الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١
الأغلب. الأغاني (١) (١٨ / ٤٨)
سافر إلى الحجاز مع أخيه رزين ، وإلى الري وخراسان مع أخيه عليّ ، وقال أبو الفرج (٢)) : كان دعبل يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلّها ، ويرجع وقد أفاد وأثرى ، وكانت الشراة والصعاليك يلقَونه ولا يُؤذونه ، ويواكلونه ويشاربونه ويَبرُّونه ، وكان إذا لَقِيَهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ، ودعا بغلاميه : ثقيف وشعف ، وكانا مغنِّيين فأقعدهما يغنِّيان ، وسقاهم وشرب معهم ، وأنشدهم ، فكانوا قد عرفوه وألِفُوه لكثرة أسفاره وكانوا يواصلونه ويَصِلونه ، وأنشد دعبل لنفسه في بعض أسفاره :
حللتُ محلاّ يقصُرُ البرقُ دونَهُ |
|
ويعجِزُ عنه الطيفُ أن يتجشَّما |
وقال ابن المعتز في طبقاته (٣) (ص ١٢٥) : وكان يجتاز بقُمّ ، فيقيم عند شيعتها فيقسطون له في كلِّ سنة خمسة آلاف درهم.
يقع البحث في ترجمته من نواحٍ أربع :
١ ـ تهالكه في ولاء أهل بيت العصمة ـ صلوات الله عليهم.
٢ ـ نبوغه في الشعر والأدب والتاريخ ، وتآليفه.
٣ ـ روايته للحديث والرواة عنه ، ومن يَروي هو عنه.
٤ ـ سيره مع الخلفاء ، ثمّ مُلَحُهُ ونوادره ثمّ ولادته ووفاته.
أمّا الأولى :
فجليّة الحال فيها غنيّةٌ عن البرهنة عليها ، فما ظنّك برجل كان يُسمع منه وهو يقول : أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحداً يصلبني عليها.
__________________
(١) الأغاني : ٢٠ / ١٧٦.
(٢) في الأغاني : ١٨ / ٣٦ [٢٠ / ١٤٩]. (المؤلف)
(٣) طبقات الشعراء : ص ٢٦٥.
وقيل للوزير محمد بن عبد الملك الزيّات : لِمَ لا تُجيب دعبلاً عن قصيدته التي هجاك فيها؟ قال : إنَّ دِعبلاً جعل خشبته على عنقه يدور بها ، يطلبُ من يصلبه بها منذ ثلاثين سنة وهو لا يُبالي (١).
كلُّ ذلك من جرّاء ما كان ينافح ويناطح ويناضل وينازل في الذبِّ عن البيت النبويِّ الطاهر ، والتجاهر بموالاتهم ، والوقيعة في مناوئيهم ، لا يَقِرُّ به قرارٌ ، فلا يُقلّه مأمنٌ ولا يُظلّه سقفُ منتَجَعٍ (٢) ، وما زالت تتقاذف به أجواز الفلا فَرَقاً من خلفاء الوقت ، وأعداء العترة الطاهرة ، ومع ذلك كلّه فقصائده السائرة تلهَجُ بها الركبان ، وتزدان بها الأندية ، وهي مسرّات للمُوالين ، ومُحفِظاتٌ للأعداء ، ومثيرات للعِهَن (٣) والضغائن حتى قُتل على ذلك شهيداً.
وما يُنقم من المترجم له من التوغّل في الهجاء في غير واحد من المعاجم ، فإنّ نوع ذلك الهجو والسباب المُقذغ فيمن حَسِبَهم أعداءً للعترة الطاهرة وغاصبي مناصبهم ، فكان يتقرّب به إلى الله وهو من المُقَرِّبات إليه سبحانه زلفى ، وإنَّ الولاية لا تكون خالصةً إلاّ بالبراءة ممّن يُضادُّها ويعاندها كما تبرّأ الله ورسوله من المشركين ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، غير أنّ أكثر أرباب المعاجم من الفئة المتحيِّزة إلى أعداء هذا البيت الطاهر ، حسبوا ذلك منه ذنباً لا يُغفر كما هو عادتهم في جُلِّ رجالات الشيعة.
أمّا نبوغه في الأدب :
فأيّ برهنة له أوضح من شعره السائر؟ الذي تلهج به الألسن ، وتتضمّنه طيّات الكتب ، ويُستشهد به في إثبات معاني الألفاظ وموادِّ اللغة ، ويُهتف به في
__________________
(١) طبقات الشعراء لابن المعتز : ص ١٢٥ [ص ٢٦٥]. (المؤلف)
(٢) الانتجاع : طلب الخصب والكلإ. والمنتجَع : المنزل في طلب الكلأ.
(٣) العِهَن : جمع عِهْنة وهي لغة في الإحنة ، ومعناها الحقد والغضب.
مجتمعات الشيعة آناء الليل وأطراف النهار ، ذلك الشعر السهل الممتنع الذي يحسب السامع لأوّل وهلة أنّه يأتي بمثيله ، ثمّ لمّا خاض غماره ، وطفق يرسب ويَطفُّ بين أواذيِّه ، علم أنّه قصير الباع ، قصير الخُطى ، قصير المقدرة عن أن يأتي بما يدانيه فضلاً عمّا يساويه.
كان محمد بن القاسم بن مهرويه يقول : سمعت أبي يقول : خُتم الشعر بدعبل. وقال البحتري : دعبل بن عليّ أشعر عندي من مسلم بن الوليد ، فقيل له : كيف ذلك؟ قال : لأنّ كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم ، ومذهبه أشبه بمذاهبهم ، وكان يتعصّب له (١).
وعن عمرو بن مسعدة قال : حضرت أبا دُلَف عند المأمون وقد قال له المأمون : أيَّ شيءٍ تروي لأخي خزاعة يا قاسم؟ فقال : وأيّ أخي خزاعةَ يا أمير المؤمنين؟ قال : ومَن تعرف فيهم شاعراً؟ فقال : أمّا مِن أنفُسِهم فأبو الشيص ودعبل وابن أبي الشيص وداود بن أبي رزين ، وأمّا من مواليهم فطاهر وابنه عبد الله.
فقال : ومن عسى في هؤلاء أن يُسأَل عن شعره سوى دعبل؟ هات أيّ شيء عندك فيه.
