الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

١١ ـ عن الجاحظ عن إسماعيل الساحر قال : كنت أسقي السيِّد الحميري وأبا دُلامة ، فسكر السيِّد ، وغمّض عينيه حتى حسبناه نام ، فجاءت بنتٌ لأبي دُلامة قبيحة الصورة ، فضمّها إليه ورقّصها وهو يقول :

ولَمْ تُرضعْكِ مريمُ أمُّ عيسى

ولم يَكفلْكِ لقمانُ الحكيمُ

ففتح السيِّد عينه وقال :

ولكن قد تضمّك أمّ سوءٍ

إلى لبّاتها وأبٌ لئيمُ

لسان الميزان (١) (١ / ٤٣٨)

١٢ ـ روى شيخ الطائفة ، كما في أمالي ولده (٢) (ص ١٢٤) بإسناده عن محمد بن جبلة الكوفي قال : اجتمع عندنا السيِّد بن محمد الحميري وجعفر بن عفّان الطائي (٣) ، فقال له السيِّد : ويحَك أتقول في آل محمد عليهم‌السلام شرّا :

ما بال بيتِكمُ يُخَرّب سقفُهُ

وثيابُكم من أرذل الأثوابِ

فقال جعفر : فما أنكرتَ من ذلك؟ فقال له السيِّد : إذا لم تُحسن المدح فاسكت. أَيُوصَفُ آل محمد بمثل هذا؟ ولكنّي أعذِرُك ، هذا طبعك وعلمك ومنتهاك ، وقد قلتُ أمحو عنهم عار مدحك :

أُقسِمُ بالله وآلائه

والمرء عمّا قال مسؤولُ

إنَّ عليَّ بن أبي طالب

على التقى والبرِّ مجبولُ

وإنّه كان الإمامَ الذي

له على الأمّة تفضيلُ

__________________

(١) لسان الميزان : ١ / ٤٨٩ رقم ١٣٥٩.

(٢) أمالي الطوسي : ص ١٩٨ ح ٣٣٩.

(٣) أبو عبد الله المكفوف من شعراء الكوفة ، له في أهل البيت مراثٍ استنشدها الإمام الصادق ـ صلوات الله عليه ـ. (المؤلف)

٣٨١

يقول بالحقِّ ويعني به

ولا تُلَهّيه الأباطيلُ

كان إذا الحربُ مَرَتها القنا

وأحجمت عنها البهاليلُ

يمشي إلى القِرن وفي كفِّه

أبيض ماضي الحَدِّ مصقولُ

مشي العَفَرْنى (١) بين أشباله

أبرزَهُ لِلقَنَصِ (٢) الغِيلُ (٣)

ذاك الذي سَلّم في ليلةٍ

عليه ميكالٌ وجبريلُ

ميكالُ في ألفٍ وجبريلُ في

ألفٍ ويتلوهُمُ سرافيلُ

ليلةَ بدرٍ مَدَداً أُنزلوا

كأنّهمْ طيرٌ أبابيلُ

فسلّموا لمّا أتَوا حَذْوَهُ

وذاك إعظامٌ وتبجيلُ

كذا يُقال فيه يا جعفر ، وشعرك يُقال مثله لأهل الخصاصة والضعف. فقبّل جعفر رأسه ، وقال : أنت والله الرأس يا أبا هاشم ونحن الأذناب.

وهذا الحديث رواه أبو جعفر الطبري في الجزء الثاني من بشارة المصطفى (٤) عن الشيخ أبي عليّ ابن شيخ الطائفة عن أبيه بإسناده.

خلفاء عصره :

أدرك السيِّد عشراً من الخلفاء : خمسة من بني أميّة وخمسة من بني العبّاس ، وهم :

١ ـ هشام بن عبد الملك : المتوفّى (١٢٥) عن خلافة (١٩) سنة و (٩) أشهر. وُلد السيِّد في أوّل خلافته.

٢ ـ الوليد بن يزيد بن عبد الملك : المقتول (١٢٦).

٣ ـ يزيد بن الوليد : المتوفّى (١٢٦) عن مُلك ستّة أشهر.

__________________

(١) يقال : أسد عَفَرْنى ، أي شديد. (المؤلف)

(٢) قَنَص الطير قنصاً : صاده. والقَنَص ـ بفتح القاف والنون ـ : المصيدَة. (المؤلف)

(٣) الغيل : الأجمة. موضع الأسد ، والجمع أغيال وغيول. (المؤلف)

(٤) بشارة المصطفى : ص ٥٣.

٣٨٢

٤ ـ إبراهيم بن الوليد : المتوفّى (١٢٧) عن مُلك ثلاثة أشهر.

٥ ـ مروان بن محمد بن مروان بن الحكم : المقتول (١٣٢) وبه انقرضت دولتهم.

٦ ـ السفّاح : أوّل من تسنّم المُلك من بني العبّاس سنة (١٣٢) توفِّي (١٣٦) وللسيِّد فيه شعرٌ يوجد في الأغاني (١) ، وفوات الوفيات (٢) ، وشرح النهج لابن أبي الحديد (٣) (٢ / ٢١٤) ، وكانت جراية السيِّد منه كلّ سنة جاريةً ومن يخدمها ، وبدرة ٣ دراهم وحاملها ، وفرساً وسائسها ، وتختاً من صنوف الثياب وحامله.

٧ ـ المنصور : المتوفّى (١٥٨) وكان حسن الحال عنده يطلق لسانه بما أراد ، وكانت جرايته للسيِّد كلّ شهر ألف درهم.

٨ ـ المهدي بن المنصور : المتوفّى (١٦٩) تورّع عنه السيِّد في أوّل خلافته وهجاه ، فأُخذ واعتذَر ، فرضي عنه فمدحه. مرّ بعض أخباره معه.

