بن أسد بن كرز ، وإلى أهل الشام يستنفرهم ويعظّم حقّه عليهم ، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عزّ وجلّ به من طاعتهم ومناصحتهم ، ووعدهم أن يجنّدهم (١) جنداً وبطانة دون الناس ، وذكّرهم بلاءه عندهم وصنيعه إليهم ، فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل ؛ فإنّ القوم معاجلي.

فلمّا قرئ كتابه عليهم قام يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثمّ القسري ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر عثمان فعظّم حقّه ، وحضّهم على نصره ، وأمرهم بالمسير إليه ، فتابعه ناس كثير ، وساروا معه حتى إذا كانوا بوادي القرى (٢) ، بلغهم قتل عثمان رضى الله عنه ، فرجعوا.

وأخرج البلاذري من طريق الشعبي قال : كتب عثمان إلى معاوية : أن أمددني ، فأمدّه بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كريز (٣) البجلي ، فتلقّاه الناس بمقتل عثمان فرجع من الطريق وقال : لو دخلت المدينة وعثمان حيّ ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته ، لأنّ الخاذل والقاتل سواء.

__________________

(١) في تاريخ الطبري : ينجدهم.

(٢) وادي القرى : وادٍ بين المدينة والشام من أعمال المدينة [معجم البلدان : ٥ / ٣٤٥]. (المؤلف)

(٣) في المصدر : كُرْز ، وهو كما مرَّ قبل قليل.

٢٦٥

كتابه إلى أهل الشام :

قال ابن قتيبة : وكتب إلى أهل الشام عامّة وإلى معاوية وأهل دمشق خاصّة :

أمّا بعد ؛ فإنّي في قوم طال فيهم مقامي ، واستعجلوا القدر فيّ ، وقد خيّروني بين أن يحملوني على شارف من الإبل إلى دحلِ (١) ، وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني ، وبين أن أَقِيدهم ممّن قتلت. ومن كان على سلطان يخطئ ويصيب ، فيا غوثاه يا غوثاه ، ولا أمير عليكم دوني ، فالعجل العجل يا معاوية ، وأدرك ثمّ أدرك وما أراك تدرك.

كتابه إلى أهل البصرة :

وكتب إلى عبد الله بن عامر : أن اندب إليّ أهل البصرة ـ نسخة كتابه إلى أهل الشام ـ فجمع عبد الله بن عامر الناس فقرأ كتابه عليهم ، فقامت خطباء من أهل البصرة يحضّونه على نصر عثمان والمسير إليه ، فيهم : مجاشع بن مسعود السلمي ، وكان أوّل من تكلّم وهو يومئذٍ سيّد قيس بالبصرة ، وقام أيضاً قيس بن الهيثم السلمي ، فخطب وحضّ الناس على نصر عثمان ، فسارع الناس إلى ذلك ، فاستعمل عليهم عبد الله بن عامر مجاشع بن مسعود فسار بهم ، حتى إذا نزل الناس الربذة ونزلت مقدّمته عند صرار ناحية من المدينة أتاهم قتل عثمان.

وقال البلاذري : وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بن كريز ومعاوية بن أبي سفيان يعلمهما أنّ أهل البغي والعدوان من أهل العراق ومصر والمدينة قد أحاطوا بداره فليس يُرضيهم بزعمهم شيء دون قتله أو يخلع السربال الذي سربله الله إيّاه ، ويأمرهما بإغاثته برجال ذوي نجدة وبأس ورأي ، لعلّ الله أن يدفع بهم عنه بأس من يكيده ويريده ، وكان رسوله إلى ابن عامر جبير بن مُطعم ، وإلى معاوية المسور بن

__________________

(١) هي جزيرة بين اليمن وبلاد البَجَة بين الصعيد وتهامة. معجم البلدان : ٢ / ٤٤٤.

٢٦٦

مخرمة الزهري. فأمّا ابن عامر فوجّه إليه مجاشع بن مسعود السلمي في خمسمائة أعطاهم خمسمائة خمسمائة درهم ، وكان فيمن ندب مع مجاشع زفر بن الحارث على مائة رجل. وأمّا معاوية فبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري في ألف فارس ، فقدم حبيب أمامه يزيد بن أسد البجلي جدّ خالد بن عبد الله بن يزيد القسري من بجيلة ، وبلغ أهل مصر ومن معهم ممّن حاصر عثمان ما كتب به إلى ابن عامر ومعاوية ، فزادهم ذلك شدّة عليه وجدّا في حصاره وحرصاً على معاجلته بالقتل.