وقال الجاحظ : سمعت دعبل بن عليّ يقول : مكثت نحو ستّين سنة ليس من يوم ذرَّ شارقه إلاّ وأنا أقول فيه شعراً (٢) ، ولمّا أنشد دعبل أبا نواس شعره :
أينَ الشبابُ؟ وأيّةً سَلَكا؟ |
|
لا أينَ يُطلبُ؟ ضلَّ بل هَلَكا |
لا تعجبي يا سَلْمُ من رَجُلٍ |
|
ضَحِكَ المشيبُ برأسه فبكى |
فقال : أحسنت ملء فيك وأسماعنا. قال محمد بن يزيد : كان دعبل والله
__________________
(١) الأغاني : ١٨ / ١٨ ، ٣٧ [٢٠ / ١٣٥ ، ١٤٩]. (المؤلف)
(٢) الأغاني : ١٨ / ٤٤ [٢٠ / ١٦٥]. (المؤلف)
فصيحاً (١)). وهناك كلمات ضافية حول أدبه والثناء عليه لا يهمّنا ذكرها.
أخذ الأدب عن صريع الغواني مسلم بن الوليد (٢) ، واستقى من بحره ، وقال : ما زلت أقول الشعر وأعرضه على مسلم فيقول لي : اكتم هذا حتى قلت :
أينَ الشبابُ؟ وأيَّةً سَلَكا؟ |
|
لا أينَ يُطلَبُ؟ ضلَّ بل هلكا |
فلمّا أنشدته هذه القصيدة قال : اذهب الآن فأظهر شعرك كيف شئت لمن شئت.
وقال أبو تمام : ما زال دعبل مائلاً إلى مسلم بن الوليد مُقِرّا بأستاذيَّته ، حتى ورد عليه جرجان ، فجفاه مسلم وكان فيه بخلٌ ، فهجره دعبل وكتب إليه :
أبا مَخْلَدٍ كنّا عَقيدَيْ مودّةٍ |
|
هوانا وقلبانا جميعاً معاً معا |
أحُوطكَ بالغيبِ الذي أنت حائطي |
|
وأيْجعُ إشفاقاً لأن تتوجّعا |
فصيّرْتَني بعد انتحائِكَ مُتْهِماً |
|
لنفسي ، عليها أرهَبُ الخَلْقَ أجمعا |
غَشَشْتَ الهوى حتى تداعتْ أصولُهُ |
|
بنا وابتذلْتَ الوَصْلَ حتى تَقَطّعا |
وأنزلتَ من بينِ الجوانحِ والحشا |
|
ذخيرةَ وُدٍّ طالما قد تمنّعا |
فلا تَعْذِلَنِّي ليس لي فيك مَطمعٌ |
|
تخرّقْتَ حتى لمْ أجِدْ لَكَ مَرْقَعا |
فَهَبْكَ يميني استأْكَلَتْ فَقَطَعْتُها |
|
وجَشَّمتُ قلبي صبرَهُ فتشجّعا (٣) |
ويروي عنه في الأدب محمد بن يزيد ، والحمدَوي الشاعر ، ومحمد بن القاسم ابن مهرويه ، وآخرون.
__________________
(١) تاريخَي ابن خلّكان [وفيات الأعيان : ٢ / ٢٦٨ رقم ٢٢٧] وابن عساكر [تاريخ مدينة دمشق : ٦ / ٧٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ١٨٠]. (المؤلف)
(٢) كان شاعراً متصرِّفاً في فنون القول حسن الأسلوب أستاذ الفن ، ويقال : إنّه أوّل من قال الشعر المعروف بالبديع ووَسّعه ، وتَبِعَه فيه أبو تمام وغيره ، تُوفّي بجُرجان سنة (٢٠٨). (المؤلف)
(٣) ويروى : وحَمّلت قلبي فقدها. الأغاني : ١٨ / ٤٧ [٢٠ / ١٧٣]. (المؤلف)
آيات نبوغه :
له كتاب الواحدة في مناقب العرب ومثالبها ، وكتاب طبقات الشعراء ، وهو من التآليف القيِّمة والأصول المعوَّل عليها في الأدب والتراجم ، ينقل عنه كثيراً المرزباني في معجم الشعراء (ص ٢٢٧ ، ٢٤٠ ، ٢٤٥ ، ٢٦٧ ، ٣٦١ ، ٤٣٤ ، ٤٧٨) ، والخطيب البغدادي في تاريخه (٢ / ٣٤٢ و ٤ / ١٤٣) ، وابن عساكر في تاريخه (٧ / ٤٦ ، ٤٧) ، وابن خلّكان في تاريخه (٢ / ١٦٦) ، واليافعي في المرآة (٢ / ١٢٣) ، وأكثر النقل عنه ابن حجر في الإصابة (١ / ٦٩ ، ١٣٢ ، ١٧٢ ، ٣٧٠ ، ٤١١ ، ٥٢٥ ، ٥٢٧ و ٢ / ٩٩ ، ١٠٣ ، ١٠٨ و ٣ / ٩١ و ١١٩ ، ١٢٣ ، ٢٧٠ ، ٥٦٥ ، ٤ / ٧٤ ، ٥٦٥) وغيرها.
وأحسب أنّه كتابٌ ضخمٌ مبوَّبٌ على البلدان كيتيمة الدهر للثعالبي ففيه :
أخبار شعراء البصرة ، وبهذا العنوان ينقل عنه الآمدي في المؤتلف والمختلف (ص ٦٧) ، وابن حجر في الإصابة (٣ / ٢٧٠).
أخبار شعراء الحجاز ، وبهذا الاسم ينقل عنه ابن حجر في الإصابة (٤ / ٧٤ ، ١٦٣) ويقول : ذَكَر دعبل في طبقات الشعراء في أهل الحجاز.
أخبار شعراء بغداد ، ينقلُ عنه باسم كتاب شعراء بغداد الآمديّ في المؤتلف (ص ٦٧).
وله ديوان شعر مجموع كما في تاريخ ابن عساكر. وقال ابن النديم (١) : عمله الصولي نحو ثلاثمائة ورقة ، وعدَّ في فهرسته (٢) (ص ٢١٠) من تآليف أبي الفضل أحمد ابن أبي طاهر : كتاب اختيار شعر دعبل.
ومن آيات نبوغه قصيدته في ذكر مناقب اليمن وفضائلها من ملوكها وغيرهم
__________________
(١) فهرست ابن النديم : ص ١٨٣.
(٢) فهرست ابن النديم : ص ١٦٤.