٩ ـ الهادي بن المهدي : المتوفّى (١٧٠).

١٠ ـ الرشيد : المتوفّى (١٩٣) بعد مُلك (٢٣) عاماً ، مدحه السيِّد بقصيدتين ، فأمر له ببدرتين ففرّقهما ، فبلغ ذلك الرشيد فقال : أحسب أبا هاشم تورّع عن قبول جوائزنا.

قال المرزباني في أخبار السيِّد (٤) : لمّا ولي الرشيد رُفع إليه في السيِّد أنَّه رافضيٌّ فأحضره ، فقال : إن كان الرافضيُّ هو الذي يحبُّ بني هاشم ويقدّمهم على سائر الخلق فما أعتذر منه ولا أزول عنه ، وإن كان غير ذلك فما أقول به ثمّ أنشد :

شجاك الحيُّ إذ بانوا

فدمعُ العينِ هَتّانُ

كأنّي يومَ ردّوا العيس

للرِّحلةِ نَشوانُ

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٥٩.

(٢) فوات الوفيات : ١ / ١٩٢ رقم ٧٢.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٧ / ١٥٨ خطبة ١٠٤.

(٤) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٦٣.

٣٨٣

وفوق العيس إذ ولَّوا

بها حورٌ وغزلانُ

إذا ما قمْن فالأعجا

ز في التشبيهِ كُثبانُ

وما جاوزَ للأعلى

فأقمارٌ وأغصانُ

ومنها :

عليُّ وأبو ذرٍّ

ومقداد وسلمانُ

وعبّاسٌ وعمّارٌ

وعبد الله إخوانُ

دُعوا فاستودِعوا علماً

فأدَّوهُ وما خانوا

أدينُ اللهَ ذا العزّةِ

بالدين الذي دانوا

وعندي فيهِ إيضاحٌ

عن الحقِّ وبُرهانُ

وما يَجحدُ ما قد قل

تُ في السبطين إنسانُ

وإن أنكر ذو النصب

فعندي فيهِ عِرفانُ

وإن عَدَّوهُ لي ذنباً

وحال الوصل هجرانُ

فلا كان لهذا الذنبِ

عند القوم غفرانُ

وكم عُدَّت إساءاتٌ

لقومٍ وهي إحسانُ

وسرِّي فيه يا داعيَ

دينِ اللهِ إعلانُ

فحُبِّي لكَ إيمانٌ

ومَيلي عنك كُفرانُ

فعدَّ القومُ ذا رفضاً

فلا عَدُّوا ولا كانوا

قال : فألطف له الرشيد ووصله جماعةٌ من بني هاشم.

صفته في خلقته :

كان السيِّد الحميري أسمر ، تامَّ القامة ، أشنب (١) ذا وَفرَةٍ (٢) ، جميل الوجه ،

__________________

(١) الشنب : البياض والبريق والتحديد في الأسنان. (المؤلف)

(٢) الوَفرة : ما جاوز شحمة الأُذنين من الشعر. (المؤلف)

٣٨٤

رحيب الجبهة ، عريض ما بين السالفتين ، حسن الألفاظ ، جميل الخطاب ، إذا تحدّث في مجلس قوم أعطى كلَّ رجل في المجلس نصيبه من حديثه ، وكان من أظرف الناس.

قال شيبان بن محمد الحرّاني ـ وكان يُلقّب بعُوضة [وصار] (١) من سادات الأزد ـ : كان السيِّد جاري وكان أدلَم ، وكان ينادم فتياناً من فتيان الحيِّ فيهم فتىً مثلُه أدلَم غليظ الأنف والشفتين مُزنّج الخِلقة. وكان السيّد من أنتَنِ الناس إبطين ، وكانا يتمازحان ، فيقول له السيِّد : أنت زنجيُّ الأنف والشفتين. ويقول الفتى للسيِّد : أنت زنجيُّ اللون والإبطين. فقال السيِّد :

أعارَكَ يومَ بِعناهُ رَبَاحٌ (٢)

مشافرَهُ وأنفك ذا القبيحا

وكانت حصّتي إبطَيَّ منه

ولوناً حالكاً أمسى فضُوحا

فهل لك في مُبادَلَتيك إبطي

بأنفك تَحمدُ البيع الربيحا

فإنّك أقبحُ الفتيانِ أنفاً

وإبطي أنتنُ الآباطِ ريحا

الأغاني (٣) (٧ / ٣٣١) ، أمالي ابن الشيخ (٤) (ص ٤٣).

ولادته ووفاته :

وُلِد سيِّد الشعراء الحميري سنة (١٠٥) بعُمان (٥) ، ونشأ في البصرة في حضانة والديه الإباضيَّين ، إلى أن عَقَل وشعر فهاجرهما ، واتّصل بالأمير عقبة بن سَلم وتزَلّف لديه حتى مات والداهُ فورثهما كما مرّ (ص ٢٣٢ ـ ٢٣٤) ، ثمّ غادر البصرة إلى الكوفة وأخذ فيها الحديث عن الأعمش وعاش متردِّداً بينهما.

__________________

(١) الزيادة من الأغاني.

(٢) من أسماء العبيد. (المؤلف)

(٣) الأغاني : ٧ / ٢٥١ ، ٢٨٩.

(٤) أمالي الطوسي : ص ٦٢٧ ح ١٢٩٣.

(٥) لسان الميزان : ١ / ٤٣٨ [١ / ٤٨٨ رقم ١٣٥٩]. (المؤلف)

٣٨٥

وتوفِّي في الرُّمَيلة ببغداد في خلافة الرشيد ، وهذا هو المتسالم عليه ، وكُفِّن بأكفان وجّهها الرشيد بأخيه ، وصلّى عليه أخوه عليّ بن المهدي (١) وكبّر خمساً على طريق الإماميّة ، ووقف على قبره إلى أن سُطح بأمر من الرشيد ودُفن في جنينة (٢) ناحية من الكرخ ممّا يلي قَطيعة الربيع (٣).

