الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

طالب : أطع ابنك ؛ فقد أُمِّر عليك».

وبهذا السند والمتن أخرجه صدر الحفّاظ الكنجي الشافعي في الكفاية (١) (ص ٨٩) ، وجمال الدين الزرَندي في نظم درر السمطين (٢) بتغيير يسير في لفظه.

صورة سابعة :

أخرج أبو إسحاق الثعلبي في الكشف والبيان (٣) عن أبي رافع وفيه : «ثمّ قال : إنَّ الله تعالى أمَرني أن أُنذِرَ عشيرتي الأقربين ، وأنتم عشيرتي ورهطي ، وإنَّ الله لم يبعث نبيّا إلاّ جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووارثاً ووصيّاً وخليفةً في أهله ، فأيُّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي ووزيري ووصيِّي ويكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟ فسكت القوم فقال : لَيَقومنَّ قائمُكم أو لَيَكونَنَّ في غيركم ثمّ لَتَندَمُنَّ. ثمّ أعاد الكلام ثلاث مرّات ، فقام عليٌّ فبايعه وأجابه ثمّ قال : ادنُ منّي. فدنا منه ففتح فاه ومجَّ في فيه من ريقه وتَفَل بين كتفيه وثدييه ، فقال أبو لهب : فبئس ما حَبَوْتَ به ابن عمِّك أن أجابك فملأت فاه ووجهه بُزاقاً. فقال صلى الله عليه وسلم : ملأتهُ حكمةً وعلماً».

وفي كتاب الشهيد الخالد الحسين بن عليّ ، تأليف الاستاذ حسن أحمد لطفي ، قال في (ص ٩): إنَّ النبيَّ ، على ما رواه كثيرون ، لمّا جمع أعمامهُ وأُسرتَه ليُنذِرَهم قال لهم : «فأيُّكم يوازِرُني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟. فأحجم الجميع إلاّ عليّا وكان أصغرهم. فقال : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك عليه.

فأخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برقبته ثمّ قال : هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا».

__________________

(١) كفاية الطالب : ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) نظم درر السمطين : ص ٨٣.

(٣) الكشف والبيان : الورقة ١٦٣ سورة الشعراء : آية ٢١٤.

٤٠١

وفي كتاب محمد (١) تأليف توفيق الحكيم (ص ٥٠): «ما أعلم إنساناً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني ربِّي أن أدعوَكم إليه ، فأيُّكم يُوازِرُني على هذا الأمر ، وأن يكون أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم؟» قريش : لا أحد ، لا أحد. أعرابيٌّ : نعم لا أحد يُوازرك على هذا حتى ولا كلب الحيِّ!. عليٌّ : «أنا يا رسول الله عونُك ، أنا حربٌ على من حاربتَ».

وذكر الحديث الصحافيّ القدير عبد المسيح الأنطاكيّ المصريّ (٢) في تعليقه على علويّته المباركة (ص ٧٦) ولفظ الحديث فيه : «فمن يُجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني على القيام به يكن أخي ووزيري وخليفتي من بعدي». فلم يُجِبه أحدٌ من بني عبد المطّلب إلاّ عليّ ، وكان أحدثهم سنّا.

فقال : «أنا يا رسول الله. فقال المصطفى : اجلس. ثمّ أعاد القول ثانياً فصمت القوم ، وأجاب عليٌّ : أنا يا رسول الله. فقال المصطفى : اجلس ، ثمّ أعاد القول ثالثاً فلم يكن في بني عبد المطّلب من يُجيبه غير عليٍّ. فقال : أنا يا رسول الله.

حينئذٍ قال المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ : اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيِّي ووارثي وخليفتي من بعدي. فمضى القوم».