على نحو ستمائة بيتٍ ، كما في نشوار المحاضرة للتنوخي (١) (ص ١٧٦) ، مطلعها :
أفيقي من مَلامِكِ يا ظعينا |
|
كفاكِ اللومَ مَرُّ الأربعينا |
يردُّ بها على الكميت في قصيدته التي يمتدح بها نزاراً ، وهي ثلاثمائة بيت أوّلها :
ألا حُيّيت عنّا يا مَدِينا |
|
وهل ناسٌ تقول مسلّمينا |
قالها الكميت ردّا على الأعور الكلبي في قصيدته التي أوّلها :
أسودينا وأحمرينا
فرأى دعبل النبيَّ صلى الله عليه وسلم في النوم ، فنهاه عن ذكر الكميت بسوء. ولم يزل دعبل عند الناس جليل القدر حتى ردّ على الكميت فكان ممّا وضعه (٢) ، وردّ عليه أبو سعد المخزومي بقصيدة. وعلى أثر هذه المناجزة والمشاجرة افتخرت نزار على اليمن وافتخرت اليمن على نزار ؛ وأدلى كلُّ فريق بما له من المفاخر ، وتحزّبت الناس ، وثارت العصبيّة في البدو والحضر ، فنتج بذلك أمر مروان بن محمد الجعدي وتعصّبه لقومه من نزار على اليمن ، وانحرف اليمن عنه إلى الدعوة العبّاسيّة ، وتغلغل الأمر إلى انتقال الدولة عن بني أميّة إلى بني هاشم ، ثمّ ما تلا ذلك من قصّة معن بن زائدة باليمن ، وقتله أهلها تعصّباً لقومه من ربيعة وغيرها من نزار ، وقطعه الحلف الذي كان بين اليمن وربيعة في القدم ، إلى آخر ما في مروج الذهب (٣) (٢ / ١٩٧).
أمّا روايته في الحديث :
فعدّه ابن شهرآشوب في المعالم (٤) (ص ١٣٩) من أصحاب الكاظم والرضا عليهماالسلام
__________________
(١) نشوار المحاضرة : ٢ / ١٤٠ رقم ٧٣.
(٢) الأغاني : ١٨ / ٢٩ ، ٣١ [٢٠ / ١٣١ ، ١٣٥]. (المؤلف)
(٣) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٧.
(٤) معالم العلماء : ص ١٥١.
وحكى النجاشي في فهرسته (١) (ص ١٩٨) عن ابن أخيه أنَّه رأى موسى بن جعفر ولقي أبا الحسن الرضا ، وقد أدرك الإمام محمد بن عليِّ الجواد عليهالسلام ولقيه ،
وروى الحميري في الدلائل وثقة الإسلام الكليني في أصول الكافي (٢) : أنّه دخل على الرضا عليهالسلام فأعطاه شيئاً فلم يحمد الله تعالى ، فقال : «لِمَ لم تحمد الله تعالى؟» ثمّ دخل على الجواد فأعطاه فقال : الحمد لله. فقال عليهالسلام : «تأدّبتَ».
ويروي شاعرنا عن جماعة منهم :
١ ـ الحافظ شعبة بن الحجّاج : المتوفّى (١٦٠) (٣) ، وبهذا الطريق يُروى عنه الحديث في كتب الفريقين كما في أمالي الشيخ (٤) (ص ٢٤٠) وتاريخ ابن عساكر (٥) (٥ / ٢٢٨).
٢ ـ الحافظ سفيان الثوري : المتوفّى (١٦١). تاريخ ابن عساكر (٥ / ٢٢٨).
٣ ـ إمام المالكيّة مالك بن أنس : المتوفّى (١٧٩). تاريخ ابن عساكر (٥ / ٢٢٨).
٤ ـ أبو سعيد سالم بن نوح البصري : المتوفّى بعد المائتين. تاريخ ابن عساكر (٥ / ٢٢٨).
٥ ـ أبو عبد الله محمد بن عمرو الواقدي : المتوفّى (٢٠٧). تاريخ ابن عساكر (٥ / ٢٢٨).
٦ ـ الخليفة المأمون العبّاسي : المتوفّى (٢١٨). تاريخ الخلفاء (٦) (ص ٢٠٤).
٧ ـ أبو الفضل عبد الله بن سعد الزهري البغدادي : المتوفّى (٢٦٠) ، يروي عنه ، عن ضَمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر ، عن ابن حوشب ، عن أبي هريرة حديث صوم الغدير المذكور (١ / ٤٠١) (٧).
__________________
(١) رجال النجاشي : ص ٢٧٧ رقم ٧٢٧.
(٢) أصول الكافي : ١ / ٤٩٦ ح ٨.
(٣) يروي عنه وعن الثوري وهو لم يبلغ الحُلُم. (المؤلف)
(٤) أمالي الطوسي : ص ٣٧٧ ح ٨٠٧.
(٥) تاريخ مدينة دمشق : ٦ / ٦٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ١٧٣.
(٦) تاريخ الخلفاء : ص ٢٨٤.
(٧) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى : ج ٢ [ص ٩٨]. (المؤلف)
٨ ـ محمد بن سلامة. يروي عنه بطريقه شيخ الطائفة في أماليه (١) (ص ٢٣٧) عن أمير المؤمنين عليهالسلام خطبته الشهيرة بالشقشقيّة التي أوّلها : «والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه لَيَعْلمُ أنّ محلّي منها محلُّ القُطْبِ من الرحى ؛ ينحدر عنّي السيلُ ولا يرقى إليَّ الطير ، ولكنّي سَدَلتُ عنها ثوباً ، وطَوَيْتُ عنها كشْحاً».
٩ ـ سعيد بن سفيان الأسلمي المدني. أمالي الشيخ (ص ٢٣٧).
١٠ ـ محمد بن إسماعيل ـ مشترك ـ. أمالي الشيخ (ص ٢٣٧).
١١ ـ مجاشع بن عمر. يروي عنه عن ميسرة عن الجَزَري عن ابن جُبير عن ابن عبّاس أنّه سُئل عن قول الله عزّ وجلّ : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢) الحديث ، أمالي الشيخ (٣) (ص ٢٤٠).
١٢ ـ موسى بن سهل الراسبي. ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب (٤) (١٠ / ٣٤٨) شيخاً للمترجم له ولم يُعَرّفه.
وعدَّ ابن عساكر في تاريخه (٥) (٥ / ٢٢٨) ممّن يُقال برواية المترجم عنه : يحيى بن سعيد الأنصاري ، وخفي عليه أنّ يحيى الأنصاري تُوفّي (١٤٣) قبل ولادة المُتَرجَم بسنين.
والرواة عن المترجَم هم :
١ ـ أبو الحسن عليّ أخوه ، كما في كثير من كتب الحديث والمعاجم.
