الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٩

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٩

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

الجنّة ورفيقي فيها عثمان بن عفان. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليدخلنّ بشفاعة عثمان سبعون ألفاً كلّهم استحقّوا النار الجنّة بغير حساب. وأخرج أبو يعلى عن أنس رضى الله عنه : أوّل من هاجر إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صحبهما الله إنّ عثمان لأوّل من هاجر إلى الله تعالى بأهله بعد لوط (١) ، ولمّا زوّج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنته أُمّ كلثوم لعثمان قال لها : إنّ بعلك لأشبه الناس بجدّك إبراهيم وأبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ أُمّتي حياءً عثمان بن عفان. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله أوحى إليّ أن أزوّج كريمتيّ يعني رقيّة وأُمّ كلثوم من عثمان. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ عثمان حيي تستحي منه الملائكة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما يشبّه عثمان بأبينا إبراهيم. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما زوّجت عثمان بأُمّ كلثوم إلاّ بوحي من السماء. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعثمان : يا عثمان هذا جبريل يخبرني أنّ الله زوّجك أُمّ كلثوم بمثل صداق رقيّة وعلى مثل صحبتها.

وأخرج الترمذي (٢) ، عن عبد الرحمن بن خبّاب ، قال : شهدت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يحثّ على جيش العسرة ، فقال عثمان بن عفان : يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ، ثمّ حضّ على الجيش فقال عثمان : يا رسول الله : عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : ما على عثمان ما فعل (٣) بعد اليوم. وعن عبد الرحمن بن سمرة قال : جاء عثمان إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألف دينار حين جهّز جيش العسرة فنثره في حجره ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّبها ويقول : ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم. وفي رواية عن حذيفة : إنّها عشرة آلاف دينار فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّبها ويقول : غفر الله لك يا عثمان ما أسرَرتَ وما أعلنتَ وما هو كائن إلى يوم القيامة ، ما يبالي عثمان ما عمل بعدها ، وأخرج

__________________

(١) أنظر : الجامع لأحكام القران : ١٣ / ٢٢٥ ، الدر المنثور : ٦ / ٤٠٩.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٥٨٤ ح ٣٧٠٠.

(٣) في سنن الترمذي : ما عمل.

٣٤١

الواحدي (١) : أنّ الله أنزل بسبب ذلك في حقّ عثمان : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وعن أبي سعيد الخدري قال : ارتقبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة من أوّل الليل إلى أن طلع الفجر يدعو لعثمان بن عفان يقول : اللهمّ عثمان بن عفان رضيتُ عنه فارض عنه ، فما زال رافعاً يديه حتى طلع الفجر. وعن جابر بن عطيّة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غفر الله لك يا عثمان ما قدّمتَ وما أخّرتَ ، وما أسررتَ وما أعلنتَ ، وما أخفيتَ وما أبديتَ ، وما هو كائن إلى يوم القيامة ... إلخ.

هذه بلايا تمنّتها يد الغلو في الفضائل ، مُنيت بها الأُمّة ، وطمست تحت أطباقها حقائق العلم والدين ، وانطمست بها أنوار الهداية ، وستعرف أنّها روايات مختلقة زيّفتها نظّارة التنقيب ولا يصحّ منها شيء ، غير أنّ المفتي دحلان على مطمار (٢) قومه أرسلها إرسال المسلّم ، وموّهها على أغرار الملأ الدينيّ ، ولا يجد عن سردها منتدحاً ، ذلك مبلغهم من العلم إن هم إلاّ يظنّون ، (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣).

الفتنة الكبرى :

واقرأ صحيفة من الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين : قال في بدء كتابه (٤) : هذا حديث أُريد أن أخلصه للحقّ ما وسعني إخلاصه للحقّ وحده ، وأن أتحرّى فيه الصواب ما استطعت إلى تحرّي الصواب سبيلا ، وأن أحمل نفسي فيه على الإنصاف لا أحيد عنه ولا أمالئ فيه حزباً من أحزاب المسلمين على حزب ، ولا أُشايع فيه

__________________

(١) أسباب النزول : ص ٥٥.

(٢) يقال : جاء الرجل على مطمار أبيه أي جاء يشبهه في خلْقه وخلُقه.

(٣) الإسراء : ٣٦.

(٤) المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين ـ الفتنة الكبرى ـ : مج ٤ / ١٩٩.

٣٤٢

فريقاً من الذين اختصموا في قضيّة عثمان دون فريق ، فلست عثمانيّ الهوى ، ولست شيعة لعليّ ، ولست أفكّر في هذه القضيّة كما كان يفكّر فيها الذين عاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وجنوا معه أو بعده نتائجها.

وأنا أعلم أنّ الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضيّة إلى الآن كما كانوا ينقسمون فيها أيّام عثمان ؛ فمنهم العثمانيّ الذي لا يعدل بعثمان أحداً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الشيخين ، ومنهم الشيعيّ الذي لا يعدل بعلىّ ; بعد النبيّ أحداً ، لا يستثني الشيخين ولا يكاد يرجو لمكانهما وقاراً ، ومنهم من يتردّد بين هذا وذاك ، يقتصد في عثمانيّته شيئاً ، أو يقتصد في تشيّعه لعليّ شيئاً ، فيعرف لأصحاب النبيّ كلّهم مكانتهم ، ويعرف لأصحاب السابقة منهم سابقتهم ، ثم لا يفضّل بعد ذلك أحداً منهم على الآخر ، يرى أنّهم جميعاً قد اجتهدوا ونصحوا لله ولرسوله وللمسلمين ، فأخطأ منهم من أخطأ ، وأصاب منهم من أصاب ، ولأولئك وهؤلاء أجرهم لأنّهم لم يتعمّدوا خطيئة ولم يقصدوا إلى إساءة ، وكلّ هؤلاء إنّما يرون آراءهم هذه يستمسكون بها ويذودون عنها ويتفانون في سبيلها ، لأنّهم يفكّرون في هذه القضيّة تفكيراً دينيّا ، يصدرون فيه عن الإيمان ، ويبتغون به ما يبتغي المؤمن من المحافظة على دينه والاستمساك بيقينه وابتغاء رضوان الله بكلّ ما يعمل في ذلك أو يقول.