كتابه إلى أهل الامصار :

أخرج الطبري وغيره وقالوا : كتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدّهم :

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد ؛ فإنّ الله عزّ وجلّ بعث محمداً بالحقّ بشيراً ونذيراً ، فبلّغ عن الله ما أمره به ثمّ مضى وقد قضى الذي عليه ، وخلّف فينا كتابه فيه حلاله وحرامه ، وبيان الأمور التي قدّر ، فأمضاها على ما أحبّ العباد وكرهوا ، فكان الخليفة أبو بكر رضى الله عنه وعمر رضى الله عنه ، ثمّ أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملأ من الأُمّة ، ثمّ أجمع أهل الشورى عن ملاً منهم ومن الناس على غير طلب منّي ولا محبّة ، فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون ، تابعاً غير مستتبع ، متّبعاً غير مبتدع ، مقتدياً غير متكلّف ، فلمّا انتهت الأُمور ، وانتكث الشرّ بأهله ، بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلاّ إمضاء الكتاب ، فطلبوا أمراً وأعلنوا غيره بغير حجّة ولا عذر ، فعابوا عليّ أشياء ممّا كانوا يرضون وأشياء عن ملاً من أهل المدينة لا يصلح غيرها ، فصبّرت لهم نفسي وكففتها عنهم منذ سنين ، وأنا أرى وأسمع ، فازدادوا على الله عزّ وجلّ جرأة ، حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحرمه وأرض الهجرة ، وثابتْ إليهم الأعراب ، فهم كالأحزاب أيّام الأحزاب أو من غزانا بأُحد إلاّ ما يظهرون ، فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.

٢٦٧

فأتى الكتاب أهل الأمصار ، فخرجوا على الصعبة والذلول ، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري ، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن خديج السكوني ، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو. الحديث.

كتابه إلى أهل مكة ومن حضر الموسم سنة (٣٥):

ذكر ابن قتيبة قال : كتب عثمان كتاباً بعثه مع نافع بن طريف إلى أهل مكة ومن حضر الموسم يستغيثهم ، فوافى به نافع يوم عرفة بمكة وابن عبّاس يخطب ، وهو يومئذٍ على الناس كان قد استعمله عثمان على الموسم ، فقام نافع ففتح الكتاب فقرأه ، فإذا فيه

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى من حضر الحجّ من المسلمين :

أمّا بعد ؛ فإنّي كتبت إليكم كتابي هذا وأنا محصور أشرب من بئر القصر ، ولا آكل من الطعام ما يكفيني ، خيفة أن تنفد ذخيرتي فأموت جوعاً أنا ومن معي ، لا أُدعى إلى توبة أقبلها ، ولا تسمع مني حجّة أقولها ، فأنشد الله رجلاً من المسلمين بلغه كتابي إلاّ قدم عليّ فأخذ الحقّ فيّ ، ومنعني من الظلم والباطل.

قال : ثمّ قام ابن عبّاس ، فأتمّ خطبته ولم يعرض لشيء من شأنه.

قال الأميني : هذا ما يمكننا أن نؤمن به من كتاب عثمان إلى الحضور في الموسم ، وهناك كتاب مفصّل إلى الحاجّ يُنسب إليه يتضمّن آياً من الحكم والموعظة الحسنة يطفح عن جوانبه الورع الشديد في دين الله ، والأخذ بالكتاب والسنّة ، والاحتذاء بسيرة الشيخين ، يبعد جدّا عن نفسيّات عثمان وعمّا عرفته الأُمّة من تاريخ حياته ، والكتاب أخرجه الطبري في تاريخه (١) (٥ / ١٤٠ ـ ١٤٣) ، وراق الدكتور طه حسين ما

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٤٠٧ حوادث سنة ٣٥ ه‍.

٢٦٨

وجد فيه من المعاني الراقية والجمل الرائقة ، والفصول القيّمة ، فذكره في ملحق كتابه الفتنة الكبرى (١) (ص ٢٢٧ ـ ٢٣١) ذاهلاً عن أنّ الكتاب لم يرو إلاّ من طريق ابن أبي سبرة القرشي العامري المدني الوضّاع الكذّاب السابق ذكره في سلسلة الوضّاعين في الجزء الخامس ، قال الواقدي : كان كثير الحديث وليس بحجّة ، وقال صالح بن أحمد عن أبيه : كان يضع الحديث. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : ليس بشيء كان يضع الحديث ويكذب ، وعن ابن معين (٢) : ليس حديثه بشيء ، ضعيف الحديث ، وقال ابن المديني : كان ضعيفاً في الحديث ، وقال مرّة : كان منكر الحديث. وقال الجوزجاني : يضعف حديثه. وقال البخاري (٣) : ضعيف. وقال مرّة : منكر الحديث. وقال النسائي (٤) : متروك الحديث. وقال ابن عدي (٥) : عامّة ما يرويه غير محفوظ ، وهو في جملة من يضع الحديث. وقال ابن حبّان (٦) : كان ممّن يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم أبو عبد الله : يروي الموضوعات عن الأثبات (٧).