٢ ـ موسى بن حمّاد اليزيدي. فهرست النجاشي (٦) (ص ١١٧).
__________________
(١) أمالي الطوسي : ص ٣٧٢ ح ٨٠٣.
(٢) الفتح : ٢٩.
(٣) أمالي الطوسي : ص ٣٧٨ ح ٨١٠.
(٤) تهذيب التهذيب : ١٠ / ٣١٠ رقم ٦١٩.
(٥) تاريخ مدينة دمشق : ٦ / ٦٩.
(٦) رجال النجاشي : ص ١٦٢ رقم ٤٢٨.
٣ ـ أبو الصلْت الهَرَوي : المتوفّى (٢٣٦). في مصادر كثيرة.
٤ ـ هارون بن عبد الله المهلّبي. في الأمالي والعيون (١).
٥ ـ عليّ بن الحكيم. في أصول الكافي.
٦ ـ عبد الله بن سعيد الأشقري. الأغاني (٢) وغيره.
٧ ـ موسى بن عيسى المروزي. الأغاني (٣) وغيره.
٨ ـ ابن المنادي أحمد بن أبي داود : المتوفّى (٢٧٢). تاريخ ابن عساكر (٤).
٩ ـ محمد بن موسى البُريري. تاريخ ابن عساكر.
أمّا سيره مع الخلفاء والوزراء :
فهذه ناحيةٌ واسعة النطاق ، طويلة الذيل ، يجد الباحث في طيّات كتب التاريخ ومعاجم الأدب المفصَّلة حولها كراريس مسطَّرة ، فيها لغو الحديث ، نضرب عنها صَفحاً ونقتطف منها النزر اليسير.
١ ـ عن يحيى بن أكثم قال : إنَّ المأمون أقدم دعبلاً رحمهالله وآمنه على نفسه ، فلمّا مثل بين يديه وكنت جالساً بين يدي المأمون ، قال له : أنشدني قصيدتك الرائيّة ، فجحَدها دعبل وأنكر معرفتها ، فقال له : لك الأمان عليها كما أمِنتك على نفسك. فأنشده :
تأسّفَتْ جارتي لَمّا رأت زَوَرِي |
|
وعَدّتِ الحِلْمَ ذنباً غيرَ مُغْتَفَرِ |
__________________
(١) الأمالي للصدوق : ص ٥٢٦ ح ١٦ ، وعيون أخبار الرضا : ٢ / ٢٨١ ح ٢.
(٢) الأغاني : ٢٠ / ١٥٥.
(٣) الأغاني : ٢٠ / ١٦٢.
(٤) تاريخ دمشق : ٥ / ٢٢٨ [٦ / ٦٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ٦٧٣ ، ١٨٤]. وابن المُنادي في المعاجم : محمد بن عبيد الله [انظر : تاريخ بغداد : ٢ / ٣٢٦ رقم ٨١٦ ، والثقات لابن حبّان : ٩ / ١٣٢]. (المؤلف)
ترجو الصِّبا بعد ما شابت ذوائبُها |
|
وقد جَرَتْ طَلَقاً في حِلبةِ الكِبَرِ |
أجارتي إنَّ شيبَ الرأس يُعلمني |
|
ذِكرَ المعاد وأرضاني عن القدَرِ |
لو كنت أركنُ للدنيا وزينتِها |
|
إذاً بَكَيت على الماضين من نفرِ |
أخنى الزمان على أهلي فصدّعهمْ |
|
تصدُّع الشعب لاقى صدمةَ الحجرِ |
بعضٌ أقام وبعضٌ قد أصات به |
|
داعي المنيّةِ والباقي على الأثرِ |
أمّا المقيمُ فأخشى أن يُفارقَني |
|
ولستُ أَوبةَ من وَلّى بمُنتظِرِ |
أصبحتُ أُخبَرُ عن أهلي وعن وَلَدي |
|
كحالمٍ قَصَّ رؤياً بعد مُدَّكرِ |
لو لا تَشَاغلُ عيني بالأُلى سَلَفُوا |
|
من أهل بيت رسول الله لم أقِرِ |
وفي مواليك للمحزون مشغلةٌ |
|
من أن تبيت لمشغولٍ على أثرِ |
كم من ذراعٍ لهم بالطفِّ بائنةٍ |
|
وعارض بصعيد التُّرْب مُنعفرِ |
أمسى الحسينُ ومسراهم لمقتلهِ |
|
وهم يقولون : هذا سيِّدُ البشرِ |
يا أمَّةَ السوءِ ما جازيتِ أحمدَ في |
|
حُسْن البلاء على التنزيل والسوَرِ |
خَلَفتموه على الأبناء حين مضى |
|
خلافةَ الذئب في أبقار ذي بقرِ |
قال يحيى : وأنفذني المأمون في حاجة ، فقمتُ فعدت إليه وقد انتهى إلى قوله :
لم يبق حيٌّ من الأحياء نعلمُهُ |
|
من ذي يمانٍ ولا بكرٍ ولا مُضَرِ |
إلاّ وهم شُرَكاءٌ في دمائِهمُ |
|
كما تَشَارك أيسارٌ (١) على جُزُرِ |
قتلاً وأسراً وتخويفاً ومَنْهَبَةً |
|
فِعلَ الغزاة بأرض الرومِ والخَزَرِ |
أرى أميّة معذورين إن قتلوا |
|
ولا أرى لبني العبّاس من عُذُرِ |
قومٌ قتلتمْ على الإسلام أوّلَهمْ |
|
حتى إذا استمكنوا جازَوا على الكُفُرِ |
أبناءُ حربٍ ومروانٍ وأُسرتُهمْ |
|
بنو مُعَيْطٍ ولاةُ الحقدِ والزَعرِ (٢) |
__________________
(١) الأيسار : جمع يَسَر ، وهو الذي يتولى قسمة الجزور.
(٢) الزَعر : سوء الخلق وشراسته.
اربَعْ (١) بطُوسٍ على قبر الزكيِّ بها |
|
إن كنتَ تربَعُ من دِينٍ على وَطَرِ |
قبرانِ في طوسَ : خيرُ النّاسِ كلِّهُمُ |
|
وقبرُ شَرِّهمُ هذا من العِبَرِ |
ما ينفع الرِّجسَ من قبرِ الزكيِّ ولا |
|
على الزكيِّ بقُرْبِ الرِّجسِ من ضَرَرِ |
هيهات كلُّ امرئٍ رهنٌ بما كَسَبَتْ |
|
له يداه ، فخذ ما شئت أو فَذَرِ |
قال : فضرب المأمون عمامته الأرض ، وقال : صدقت والله يا دعبل (٢).