وأنا أُريد أن أنظر إلى هذه القضيّة نظرة خالصة مجرّدة لا تصدر عن عاطفة ولا هوى ، ولا تتأثّر بالإيمان ولا بالدين ، وإنّما هي نظرة المؤرّخ الذي يجرّد نفسه تجريداً كاملاً من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها ... إلخ.

هكذا يحسب الدكتور ويبدي أنّه لا يروقه النزول على حكم العاطفة ولا التحيّز إلى فئة أو جنوح إلى مذهب ، وقد تجرّد فيما كتب عن كلّ ذلك حتى عن الإيمان والدين ، وزعم أنّه قصر نظرته في قضايا عثمان على البساطة ليتسنّى له الحكم

٣٤٣

الطبيعي ، والقول في تلكم الحوادث على الحقائق المحضة ، هكذا يحسب الدكتور ، لكنّه سرعان ما انقلب على عقبيه كرّا على ما فرّ منه ، فلم يسعه إلاّ الركون إلى العواطف ومتابعة النزعات ، فلم يرتد إلاّ تلكم السفاسف التي اختلقتها سماسرة العثمانيين ، ولم يسرح في مسيره إلاّ مقيّداً بسلاسل أساطير الأوّلين التي سردها الطبري ومن شايعه أو سبقه بتلك الأسانيد الواهية والمتون المزيّفة التي أوقفناك عليها في هذا الجزء وفيما سبقه من الأجزاء ، فلم نجد مائزاً بين هذا الكتاب وبين غيره من الكتب التي حسب الدكتور أنّ مؤلّفيها حدت بهم الميول والنزعات ، فما هو إلاّ فتنة كبرى كما سمّاه هو بذلك!

ترى الدكتور يحايد حذراً من أن يحيد عن مهيع الحقّ ويجور في الحكم ، وزعم الحياد أسلم في اليوم الحاضر كما كان في الأمس الدابر ، فذهب مذهب سعد بن أبي وقّاص الحائد في القضيّة واتّبع أثره ، قال في ديباجة كتابه (١) : عاش قوم من أصحاب النبيّ حين حدثت هذه القضيّة وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلاً ولا كثيراً ، وإنّما اعتزلوا المختصمين وفرّوا بدينهم إلى الله ، وقال قائلهم سعد بن أبي وقّاص ; : لا أُقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول : أصاب هذا وأخطأ ذاك.

فأنا أُريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم‌الله ، لا أُجادل عن أُولئك ولا عن هؤلاء ، وإنّما أُحاول أن أتبيّن لنفسي وأُبيّن للناس الظروف التي دفعت أُولئك وهؤلاء إلى الفتنة ، وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرّقتهم وما زالت تفرّقهم إلى الآن ، وستظلّ تفرّقهم في أكبر الظنّ إلى آخر الدهر ، وسيرى الذين يقرؤون هذا الحديث أنّ الأمر كان أجلّ من عثمان وعليّ وممّن شايعهما وقام من دونهما ، وأنّ غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها عثمان لتعرّض لمثل ما تعرّض له من

__________________

(١) الفتنة الكبرى : ٤ / ٢٠٠.

٣٤٤

ضروب المحن والفتن ، ومن اختصام الناس حوله واقتتالهم بعد ذلك فيه. انتهى.

هاهنا نجد الدكتور جارياً على ما عهد إلى نفسه تجرّد عن العواطف ، وجانب المبادئ الدينيّة ، وحايد الدين الحنيف حقّا ، ونظر إلى القضيّة بالحريّة المحضة ، وحسبها فتنةً يحقّ للعاقل أن يكون فيها كابن لبون لا ظهر فيرّكب ولا ضرع فيحلب ، ونعم الرأي هذا لو لا الإسلام المقدّس ، لو لا ما جاء به نبيّ العظمة ، لو لا ما نطق به كتاب الله العزيز ، لو لا ما تقتضيه فروض الإنسانيّة والعواطف البشريّة القاضية بخلاف ما ذهب إليه الدكتور ، وإنّي لست أقضي العجب منه ، ولست أدري كيف يُقدّس مذهب ابن أبي وقّاص؟ أيسوغ للباحث المسلم أن يصفح في تلكم القضايا عن حكم الدين المقدّس ، ويشذّ عمّا قرّره نبيّ الإسلام ، ويسحق العواطف كلّها حتى ما يستدعيه الطبع الإنساني والغريزة العادلة في كسح الفساد والتفاني دون صالح المجتمع العام؟ ألم يكن هنالك كتاب ناطق أو سنّة محكمة أو شريعة حاكمة أو عقل سليم يبعث الملأ الدينيّ إلى الدفاع عن كلّ مسلم مُدَّت إليه يد الظلم والجور فضلاً عن خليفة الوقت الواجب طاعته؟

ما الذي أحوج المتمسّك بعرى الدين الحنيف إلى سيف يعقل ويبصر وينطق والله يقول : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١). (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (٢). (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (٣)؟

ما الذي أذهل الدكتور عن قول الصحابي العظيم حذيفة بن اليمان : لا تضرّك الفتنة ما عرفت دينك ، إنّما الفتنة إذا اشتبه عليك الحقّ والباطل؟ وكيف يشتبه الحكم

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) العنكبوت : ٥١.

(٣) النحل : ٦٤.

٣٤٥

في القضيّة على المسلم النابه وهي لا تخلو عن وجهين ، فإنّ عثمان إن كان إماماً عادلاً قائماً بالقسط عاملاً بالكتاب والسنّة مرضيّا عند الله ، فالخروج عليه معلوم الحكم عند جميع فرق المسلمين لا يختلف فيه اثنان ، ولا تشذّ فئة عن فئة ، وإن لم يكن كذلك وكان كما حسبه أُولئك العدول من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومرّت آراؤهم ومعتقداتهم فيه فالحكم أيضاً بيّن مبرهن بالكتاب العزيز كما استدلّ بذلك الثائرون عليه لمّا قال لهم : لا تقتلوني فإنّه لا يحلّ إلاّ قتل ثلاثة : رجل زنى بعد إحصانه ، أو كفر بعد إسلامه أو قتل نفساً بغير نفس فيقتل بها. فقالوا : إنّا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميّت : قتل من سعى في الأرض فساداً ، وقتل من بغى ثمّ قاتل على بغيه ، وقتل من حال دون شيء من الحقّ ومنعه ثمّ قاتل دونه وكابر عليه ، وقد بغيت ، ومنعت الحقّ ، وحلت دونه وكابرت عليه. الحديث. راجع (ص ٢٠٥).