أمّا سنة وفاته فقد أرّخها المرزباني (٤) بسنة (١٧٣) ، ونقلها القاضي المرعشي في مجالسه (٥) عن خطِّ الكفعمي (٦). وقال ابن حجر (٧) بعد نقل التاريخ المذكور عن أبي الفرج : أرَّخه غيره سنة (١٧٨) وأرَّخه ابن الجوزي (٨) سنة تسع.

روى المرزباني (٩) بإسناده عن ابن أبي حردان قال : حضرت السيِّد ببغداد عند موته ، فقال لغلام له : إذا متُّ فأتِ مجمع البصريِّين وأعلِمهم بموتي ، وما أظُنُّه يجيء منهم إلاّ رجلٌ أو رجلان ؛ ثمّ اذهب إلى مجمع الكوفيِّين فأعلمهم بموتي وأَنشدهم :

يا أهل كوفانَ إنِّي وامقٌ لكمُ

مُذ كنت طفلاً إلى السبعين والكِبَرِ

أهواكمُ وأُواليكمْ وأمدحُكمْ

حتماً عليَّ كمحتومٍ من القَدَرِ

لحبِّكم لوصيِّ المصطفى وكفى

بالمصطفى وبه من سائر البشرِ

والسيِّدين أُولي الحسنى ونَجلِهُمُ

سَمِيُّ من جاء بالآيات والسورِ

__________________

(١) فما في مجالس المؤمنين وبعض المعاجم ـ صلّى عليه المهدي ـ فيه تصحيف ؛ إذ المهدي توفّي (١٦٩) قبل المترجم بسنين. (المؤلف)

(٢) الجنينة تصغير جنّة ، وهي الحديقة والبستان. (المؤلف)

(٣) تنسب إلى الربيع بن يونس حاجب المنصور. (المؤلف)

(٤) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٥٢.

(٥) مجالس المؤمنين : ٢ / ٥١٧.

(٦) أحد شعراء الغدير في القرن العاشر ، تأتي هناك [في الجزء الحادي عشر] ترجمته. (المؤلف)

(٧) لسان الميزان : ١ / ٤٨٨ رقم ١٣٥٩.

(٨) المنتظم : ٩ / ٣٩ رقم ٩٦١.

(٩) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٦٩ ـ ١٧٠.

٣٨٦

هو الإمام الذي نرجو النجاةَ بهِ

من حرّ نارٍ على الأعداءِ مُسْتَعِرِ

كتبتُ شِعري إليكمْ سائلاً لكمُ

إذ كنتُ أُنقَلُ من دارٍ إلى حُفَرِ

أن لا يَليني سواكم أهل بَصرَتِنا

الجاحدون أو الحاوون للبِدَرِ

ولا السلاطين إنَّ الظلمَ حالَفَهمْ

فَعُرفُهمْ صائرٌ لا شكّ للنُكُرِ

وكفِّنوني بياضاً لا يخالطُهُ

شيء من الوشي أو من فاخر الحبِرِ

ولا يُشيِّعني النُّصّابُ إنّهمُ

شرُّ البريّة من أُنثى ومن ذَكَرِ

عسى الإلهُ يُنَجِّيني برحمتِهِ

ومَدحيَ الغُرُرَ الزاكين من سَقَرِ

فإنّهم ليسارعون إليَّ ويُكبّرون (١).

فلمّا مات فعل الغلام ذلك ، فما أتى من البصريِّين إلاّ ثلاثة معهم ثلاثة أكفان وعِطر ، وأتى من الكوفيِّين خلقٌ عظيم معهم سبعون كفناً ، ووجَّه الرشيد ، بأخيه عليٍّ وبأكفانٍ وطيب ، فرُدَّت أكفان العامّة عليهم وكُفِّن في أكفان الرشيد ، وصلّى عليه عليُّ ابن المهدي وكبّر خمساً ووقف على قبره إلى أن سُطح ومضى ، كلُّ ذلك بأمر الرشيد.

وروي مجيء الكوفيِّين بسبعين كفناً عن أبي العينا (٢) عن أبيه وزاد : فلمّا مات دفن بناحية الكرخ ممّا يلي قطيعة الربيع.

وفي حديث موته له مكرمةٌ خالدةٌ تُذكر مدى الدهر ، وتُقرأ في صحيفة التاريخ مع الأبد. قال بشير بن عمّار : حضرت وفاة السيِّد في الرميلة ببغداد ، فوجّه رسولاً إلى صفِّ الجزّارين الكوفيِّين يُعلمهم بحاله ووفاته ، فغلط الرسول فذهب إلى صفِّ السموسين (كذا) فشتموه ولعنوه ، فعَلِم أنّه قد غلط ، فعاد إلى الكوفيِّين يُعْلِمهم بحاله ووفاته فوافاه سبعون كفناً. قال : وحضرنا جميعاً وإنّه ليتحسّر تحسّراً شديداً وإنَّ وجهه لأسودُ كالقار وما يتكلّم ، إلى أن أفاق إفاقة وفتح عينيه فنظر إلى ناحية القبلة

__________________

(١) لعله : ويكثرون.

(٢) أبو عبد الله محمد بن القاسم بن خلاّد البصري : المتوفّى (٢٨٣). (المؤلف)

٣٨٧

ـ جهة النجف الأشرف ـ ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ، أتفعل هذا بوليِّك؟ قالها ثلاث مرّات مرّةً بعد أخرى.