ونظم هذه الإثارة بقوله من قصيدته المذكورة :

وتلك بِعثَتُه الزهراءُ عليه صلا

ةُ الله للخلْقِ عَربِيها وعَجمِيها

فصار يدعو إليها من توسَّمَ في

ه الخير سِرّا وخوفُ الشر يُخفيها

بذا ثلاثةَ أعوامٍ قضى وله

قد دان بعض قريشٍ واهتدَوا فيها

وبعدَها جاءَهُ جبريلُ يأمرُهُ

بأن يُجاهِرَ بالإسلامِ مُجريها

وقال فاصدع بأمرِ اللهِ إنكَ مب

عوثٌ لتدعو إليهِ الناسَ تَهديها

__________________

(١) كتاب محمد رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم : ص ٢٧.

(٢) أحد شعراء الغدير في القرن الرابع عشر ، تأتي هناك ترجمته. (المؤلف)

٤٠٢

أنْذِرْ عَشيرتَكَ الدنيا بشِرْعَتِك ال

غرّا وأظهرْ لها أسنى معانيها

وَمُذْ تُبَلَّغُ أمرَ اللهِ هِمَّ به

بهمّةٍ ما اعتدا الكفّارِ يَثنيها

ولم يَجِدْ عَضُداً كي يستعينَ به

على مُجاهرةٍ قد كان خاشيها

إلاّ العليَّ فناداهُ وأخبرَه

ببغيةٍ حسبَ أمرِ اللهِ باغيها

وقال هيِّئ لنا في الحال مأدُبةً

وَلْيُتْقِنَنَّ لها الألوانَ طاهيها

فَرِجْلُ شاةٍ على صاع الطعام وأع

ساسٌ لها اللبنُ النوقيُّ يُمليها

وادعُ الهواشمَ باسمي كي أُشافِهَها

بأمرِ ربِّيَ باريّ وباريها

قام العليُّ بأمرِ المصطفى ودعا

إلى وليمتِهِ أكرِمْ بداعيها

أبناءَ هاشم هم كانوا عشيرتَهُ

ولم يكنْ فيهمُ إلاّ مُلَبِّيها

وعَدُّهمْ كان عند الأربعين وهمْ

رجّالة العُرْبِ في إحصاءِ مُحصيها

هذي عشيرة طه بل قرابتُهُ ال

دنيا التي كان للإسلامِ راجيها

وإذ أتتْهُ تلقّاها على رَحِبٍ

ببِشرِهِ وانثنى صفواً يُحيّيها

حتى إذا ما استوى فيها المقامُ لها

مدَّ السِّماط وفيه ما يُشهِّيها

فأقبلتْ ورسول الله يخدمُها

على الطعامِ ويُعنى كي يُهنِّيها

حتى إذا أكَلتْ ذاك الطعامَ ومِن

ألبانِهِ سُقِيَتْ واللهُ كافيها

ظلَّ الطعامُ كما قد كان وهو واي

مُ اللهِ ما كان يكفي مُستجيعيها

وتلك معجزةٌ للمصطفى وبها

قام العليُّ وعنه نحن نَروِيها

وثَمَّة ابتدرَ القومَ الرسولُ بذك

رى يُمْنِ بعثتهِ يُبدِي خَوافيها

وإذ أبو لَهَبٍ في الحالِ قاطَعَه

وموّه الحقّ بالتضليل تمويها

وقال يا ناس طه جاء يسحركم

بذا الطعامِ احذروا الإضلال والتِّيها

هيّا انهضوا ودعوهُ أن يَغُشَّ نفو

س الغيرِ في هذه الدعوى ويُصبِيها

وهكذا ارْفَضَّ ذاك الاجتماعُ وأن

فسَ الجَمْع داجي الكفر غاشيها

وعادَ طه إلى تِكرارِ دعوَتِهِ

وكان حيدرةُ المِقْدامُ راعيها

٤٠٣

حتى إذا اجتمعت للأكلِ ثانيةً

على الخِوان انثنى طه يُفاهيها

فقال ما جاء قبلي قومَهُ أحَدٌ

بمثلما جئت من نعماءَ أُسديها

لكمْ بها الخيرُ في دنيا وآخِرةٍ

إذا انضويتُمْ إلى زاهي مَغانِيها

فَمَنْ يوازرُني منكم فذاكَ أخي

وذاكَ يُخلِفُني في رَعي نامِيها

فلم يَجِدْ من لبيبٍ راحَ مقتنعاً

بصدْقِ بعثتِهِ أو راحَ راضيها

وكلّما ازدادَ تِبياناً لبعثتِهِ ال

زهراءِ زادتْهُ تكذيباً وتَسْفيها