نظرة في الكتب المذكورة :

لقد تضمّنت هذه الكتب أشياء هي كافية في إثارة عواطف المؤمنين على من كتبها ولو لم يكن له سابقة سوء غيرها. منها :

قوله عن المهاجرين والأنصار وليس في المدينة غيرهم : إنّ أهل المدينة قد

__________________

(١) المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين ـ الفتنة الكبرى ـ : مج ٤ / ٤٢١.

(٢) التاريخ : ٣ / ١٥٧ رقم ٦٥٩.

(٣) التاريخ الكبير : مج ٨ / ٩ رقم ٦٥ كتاب الكنى ٥٦.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٢٦٢ رقم ٦٩٧.

(٥) الكامل في ضعفاء الرجال : ٧ / ٢٩٧ رقم ٢٢٠٠.

(٦) كتاب المجروحين : ٣ / ١٤٧.

(٧) راجع : تاريخ الخطيب : ١٤ / ٣٦٧ ـ ٣٧٢ [رقم ٧٦٩٧] ، تهذيب التهذيب : ١٢ / ٢٧ [١٢ / ٣١]. (المؤلف)

٢٦٩

كفروا ، وأخلفوا الطاعة ، ونكثوا البيعة. وقوله : فهم كالأحزاب أيّام الأحزاب أو من غزانا بأُحد وهو يريد أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشهود لهم جمعاء بالعدالة عند قاطبة أهل السنّة ، ولقد صعّدوا وصوّبوا في إثبات ذلك بما لا مزيد عليه عندهم ، ولا يزالون يحتجّون بأقوالهم وما يؤثر عنهم من قول أو عمل في أحكام الدين ، كما يحتجّون بما يؤثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السنّة ، ثقة بإيمانهم ، وطمأنينة بعدالتهم ، ويرون أنّهم لا ينبسون ببنت شفة ولا يخطون في أمر الدين خطوة إلاّ بأثر ثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسموع أو منقول أو مشاهدة عمل منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطابق ما يرتئونه أو يعملون به ، فهل على مؤمن هذا شأنه قذف أثقل عليه من هذا؟ أو تشويه أمسّ بكرامته من ذلك؟ ولعمر الحقّ إنّ من يغضّ عن مثله فلا يستثيره خلو عن العاطفة الدينيّة ، خلو عن الحماس الإسلامي ، خلو عن الشهامة المبدئيّة ، خلو عن الغيرة على الحقّ ، خلو وخلو ولذلك اشتدّت الصحابة عليه بعد وقوفهم على هذا وأمثاله.

ثمّ إنّه ليس لأحد طاعة مفترضة في أعناق المسلمين بعد الله ورسوله إلاّ إمام حقّ يعمل بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمتجمهرون على عثمان وهم الصحابة أجمع كانوا يرون أنّه تخطّاهما ، وأنّ ما كان ينوء به من فعل أو قول قد عديا الحقّ منهما ، فأيّ طاعة واجبة والحال هذه ـ وحسبان القوم كما ذكرناه ـ حتى يُؤاخذوا على الخلف؟

والبيعة إنّما لزمت إن كان صاحبها باقياً على ما بويع عليه ، والقوم إنّما بايعوه على متابعة الكتاب والسنّة والمضيّ على سيرة الشيخين ، وبطبع الحال أنّها تنتكث عند نكوص صاحبها عن الشروط. وهو الذي نقمه المسلمون على خليفتهم ، فلا موجب لمؤاخذتهم أو منابذتهم ، وهاهنا رأى المسلمون أنّ الرجل زاد ضغثاً على إبّالة ، فهو على أحداثه الممقوتة طفق يستثير الجنود عليهم ، ويحرّضهم على القتل والنهب ، فتداركوا الأمر فأوردوه حياض المنيّة قبل أن يجلب إليهم البليّة ، وتلافوا

٢٧٠

الأمر قبل أن يمسّهم الشرّ ، وما بالهم لا تستثيرهم تلكم القذائف؟ وهم يرون أنّهم هم الذين آووا ونصروا ولم يألوا جهداً في جهاد الكفّار حتى ضرب الدين بجرانه ، فمن العجيب والحالة هذه أن يشبّهوا بالأحزاب والكفرة يوم أحد.

ومنها : تلوّنه في باب التوبة التي تظاهر بها على صهوة المنبر بملإ من الصحابة ، وسجّل ذلك بكتاب شهد عليه عدّة من أعيان الأمّة وفي مقدّمهم سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكتب ذلك إلى الأمصار النائية كما تقدّم في صفحة (١٧٦) وهو في كلّ ذلك يعترف بالخطيئة ويلتزم بالإقلاع عنها ، لكنّه سرعان ما نكث التوبة وأبطل المواثيق المؤكّدة بكتبه هذه ، إذ حسب أنّ من يكتب إليهم سينفرون إليه مقانب وكتائب وهم أولياؤه ومواليه ، فنفى عنه المآثم التي شهد عليها أهل المدينة بل وأهل الأمصار من خيرة الأُمّة ، وهو يريد أن يقلب عليهم ظهر المجن ، فيؤاخذ وينتقم وكأنّه نسي ذلك كلّه حتى قال في كتابه إلى أهل مكة : لا أدعى إلى توبة أقبلها ، ولا تُسمع منّي حجّة أقولها.