روى شيخنا الصدوق في أماليه (٣) (ص ٣٩٠) بإسناده عن دعبل أنّه قال : جاءني خبر موت الرضا عليهالسلام وأنا مقيمٌ بقم فقلت القصيدة الرائيّة ، ثمّ ذكر أبياتاً منها.
٢ ـ دخل إبراهيم بن المهدي على المأمون فشكا إليه حاله ، وقال : يا أمير المؤمنين إنَّ الله سبحانه وتعالى فضّلك في نفسك عليَّ ، وألهمك الرأفة والعفو عنّي ، والنسب واحدٌ ، وقد هجاني دعبل فانتقم لي منه ، فقال : وما قال؟ لعلّ قوله :
نعَرَ ابنُ شَكْلةَ بالعراقِ وأهلِهِ |
|
فهفا إليهِ كلُّ أطلسَ مائقِ |
وأنشده الأبيات فقال : هذا من بعض هجائه ، وقد هجاني بما هو أقبح من هذا ، فقال المأمون : لك أُسوةٌ بي فقد هجاني واحتملته ، وقال فيَ (٤) :
أيسومُني المأمون خطّة جاهلٍ |
|
أوَ ما رأى بالأمس رأسَ محمدِ |
إنّي من القومِ الذين سيوفُهمْ |
|
قَتَلَتْ أخاك وشَرّفَتْكَ بمقعَدِ (٥) |
__________________
(١) أي قف وانتظر.
(٢) الأغاني : ١٨ / ٥٧ [٢٠ / ١٩٤] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٢٣٣ [٦ / ٧٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ١٨٠] ، أمالي المفيد [ص ٣٢٤ ح ١٠] ، أمالي الشيخ : ص ٦١ [ص ١٠٠ ح ١٥٦]. (المؤلف)
(٣) الأمالي : ص ٥٢٦ ح ١٦.
(٤) أوّل القصيدة : أخذ المشيبُ من الشباب الأغْيَدِ والنائباتُ من الأنامِ بمرصَدِ (المؤلف)
(٥) أشار إلى قضية طاهر الخزاعي وقتله الأمين محمد بن الرشيد ، وبذلك ولي المأمون الخلافة. (المؤلف)
شادُوا بذكرِكَ بعد طُولِ خُموله |
|
واستنقذوك من الحضيضِ الأوْهدِ |
فقال إبراهيم : زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً ، فما ينطقُ أحدُنا إلاّ عن فضل علمك ، ولا يحلم إلاّ اتِّباعاً لحلمك (١).
٣ ـ حدّث ميمون بن هارون (٢) ، قال : قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولاً في دعبل يحرِّضه عليه ، فضحك المأمون ، وقال : إنّما تحرِّضني عليه لقوله فيك :
يا معشر الأجنادِ لا تَقْنَطوا |
|
وارضَوا بما كانَ ولا تسخطوا |
فسوف تُعطَوْنَ حُنينيّةً |
|
يلتذُّها الأمردُ والأشمطُ |
والمعبدِيّاتُ (٣) لقُوّادِكمْ |
|
لا تدخلُ الكيس ولا تُربطُ |
وهكذا يَرْزُقُ قُوّادَهُ |
|
خليفةٌ مُصْحَفُهُ البَربطُ (٤) |
فقال له إبراهيم : فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين ، فقال : دع هذا عنك ، فقد عفوتُ عنه في هجائه إيّاي لقوله هذا وضحك. ثمّ دخل أبو عبّاد ، فلمّا رآهُ المأمون من بُعْد قال لإبراهيم : دعبل يجسر على أبي عبّاد بالهجاء ولا يُحجم عن أحد. فقال له : وكأنّ أبا عبّاد أبسط يداً منك؟ قال : لا ، ولكنّه حديدٌ جاهلٌ لا يُؤمَن ، وأنا أحلم وأصفح ، والله ما رأيت أبا عبّاد مقبلاً إلاّ أضحكني قول دعبل فيه :
أولى الأمور بضَيْعَةٍ وفسادِ |
|
أمرٌ يُدبِّره أبو عبّاد (٥) |
٤ ـ حدّث أبو ناجية (٦) قال : كان المعتصم يبغض دعبلاً لطول لسانه ، وبلغ
__________________
(١) وفيات الأعيان : ٢ / ٢٦٧ رقم ٢٢٧.
(٢) الأغاني : ٢٠ / ١٣٣.
(٣) المعبديّات : الأغاني المنسوبة الى معبد المغنّي.
(٤) البَربَط : العود.
(٥) توجد بقيّة الأبيات في الأغاني : ١٨ / ٣٩ [٢٠ / ١٥٤]. (المؤلف)
(٦) الأغاني : ٢٠ / ١٥٧ ـ ١٥٨.
دعبلاً أنّه يريد اغتياله وقتله ، فهرب إلى الجبل ، وقال يهجوه :
بكى لشَتاتِ الدينِ مكتئبٌ صَبُ |
|
وفاض بفَرْطِ الدمعِ من عينِهِ غَرْبُ (١) |
وقام إمامٌ لم يكن ذا هدايةٍ |
|
فليس له دينٌ وليس له لُبُ |
وما كانت الأنباءُ تأتي بمثلِهِ |
|
يُملَّكُ يوماً أو تَدينُ له العُرْبُ |
ولكن كما قال الذين تتابعوا |
|
من السلَفِ الماضين إذ عظُم الخَطْبُ |
ملوكُ بني العبّاس في الكُتْبِ سَبْعَةٌ |
|
ولم تأتِنا عن ثامنٍ لهمُ كُتْبُ |
كذلك أهلُ الكهفِ في الكهفِ سبعةٌ |
|
خِيارٌ إذا عُدّوا وثامنُهمْ كلبُ |
وإنّي لأُعلي كلبَهمْ عنك رِفعةً |
|
لأنّك ذو ذَنْبٍ وليس لهُ ذَنْبُ |
لقد ضاع مُلكُ الناسِ إذْ ساس مُلكَهمْ |
|
وصيفٌ وأشناسٌ وقد عَظُم الكَربُ (٢) |
وفضلُ بنُ مروانٍ يُثَلِّمُ ثَلْمةً |
|
يَظَلُّ لها الإسلامُ ليس لهُ شَعبُ (٣) |
٥ ـ حدّث ميمون بن هارون قال : لمّا مات المعتصم قال محمد بن عبد الملك الزيّات يَرثيه :
قد قلْتُ إذْ غيّبوهُ وانصرفوا |
|
في خيرِ قبر لخيرِ مدفونِ |
لن يَجْبُرَ اللهُ أمَّةً فَقَدَتْ |
|
مثلَكَ إلاّ بمثلِ هارونِ |
فقال دعبل يعارضه :
قَدقُلتُ إذ غيّبوهُ وانصرفوا |
|
في شَرِّ قبرٍ لشرِّ مدفونِ |
اذهبْ إلى النارِ والعذاب فما |
|
خِلْتُكَ إلاّ من الشياطينِ |
ما زلتَ حتى عَقَدْتَ بيعةَ مَنْ |
|
أضرَّ بالمسلمين والدينِ (٤) |
__________________
(١) الغَرْب : عِرْق في مجرى الدمع يسقي ولا ينقطع.