وثَمَّ بو لَهَبٍ ناداهُ : ويْلَكَ لم

يَجئْ فتىً قومه ما جِئْتَنا إيها

تَبَّتْ يداهُ فإنَّ الجهل توّههُ

والكفرَ في دركات النار تتويها

وكرَّرَ المصطفى أقوالَهُ عَلَناً

وقد توسَّعَ إنذاراً وتنبيها

فما رأى غيرَ ألبابٍ مُحَجَّرَةٍ

هيهاتَ ليس يُلينُ النُّصحُ قاسِيها

وأنْفُساً عن كتاب الله مُعْرِضةً

والكفر قد كانَ والإشراك مُعْمِيها

وأحْجَمَتْ كُلُّها عن فَيْضِ رحمتِهِ

مع يُمْنِ دعوتِهِ فالكلُّ آبيها

إلاّ العليَّ فنادى دونها : فأنا

نُعْماك يا هاديَ الأكوانِ باغيها

نادى أن اجلسْ ثلاثاً وهو يَعرِضُ دع

واهُ على القومِ يَبغي مُسْتَجيبيها

حتى إذا باتَ مأيوساً ومُنزعجاً

من الهواشم معيىً عن ترضِّيها

عنها تولّى إلى حيثُ العليّ مُنَوِّ

هاً بهِ بين ذاك الجَمْع تنويها

وكانَ ماسِكَهُ من طَوْقِ رَقْبَتِهِ

يقول : هذا لها واللهُ يَحْميها

وقال هذا أخي ذا وارثي وخلي

فتي على أمّتي يَحْمي مراعيها

وقال فرضٌ عليكمْ حُسْنُ طاعتِهِ

بعدي وإمرتُه ويلٌ لعاصيها

فارْفضَّ جَمْعُهمُ والهُزءُ آخِذُهُمْ

إلى الغِوايةِ في أدجى دياجيها

وهم يقولون أحكامُ الغلام عل

يٍّ يا أبا طالبٍ كن من مطيعيها

كذاك حيدرةٌ ماشى النبوّة مُذْ

نادى بها المصطفى لَبّى مُناديها

وشارك المصطفى من يوم أن وَضَع الأ

ساسَ حتى انتهتْ عُلْيا مَبانيها

٤٠٤

كلمة الإسكافي حول الحديث

في كتابه ـ النقض على العثمانية ـ

قل بعد ذكر الحديث باللفظ المذكور (ص ٢٧٨) : فهل يُكَلَّفُ عملَ الطعام ودُعاءَ القوم صغيرٌ غير مميِّز وغِرٌّ غير عاقل؟ وهل يؤتمَن على سرِّ النبوَّة طفلٌ ابن خمس سنين أو ابن سبع سنين؟ وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلاّ عاقلٌ لبيبٌ؟ وهل يضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده في يده ويُعطيه صَفقة يمينِهِ بالأخوَّة والوصيّة والخلافة إلاّ وهو أهلٌ لذلك ، بالغ حدّ التكليف ، محتملٌ لولاية الله وعداوة أعدائه؟

وما بالُ هذا الطفل لم يأنس بأقرانه؟ ولم يلصق بأشكاله؟ ولم يُرَ مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه ، وهو كأحدِهم في طبقته ، كبعضهم في معرفته؟ وكيف لم ينزَع إليهم في ساعةٍ من ساعاته؟ فيقال : وعاه بعضُ الصّبا ، وخاطرٌ من خواطر الدنيا ، وحملته الغِرَّة والحدْثة على حضور لهوهم والدخول في حالهم ، بل ما رأيناه إلاّ ماضياً على إسلامه ، مصمِّماً في أمره ، محقّقاً لقوله بفعله ، قد صدَّق إسلامه بعَفافه وزهده ، ولصق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين جميع من بحضرته ، فهو أمينهُ وأليفُه في دنياه وآخرته ، وقد قهر شهوته ، وجاذب خواطره ، صابراً على ذلك نفسه ، لِما يرجو من فوز العاقبة وثواب الآخرة ، وقد ذكر هو عليه‌السلام في كلامه وخطبه بدء حاله وافتتاح أمره ، حيث أسلم لمّا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشجرة فأقبلت تَخِد الأرض ، فقالت قريش : ساحرٌ خفيف السحر.