يقول له المحامي عن المدنيّين : أو لم تُدْعَ أيّها الخليفة إلى التوبة فتبت على الأعواد وعلى رءوس الأشهاد مرّة بعد أخرى؟ لكنّهم وجدوك لا تقرّ على قرار ، ولا تستمرّ على مبدأ ، وشاهدوك تتلوّن تلوّن الحرباء (١) فجزموا بأنّ التوبة لا تردعك عن الأحداث ، وأنّ النزوع لا يزعك عن الخطايا ، وجئت تماطل القوم بذلك كلّه حتى يوافيك جيوشك فتهلك الحرث والنسل ، وتمكن من أهل دار الهجرة مثل يزيد بن كرز الذي يقول : لو دخلت المدينة وعثمان حيّ ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته. إلخ.

عرف القوم أيّها الخليفة نواياك السيّئة فيهم ، وعرفوا انحرافك عن الطريقة المثلى بإبعاد مروان إيّاك عنها كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يخاطبك : أما

__________________

(١) الحرباء : ضرب من الزواحف تتلوّن في الشمس ألواناً مختلفة ، يضرب بها المثل في التقلّب. (المؤلف)

٢٧١

رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك؟ وإنّ مثلك مثل الظعينة يُقاد حيث يُسار به (١) ، فنهضوا للدفع عنهم وعن بيضة الإسلام من قبل أن يقعوا بين الناب والمخلب ، فوقع ما وقع وكان أمر الله قدراً مقدورا.

ولنا هاهنا مناقشة أخرى في حساب الخليفة فنقول له : ما بالك تكرّر أيّها الخليفة قولك عن الخلافة : إنّها رداء الله الذي كساني ، أو أنّها قميص سربلنيه الله. أو ما يماثل ذلك؟ تطفح به كتبك أو يطفو على خُطَبِك ، ويلوكها فمك بين كلمك ، كأنّك قد حفظتها كلمة ناجعة لدينك ودنياك ، واتّخذتها ورداً لك كأنّك تحاذر في تركها النسيان غير أنّه عزب عنك محاسبة من تخاطبهم بها إيّاك ، فما جواب قومك إن قالوا لك متى سربلك الله بهذا القميص؟ وقد مات من سربلك ، وانقلب عليك بعدُ قبل موته وعددته لذلك منافقاً ، وأوصى أن لا تصلّي عليه أنت ، وكان يقول لعليّ أمير المؤمنين : خذ سيفك وآخذ سيفي إنّه قد خالف ما أعطاني ، وكان يحثّ الناس عليك ويقول : عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه ، وحلف أن لا يكلّمك أبداً ، وقد دخلت عليه عائداً في مرضه فتحوّل إلى الحائط ولم يكلّمك (٢) وهاجرك إلى آخر نفس لفظه. وتبعه على خلافك الباقون من أهل الشورى.

وكنّا نحسب أنّ نصب الخليفة لا يجب على الله سبحانه إن كنّا مقتفين أثر الشيخين وإنّما هو مفوّض إلى الأُمّة تختار عليها من شاءت ، وإن حدنا في ذلك عن قول الله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٣) (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٤) وعن نصوص النبيّ الأعظم وقد مرّ شطر منها في غضون أجزاء كتابنا هذا.

__________________

(١) راجع ما مرّ في صفحة : ١٧٤ ، ١٧٥ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) راجع ما مرّ في هذه الجزء من حديث عبد الرحمن بن عوف : ص ٨٦ ـ ٩٠. (المؤلف)

(٣) القصص : ٦٨.

(٤) الأحزاب : ٣٦.

٢٧٢

فهل ترى أيّها الخليفة أنّه كان يجب على الله سبحانه أن يمضي خيرة الأمّة؟ أكان في رأي الجليل إعواز في تقييض الإمام بنفسه حتى ينتظر في ذلك مشتبك آراء الأُمّة أو مرتبك أهوائهم فيمضي ما ارتأوه؟ وبهذه المناسبة تنسب ذلك السربال إليه ، لا أظنّك أيّها الخليفة يسعك أن تقرّر ما استفهمناه ، غير أنّ آخر دعواك بعد العجز عن الجواب : لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله.