(٢) وصيف وأشناس : من قوّاد المعتصم.
(٣) شَعب : إصلاح.
(٤) الأغاني : ٢٠ / ١٥٨.
٦ ـ حدّث محمد بن قاسم بن مهرويه قال : كنت مع دعبل بالصيمرة وقد جاء نعي المعتصم وقيام الواثق ، فقال لي دعبل : أمعك شيء تكتب فيه؟ فقلت : نعم ، وأخرجت قرطاساً ، فأملى عليَّ بديهاً :
ألحمدُ للهِ لا صبرٌ ولا جَلَدُ |
|
ولا عزاءٌ إذا أهل البلا رَقدوا |
خليفةٌ ماتَ لم يَحزنْ له أحدٌ |
|
وآخرٌ قام لم يفرحْ به أَحدُ (١) |
٧ ـ حدّث محمد بن جرير قال : أنشدني عبيد الله بن يعقوب هذا البيت وحده لدعبل يهجو به المتوكّل ، وما سمعت له غيره فيه :
ولستُ بقائلٍ قَذْعاً ولكنْ |
|
لأمرٍ ما تعبّدك العبيدُ |
قال : يرميه في هذا البيت بالأُبنَة.
٨ ـ دخل عبد الله بن طاهر على المأمون فقال له المأمون : أيَّ شيءٍ تحفَظُ يا عبد الله لدعبل؟ فقال : أحفظ أبياتاً له في أهل بيت أمير المؤمنين. قال : هاتها ويحك ، فأنشده عبد الله قول دعبل :
سقياً ورعياً لأيّامِ الصباباتِ |
|
أيّامَ أرفُلُ في أثواب لذّاتي |
أيّامَ غُصني رطيبٌ من لَيانتِهِ |
|
أصبو إلى غير جاراتٍ وكنّاتِ |
دع عنك ذكرَ زمانٍ فات مطلبُهُ |
|
واقذِفْ برجلِكَ عن متنِ الجهالاتِ |
واقصد بكلِّ مديحٍ أنت قائلُهُ |
|
نحو الهداةِ بني بيتِ الكراماتِ |
فقال المأمون : إنّه قد وجد والله مقالاً ، ونال ببعيد ذكرهم ما لا يناله في وصف غيرهم. ثمّ قال المأمون : لقد أحسن في وصف سَفر سافره ، فطال ذلك السفر عليه ، فقال فيه :
__________________
(١) الأغاني : ٢٠ / ١٦٠.
ألَمْ يَأنِ للسفْرِ الذين تحمّلوا |
|
إلى وطنٍ قبل المماتِ رجوعُ |
فقلت ولم أملكْ سوابق عَبرةٍ |
|
نطقنَ بما ضُمَّت عليه ضلوعُ |
تَبَيَّنْ فكم دارٍ تفرّقَ شملُها |
|
وشملٍ شتيتٍ عادَ وهو جميعُ |
كذاك الليالي صرفُهنَّ كما ترى |
|
لكلِّ أناسٍ جَدْبةٌ وربيعُ |
ثمّ قال : ما سافرت قطُّ إلاّ كانت هذه الأبيات نُصبَ عينيَّ في سفري ، وهجِّيري (١)) ومُسَلّيتي حتى أعود (٢).
٩ ـ حدّث ميمون بن هارون قال : كان دعبل قد مدح دينار بن عبد الله وأخاه يحيى فلم يرضَ ما فعلاه ، فقال يهجوهما :
ما زال عصياننا للهِ يُرذِلُنا |
|
حتّى دُفعنا إلى يحيى ودينارِ |
وَغْدَينِ عِلجَين لم تُقطَعْ ثمارُهما |
|
قد طال ما سجدا للشمس والنارِ |
قال : وفيهما وفي الحسن بن سهل والحسن بن رجاء وأبيه يقول دعبل :
ألا فاشتروا منّي ملوك المخزمِ |
|
أبِعْ حسَناً وابنَي رجاءٍ بدرهمِ |
وأُعْطِ رجاءً فوق ذاك زيادةً |
|
وأسمحْ بدينارٍ بغير تندُّمِ |
فإن رُدَّ من عيبٍ عليَّ جميعُهم |
|
فليس يَردُّ العيبَ يحيى بن أكثمِ (٣) |
مُلَح ونوادر :
١ ـ حدّث أحمد بن خالد قال : كنّا يوماً بدار صالح بن عليّ من عبد القيس ببغداد ومعنا جماعةٌ من أصحابنا ، فسقط على كنينَةٍ في سطحه ديكٌ طار من دار دعبل ، فلمّا رأيناه قلنا : هذا صيدنا ، فأخذناه. فقال صالح : ما نصنع به؟ قلنا : نذبحه ،
__________________
(١) هجّيري : دأبي وعادتي.
(٢) الأغاني : ٢٠ / ١٦٧ ـ ١٦٨.
(٣) الأغاني : ٢٠ / ١٧١.