قال : فَتَجلّى والله في جبينه عرقُ بياض ، فما زال يتّسع ويلبس وجهه حتى صار كلّه كالبدر ، وتوفِّي فأخذنا في جهازه ودفنّاه في الجنينة ببغداد ، وذلك في خلافة الرشيد. الأغاني (١) (٧ / ٢٧٧).

وقال أبو سعيد محمد بن رشيد الهروي : إنَّ السيِّد اسودَّ وجهه عند الموت ، فقال : هكذا يُفعل بأوليائكم يا أمير المؤمنين؟ قال : فابيضَّ وجهه كأنّه القمر ليلة البدر ، فأنشأ يقول :

أُحِبُّ الذي من مات من أهل وُدِّهِ

تَلَقّاهُ بالبُشرى لدى الموتِ يَضحكُ

ومن مات يهوى غيره من عدوِّهِ

فليس له إلاّ إلى النار مسلَكُ

أبا حسنٍ أفديك نفسي وأُسرتي

وما لي وما أصبحتُ في الأرض أملِكُ

أبا حسنٍ إنّي بفضلك عارفٌ

وإنّي بحبلٍ من هواك لممسِكُ

وأنت وصيُّ المصطفى وابن عمِّهِ

فإنّا نُعادي مُبغضيك ونترُكُ

ولاحٍ لَحاني في عليٍّ وحزبِهِ

فقلتُ : لحاك الله إنّك أعفَكُ

مُواليكَ ناجٍ مؤمنٌ بَيِّنُ الهدى

وقاليكَ معروفُ الضلالةِ مشركُ

رجال الكشّي (٢) (ص ١٨٥) ، أمالي ابن الشيخ (٣) (ص ٣١) ، بشارة المصطفى (٤).

وقال الحسين بن عون : دخلت على السيِّد الحميري عائداً في علّته التي مات فيها ، فوجدته يُساق به ، ووجدت عنده جماعة من جيرانه وكانوا عثمانيّة ، وكان

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٩٧.

(٢) رجال الكشّي : ٢ / ٥٧١ رقم ٥٠٦.

(٣) أمالي الطوسي : ص ٤٩ ح ٦٣.

(٤) بشارة المصطفى : ص ٧٦.

٣٨٨

السيِّد جميل الصورة رحيب الجبهة عريض ما بين السالفَتين ، فَبَدَت في وجهه نُكتة سوداء مثل النقطة من المِداد ، ثمّ لم تَزَلْ تزيد وتنمى حتى طَبّقتْ وجهه ـ يعني اسوداداً ـ فاغتمَّ لذلك من حضره من الشيعة ، فظهر من الناصبة سرورٌ وشماتةٌ ، فلم يَلبَثْ بذلك إلاّ قليلاً حتى بدتْ في ذلك المكان من وجهه لمعة بيضاء ، فلم تزل تزيد بياضاً وتنمى حتى أسفَر وجهه وأشرق ، وافترّ السيِّد ضاحكاً ، وأنشأ يقول :

كَذَبَ الزاعمون أنّ عليّا

لن يُنَجِّي مُحبّه من هناتِ

قد وربِّي دخلتُ جنّة عدنٍ

وعَفا لي الإله عن سيّئاتي

فابشروا اليومَ أولياء عليٍ

وتَوَلَّوا عليَّ حتى المماتِ

ثمّ من بعده تَولَّوا بنِيه

واحداً بعد واحدٍ بالصفاتِ

ثمّ أتبعَ قوله هذا : أشهد أن لا إله إلاّ الله حقّا حقّا ، وأشهد أنّ محمداً رسول الله حقّا حقّا (١) ، وأشهد أنّ عليّا أمير المؤمنين حقّا حقّا. أشهد أن لا إله إلاّ الله. ثمّ غمّض عينيه لنفسه فكأنّما كانت روحه ذبالة (٢) طفئت أو حصاة سقطت.

أمالي الشيخ (٣) (ص ٤٣) ، مناقب السروي (٤) (٢ / ٢٠) ، كشف الغمّة (٥) (ص ١٢٤).

تضلُّعُه في العلم والتاريخ :

إنَّ من يقف على موارد حِجاج السيِّد الحميري والمعاني التي طرقها في شعره ومحاوراته مع من عاصره من رجال الفريقين ، جدّ عليم بما له من الخطوات الواسعة والشوط البعيد في فهم مغازي الكتاب الكريم وفقه السنّة الشريفة ، وأنَّ تهالكه في

__________________

(١) في لفظ السرَوي : صدقاً صدقاً. وأشهد أن عليّا وليُّ الله رفقاً رفقاً. (المؤلف)

(٢) الذبالة : الفتيلة ، والجمع ذبال. (المؤلف)

(٣) أمالي الطوسي : ص ٦٢٧ ح ١٢٩٣.

(٤) مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٥٨.

(٥) كشف الغمّة : ٢ / ٤٠.

٣٨٩

ولاء أهل البيت عليهم‌السلام كان على بصيرة من أمره عن علم متدفّق ومعرفة ناضجة لا كمَن يتلقّى المبدأ عن تقليد بحت ومدرك بسيط ، ويغلب على فكره الجلبة والصخب.

فمن نماذج علمه ما مرَّ (ص ٢٥٨) من حِجاجه مع القاضي سوّار في مجلس المنصور حول القول بالرجعة وإفحامه إيّاه بالكتاب والسنّة. وما مرّ (ص ٢٦٤).

قال المرزباني في أخبار السيِّد (١) : قيل : إنَّ السيِّد حجَّ أيام هشام فَلَقي الكميت فسلَّم عليه ، وقال : أنت القائل :

ولا أقولُ إذا لم يُعطيا فدَكاً

بنتَ الرسول ولا ميراثه كَفَرا

الله يعلمُ ما ذا يأتيانِ به

يومَ القيامة من عُذرٍ إذا حضرا

قال : نعم قلته تقيّة من بني أميّة ، وفي مضمون قولي شهادةٌ عليهما أنّهما أخذا ما كان في يدها.