وعلى كلّ لقد أوقفنا موقف الحيرة في أمر هذا السربال ومن حاكه والنول الذي حيك عليه ، فقد وجدنا أوّل الخلفاء تسربله بانتخاب غير دستوري ، بانتخاب جرّ الويلات على الأُمّة حتى اليوم ، بانتخاب سوّد صحيفة التاريخ وشوّه سمعة السلف ، وقد تقمّصه ابن أبي قحافة وهو يعلم أنّ في الأُمّة من محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير ، كما قاله مولانا أمير المؤمنين ثمّ مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده ، فيا عجباً يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته (١) فتقمّصه الثاني بالنصّ ممّن قبله وهو يعلم أنّ في الأُمّة من هو أولى منه كما قال مولانا أمير المؤمنين (٢) وسربلك إيّاه أيّها الخليفة عبد الرحمن بن عوف وفي لسانه قوله لعليّ : بايع وإلاّ ضربت عنقك ، ولم يكن مع أحد يومئذ سيف غيره ، فخرج عليّ مغضباً فلحقه أصحاب الشورى قائلين : بايع وإلاّ جاهدناك (٣). فأيّ من هذه السرابيل منسوج بيد الحقّ حتى يصحّ عزوه إليه سبحانه؟ ولهذا البحث ذيول ضافية حولها أبحاث مترامية الأطراف ، حول خلافة الخلفاء من بني أُميّة وغيرهم يشبه بعضها بعضاً ، ولعلّك في غنىً عن التبسّط في ذلك والاسترسال حول توثّبهم على عرش الإمامة.

نعم ؛ الخلافة التي يصحّ فيها أن يقال : إنّها سربال من الله سبحانه هي التي

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء السابع : ص ٨١. (المؤلف)

(٢) يأتي حديثه بلفظه. (المؤلف)

(٣) الأنساب للبلاذري : ٥ / ٢٢ [٦ / ١٢٨]. (المؤلف)

٢٧٣

قيّض صاحبها المولى جلّت قدرته ، وبلّغ عنه نبيّه الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هي التي أخبر به النبيّ الأعظم من أوّل يومه فقال : «إنّ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء (١) فهي إمرة إلهيّة لا تتمّ إلاّ بالنصّ وليس لصاحبها أن ينزعها» ، هي التي قرنت بولاية الله ورسوله في قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٢) وهي التي أكمل الله بها الدين وأتمّ بها النعمة (٣) وشتّان بينها وبين رجال الانتخاب وإن كان دستوريّا.

وأمّا ما ارتآه المتجمهرون وعبثت به الميول والشهوات ، فهي سلطة عادية يفوز بها المتغلّبون ، وبيد الأُمّة حلّها وعقدها ، والغاية منها عند من يحذو حذو الخليفة في جملة من الصولات : كلاءة الثغور ، واقتصاص القاتل ، وقطع المتلصّص ، إلى آخر ما مرّ تفصيله في الجزء السابع (صفحة ١٣١ ـ ١٥٢) وليس في عهدة المتسلّق على عرشه تبليغ الأحكام ، وترويض النفوس ، وتهذيب الأخلاق ، وتعليم الملكات الفاضلة ، وتربية الملأ في عالم النشوء والارتقاء ، فإنّ تلكم الغايات في تلكم السلطات تحصل بمن هو خلو عن ذلك كلّه كما شوهد فيمن فاز بها عن غير نصّ إلهيّ.

يوم الدار والقتال فيها

أخرج ابن سعد في طبقاته (٤) (٥ / ٢٥) طبع ليدن ؛ من طريق أبي حفصة مولى مروان ، قال : خرج مروان بن الحكم يومئذ يرتجز ويقول : من يبارز؟ فبرز إليه عروة ابن شييم بن البياع الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخرّ لوجهه ، فقام إليه عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي بسكّين معه ليقطع رأسه ، فقامت إليه أمّه التي أرضعته وهي

__________________

(١) مرّ حديثه في الجزء السابع : ص ١٣٤. (المؤلف)

(٢) راجع ما مضى في الجزء الثاني : ص ٤٧ ، والجزء الثالث : ص ١٥٥ ـ ١٦٢. (المؤلف)

(٣) راجع الجزء الأوّل من كتابنا هذا : ص ٢٣٠ ـ ٢٣٨. (المؤلف)

(٤) الطبقات الكبرى : ٥ / ٣٧.

٢٧٤

فاطمة الثقفيّة وهي جدّة (١) إبراهيم بن العربيّ صاحب اليمامة فقالت : إن كنت تريد قتله فقد قتلته ، فما تصنع بلحمه أن تبضّعه؟ فاستحيا عبيد بن رفاعة منها فتركه.

وروى عن عيّاش بن عبّاس ، قال : حدّثني من حضر ابن البيّاع يومئذٍ يبارز مروان بن الحكم ، فكأنّي أنظر إلى قبائه قد أدخل طرفيه في منطقته وتحت القباء الدرع ، فضرب مروان على قفاه ضربة فقطع علابيّ رقبته ووقع لوجهه ، فأرادوا أن يذفّفوا عليه فقيل : تبضّعون اللحم؟ فترك.