فنحن لا نعرف وجهاً للحياد كما ذهب إليه ابن أبي وقّاص في القضيّة وفي المواقف الهائلة بعدها ، فالحياد ـ وإن راق الدكتور ـ تقاعد عن حكم الله ، وتقاعس عن الواجب الدينيّ ، وخروج عمّا قرّرته الحنيفيّة البيضاء ، نعم ، الحياد حيلة أُولئك المتشاغبين المتقاعدين عن بيعة إمام المتّقين أمير المؤمنين ، المتقاعسين عن نصرته ، المتحايدين عن حكم الكتاب والسنّة في حروبه ومغازيه ، وعذر تترّس به سعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري ومحمد بن مسلمة السابقون الأوّلون من رجال الحياد الزائف ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

كتاب : عثمان بن عفّان

واعطف على كتاب عثمان بن عفّان للمدرّس في كلّية اللغة العربيّة بمصر الأستاذ صادق إبراهيم عرجون نظرة ممعنة حيث يقول في فاتحته : فهذا طراز من البحث في سيرة ثالث الراشدين عثمان رضى الله عنه ، صوّرت به حياته صورة لا أعيذها من

٣٤٦

إجمال غير مجحف بحقّ ، ولا أعضها عن تفصيل يظهر حجّة أو يدفع شبهة.

وقد احتفلت فيه بتحقيق ما احتفّ بهذه السيرة الأسيفة من عوامل اجتماعيّة وسياسيّة ، دفعت المجتمع الإسلامي دفعاً عاصفاً إلى أخطر انقلاب عرفه التاريخ في الإسلام.

وسيرة عثمان رضى الله عنه حريّة بالبحث الممحّص الهادئ ، ليكشف منها ما سترته الأقاصيص العابثة من فضائل ، وما شوّهته الروايات الغالطة من محاسن ، ويصحّح ما غالطت فيه من حقائق ، ويزيّف ما بهرجه المتقوّلون من أكاذيب مزوّرة وحكايات باطلة.

وقد حاولت جهدي أن أتتبّع الخطوط الأصيلة في حياة عثمان رضى الله عنه ، فلاءمت بينها حتى ارتسمت منها هذه الصورة التي أرجو أن تكون لبنة بين لبنات متساندة في دراسة حياة رجالات الإسلام ، وسير أبطاله الغرّ الميامين ، تبصرة وذكرى للمؤمنين. والله وليّ التوفيق. انتهى.

ثمّ ألق نظرة أخرى على مواضيع كتابه تجدها غير منطبقة على ما تقوّل في شيء منها ، وإنّما هي نعرات طائفيّة ممقوتة ، وفضائل مفتعلة دسّتها يد الغلو فيها ، وسفاسف موضوعة حبّذت الشهوات اختلاقها. كلّل أساطير السلف بزخرف القول ، وزخرف أباطيل الأوّلين بالبيان المزوّر ، لم نجد له فحصاً عن حال الأسانيد ، وتهافت المتون ، وفقه الحديث ، وطرق مواضيع مهمّة من فقه عثمان وأغاليطه وأحداثه وهو يروقه التفصّي عنها ، فلم يتفصّ إلاّ بالتافهات لا سيّما في المسائل الفقهيّة التي هو بمجنب عنها ، فنحت لها أعذاراً باردة ، أو أنّها أعظم من تلكم المآثم ، فلنمرّ عليها كراماً.

وما ظنّك بكتاب يكون من مصادره كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين ذلك المتحذلق المختلق ، وكتاب الخضري ذلك الأمويّ المباهت ، ومحاضرات كرد علي

٣٤٧

العثماني الشامي المناوئ لأهل بيت الوحي ، وأمثال هذه من كتب السلف والخلف ممّا لا يعرّج عليه؟ وفيه الخلط والخبط ، وضوضاء الدجّالين ، ولغط المستأجرين.

ومن أعجب ما رأيت قوله في (ص ٤١) من الكتاب تحت عنوان : الكذب على رسول الله : وفي هذه المرحلة من تاريخ الإسلام بُدئت أكاذيب الفرق والأحزاب فيما يكيد به بعضها لبعض ، حتى أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج بأحاديث يتقوّلها زعماء الفرق ورؤساء الأحزاب على سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كثر من هذه الأكاذيب ما زعموه كان في حقّ الأئمّة والخلفاء ، وقالت كلّ شيعة فيمن شايعته وفي منافسيه عندها ما شاء لها الهوى ، وتجاذب هذا النوع طرفي الإفراط والتفريط مدحاً وذمّا ، واختلاقاً وتقوّلا ، حتى غشّى سير هؤلاء الأجلاّء بغشاء من الغموض حجب الحقائق عن كثير من الناظرين.

وليس بأقلّ خطراً من ذلك ما اقترفوه في جنب القرآن الكريم من تأويلات محرّفة لآيات الله تعالى عن مواضعها ، ومن هنا وهناك تألّفت سلسلة الموضوعات والخرافات والأساطير التي ابتلي بها المسلمون ، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشُّبَه الغامضة ، فشوّهت جمال الشريعة المطهّرة ، وحُشي بها كثير من كتب المؤلّفين المتقدّمين والمتأخرين ، حتى أصبحت وبالاً على الدين ، وشرّا على المسلمين ، وحائلاً دون نهضتهم وتقدّمهم ، وسلاحاً في أيدي خصوم الإسلام ، وعائقاً عن الوصول إلى كثير من الحقائق التاريخيّة والعلميّة والدينيّة ، ولولا توفيق الله تعالى رحمةً بهذه الأمّة ، ورعاية لهذا الدين الكريم ، لطائفة من أئمّة المسلمين المصطفين الأخيار ، انتهضوا لنقد الأسانيد وتنقيح الروايات ، وبهرجة الزائف منها ، وحظر الرواية عن كلّ صاحب بدعة في الإسلام ، لما بقيت للإسلام صورته النيّرة التي جاء بها القرآن الحكيم ، وأدّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه نقيّة صافية. انتهى.