فقال عليٌّ عليه‌السلام : «يا رسول الله؟ أنا أوّل من يُؤمن بك ، آمنتُ بالله ورسوله وصدَّقتُك فيما جئتَ به ، وأنا أشهدُ أنّ الشجرة فعلتْ ما فعلتْ بأمر الله تصديقاً لنبوّتك وبُرهاناً على دعوتك».

فهل يكون إيمانٌ قطُّ أصحّ من هذا الإيمان وأوثق عقدة وأحكم مِرَّة؟ ولكن حَنَق العثمانيّة وغيظهم وعصبيّة الجاحظ وانحرافه ممّا لا حيلة فيه.

٤٠٥

جنايات على الحديث

منها : ما ارتكبه الطبري في تفسيره (١) (١٩ / ٧٤) فإنّه بعد روايته له في تاريخه كما سمعت ، قلب عليه ظهر المِجنِّ في تفسيره فأثبته برمّته حرفيّا متناً وإسناداً ، غير أنّه أجملَ القول فيما لهج به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل من يبادر إلى تلقّي الدعوة بالقبول ، قال : فقال : «فأيُّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا؟».

وقال في كلمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخيرة : ثمّ قال : «إنَّ هذا أخي وكذا وكذا». وتبعه على هذا التقلّب ابن كثير الشامي في البداية والنهاية (٢) (٣ / ٤٠) وفي تفسيره (٣ / ٣٥١) فعل ابن كثير هذا ، وثقل عليه ذكر الكلمتين وبين يديه تاريخ الطبري وهو مصدره الوحيد في تاريخه وقد فصّل فيه الحديث تفصيلاً. لأنّه لا يروق له إثبات النصّ لأمير المؤمنين بالوصيّة والخلافة الدينيّة ، والدلالة عليه والإشارة إليه. وهل هذه الغاية مقصد الطبري حينما حرَّف الكلم عن مواضعه في التفسير بعد ما جاء به صحيحاً في التاريخ على حين غفلة عنها؟ أنا لا أدري ، لكن الطبري يدري!. وأحسبك أيّها القارئ جدَّ عليم بذلك.

ومنها : خزاية فاضحة تحمّلها محمد حسين هيكل حيث أثبت الحديث كما أوعزنا إليه في الطبعة الأولى من كتابه حياة محمد (٣) (ص ١٠٤) بهذا اللفظ :

ونزل الوحي (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (٤) ، (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ). ودعا محمد عشيرته إلى طعام في بيته ، وحاول أن يُحدِّثهم داعياً إيّاهم

__________________

(١) جامع البيان : مج ١١ / ج ١٩ / ١٢٢.

(٢) البداية والنهاية : ٣ / ٥٣.

(٣) حياة محمد : ص ١٥٨.

(٤) الحِجر : ٨٩. وفي الطبعات اللاحقة يثبت هيكل الآية (٢١٦) من سورة الشعراء مكان هذه الآية.

٤٠٦

إلى الله فقطع عمّه أبو لهب حديثه ، واستنفر القوم ليقوموا. ودعاهم محمد في الغداة كرّة أخرى.

فلمّا طعموا قال لهم : «ما أعلم إنساناً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به. قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني ربّي أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر وأن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟». فأعرضوا عنه وهمّوا بتركه ، لكنّ عليّا نهض وما يزال صبيّا دون الحُلُم وقال : «أنا يا رسول الله عونك. أنا حرب على من حاربت». فابتسم بنو هاشم وقهقهَ بعضهم وجعل نظرهم يتنقّلُ من أبي طالب إلى ابنه ثمّ انصرفوا مستهزئين. انتهى.