وأخرج البلاذري (٢) من طريق خالد بن حرب قال : لجأ بنو أُميّة يوم قتل عثمان إلى أمّ حبيبة (٣) فجعلت آل العاص وآل حرب وآل أبي العاص وآل أُسيد في كندوج (٤) وجعلت سائرهم في مكان آخر ، ونظر معاوية يوماً إلى عمرو بن سعيد يختال في مشيته فقال : بأبي وأُمّي أُمّ حبيبة ، ما كان أعلمها بهذا الحيّ حين جعلتك في كندوج!

قال : ومشى الناس إلى عثمان وتسلّقوا عليه من دار بني حزم الأنصاري ، فقاتل دونه ثلاثة من قريش : عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود (٥) ، وعبد الله بن عوف

__________________

(١) كذا في الطبقات الكبرى ، وسيأتي في صفحة ٢٧٨ أنّها أم إبراهيم بن عربي الكناني كما في أنساب الأشراف : ٦ / ١٩٨. إلاَّ أنّ ما في تاريخ الطبري : ٤ / ٣٨١ فاطمة بنت أوس جدّة إبراهيم ابن عديّ ، وليس إبراهيم بن عربي وهو الصواب حسب الظاهر ، إذ إنّ إبراهيم بن عربي هو صاحب ديوان عبد الملك بن مروان ، وأمّا إبراهيم بن عديّ فهو واليه على اليمامة. راجع : تاريخ الأمم والملوك : ٦ / ١٤٤ ، ١٤٦ حوادث سنة ٦٩ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٣ / ١٧٧.

(٢) أنساب الأشراف : ٦ / ١٩٩.

(٣) زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (المؤلف)

(٤) كندوج : شبه المخزن بالبيت. (المؤلف)

(٥) قال ابن الأثير في أُسد الغابة : ٣ / ٢٧٣ [٣ / ٤١٥ رقم ٣٢٤١] : قتل يوم الجمل أو يوم الدار ، وقال ابن حجر في الإصابة : ٢ / ٣٨١ [رقم ٥٠٢٧] : قتل يوم الدار. (المؤلف)

٢٧٥

ابن السبّاق (١) ، وعبد الله (٢) بن عبد الرحمن بن العوام ، وكان عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام يقول : يا عباد الله بيننا وبينكم كتاب الله. فشدّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله الجمحي وهو يقول :

لأضربنّ اليوم بالقرضابِ (٣)

بقيّة الكفّار والأحزابِ

ضرب امرئٍ ليس بذي ارتيابِ

أأنت تدعونا إلى الكتابِ

نبذته في سائر الأحقابِ

فقتله ، وشدّ جماعة من الناس على عبد الله بن وهب بن زمعة ، وعبد الله بن عوف بن السبّاق ، فقتلوهما في جانب الدار.

جاء مالك الأشتر حتى انتهى إلى عثمان ، فلم ير عنده أحداً فرجع ، فقال له مسلم بن كريب القابضي من همدان : أيا أشتر دعوتنا إلى قتل رجل فأجبناك حتى إذا نظرت إليه نكصت عنه على عقبيك. فقال له الأشتر : لله أبوك أما تراه ليس له مانع ولا عنه وازع؟ فلمّا ذهب لينصرف قال ناتل مولى عثمان : وا ثكلاه هذا والله الأشتر الذي سعّر البلاد كلّها على أمير المؤمنين ، قتلني الله إن لم أقتله. فشدّ في أثره فصاح به عمرو بن عبيد الحارثي من همدان : وراءك الرجل يا أشتر ، فالتفت الأشتر إلى ناتل فضربه بالسيف فأطار يده اليسرى ونادى الأشتر : يا عمرو بن عبيد إليك الرجل ، فاتبع عمرو ناتلاً فقتله.

__________________

(١) هو عبد الله بن أبي مرّة ـ أبي ميسرة ـ العبدري ، قتل مع عثمان كما في الاستيعاب : ٢ / ٣ [القسم الثالث / ٩٩٨ رقم ١٦٧٢] والإصابة ٢ / ٣٦٧ [رقم ٤٩٥٠]. (المؤلف)

(٢) ذكر أبو عمر في الاستيعاب [القسم الثاني / ٨٤٤ رقم ١٤٤٦] وابن الأثير في أُسد الغابة [٣ / ٤٨٠ رقم ٣٣٦٣] في ترجمة عبد الرحمن ، وابن حجر في الإصابة : ٢ / ٤١٥ [رقم ٥١٧٨] : أنّه ممّن قتل يوم الدار. (المؤلف)

(٣) القرضوب والقرضاب : السيف القاطع يقطع العظام.