فقال السيِّد : لو لا إقامة الحُجّة لوسِعَني السكوت ، لقد ضَعُفتَ يا هذا عن الحقِّ. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فاطمة بضعةٌ منّي يريبني ما رابها ، وإنَّ الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها» فخالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهب لها فدكاً بأمر الله له ، وشهد لها أمير المؤمنين والحسن والحسين وأمُّ أيمَن ، بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطَع فاطمة فَدَكاً فلم يحكما لها بذلك ، والله تعالى يقول : (يَرِثُني ويَرِثُ من آل يعقوب) (٢). ويقول : (وورِثَ سليمانُ داودَ) (٣)). وهم يجعلون سبب مصير الخلافة إليهم الصلاة وشهادة المرأة لأبيها ؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مروا فلاناً بالصلاة بالناس» فصُدِّقت المرأة لأبيها ولا تصدّق فاطمة وعليٌّ والحسن والحسين وأمُّ أيمن في مثل فَدَك ، وتُطالبُ مثل فاطمة بالبيِّنة على ما ادَّعت لأبيها ، وتقول أنت مثل هذا القول.

__________________

(١) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٧٨.

(٢) مريم : ٦.

(٣) النمل : ١٦.

٣٩٠

وبعد : فما تقول في رجل حَلَف بالطلاق أنّ الذي طلبت فاطمة عليها‌السلام هو حقٌّ ، وأنّ عليّا والحسن والحسين وأمّ أيمن ما شهدوا إلاّ بحقّ ، ما تقول في طلاقه؟ قال : ما عليه طلاق. قال : فإن حَلَف بالطلاق إنّهم قالوا غير الحقّ؟ قال : يقع الطلاق لأنّهم لم يقولوا إلاّ الحقّ. قال : فانظر في أمرك. فقال الكميت : أنا تائبٌ إلى الله ممّا قلت ، وأنت يا أبا هاشم أعلم وأفقه منّا.

وهو ـ مع تضلّعه في علمَي الكتاب والسنّة ومعرفته بالحجج الدينيّة وبصيرته بمناهج الحِجَاج في المذهب وإقامة الحجّة على من يُضادُّه في المبدإ ـ كان له يدٌ غير قصيرة في التاريخ ، وله كتاب تاريخ اليمن ، ذكره له الصفدي في الوافي بالوفيات (١ / ٤٩).

وفي شعره الطافح بمعاني الكتاب والسنّة شهادة صادقة على إحاطته بما فيها من مرامٍ وإشارات ونصوص وتصريحات. وكلّما ازدادت الفضيلة قوّةً والبرهان وضوحاً ، وكانت الحجّة بالغة كان اعتناؤه بسرد القريض فيها أكثر كحديث الغدير والمنزلة والتطهير والراية والطير وأمثالها ، ومنها : حديث العشيرة الوارد في قوله تعالى : (وأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (١) في بدء الدعوة النبويّة ، فقد أشار إليه في عدّة قصائد منها قوله :

بأبي أنت وأمِّي

يا أمير المؤمنينا

بأبي أنت وأُمّي

وبرهطي أجمعينا

وبأهلي وبمالي

وبناتي والبنينا

وفدتكَ النفسُ منّي

يا إمامَ المتّقينا

وأمينَ الله والوا

رثَ علم الأوّلينا

ووصيَّ المصطفى

أحمدَ خيرِ المرسلينا

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤.

٣٩١

ووليَّ الحوضِ والذا

ئدَ عنه المُحدِثينا

أنت أولى الناس بالنا

سِ وخيرُ الناس دينا

كنتَ في الدنيا أخاه

يوم يدعو الأقربينا

ليُجيبوهُ إلى اللّ

هِ فكانوا أربعينا

بين عمٍّ وابن عمٍ

حوله كانوا عرينا

فورثت العلمَ منه

والكتابَ المُستَبِينا

طِبْتَ كهلاً وغلاماً

ورضيعاً وجَنِينا

ولدى الميثاق طيناً

يوم كان الخلقُ طينا

كنت مأموناً وجيهاً

عند ذي العرشِ مَكينا

في حجاب النور حيّا

طيِّباً للطاهرينا (١)

وقوله من قصيدة لم نقف على تمامها :

من فضلِهِ أنّهُ قد كان أوّل من

صلّى وآمن بالرحمنِ إذ كفروا

سنين سبعاً وأيّاماً محرّمةً

مع النبيِّ على خوفٍ وما شعروا

ويومَ قالَ له جبريلُ قد علموا

أنذِرْ عشيرتَكَ الأدنَيْنَ إن بَصرُوا

فقامَ يدعوهمُ من دون أمّتهِ

فما تخلّفَ عنهُ منهمُ بَشَرُ

فمنهم آكلٌ في مجلس جَذَعاً

وشاربٌ مثل عُسٍ (٢) وهو مُحْتَضَرُ

فَصَدَّهم عن نواحي قَصْعةٍ شُبُعاً

فيها من الحَبِّ صاعٌ فوقه الوَذَرُ (٣)

فقال يا قوم إنَّ اللهَ أرسلني

إليكمُ فأجيبوا اللهَ وادَّكِروا

فأيُّكمْ يجتبي قولي ويؤمنُ بي

أنِّي نبيٌّ رسولٌ فانبرى غُدَرُ

فقال تبّا أتدعونا لتَلفِتَنا

عن ديننا ثمّ قام القومُ فاشتمروا

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٣ / ٤٢٧.