هذه نفثات الأستاذ الصادق ، وهذه حسراته وزفراته المتصاعدة وراء ضياع التاريخ الإسلامي ، وراء طمس الحقائق تحت أطباق الظلمات ، وراء تشويه الأساطير

٣٤٨

والمخاريق والأباطيل جمال الشريعة المطهّرة ، ولعمر الحقّ لقد أحسن وأجاد ، والرائد لا يكذب ، غير أنّ المسكين هو من أُسراء تلكم السلاسل المتسلسلة من الموضوعات والخرافات التي أُبتلي بها المسلمون ، وعاقته الأغشية المدلهمّة عن الوصول إلى الحقائق التاريخيّة والعلميّة والدينيّة ، وثبّطته التلبيسات الملتوية عن نيل الصحيح الناصع من التاريخ والحديث ، فما أصاب من الحقّ نيلاً ، وما أسعفته فكرته هذه على الطامّات ولا قدر شعرة ، وما أوضحت له سبل النجاح ، وما هدته إلى المهيع اللائح ، فليته ثمّ ليته كان يأخذ بأقوال أُولئك الأئمّة المصطفين الأخيار في نقد الأسانيد في الجرح والتعديل ، وكان يعمل بها ويتّخذها دستوراً لنفسه ، مقياساً فيما سطره من الأكاذيب والأفائك ، وليته كان يرحم هذه الأُمّة ، ويرعى هذا الدين الكريم مثلما هم رحموا ورعوا ، وما زرّف (١) في تأليفه ، وما أعاد لأساطير الأوّلين الخلقة جدّتها بعد ألف وثلاثمائة عامٍ من عمرها.

وهل هو بعد ما وقف على هذا الجزء ووجد كتابه مؤلّفاً من سلسلة بلايا وحلقة أباطيل زيّفها أُولئك الأئمّة الذين هو اصطفاهم واختارهم وأثنى عليهم يقرع سنّ الندم ويتّبع سنن الحقّ اللاحب؟ أو أنّه يلج فيما سوّد به صحائف كتابه أو صحيفة تاريخه ويتمادى في عيّه وليّه؟ وما التوفيق إلاّ بالله.

كتاب : إنصاف عثمان

تأليف الأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك :

هذا الكتاب أخدع من السراب ، صفر من شواهد الإنصاف ، شرجه الأستاذ من سلسلة أخبار مدسوسة وروايات مختلقة ، وإن درس هو بزعمه تاريخ عثمان دراسة الحذر منها فقال في ديباجته (ص ٤) : درسنا تاريخ عثمان وعصره والثورة عليه دراسة الحذر من الأخبار المدسوسة ، اليقظ لمواطن العبرة ، المرجع كلّ حدث إلى

__________________

(١) يقال : زرّف في الحديث إذا زاد فيه.

٣٤٩

بواعثه الأصليّة وإن رانت عليها الشبهات.

ولم نكتف بما قال المؤرخون ، بل مددنا بصرنا إلى أبعد من ذلك ، فحلّلنا شخصيّته ، وبينّا ما لها من صلة بالثورة عليه ، ودرسنا حال المسلمين وقد نعموا بالراحة والثراء وانساحوا في الأصقاع يخالطون الأعاجم ويصهرون إليهم ويتخلّقون بعاداتهم ، وحال قريش وما انتابها من تفرّق وتنازع على الرئاسة ، وبينّا صلة ذلك بالتجنّي على الخليفة ، وجلونا الفتنة التي أرّثها في الأمصار أعداء عثمان وأعداء الإسلام ، ونخلنا ذلك كله وصفّيناه ، واستخلصنا منه الأسباب الصريحة للفتنة.

ولم نغفل أن نعرض لما أُخذ على عثمان ، ولا أن ننتصف له حيث يستحقّ الإنصاف.

ومن حقّ عثمان أن تُخصّص لدراسته ودراسة عصره عشرات الكتب ، فإنّه الخليفة المهضوم الحقّ ، المظلوم في الحكم عليه ، على ما له من سابقة وفضل وإصلاحات ، وعصره عصر انتقال واضطراب وثورات سياسيّة واجتماعيّة.

ونحن وإن بالغنا في الإحاطة وتوقّي الزلل عرضة للتقصير ، ولكنّا اجتهدنا رأينا ، فنرجو أن نكون قد وُفّقنا لإبراز صورة واضحة لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين ففيها عظات وعبر. والله المستعان. انتهى.

هذه لُفاظته ، وهذا حسن طويّته وحرصه على النجاح ، غير أنّك تجده في جمعه وتأليفه كحاطب ليل رزم في حزمته كلّ رطب ويابس ، وجاء يخبط خبط عشواء من دون أيّ فحص وتنقيب ، لا يفقه ولا ينقه ، لا يستصحب دراية في الحديث توقفه على الصحيح الثابت ، وتعرّفه الزائف البهرج ، ولا بصيرة تميّز له الحوّ من اللوّ (١) ، ولا علماً ناجعاً يجعجعه ويهديه إلى الفوز والنجاح ، ولا فقهاً ينجيه من غمرات تلكم المعارك الوبيلة ، ولا تثبّتاً يُرشده إلى ما يُنقذه من تلكم التلبيسات الملتوية ، جوّل في مضمار تلكم الطامّات التي جاء بها الطبري وغيره وحسبها أصولاً مُسلّمة ، واستند في آرائه

__________________

(١) أي : لا يعرف الحقّ من الباطل.

٣٥٠

إلى فضائل مفتعلة نتاج أيدي الأمويّين نسباً ونزعة ، ومن المأسوف عليه جدّا أنّه أكدى وإن اجتهد رأيه ، ولم يظفر بأمله وإن بالغ في الإحاطة بزعمه ، وأبرز لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين صورة معقّدة معضلةً تخلو عن كلّ عظة وعبرة.