فإنّه أسقط من الحديث أوّلاً ما فرّع به رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه من قوله لعليّ : «فأنت أخي ووصيّي ووارثي». ثمّ نسب إلى أمير المؤمنين ثانياً أنّه قال : «أنا يا رسول الله عونك. أنا حربٌ على من حاربت». ليته دلَّنا على مصدر هذه النسبة في لفظ أيِّ مُحدّث أو مؤرِّخ من السلف؟ وراقه أن يحكم في الحضور في تلك الحفلة بتبسُّم بني هاشم وقهقهة بعضهم ، ولم نجد لهذا التفصيل مصدراً يُعَوَّل عليه.

ومهما لم يجد هيكل وراءه من يأخذه بمقاله ، ولم يرَ هناك من يُناقشه الحساب في تقوُّلاته وتصرُّفاته أسقط منه ما يرجع إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في الطبعة الثانية سنة (١٣٥٤) (ص ١٣٩) ، ولعلّ السرَّ فيه لفتة منه إلى غاية ابن كثير وأمثاله بعد النشر ، أو أنّ اللغط والصخب حول القول قد كثرا عليه هناك من مناوئي العترة الطاهرة ، فأخذته أمواج اللوم والعتب حتى اضطرّته إلى الحذف والتحريف. أو أنّ العادة المطّردة في جملة من المطابع عاثت في الكتاب فغضَّ عنها الطرف صاحبه لاشتراكه معها في المبدأ أو عجزه عن دفعها. وعلى أيٍّ فحيّا الله الشعور الحيَّ ، والأمانة الموصوفة ، والحقَّ المضاع المأسوف عليه.

أسفي على بسطاء الأمّة الإسلاميّة واعتنائهم بمثل هذه الكتب المشحونة بزُخرف

٤٠٧

القول وأباطيل الكَلِم المموّهة وقد جاءت بذات الرعد والصليل (١) ، وسيل بالأمّة وهي لا تدري (٢). ثمّ أسفي على مصر وحملة علمها المتدفّق ، وعلى تآليفها القيِّمة ، وكتّابها النزهاء ، فإنّها راحت ضحيّة تلكم الشهوات والميول ، ضحيّة تلكم النفوس الخائرة ، ضحيّة تلكم الكفريّات المبيدة للمجتمع ، ضحيّة تلكم الأقلام المستأجرة وقد اتّخذت الباطل دَغَلاً ، وشَغَرَتْ لها الدنيا برجلها (٣).

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

(وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٤)

__________________

(١) مثل يضرب لمن جاء بشرّ وعْر [مجمع الأمثال : ١ / ٣١٤ رقم ٩٣٩]. (المؤلف)

(٢) مثل يضرب للساهي الغافل [مجمع الأمثال : ٢ / ١٢٣ رقم ١٨٣١]. (المؤلف)

(٣) يضربُ لمن ساعدته الدنيا فنال منها حَظَّه [مجمع الأمثال : ٢ / ١٧٩ رقم ٢٠٢٠]. (المؤلف)

(٤) الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤.