٢٧٦

وقال مروان في يوم الدار :

وما قلت يوم الدار للقوم حاجزوا

رُويداً ولا اختاروا الحياة على القتلِ

ولكنَّني قد قلت للقوم قاتلوا

بأسيافكم لا يوصلنَّ إلى الكهلِ

وفي رواية أبي مخنف : تهيّأ مروان وعدّة معه للقتال فنهاهم عثمان فلم يقبلوا منه وحملوا على من دخل الدار فأخرجوهم. ورُمي عثمان بالحجارة من دار بني حزم بن زيد الأنصاري ونادوا : لسنا نرميك ، الله يرميك ، فقال : لو رماني الله لم يخطئني ، وشدّ المغيرة بن الأخنس بالسيف وهو يقول :

قد علمت جاريةٌ عطبول

لها وشاحٌ ولها جديل

أنِّي لمن حاربت ذو تنكيل

فشدّ عليه رفاعة بن رافع وهو يقول :

قد علمت خودٌ سحوب للذيلْ

ترخي قروناً مثل أذناب الخيلْ

أنّ لِقرني في الوغى منِّي الويلْ

فضربه على رأسه بالسيف فقتله. ويقال : بل قتله رجل من عرض الناس ، وخرج مروان بن الحكم وهو يقول :

قد علمت ذات القرون الميل

والكفّ والأنامل الطفول

أنّي أروع أوّل الرعيل

ثمّ ضرب عن يمينه وشماله فحمل عليه الحجّاج بن غزية وهو يقول :

قد علمت بيضاء حسناء الطلل

واضحة الليتين قعساء الكفل

أنِّي غداة الروع مقدامٌ بطل

فضربه على عنقه بالسيف فلم يقطع سيفه ، وخرّ مروان لوجهه ، وجاءت

٢٧٧

فاطمة بنت شريك الأنصاريّة من بُلَيّ (١) ـ وهي أمّ (٢) إبراهيم بن عربي الكناني الذي كان عبد الملك بن مروان ولاّه اليمامة ، وهي التي كانت ربّت مروان ـ فقامت على رأسه ثمّ أمرت به فحمل ، وأُدخل بيتاً فيه كُنّة (٣) وشدّ عامر بن بكير الكناني وهو بدري على سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية فضربة بالسيف على رأسه ، وقامت نائلة بنت الفرافصة على رأسه ثمّ احتملته فأدخلته بيتاً وأغلقت بابه (٤).

وفي رواية الطبري (٥) من طريق أبي حفصة مولى مروان : لمّا حُصر عثمان رضى الله عنه شمّرت معه بنو أُميّة ، ودخل معه مروان الدار ، فكنت معه في الدار ، فأنا والله أنشبتُ القتال بين الناس ، رميت من فوق الدار رجلاً من أسلم فقتلته ، وهو نيار الأسلمي فنشب القتال ، ثمّ نزلت فاقتتل الناس على الباب ، فأرسلوا إلى عثمان أن أمكنّا من قاتله. قال : والله ما أعرف له قاتلاً ، فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران ، فلمّا أصبحوا غدوا ، فأوّل من طلع علينا كنانة بن عتاب في يده شعلة من نار على ظهر سطوحنا ، قد فتح له من دار آل حزم ، ثمّ دخلت الشعل على أثره تُنضح بالنفط فقاتلناهم ساعة على الخشب وقد اضطرم الخشب ، فأسمع عثمان يقول لأصحابه : ما بعد الحريق شيء ، قد احترق الخشب واحترقت الأبواب ، ومن كانت لي عليه طاعة فليمسك داره ، ثم قال لمروان : اجلس فلا تخرج. فعصاه مروان ، فقال : والله لا تُقتل ولا يُخلص إليك وأنا أسمع الصوت ، ثمّ خرج إلى الناس ، فقلت : ما لمولاي مُتّرك. فخرجت معه أذبّ عنه ونحن قليل ، فأسمع مروان يقول :

__________________

(١) بُلَي : تلّ قصير أسفل حاذة ـ موضع بنجد ـ بينها وبين ذات عرق. معجم البلدان : ١ / ٤٩٤.

(٢) كذا في أنساب الأشراف : ٦ / ١٩٨. راجع تعليقتنا في هامش صفحة ٢٧٥.

(٣) كُنّة بالضم : جناح يخرج من الحائط. والسقيفة تشرع فوق باب الدار. وقيل : هو مخدع أو رفّ يشرع في البيت. (المؤلف)

(٤) الأنساب : ٥ / ٧٨ ـ ٨١ [٦ / ١٩٧ ـ ١٩٩]. (المؤلف)

(٥) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٣٧٩ حوادث سنة ٣٥ ه‍.