(٢) العُسُّ ـ بضم العين ـ : القدح أو الإناء الكبير ، والجمع عساس وأعساس. (المؤلف)

(٣) الوَذْرَةُ من اللحم : القطعة الصغيرة منه ، والجمع وذْر ووذَر. (المؤلف)

٣٩٢

من الذي قال منهمْ وهو أحدثُهمْ

سِنّا وخيرهم في الذِّكْر إذ سُطِروا

آمنتُ بالله قد أُعطيتَ نافلةً

لم يُعطَها أحدٌ جِنٌّ ولا بشرُ

وإنَّ ما قلتَهُ حقٌّ وإنّهمُ

إن لم يُجيبوا فقد خانوا وقد خسروا

ففاز قِدْماً بها والله أكرَمهُ

وكان سبّاقَ غاياتٍ إذا ابتدروا (١)

وقوله من قصيدة لم توجد بتمامها :

عليٌّ عليهِ رُدَّتِ الشمسُ مرّةً

بِطَيْبَةَ يومَ الوحي بعدَ مغيبِ

ورُدَّت له أخرى ببابلَ بعدَ ما

عفت وتدلّت عينُها لغرُوبِ

وقيلَ لهُ أنْذِر عشيرتَكَ الأولى

وهم من شبابٍ أربعين وشِيبِ

فقال لهم إنّي رسولٌ إليكمُ

ولست أراني عندكمْ بكَذوبِ

وقد جئتُكم من عند ربٍّ مُهيْمنٍ

جزيلِ العطايا للجزيلِ وَهوبِ

فأيُّكمُ يقفو مقالي فأمسَكوا

فقال : ألا من ناطقٍ فمجيبي

ففاز بها منهم عليٌّ وسادَهُمْ

وما ذاك من عاداتهِ بغريبِ

حديث بدء الدعوة

ص السنّة والتاريخ والأدب

أخرجه غير واحد من الأئمّة وحفّاظ الحديث من الفريقين في الصحاح والمسانيد ، ومرَّ عليه آخرون منهم ممّن يُعتدّ بقوله وتفكيره مخبتين له من دون أيِّ غمزٍ في الإسناد أو توقّف في متنه.

وتلقّاه المؤرِّخون من الأمّة الإسلاميّة وغيرها بالقبول ، وأُرسِل في صحيفة التاريخ إرسال المُسَلَّم ، وجاء منظوماً في أسلاك الشعر والقريض ، وسيوافيك في شعر الناشئ الصغير المتوفّى (٣٦٥) وغيره.

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٣ / ٤٢٣.

٣٩٣

لفظ الحديث :

أخرج الطبري في تاريخه (١) (٢ / ٢١٦) عن ابن حميد قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الغفّار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب ، عن عبد الله بن العبّاس ، عن عليّ بن أبي طالب قال :

«لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا عليُّ ، إنَّ الله أمرني أنْ أنذر عشيرتي الأقربين ، فضِقْتُ بذلك ذَرعاً ، وعرفت أنّي متى أُبادئهم بهذا الأمر أرَ منهم ما أكره ، فَصَمَتُّ عليه حتى جاء جبريل فقال : يا محمد إنّك إلاّ تفعلْ ما تُؤمرُ به يُعذِّبك ربُّك. فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رِجْل شاة واملأ لنا عُسّا من لبن ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتى أكلِّمهم وأبلِّغهم ما أُمِرت به.

ففعلتُ ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذٍ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ... فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حِذْيةً من اللحم فشقّها بأسنانه ثمّ ألقاها في نواحي الصُّحفَة ثمّ قال : خذوا بسم الله. فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلاّ موضع أيديهم ، وايمُ الله الذي نفس عليّ بيده وإن كان الرجل الواحد منهم لَيأكلُ ما قدّمتُ لجميعهم ، ثمّ قال : اسقِ القوم. فجئتهم بذلك العُسِّ فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، وايمُ الله إن كان الرجل الواحد منهم لَيَشرَبُ مثله ، فلمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلّمهم بَدَرهُ أبو لهب إلى الكلام ، فقال : لَقِدْماً سحركم صاحبُكم. فتفرّق القوم ولم يكلِّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الغد يا عليُّ ؛ إنَّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أُكلِّمهم ، فعُدْ لنا

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٢ / ٣١٩.

٣٩٤

من الطعام بمثل ما صنعت ثمّ اجمعهم إليَّ.

قال : ففعلت ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرَّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة. ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العُسّ فشربوا حتى روُوا منه جميعاً.

ثمّ تكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا بني عبد المطّلب ، إنّي والله ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوَكم إليه ، فأيُّكم يوازرُني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم؟

قال : فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت ـ وإنّي لأحدثهم سنّا ، وأرمصهم عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي ثمّ قال : إنَّ هذا أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.

قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع». وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلّم المعتزلي البغدادي : المتوفّى (٢٤٠) في كتابه نقض العثمانيّة (١) وقال : إنّه رُوي في الخبر الصحيح (٢)). ورواه الفقيه برهان الدين (٣) في أنباء نجباء الأبناء (ص ٤٦ ـ ٤٨) ، وابن الأثير في الكامل (٤) (٢ / ٢٤) ، وأبو الفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه (١ / ١١٦) ، وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا (٥) للقاضي عياض (٣ / ٣٧) ـ وبتر آخره ـ وقال : ذكر في

__________________

(١) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٢٦٣ [١٣ / ٢٤٤ خطبة ٢٣٨]. (المؤلف)

(٢) نقض العثمانية : ص ٣٠٣.

(٣) محمد بن محمد بن محمد بن ظفر المكّي المغربي المولود (٤٩٧) والمتوفّى (٥٦٥ ، ٥٦٧). (المؤلف)

(٤) الكامل في التاريخ : ١ / ٤٨٧.