٤٠٨

٨ ـ

العبدي الكوفي

هل في سؤالِك رسمَ المنزلِ الخَرِبِ

بُرءٌ لقلبك من داءِ الهوى الوَصِبِ

أمْ حَرُّهُ يوم وَشْكِ البَيْنِ يُبْرِدُهُ

ما اسْتَحْدَثَتْه النوى من دمعِك السَرِبِ

هيهات أن ينفدَ الوجد المثير له

نأي الخليط الذي ولّى ولم يَؤُبِ

يا رائد الحيِّ حسبُ الحيِّ ما ضَمِنَتْ

له المدامعُ من ماءٍ ومن عُشُبِ

ما خِلتُ من قبل أن حالت نوىً قَذَفٌ

أنّ العيون لهم أهمى (١) من السُحُبِ

بانوا فَكم أطْلَقوا دمعاً وكم أسَرُوا

لُبّا وكم قَطَعوا للوصلِ من سَبَبِ

من غادرٍ لم أكن يوماً أسِرُّ له

غَدْراً وما الغدر من شأن الفتى العربي

وحافظُ العهدِ يُبدي صَفْحَتَي فَرَحٍ

للكاشحين (٢) ويُخفي وجْدَ مُكتَئِبِ

بانوا قِباباً وأحباباً تصونُهُمُ

عن النواظر أطرافُ القنا السلبِ

وخلّفوا عاشقاً مُلقىً رمى خَلَساً

بطرفه خِدْرَ مَنْ يهوى فلم يُصِبِ

لهفي لما استودِعَتْ تلك القبابُ وما

حَجَبْنَ من قُضُبٍ عنّا ومن كُثُبِ

من كلِّ هيفاءِ أعطافٍ هضيمِ حَشاً

لعساءِ (٣) مرتَشَفٍ غَرّاءِ مُنتقِبِ

كأنّما ثَغرُها وهناً وريقَتُها

ما ضمَّتِ الكاسُ من راحٍ ومن حَبَبِ

__________________

(١) همى يهمي همياً : سال. هَمَت العين : صَبَّت دمعتها. (المؤلف)

(٢) كاشح فلاناً كِشاحاً ومكاشحة ، وكشح له كَشْحاً : عاداه. (المؤلف)

(٣) اللعْس : سوادُ مستحسن في الشفة. (المؤلف)

٤٠٩

وفي الخدورِ بدورٌ لو بَرَزن لنا

برّدن كلّ حشاً بالوَجْدِ مُلتهبِ

وفي حشاي غليلٌ بات يَضرِمُهُ

شوقٌ إلى بَرْد ذاك الظَلْم والشنَبِ (١)

يا راقد اللوعةِ اهبُبْ (٢) من كَراكَ فقدْ

بان الخليط ويا مُضنى الغَرامِ ثُبِ

أما وعصرِ هوىً دبَّ العزاء له

ريب المنون وغالته يد النُوَبِ

لأشرَقَنَ (٣) بدمعي إن نأتْ بِهُمُ

دارٌ ولم أقضِ ما في النفس من إربِ

ليس العجيب بأن لم يبقَ لي جَلَدٌ

لكنْ بقائي وقد بانوا من العجبِ

شِبْتُ ابنَ عشرين عاماً والفراقُ لهُ

سهمٌ متى ما يُصِبْ شملَ الفتى يَشِبِ

ما هزّ عَطْفيَ من شوقٍ إلى وطني

ولا اعتَرانيَ من وَجْدٍ ومن طَرَبِ

مثل اشتياقيَ من بُعْدٍ ومُنتزَحٍ

إلى الغريِّ وما فيهِ من الحَسَبِ

أزكى ثرىً ضَمَّ أزكى العالمين فذا

خيرُ الرجال وهذا أشرفُ التُرُبِ

إن كان عن ناظري بالغَيْبِ محتجباً

فإنّه عن ضميري غيرُ محتجِبِ

إلى أن يقول :

يا راكباً جَسْرةً تطوي مناسِمها

مَلاءَة البِيد بالتقريب والجَنَبِ (٤)

تُقَيِّدُ المُغْزِلَ الأدْماءَ في صَعَدٍ

وتطلَح الكاسر الفَتْخاء في صَبَبِ (٥)

تُثني الرياح إذا مرّت بغايتها

حسرى الطلائح بالغِيطان والخَرِبِ

بلّغ سلاميَ قبراً بالغَرِيِّ حوى

أوفى البَرِيَّةِ من عُجمٍ ومن عَرَبِ

__________________

(١) الظَلْم بالفتح : ماء الأسنان وبريقها. الشنَب : بياض الأسنان وحُسنها. (المؤلف)

(٢) أهَبّهَ من نومِه : أيقظه. (المؤلف)

(٣) أشْرَقَه بريقه : أي أغصَّهَ ومنَعَه التنفس. (المؤلف)