بسط القول في عبد الله بن سبأ وعزا إليه كل تلكم المعامع والثورات ، وحسبه مادّة الفكرة الناقمة على الخليفة وأساسها الوحيد في البلاد ، ورأى معظم الصحابة أتباع نعرات ذلك المبتدع الغاشم ، وطوع تلبيس ذلك اليهوديّ المهتوك ، قال في (ص ٤٢) : عند ذلك يجد ابن سبأ منفذاً إلى هذا الشيخ الزاهد ـ يعني أبا ذر ـ في عرض الدنيا فينشر آراءه في مجلسه ويغريه بالحكومة ويحرّضه على الأغنياء ، وصار يقول له : يا أبا ذر ألا تعجب لمعاوية يقول : المال مال الله ، ألا كلّ شيء لله؟ كأنّه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين. ظلّ أبو ذر يدعو إلى الاشتراكيّة المتطرّفة بإرغام الأغنياء أن يساعدوا الفقراء ويتركوا أموالهم لهم ، واتّخذ برّ الإسلام بالفقراء سبيلاً إلى ذهاب المال من أربابه ، وما قصد الإسلام هذا بل كما قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١). زيادة على الزكاة الشرعيّة. إلخ.

وقال في (ص ٦١) : أمّا عمّار فقد توجّه إلى مصر وكان حاكمها مُبغَضاً من المصريّين لا يجدون حرجاً في رميه بكلّ نقيصة ، واستطاع أتباع ابن سبأ بحذقهم ومهارتهم في ذلك المكفهر أن يخدعوه بزخرف القول وزوره ، وكان مع هذا في نفس عمّار شيء من عثمان لأنّه نفّذ فيه حكم الله لمّا تقاذف هو والعبّاس بن عتبة بن أبي لهب ، ولهذا لم يعد إلى الخليفة ، ولم يطلعه على شيء ممّا رأى ، ومال إلى اتباع ابن سبأ. انتهى.

هذه صفحة من تلك الصورة الواضحة التي وفّق الأستاذ لإبرازها ، هذه هي

__________________

(١) المعارج : ٢٤ ـ ٢٥.

٣٥١

الغاية المتوخّاة التي بزعمه فيها عظات وعبر ، هل يدري القارئ عن أيّ أبي ذر وعمّار يحدّث هذا الثرثار المجازف حتى لا يبالي بما يقول ولا يكترث لما أسرف فيهما من القول؟ ولست أدري لما ذا اقتحم الرجل في هذه الأبحاث الغامضة الخطرة التي يتيه فيها الناقد البصير؟ لما ذا اقتحم فيها مع ضئولة رأيه وجهله بأحوال الرجال ومقادير أفذاذ الأُمّة ، وعدم عرفانه نفسيّات خيرة البشر وصلحاء الصحابة ومبلغهم من الدين؟ لما ذا اقتحم فيها مع بعده عن دراية الحديث ، وعلم الدين ، وفقه التاريخ؟

تراه تشزّر وتعبّأ للدفاع عمّن شغفه حبّه بكل ما تيسّر له ولو بالوقيعة في عدول الصحابة أو في الصحابة العدول ، وقد بينّا في الجزء الثامن (ص ٣٤٩) حديث الرجل في أبي ذر وأنّه موضوع عنعنه أُناس لا يعوّل عليهم عند مهرة الفنّ ، وفصّلنا القول في هذا الجزء في حديث عمّار وأنّه قطّ لم يتوجّه إلى مصر ، وأنّ ما ركن إليه الأستاذ لا يصحّ إسناده ، ونحاشي عمّاراً عن أن يحمل ضغينة على أحد لإنفاذه حكم الله فيه ، وهل الأستاذ طبّق المفصل في رأيه هذا وبين يديه الذكر الحكيم وآيهِ النازلة في عمّار؟ وفي صفحات الكتب قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ملئ عمّار إيماناً إلى أخمص قدميه». وقوله : «إنّ عمّاراً مع الحقّ والحقّ معه ، يدور عمّار مع الحقّ أينما دار». وقوله : «ما خُيّر عمّار بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما» إلى أحاديث أخرى مرّت في هذا الجزء (ص ٢٠ ـ ٢٨) تضادّ تلكم الخزعبلات.

وللأستاذ في تبرير الخليفة كلمات ضخمة موجزة في طيّها دسائس مطمورة ، وتمويه على الحقائق التاريخية ، يتلقّاها الدهماء بالقبول ولا يرى عن الصفح عنها مندوحة قال في (ص ٣٥) : من المسلّم به أنّ الوليد هذا عُيّن سنة (٢٥) هجرية وهي السنة الأُولى من حكم عثمان ، وقد أجمع الناقدون والمؤرّخون على أنّه لم يقع منه خلال الستّ سنوات الأُولى ما يسوّغ توجيه النقد إليه ، إذ كانوا يرون رائده تحرّي المصلحة العامة ، وإسناد المناصب إلى الجديرين بها لا فرق بين قريب وبعيد. انتهى.

دعوى الإجماع والاتّفاق والإصفاق المكذوبة سيرة مطّردة عند القوم جيلاً بعد

٣٥٢

جيل سلفاً وخلفاً ، وكتب الفقه والكلام والحديث والتاريخ مشحونة بهذه السيرة الممقوتة ، ومن أمعن النظر في كتاب المحلّى لابن حزم ، وكتابه الفصل في الملل والنحل ، ومنهاج السنّة لابن تيميّة ، والبداية والنهاية لابن كثير ، يجد مئات من الإجماعات المدّعاة المشمرجة ، والأستاذ اقتفى أثر أُولئك الأمناء على ودائع العلم والدين وحذا حذوهم ، كأنّه لم يكُ يحسب أن يأتي عليه يوم يناقشه قلم التنقيب الحساب ، أو أنّه غير مكترث لأيّ تبعة ومغبّة.

أنّى من المتسالم عليه تولية الوليد سنة (٢٥)؟ وإن هو إلاّ قول سيف بن عمر كما نصّ عليه الطبري في تاريخه (١) (٧ / ٤٧) وزيّفه ، وعزاه ابن الأثير في الكامل (٢) إلى البعض ، وقد عرّفناك سيفاً في الجزء الثامن (ص ٨٤) وأنّه : ضعيف متروك ، ساقط ، وضّاع ، اتّهم بالزندقة ، فالمعتمد عند المؤرّخين أنّ تولية الوليد كانت سنة (٢٦).