(٥) نسيم الرياض : ٣ / ٣٥.

٣٩٥

دلائل البيهقي (١) وغيره بسند صحيح ، والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره (٢) (ص ٣٩٠) ، والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٣) (٦ / ٣٩٢) نقلاً عن الطبري وفي (ص ٣٩٧) عن الحفّاظ الستّة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (٤) (٣ / ٢٥٤). وذكره المؤرِّخ جرجي زيدان في تاريخ التمدّن الإسلامي (٥) (١ / ٣١) والأستاذ محمد حسين هيكل في حياة محمد (ص ١٠٤) من الطبعة الأولى.

ورجال السند كلّهم ثقاتٌ إلاّ أبا مريم عبد الغفّار بن القاسم ، فقد ضعّفه القوم وليس ذلك إلاّ لتشيّعه ، فقد أثنى عليه ابن عقدة وأطراه وبالغ في مدحه كما في لسان الميزان (٦) (٤ / ٤٣) ، وأسند إليه وروى عنه الحفّاظ المذكورون وهم أساتذة الحديث ، وأئمّة الأثر ، والمراجع في الجرح والتعديل ، والرفض والاحتجاج ، ولم يقذِف أحدٌ منهم الحديث بضعف أو غمز لمكان أبي مريم في إسناده ، واحتجّوا به في دلائل النبوّة والخصائص النبويّة.

وصحّحه أبو جعفر الإسكافي وشهاب الدين الخفاجي كما سمعت ، وحكى السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٧) (٦ / ٣٩٦) تصحيح ابن جرير الطبري له. على أنّ الحديث ورد بسندٍ آخر رجاله كلّهم ثقات كما يأتي ، أخرجه أحمد في مسنده (٨) (١ / ١١١) بسند رجاله كلهم من رجال الصحاح بلا كلام وهم : شريك ،

__________________

(١) دلائل النبوّة : ٢ / ١٧٨ ـ ١٨٠.

(٢) تفسير الخازن : ٣ / ٣٧١.

(٣) كنز العمّال : ١٣ / ١٢٨ ح ٣٦٤٠٨ ، ص ١٣١ ح ٣٦٤١٩.

(٤) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢١٠ خطبة ٢٣٨.

(٥) مؤلّفات جرجي زيدان الكاملة ـ تاريخ التمدّن الإسلامي ـ : ١١ / ٤٥.

(٦) لسان الميزان : ٤ / ٥١ رقم ٥٢٢٩.

(٧) كنز العمّال : ١٣ / ١٢٨ ح ٣٦٤٠٨.

(٨) مسند أحمد : ١ / ١٧٨ ح ٨٨٥.

٣٩٦

الأعمش ، المنهال ، عبّاد.

وليس من العجيب ما هملج به ابن تيميّة من الحكم بوضع الحديث فهو ذلك المتعصِّب العنيد ، وإنَّ من عادته إنكار المسلّمات ، ورفض الضروريات ، وتحكّماته معروفةٌ ، وعرف منه المنقِّبون أنّ مدار عدم صحّة الحديث عنده هو تضمّنه فضائل العترة الطاهرة.

صورة أخرى :

«جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطّلب فيهم رهطٌ كلُّهم يأكل الجَذَع ويشرب الفَرَق (١) ، قال : فصنع لهم مدّا من طعام فأكلوا حتى شَبِعوا قال : وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يُمس ، ثمّ دعا بغُمَر (٢) فشربوا حتى روُوا وبقي الشراب كأنّه لم يُمسّ. أو : لم يُشرب. ثمّ قال : يا بني عبد المطّلب ، إنّي بُعثت إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة وقد رأيتم من هذا الأمر ما رأيتم ، فأيُّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي؟ فلم يقُم إليه أحدٌ ، فقمتُ إليه وكنتُ أصغر القوم ، قال : فقال : إجلس. قال : ثمّ قال ثلاث مرّات ، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي : إجلس. حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي».

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٣) (١ / ١٥٩) عن عفّان بن مسلم الثقة المترجَم له [في] (٤) (١ / ٨٦) ، عن أبي عوانة الثقة المترجم له [في] (٥) (١ / ٧٨) ، عن عثمان بن المغيرة الثقة ، عن أبي صادق مسلم الكوفي الثقة ، عن ربيعة بن ناجذ التابعيِّ الكوفي الثقة ، عن عليٍّ أمير المؤمنين.

__________________

(١) الفَرَق : مكيال واسع يُكال به اللبن. (المؤلف)

(٢) الغُمَر : القدح.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٢٥٧ ح ١٣٧٥.

(٤) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

(٥) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

٣٩٧

وبهذا السند والمتن أخرجه الطبري في تاريخه (١) (١ / ٢١٧) ، والحافظ النسائي في الخصائص (٢) (ص ١٨) ، وصدر الحفّاظ الكنجي الشافعي في الكفاية (٣) (ص ٨٩) ، وابن أبي الحديد في شرح النهج (٤) (٣ / ٢٥٥) ، والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٥) (٦ / ٤٠٨).

صورة ثالثة :

عن أمير المؤمنين قال : «لمّا نزلت هذه الآية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا بني عبد المطّلب وصنع لهم طعاماً ليس بالكثير فقال : كلوا باسم الله من جوانبها فإنَّ البركة تنزل من ذروتها. ووضع يده أوّلَهم فأكلوا حتى شَبِعوا ، ثمّ دعا بقدح فشرب أوّلهم ثمّ سقاهم فشربوا حتى روُوا ، فقال أبو لهب : لَقِدْماً سحركم!.