فذبحناه وشويناه. فخرج دعبل وسأل عن الديك فعرَف أنّه سقط في دار صالح ، فطلبه منّا فجحدناه ، وشربنا يومنا. فلمّا كان من الغد خرج دعبل فصلّى الغداة ، ثمّ جلس على المسجد ، وكان ذلك المسجد مجمع الناس ، يجتمع فيه جماعةٌ من العلماء وينتابهم الناس ، فجلس دعبل على المسجد وقال :
أسَرَ المؤذِّنَ صالحٌ وضيوفُهُ |
|
أسْرَ الكميِّ هفا خلال الماقطِ (١) |
بعثوا عليه بَنيهمُ وبناتِهمْ |
|
من بين ناتفةٍ وآخرَ سامطِ |
يتنازعون كأنّهم قد أوثقوا |
|
خاقان أو هزموا كتائب ناعطِ (٢) |
نَهشوهُ فانتُزِعتْ لهُ أسنانهُمْ |
|
وتهشّمتْ أقفاؤهمْ بالحائطِ |
فكتبها الناس عنه ومضوا. فقال لي أبي وقد رجع إلى البيت : ويحكم ، ضاقت عليكم المآكل ، فلم تجدوا شيئاً تأكلونه سوى ديك دعبل؟ ثمّ أنشدنا الشعر ، وقال لي : لا تَدَعْ ديكاً ولا دجاجةً تقدر عليه إلاّ اشتريتَه ، وبعثتَ به إلى دعبل ، وإلاّ وقعنا في لسانه ؛ ففعلتُ ذلك (٣).
٢ ـ عن إسحاق النخعي قال : كنت جالساً مع دعبل بالبصرة وعلى رأسه غلامه ثقيف ، فمرَّ به أعرابيٌّ يرفل في ثيابِ خَزّ ، فقال لغلامه : أُدع لي هذا الأعرابي ، فأومأ الغلام إليه ، فجاء ، فقال له دعبل : ممّن الرجل؟ قال : من بني كلاب ، قال : من أيِّ ولد كلاب أنت؟ قال : من ولد أبي بكر ، فقال دعبل : أتعرف القائل؟ :
ونُبِّئْتُ كلباً من كلابٍ يَسبُّني |
|
ومحضُ كلابٍ يقطعُ الصلواتِ |
فإنْ أنا لم أُعلمْ كِلاباً بأنَّها |
|
كلابٌ وأنّي باسلُ النقِماتِ |
__________________
(١) الماقط : المضيق في الحرب.
(٢) ناعط : قبيلة من هَمْدان. وأصله جبل نزلوا به فنُسِبوا إليه. (المؤلف)
(٣) الأغاني : ٢٠ / ١٤١.
فكان إذاً من قيسِ عَيلانَ والدي |
|
وكانت إذاً أمّي من الحبَطاتِ (١) |
قال : وهذا الشعر لدعبل يقوله في عمرو بن عاصم الكلابي. فقال له الأعرابيُّ : ممّن أنت؟ فكره أن يقول من خزاعة فيهجوهم ، فقال : أنا أنتمي إلى القوم الذين يقول فيهم الشاعر :
أناسٌ عليُّ الخيرِ منهمْ وجعفرٌ |
|
وحمزةُ والسجّادُ ذو الثفناتِ |
إذا فخروا يوماً أتَوا بمحمّدٍ |
|
وجبريلَ والفرقانِ والسُّوَراتِ |
فوثب الأعرابيُّ وهو يقول : ما لي إلى محمدٍ وجبريل والفرقان والسوَرات مرتقى (٢).
٣ ـ حدَّث الحسين بن أبي السُّرى قال : غَضِبَ دعبل على أبي نصر بن جعفر ابن محمد بن الأشعث ـ وكان دعبل مؤدِّبه قديماً ـ لشيء بلغه عنه ، فقال يهجو أباه :
ما جعفرُ بن محمدِ بن الأشعثِ |
|
عندي بخيرٍ أبوّةً من عَثْعَثِ |
عبثاً تمارسَ بي تمارسُ حيّةً |
|
سوّارةً إن هجتَها لم تَلبَثِ |
لو يعلمُ المغرورُ ما ذا حازَ من |
|
خِزيٍ لوالدِهِ إذاً لم يَعْبَثِ |
قال : فلقيه عَثعث ، فقال له : أيّ شيءٍ كان بيني وبينك حتى ضربتَ بي المَثَل في خِسَّة الآباء؟ ، فضحك دعبل ، وقال : لا شيء والله إلاّ اتِّفاق اسمك واسم ابن الأشعث في القافية ، أوَلا ترضى أن أجعل أباك وهو أسود خيراً من آباء الأشعث بن قيس (٣)؟
٤ ـ عن الحسين بن دعبل قال : قال أبي في الفضل بن مروان :
نَصَحْتُ فأخْلَصتُ النصيحةَ للفضلِ |
|
وقلتُ فسيّرتُ المقالةَ في الفضلِ |
__________________
(١) الحبَطات : أولاد الحارث بن مالك بن عمرو بن تميم.
(٢) الأغاني : ٢٠ / ١٥٦ ـ ١٥٧.
(٣) المصدر السابق : ٢٠ / ١٦١.
ألا إنَّ في الفضلِ بنِ سهلٍ لَعِبْرَةً |
|
إن اعتَبَر الفضلُ بنُ مروانَ بالفضلِ |
وللفضلِ في الفضلِ بن يحيى مواعظٌ |
|
إذا فكّر الفضلُ بنُ مروانَ في الفضلِ |
فأبْقِ حميداً من حديثٍ تَفُزْ بِهِ |
|
ولا تَدَعِ الإحسانَ والأخذَ بالفضلِ |
فإنّك قد أصبحتَ لِلمُلْكِ قَيِّماً |
|
وصرتَ مكانَ الفضل والفضلِ والفضلِ |
ولم أرَ أبياتاً من الشعر قبلَها |
|
جميعُ قوافيها على الفضلِ والفضلِ |
وليس لها عيبٌ إذا هي أُنشِدَتْ |
|
سوى أنّ نصحي الفضلَ كان من الفضلِ |
فبعث إليه الفضل بن مروان بدنانير ، وقال له : قد قبلتُ نُصحَك ، فاكفني خَيرَك وشرَّك (١).