ثمّ أنّى يصحّ كون السنة ال (٢٥) هي السنة الأُولى من حكم عثمان؟ وإنّما توفّي عمر في أواخر ذي الحجّة سنة (٢٣) وبويع عثمان بعد ثلاثة أيّام من موت عمر ، فالسنة الأُولى من حكم عثمان هي (٢٤).

وأين وأنّى يسع لناقد أو مؤرّخ فضلاً عن إجماع الناقدين والمؤرّخين أن يحسب صفو الجوّ من بوائق عثمان وبوادره ونوادره خلال الستّ سنوات الأُولى ، وهذه صفحات تاريخه في تلكم السنين مسودّة بهنات وهنات؟ بل التاريخ سجّل له من أوّل يوم تسنّم عرش الخلافة ، وقام نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، صرعة وعثرةً لا تُستقال ، منها :

١ ـ أبطل القصاص لمّا استُخلف ولم يقد عبيد الله بن عمر وقد أتى عظيماً وقتل الهرمزان والجفينة وابنة أبي لؤلؤة ، وأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٥١ حوادث سنة ٢٦ ه‍.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٣٠ حوادث سنة ٢٦ ه‍.

٣٥٣

يشجّعون عثمان على قتل ابن عمر أخذاً بالكتاب والسنّة ، غير أنّ عمرو بن العاص فتلهُ عن رأيه ، فذهب دم أُولئك الأبرياء هدراً. وكانت أوّل قارورة كُسرت في الإسلام بيد عثمان يوم ولي الأمر.

٢ ـ لمّا استخلف صعد المنبر وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجلس أبو بكر وعمر فيه ، وجلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة ، فتكلّم الناس في ذلك فقال بعضهم : اليوم ولد الشرّ (١).

٣ ـ ردّ الحكم بن أبي العاص طريد النبيّ الأقدس ولعينه إلى المدينة لمّا ولي الخلافة ، وبقي فيها حتى لعق لسانه ، وهذا الإيواء ممّا نُقم به على عثمان كما مرّ حديثه في (٨ / ٢٤٢ ، ٢٥٤ ، ٢٥٨).

٤ ـ ولّى الوليد بن عقبة سنة (٢٥ ، ٢٦) وعزل سعد بن أبي وقّاص أحد العشرة المبشّرة ، وكان هذا في طليعة ما نقموا على عثمان (٢) ثمّ وقع ما وقع من الوليد من شرب الخمر وتقاعد الخليفة عن حدّه. راجع الجزء الثامن (ص ١٢٠ ـ ١٢٥).

٥ ـ هبته الوليد ما استقرض عبد الله بن مسعود من مال المسلمين لمّا قدم الوليد الكوفة وكان ابن مسعود على بيت المال ، حتى نقم الخليفة على ابن مسعود وعزله وحبس عطاءه أربع سنين إلى أن مات سنة (٣٢) وجرى بينه وبين الخليفة ما مرّ حديثه في هذا الجزء ، وهذا ممّا أخذت الأُمّة خليفتهم به.

٦ ـ زاد الأذان الثالث في أوليات خلافته كما في تاريخ ابن كثير ، وقد فصّلنا القول في أُحدوثته هذه في الجزء الثامن (ص ١٢٥ ـ ١٢٨).

٧ ـ وسّع المسجد الحرام سنة (٢٦) وابتاع من قوم منازلهم ، وأبى آخرون فهدم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٤٠ [٢ / ١٦٢] ، تاريخ ابن كثير : ٧ / ١٤٨ [٧ / ١٦٧ حوادث سنة ٢٥ ه‍]. (المؤلف)

(٢) دول الإسلام : ١ / ٩ [ص ١٣] ، البداية والنهاية : ٢ / ١٥١ [٧ / ١٦٩ حوادث سنة ٢٥ ه‍]. (المؤلف)

٣٥٤

عليهم ووضع الأثمان في بيت المال ، فصاحوا بعثمان فأمر بهم للحبس وقال : ما جرّأكم عليّ إلاّ حلمي. راجع الجزء الثامن (ص ١٢٩).

٨ ـ أعطى خُمس الغنائم في غزوة إفريقية الثانية مروان بن الحكم وهو من عمدة مآثم الخليفة ، وكان ذلك سنة (٢٧) من الهجرة الشريفة. راجع (٨ / ٢٥٧ ـ ٢٦٠)

٩ ـ حجّ سنة (٢٩) وأتمّ الصلاة في مكان القصر في عامه هذا كما في تاريخ ابن كثير (١) (٧ / ١٥٤) ، وهذه الأُحدوثة مرّت على تفصيلها في (٨ / ٩٨ ـ ١١٩).

١٠ ـ أعطى خُمس إفريقية عبد الله بن سعد بن أبي سرح في غزوتها الأُولى. راجع الجزء الثامن (ص ٢٧٩).

إلى بوادر وعثرات أخرى صدرت من الخليفة خلال الست سنوات الأُولى كل منها يسوّغ توجيه النقد إليه ، وكان من أوّل يومه مهما قرع سمعه نقد ناقد أو نصح ناصح لا يصيخ إليه ، بل كان يؤاخذ من أغمز فيه ، ويسومه سوء العذاب ، وكان يُلقي العرى إلى بني أُميّة في البلاد ، ويفوّض إليهم مقاليد الأُمور ، ويحسبه العلاج الوحيد في حلّ تلكم المشاكل ، وتقصير خُطى أُولئك الناقدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، حتى تمخّضت عليه البلاد ووعرت القلوب ، واتّسع الخرق على الراقع.

وفي ظنّي الغالب أنّ تقدّم ثقافة مصر اليوم هو الذي بعث أساتذتها إلى الإكثار في التأليف حول عثمان وتدعيم فضائله وفواضله ، وشططوا في إطرائه وبالغوا في الذبّ عنه بتلفيق الكلام وتزويره ، وتسطير الحدد من القول ، وسرد المبوّق البهرج ، وذلك روماً لتقديس ساحتهم عمّا اقترفته أيدي سلفهم الثائر المتجمهر على الخليفة ، إذ حسبوه وصمةً شوّهت سمعة الخلف منهم والسلف ، وسوّدت صحيفة تاريخ مصر والمصريّين ، فهل يتأتّى أمل الخلف بهذه الكتيبات المزخرفة؟ لعلّه يتأتّى مثلما رام

__________________

(١) تاريخ ابن كثير : ٧ / ١٧٣ حوادث سنة ٢٩ ه‍.