وقال : يا بني عبد المطّلب إنّي جئتكم بما لم يجئ به أحدٌ قطُّ ، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وإلى الله وإلى كتابه. فنفروا وتفرَّقوا ، ثمّ دعاهم الثانية على مثلها ، فقال أبو لهب كما قال المرّة الأولى ، فدعاهم ففعلوا مثل ذلك ، ثمّ قال لهم ومدَّ يده : من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووليّكم من بعدي؟ فمددت يدي وقلت : أنا أُبايعك ، وأنا يومئذٍ أصغر القوم عظيم البطن ، فبايعني على ذلك. قال : وذلك الطعام أنا صنعته».

أخرجه الحافظ ابن مردويه بإسناده ، ونقله عنه السيوطي في جمع الجوامع كما في الكنز (٦) (٦ / ٤٠١).

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٢ / ٣٢١.

(٢) خصائص أمير المؤمنين : ص ٨٣ ح ٦٦ ، وفي السنن الكبرى : ٥ / ١٢٥ ح ٨٤٥١.

(٣) كفاية الطالب : ص ٢٠٦.

(٤) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢١٠ خطبة ٢٣٨.

(٥) كنز العمّال : ١٣ / ١٧٤ ح ٣٦٥٢٠.

(٦) كنز العمّال : ١٣ / ١٤٩ ح ٣٦٤٦٥.

٣٩٨

صورة رابعة :

بعد ذكر صدر الحديث :

«ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني عبد المطّلب إنَّ الله قد بعثني إلى الخلق كافّة وبعثني إليكم خاصّة ، فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّي رسول الله. فمن يُجيبني (١) إلى هذا الأمر ويوازرني يكن أخي ووزيري ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي. فلم يُجِبْه أحدٌ منهم ، فقام عليٌّ وقال : أنا يا رسول الله. قال : اجلس. ثمّ أعاد القول على القوم ثانياً فَصَمَتوا ، فقام عليٌّ وقال : أنا يا رسول الله. فقال : اجلس. ثمّ أعاد القول على القوم ثالثاً فلم يُجبه أحدٌ منهم فقام عليٌّ فقال : أنا يا رسول الله. فقال : اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي».

أخرج الحافظان ابن أبي حاتم والبغوي ، ونقله عنهما ابن تيميّة في منهاج السنّة (٤ / ٨٠) وعنه الحلبي في سيرته (٢) (١ / ٣٠٤).

صورة خامسة :

مرَّ (ص ١٠٧) في حديث قيس ومعاوية فيما رواه التابعيُّ الكبير أبو صادق الهلالي في كتابه (٣) عن قيس : فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميع بني عبد المطّلب فيهم : أبو طالب وأبو لهب وهم يومئذٍ أربعون رجلاً فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخادمه عليٌّ عليه‌السلام ورسول الله في حِجر عمِّه أبي طالب.

فقال : «أيُّكم ينتَدِبُ أن يكون أخي ووزيري ووصيِّي وخليفتي في أمّتي ووليَ

__________________

(١) كذا في منهاج السنّة بالرفع وإثبات الياء ، وحقّه الجزم وحذف الياء لالتقاء الساكنين ؛ لأنّه فعل الشرط الجازم.

(٢) السيرة الحلبية : ١ / ٢٨٦.

(٣) كتاب سليم بن قيس : ٢ / ٧٧٩ ح ٢٦.

٣٩٩

كلِّ مؤمن بعدي؟ فسكتَ القوم حتى أعادها ثلاثاً ، فقال عليٌّ : أنا يا رسول الله صلّى الله عليك ، فوضع رأسه في حِجره وتَفَل في فيه ، وقال : اللهمّ املأ جوفه علماً وفهماً وحُكماً. ثمّ قال لأبي طالب : يا أبا طالب اسمع الآن لابنك وأطِع ؛ فقد جعله الله من نبيِّه بمنزلة هارون من موسى».

صورة سادسة :

أخرج أبو إسحاق الثعلبي المتوفّى (٤٢٧ ، ٤٣٧) المترجم له (١ / ١٠٩) في تفسيره الكشف والبيان (١) ، عن الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدَّثنا موسى بن محمد ، حدّثنا الحسن بن عليِّ بن شعيب (٢) العمري ، حدّثنا عبّاد بن يعقوب ، حدّثنا عليّ بن هاشم عن صباح بن يحيى المُزَني عن زكريا بن ميسرة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال :

«لمّا نزلت هذه الآية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطّلب ، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً ، الرجل منهم يأكل المُسِنَّة ويشرب العُسَّ ، فأمر عليّا برِجْل شاة فأدَمَها ثمّ قال : ادنوا بسم الله. فدنا القوم عشرةً عشرةً فأكلوا حتى صدروا ، ثمّ دعا بقَعبٍ من لبنٍ فجرع منه جرعة ، ثمّ قال لهم : اشربوا باسم الله. فشربوا حتى رووا. فَبَدرهم أبو لهب فقال : هذا ما سَحَركم به الرجل!. فسكت يومئذٍ ولم يتكلّم. ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثمّ أنذَرَهُم رسول الله فقال : يا بني عبد المطّلب إنّي أنا النذير إليكم من الله عزّ وجلّ والبشير ، فأسلِموا وأطيعوني تهتدوا. ثمّ قال : من يُؤاخيني ويوازرُني ويكون وليّي ووصيّي بعدي وخليفتي في أهلي يقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثاً ، كلُّ ذلك يسكت القوم ويقول عليٌّ : أنا. فقال في المرّة الثالثة : أنت. فقام القوم وهم يقولون لأبي

__________________

(١) الكشف والبيان : الورقة ١٦٣ سورة الشعراء : آية ٢١٤.

(٢) في كفاية الكنجي : شبيب. (المؤلف)

٤٠٠