نماذج من شعر دعبل في المذهب
قال في رثاء الإمام السبط الشهيد عليهالسلام :
أتَسْكُبُ دمعَ العينِ بالعبراتِ |
|
وبتَّ تُقاسي شِدّة الزفَراتِ؟ |
وتبكي لآثارٍ لآلِ محمدٍ |
|
فقد ضاقَ منك الصدرُ بالحسراتِ |
ألا فابكهمْ حَقّا وبُلَّ عليهمُ |
|
عُيوناً لرَيْبِ الدهر مُنسَكباتِ |
ولا تنسَ في يومِ الطفوفِ مُصابَهمْ |
|
وداهيةً من أعظمِ النكَباتِ |
سقى اللهُ أجداثاً على أرضِ كربلا |
|
مرابيعَ أمطارٍ من المُزُناتِ |
وصلّى على روح الحسينِ حبيبهِ |
|
قتيلاً لدى النهرين بالفَلَواتِ |
قتيلاً بلا جُرمٍ فُجِعنا بفقدِهِ |
|
فريداً ينادي : أينَ أينَ حُماتي |
أنا الظامئُ العطشانُ في أرضِ غربةٍ |
|
قتيلاً ومظلوماً بغير تِراتِ |
وقد رفعوا رأسَ الحسينِ على القنا |
|
وساقوا نساءً وُلَّهاً خَفِراتِ |
فقل لابن سعدٍ عذَّبَ اللهُ روحَهُ |
|
ستلقى عذابَ النارِ باللعناتِ |
__________________
(١) الأغاني : ١٨ / ٣٣ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٢ [٢٠ / ١٥٣]. (المؤلف)
سأقنُتُ طولَ الدهرِ ما هبَّتِ الصبا |
|
وأقنُتُ بالآصالِ والغَدواتِ |
على معشرٍ ضَلّوا جميعاً وضَيّعوا |
|
مقالَ رسول اللهِ بالشبهاتِ |
ويمدح أمير المؤمنين عليهالسلام ويذكر تصدُّقه بخاتمه للسائل في الصلاة ونزول قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فيه (١) بقوله :
نَطَقَ القرآنُ بفضلِ آلِ محمدٍ |
|
وولايةٍ لعليِّهِ لم تُجحَدِ |
بولايةِ المختارِ مَن خير الذي (٢) بعد النبيِّ الصادق المتودّدِ
إذ جاءَهُ المسكينُ حالَ صلاتِهِ |
|
فامتدَّ طوعاً بالذراعِ وباليدِ |
فتناولَ المسكينُ منهُ خاتَماً |
|
هِبةَ الكريم الأجودِ بن الأجودِ |
فاختصّهُ الرحمنُ في تنزيلِهِ |
|
منْ حازَ مثلَ فَخارِهِ فليَعْدُدِ |
إنَّ الإلهَ وَليُّكمْ ورسولَهُ |
|
والمؤمنين فَمَنْ يَشَأ فَلْيجحَدِ |
يكنِ الإلهُ خصيمَهُ فيها غداً |
|
واللهُ ليس بمُخْلِفٍ في الموعدِ |
وله يمدح أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ :
سقياً لبيعةِ أحمدٍ ووصيِّهِ |
|
أعني الإمامَ وليَّنا المحسودا |
أعني الذي نصَرَ النبيَّ محمداً |
|
قبلَ البريّةِ ناشئاً ووليدا |
أعني الذي كَشَفَ الكروبَ ولم يكنْ |
|
في الحربِ عند لقائهِ رِعديدا |
أعني المُوَحِّدَ قبلَ كلِّ مُوَحِّدٍ |
|
لا عابداً وَثناً ولا جلمودا |
وله يرثي الإمام السبط شهيد الطفّ ـ سلام الله عليه ـ :
إن كنتَ محزوناً فمالكَ ترقُدُ |
|
هلاّ بَكَيْتَ لمن بَكاهُ محمدُ |
__________________
(١) راجع ما مرّ صفحة ٤٧ من هذا الجزء. (المؤلف)
(٢) كذا في مناقب آل أبي طالب : ٣ / ١١ ، وفي الديوان : من خير الورى.
هلاّ بَكَيْتَ على الحسينِ وأهلِهِ |
|
إنَّ البكاءَ لِمثلِهمْ قد يُحمَدُ |
لِتَضَعْضُع الإسلامِ يوم مُصابهِ |
|
فالجودُ يبكي فقدَهُ والسؤددُ |
فلقدْ بَكَتْهُ في السماءِ ملائك |
|
زُهْرٌ كرامٌ راكعون وسُجَّدُ |
أنَسِيتَ إذ صارتْ إليه كتائبٌ |
|
فيها ابن سعدٍ والطغاةُ الجُحَّدُ |
فَسَقَوْهُ من جُرَعِ الحُتوفِ بمشهدٍ |
|
كَثُرَ العِداةُ به وقَلَّ المُسعِدُ |
لم يَحفظوا حقَّ النبيِّ محمدٍ |
|
إذْ جَرّعوهُ حرارةً ما تبردُ |
قتلوا الحسينَ فأثكلوهُ بسبطِهِ |
|
فالثُّكْلُ من بعد الحسين مُبَرَّدُ |
كيف القرارُ وفي السبايا زينبٌ |
|
تدعو بفَرْطِ حرارةٍ : يا أحمدُ |
هذا حسينٌ بالسيوفِ مُبضَّعٌ |
|
مُتلطّخٌ بدمائه مُسْتَشْهَدُ |
عارٍ بلا ثوبٍ صريعٌ في الثرى |
|
بين الحوافرِ والسنابك يُقْصَدُ |
والطيِّبونَ بَنوكَ قتلى حولَهُ |
|
فوقَ التُّرابِ ذبائحٌ لا تُلْحَدُ |
يا جدُّ قد مُنِعوا الفراتَ وقُتِّلوا |
|
عَطَشاً فليسَ لهمْ هنالكَ موردُ |
يا جدُّ من ثُكْلي وطولِ مُصيبتي |
|
ولِما أُعانيهِ أقومُ وأقعدُ |
وله من قصيدة طويلة في رثاء الشهيد السبط عليهالسلام قوله :
جاءوا من الشامِ المَشُومةِ أهلُها |
|
للشومِ يَقدِمُ جُنْدَهمْ إبليسُ |
لُعِنوا وقد لُعِنوا بقتلِ إمامِهمْ |
|
تَركوهُ وهو مبضَّعٌ مخموسُ |
وسَبَوا فوا حَزَني بناتِ محمدٍ |
|
عبرى حواسرَ ما لهنَّ لبوسُ |
تبّا لكمْ يا ويلكمْ أرضِيتمُ |
|
بالنّارِ ذَلَّ هنالكَ المحبُوسُ |
بِعتم بدنيا غيرِكمْ جَهْلاً بكمْ |
|
عِزَّ الحياةِ وإنَّهُ لنفيسُ |
أخْزي بها من بيعةٍ أمويّةٍ |
|
لُعِنت وحظُّ البائعين خسيسُ |
بؤساً لمن بايعتمُ وكأنّني |
|
بإمامكمْ وَسْطَ الجحيمِ حَبيسُ |
يا آل أحمدَ ما لقيتمْ بعدَهُ |
|
من عُصْبةٍ هم في القياسِ مجوسُ |
كم عَبرةٍ فاضتْ لكم وتقطّعتْ |
|
يومَ الطفوف على الحسين نفوسُ |