٣٥٥

السلف تحقّق توبتهم بالحوبة (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (١).

نظرة في كتب أخرى :

وقس على هذه الكتب كتاب تاريخ الخلفاء تأليف الأستاذ عبد الوهاب النجّار المشحونة صفحاته بمرمّعات (٢) الرواية وسقطات التاريخ ، وكتاب عثمان للأستاذ عمر أبي نصر ، ليس فيه إلاّ إعادة لما سبق إليه الشيخ محمد الخضري من نفسيّاته الأمويّة جدّتها ، فما ينقمه الباحث من مواضيع جار فيما بهرجه اللاحق في كتابه.

وكتاب تاريخ الخلفاء الراشدين للأستاذ السيّد علي فكري وهو الجزء الثالث من كتابه أحسن القصص وهذا أهدأ ما أُلّف في الموضوع ، ينمّ عن سلامة نفس المؤلّف ونزاهة قلمه ، وهو وإن ألّفه من تلكم السلاسل الوبيلة من الموضوعات ، غير أنّه لا يتطرّق إلى الأبحاث الخطرة ، ولا يقتحم المعارك المدلهمّة ، ممّا نُقم به على الخليفة من الطامّات والأحداث ، وما قيل في براءته عن لوثها ، وكأنّه ترجم لخليفة خضعت الرقاب لعظمته ، وتسالمت الأُمّة عليه من جميع نواحيه ، ولم يطرق سمعه ما هنالك من حوار وأخذ وردّ ، ونقد ودفاع ، وكأنّ ما سطّره في فضل الخليفة ، وكرم طباعه ، وسلامة نفسه ، أصول موضوعة لا يتوجّه إليها غمز ولا انتقاد ، وستعرف حالها ومحلّها من الاعتبار ، فلا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه.

ذكر السيّد الأستاذ ما جاء في مناقب عثمان من الحديث المختلق من دون أيّ بحث وتنقيب ، من دون أيّ نقض وإبرام ، إلى أن تخلّص من البحث عنه بقوله في (ص ١٦٣) : بعد أن فتح المسلمون تلك الأقاليم واطمأنّوا وكثرت عندهم الخيرات والأموال ، أخذوا ينقمون على الخليفة حيث رأى من الصالح للأُمّة عزل بعض الولاة

__________________

(١) البقرة : ٧٨.

(٢) يقال : دعه يترمّع في طمّته ، أي : يتسكع في ضلالته.

٣٥٦

فعزلهم ، وولّى من فيه الكفاية من أقاربه وذوي رحمه ، فظنّ الناس به ظنوناً هو بريء منها ، وفشت الفتنة واستفحل أمرها ، حتى ظهرت وفود من الكوفة والبصرة ومصر في وقت واحد طالبين تولية غير عثمان ، أو عزل من ولاّهم على الأمصار.

وأخيراً استقرّ الحال على إجابتهم لما طلبوا من عزل بعض العمّال ، وعلى ذلك اختار أهل مصر أن يولّى عليهم محمد بن أبي بكر الصدّيق ، فكتب عثمان لهم بذلك عهداً ورحلوا من المدينة مع واليهم الجديد ، وبينما هم ذاهبون رأوا عبداً من عبيد الخليفة على راحلة من إبله يستحثّها فأوقفوه وفتّشوه ، فوجدوا معه كتاباً مختوماً بختم الخليفة لعبد الله بن أبي سرح مضمونه : إذا قدم عليك ابن أبي بكر ومن معه فاحتل في قتلهم.

فأخذوا الكتاب ورجعوا إلى المدينة ، وأطلعوا الخليفة عليه فأقسم لهم أنّه ما فعل ولا أمر ولا علم فقالوا : هذا أشدّ ، يؤخذ خاتمك ، وبعير من إبلك ، وعبد من عبيدك وأنت لا تعلم! ما أنت إلاّ مغلوب على أمرك ، فطلبوا منه الاعتزال أو تسليم الكاتب فأبى ، فأجمعوا على محاصرته ، فحاصروه في داره ومنعوا عنه الزاد والماء أيّاماً عديدة ، وهاجت الثوّار ، وكثر القيل والقال ، فطلب منه بعض الصحابة الإذن بالمدافعة عنه فلم يقبل ، ولم يأذن لأحد حتى إنّه قال لعبيده الذين هبوا للدفاع عنه : من أغمد منكم سيفه فهو حرّ. استسلاماً للقضاء فتسلّق بعض الأشرار الدار ، ودخلوا عليه وقتلوه ، والمصحف بين يديه يتلو فيه سورة البقرة فنزلت قطرة من دمه على : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ). وكان يومئذٍ صائماً. انتهى.

ولعلّ الأستاذ بعد الوقوف على هذا الجزء من كتابنا ينتبه لمواقع النظر في تأليفه فيميّز الحيّ من الليّ ، ويعرف الصحيح من المعلول ، ويتّبع الحقّ والحقّ أحقّ أن يُتّبع.

وفي مقدّم هؤلاء الأساتذة أستاذ تاريخ الأُمم الإسلاميّة بالجامعة المصريّة ووكيل مدرسة القضاء الشرعي الشيخ محمد الخضري صاحب المحاضرات ، وقد

٣٥٧

قدّمنا في الجزء الثالث (ص ٢٤٩ ـ ٢٦٥) شيئاً ممّا يرجع إليه وإلى كتابه ، وعرّفناك موقفه من الدجل والجناية على التاريخ الصحيح ، وبُعده عن أدب الدين ، عن أدب العلم ، عن أدب الإنسانيّة ، وأنّ كتابه علبة السفاسف ، وعيبة السقطات ، وصحائفه مشحونة بالأكاذيب والأفائك والنسب المفتعلة ، والآراء الساقطة ، فإن كان الإسلام هذا تاريخه فعلى الإسلام السلام.