٢٧٨

قد علمت ذات القرون الميلِ

والكفّ والأنامل الطفولِ

أنِّي أروع أوّل الرعيلِ

بفارهٍ مثل قطا الشليلِ

وقال أبو بكر بن الحارث : كأنّي أنظر إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي وهو مسند ظهره إلى مسجد نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعثمان محصور ، فخرج مروان فقال : من يبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان بن عروة (١) : قم إلى هذا الرجل. فقام إليه غلام شابّ طوال فأخذ رفيف الدرع فغرزه في منطقته ، فأعور له عن ساقه ، فأهوى له مروان وضربه ابن عروة على عنقه ، فكأنّي أنظر إليه حين استدار ، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفّف عليه ... إلى آخر ما مرّ عن ابن سعد.

ومن طريق حسين بن عيسى ، عن أبيه ، قال : لمّا مضت أيّام التشريق أطافوا بدار عثمان رضى الله عنه ، وأبى إلاّ الإقامة على أمره ، وأرسل إلى حشمه وخاصّته فجمعهم. فقام رجل من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له : نيار بن عياض (٢) ـ وكان شيخاً كبيراً ـ فنادى : يا عثمان ، فأشرف عليه من أعلى داره ، فناشده الله وذكّره الله لمّا اعتزلهم ، فبينا هو يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم ، وزعموا أنّ الذي رماه كثير بن الصلت الكندي ، فقالوا لعثمان عند ذلك : ادفع الينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به. فقال : لم أكن لأقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي ، فلمّا رأوا ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه ، وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة ، وخرج سعيد بن العاص في عصابة ، وخرج المغيرة بن الأخنس الثقفي في عصابة ، فاقتتلوا

__________________

(١) لعل الصحيح : عروة بن شُيَيم بن البيّاع الليثي ، كما جاء في رواية الطبري في تاريخه : ٥ / ١٣٣ [٤ / ٣٨١ حوادث سنة ٣٥ ه‍ وفيه : ابن النبّاع ، وقد تقدّم تصحيح المؤلّف لما ذكره الطبري في هامش ص ١٩١] ، ومرّ في : ص ١٩٨ من رواية ابن سعد في طبقاته. (المؤلف)

(٢) كذا ذكره الطبري في تاريخه : ٤ / ٣٢٨ وأورده في الصفحة ٣٩٠ باسم : نيار بن عبد الله الأسلمي ، وبهذا الاسم أيضاً ذكره ابن حجر العسقلاني في الإصابة : ٣ / ٥٧٨ رقم ٨٨٣٦ ، وابن الأثير في الكامل في التاريخ : ٣ / ١٧٥ ، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق : ٣٩ / ٤٣٨.

٢٧٩

قتالاً شديداً ، وكان الذي حداهم على القتال أنّه بلغهم أنّ مدداً من أهل البصرة قد نزلوا صِراراً ـ وهي من المدينة على ليلة ـ ، وأنّ أهل الشام قد توجّهوا مقبلين ، فقاتلوهم قتالاً شديداً على باب الدار ، فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزاً :

قد علمت جاريةٌ عُطبولُ

لها وشاحٌ ولها حُجولُ

أنّي بنصل السيف خنشليلُ

فحمل عليه عبد الله بن بُديل بن ورقاء الخزاعي ، وهو يقول :

إن تكُ بالسيف كما تقولُ

فاثبت لِقرنٍ ماجدٍ يصولُ

بمشرفيٍّ حدُّهُ مصقولُ

فضربه عبد الله فقتله ، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري ثمّ الزّرقي على مروان ابن الحكم ، فضربه فصرعه ، فنزع عنه وهو يرى أنّه قد قتله ، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات وانهزم القوم حتى لجأوا إلى القصر ، فاعتصموا ببابه ، فاقتتلوا عليه قتالاً شديداً ، فقتل في المعركة على الباب زياد بن نعيم الفهري (١) في ناس من أصحاب عثمان ، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو بن حزم الأنصاري باب داره وهو إلى جنب دار عثمان بن عفّان ، ثم نادى الناس ، فأقبلوا عليهم (٢) من داره ، فقاتلوهم في جوف الدار حتى انهزموا ، وخلّي لهم عن باب الدار فخرجوا هُرّاباً في طرق المدينة ، وبقي عثمان في أُناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه ، وقُتل عثمان رضى الله عنه (٣).

__________________

(١) عدّه من قتلى يوم الدار : أبو عمر في الاستيعاب [القسم الثاني / ٥٣٤ رقم ٨٣٥] ، وابن حجر في الإصابة [١ / ٥٥٩ رقم ٢٨٦٧]. (المؤلف)

(٢) في الطبري : فأقبلوا عليه.

(٣) تاريخ الطبري : ٥ / ١٢٢ ـ ١٢٥ [٤ / ٣٧٩ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٧٣ ، ٧٤ [٢ / ٢٩٣ ، ٢٩٤ حوادث سنة ٣٥]. (المؤلف)

٢٨٠