عهد النبي الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلي عثمان

١ ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند (١) (٦ / ٨٦ ، ١٤٩) ، قال : حدّثنا أبو المغيرة الحمصي ، حدّثنا الوليد بن سليمان الدمشقي ، حدّثني ربيعة بن يزيد الدمشقي ، عن عبد الله بن عامر الدمشقي ، عن النعمان بن بشير ـ قاضي دمشق ـ ، عن عائشة ، قالت : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عثمان بن عفان فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رأينا إقبال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عثمان أقبلت إحدانا على الأخرى ، فكان من آخر كلمته أن ضرب منكبه وقال : يا عثمان إنّ الله عسى أن يلبسك قميصاً فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني. ثلاثاً. فقلت لها : يا أُمّ المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت : نسيته والله ، ما ذكرته. قال : فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرضَ بالذي أخبرته حتى كتب إلى أُمّ المؤمنين : أن اكتبي إليّ به ، فكتبت إليه به كتاباً.

رجال الإسناد كلّهم شاميّون عثمانيّون ، وفي مقدّمهم النعمان بن بشير الخارج على إمام زمانه ومحاربه تحت راية الفئة الباغية ، وجاء فيه عن قيس بن سعد الأنصاري الصحابيّ العظيم أنّه ضالّ مضلّ. ومتن الرواية كما يأتي بيانه يكذّب نفسها.

٢ ـ أخرج أحمد في المسند (٢) (٦ / ١١٤) ، من طريق محمد بن كناسة الأسدي

__________________

(١) مسند أحمد : ٧ / ١٢٦ ح ٢٤٠٤٥ و ٢١٤ ح ٢٤٦٣٦.

(٢) مسند أحمد : ٧ / ١٦٥ ح ٢٤٣١٦.

٣٥٨

أبي يحيى ، عن إسحاق بن سعيد الأموي حفيد العاص ـ ، عن أبيه سعيد ـ ابن عمّ عثمان الذي كان بدمشق ـ ، قال : بلغني أنّ عائشة قالت : ما استمعت على رسول الله إلا مرّة فإنّ عثمان جاءه في نحر الظهيرة فظننت أنّه جاءه في أمر النساء ، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه فسمعته يقول : إنّ الله ملبسك قميصاً تريدك أُمّتي على خلعه فلا تخلعه ، فلمّا رأيت عثمان يبذل لهم ما سألوه إلاّ خلعه علمت أنّه عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي عهد إليه.

عمد رجال الإسناد أُمويّون أبناء بيت عثمان بني أبيه ، ينتهي إلى عائشة وقد أوقفناك على حديثها في هذا الجزء ، وهو مع ذلك مرسل لا يُعلم من بلّغه سعيد بن العاص ولعلّه أحد الكذّابين الوضّاعين.

٣ ـ أخرج الطبراني (١) ، عن مطلب بن شعيب الأزدي ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ربيعة بن سيف ، قال : كنّا عند شفى الأصبحي ، فقال : حدّثنا عبد الله بن عمر قال : التفت رسول الله ، فقال : يا عثمان إنّ الله كساك قميصاً فأرادك الناس على خلعه فلا تخلعه ، فو الله لئن خلعته لا ترى الجنّة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط.

ذكره ابن كثير في تاريخه (٢) (٧ / ٢٠٨) فقال : وقد رواه أبو يعلى من طريق عبد الله بن عمر عن أُخته حفصة أُمّ المؤمنين. وفي سياق متنه غرابة والله أعلم.

رجال الإسناد :

١ ـ عبد الله بن صالح أبو صالح المصري كاتب الليث ، قال أحمد (٣) : كان أوّل

__________________

(١) المعجم الأوسط : ٣ / ٣٩٨ ح ٢٨٥٤.

(٢) البداية والنهاية : ٧ / ٢٣٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍.

(٣) العلل ومعرفة الرجال : ٣ / ٢١٣ رقم ٤٩١٩.

٣٥٩

أمره متماسكاً ثم فسد بآخره وليس هو بشيء. وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي ذكره يوماً فذمّه وكرهه. وقال صالح بن محمد : كان ابن معين يوثقه ، وعندي أنّه كان يكذب في الحديث. وقال ابن المديني : ضربت على حديثه وما أروي عنه شيئاً. وقال أحمد بن صالح : متّهم ليس بشيء. وقال النسائي (١) : ليس بثقة ، وقال أبو زرعة : كذّاب. وقال أبو حاتم (٢) : الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره فأنكروها عليه أرى أنّ هذا ممّا افتعل خالد بن نجيح ، وكان أبو صالح يصحبه ... إلخ. وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب الحديث. وقال ابن حبّان (٣) : منكر الحديث جدّا يروي عن الأثبات ما ليس من حديث الثقات ، وكان صدوقاً في نفسه وإنّما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له كان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح ، ويكتب بخطّ يشبه خطّ عبد الله ، ويرميه في داره بين كتبه ، فيتوهّم عبد الله أنّه خطّه فيحدّث به.

تهذيب التهذيب (٤) (٥ / ٢٥٦ ـ ٢٦٠).

٢ ـ سعيد بن أبي هلال المصري ، قال أحمد : ما أدري أيّ شيء يخلط في الأحاديث. وقال ابن حزم : ليس بالقوي. وقال ابن حجر : لعلّه اعتمد على قول الإمام أحمد فيه.

تهذيب التهذيب (٥) (٤ / ٩٥).

٣ ـ ربيعة بن سيف الإسكندراني ، قال ابن حبّان (٦) : يُخطئ كثيراً. وقال ابن يونس : في حديثه مناكير. وقال البخاري (٧) : روى أحاديث لا يُتابَع عليها. وقال

__________________

(١) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٤٩ رقم ٣٥١.

(٢) الجرح والتعديل : ٥ / ٨٧ رقم ٣٩٨.

(٣) كتاب المجروحين : ٢ / ٤٠.

(٤) تهذيب التهذيب : ٥ / ٢٢٥.

(٥) تهذيب التهذيب : ٤ / ٨٣.

(٦) الثقات : ٦ / ٣٠١.

(٧) التاريخ الكبير : ٣ / ٢٩٠ رقم ٩٨٧ وفيه : عنده مناكير.

٣٦٠