(٤) جنبه جنْباً جنَباً : أبعده ونحّاه. (المؤلف)

(٥) المُغْزِل : من أغزَلت الظبية إذا ولَدَت الغزال. الأدم من الظِّباء : البيض تعلوهن طرائق فيهن غُبرة. طَلَح : أتعَب وأعيا. الكاسر : العُقاب. الفتخاء : الليّنة الجناح. الصَّبَبَ : ما انحدر من الأرض. (المؤلف)

٤١٠

وأجعلْ شِعارَكَ للهِ الخشوعَ بهِ

ونادِ خيرَ وصيٍّ صِنْو خيرِ نبي

اسمع أبا حسنٍ إنَّ الأُلى عَدَلوا

عن حُكْمك انقلبوا عن شرِّ مُنقَلَبِ

ما بالُهمْ نكبوا نهجَ النجاة وقد

وضَّحتَهُ واقْتَفَوا نهجاً من العَطَبِ (١)

ودافعوك عن الأمر الذي اعْتَلَقَتْ

زِمامَهُ من قُريشٍ كَفُّ مُغتصِبِ

ظلّت تُجاذبها حتى لقد خَرَمتْ

خَشَاشها تَرِبَتْ من كفِّ مُجتذِبِ (٢)

وكان بالأمس منها المُستقيل فَلِمْ

أرادَها اليوم لو لم يأتِ بالكَذِبِ

وأنتَ توسِعُهُ صَبْراً على مَضَضٍ

والحِلْمُ أحسَنُ ما يأتي مع الغَضَبِ

حتى إذا الموتُ ناداهُ فأسْمَعَهُ

والموتُ داعٍ متى يَدْعُ امرءاً يُجبِ

حَبَا بِها آخَراً فاعتاض محتقِباً (٣)

منه بأفظع محمولٍ ومحتقِبِ

وكان أوّل من أوصى ببيعته

لك النبيُّ ولكن حال من كَثَبِ

حتى إذا ثالثٌ منهمْ تَقَمَّصَها

وقد تبدَّلَ منها الجدُّ باللعبِ

عادت كما بُدِئت شوهاءَ جاهلةً

تَجُرُّ فيها ذِئابٌ أكْلَةَ الغَلَبِ

وكان عنها لهم في خُمّ مُزْدَجَرٌ

لمّا رَقَى أحمدُ الهادي على قَتَبِ

وقال والناسُ من دانٍ إليه ومن

ثاوٍ لديه ومن مُصْغٍ ومرْتَقِبِ

قُمْ يا عليُّ فإنّي قدْ أُمرتُ بأنْ

أُبلّغ الناس والتبليغُ أجدَرُ بي

إنّي نصبتُ عليّا هادياً عَلَماً

بعدي وإنَّ عليّا خيرُ مُنتصَبِ

فبايعوك وكلٌّ باسطٌ يدَهُ

إليك من فوق قلبٍ عنكَ مُنقَلِبِ

عافُوك لا مانعٌ طَولاً ولا حَصِرٌ

قولاً ولا لَهجٌ بالغِشِّ والريَبِ

وكنتَ قُطْبَ رحى الإسلامِ دونَهمُ

ولا تدور رحىً إلاّ على قُطُبِ

ولا تُماثِلُهمْ في الفضلِ مرتبةً

ولا تُشابههُمْ في البيتِ والنَسَبِ

__________________

(١) العَطَبَ : الهلاك. (المؤلف)

(٢) خَرَم الخرزة : فَصَمها ، شق وترة الأنف. الخشاشة : عود يجعل في أنف الجمل. (المؤلف)

(٣) اعتاض : أخذ بَدَلاً وخَلَفا. احتقب : أركبه وراءه. (المؤلف)

٤١١

إن تلْحَظِ القِرْنَ والعَسَّالُ في يدِهِ

يَظَلَّ مضطرباً في كفِّ مُضطربِ

وإن هَزَزْتَ قناةً ظَلْتَ تُورِدُها

وريدَ ممتنعٍ في الرَوع مُجتنبِ

ولا تَسُلُّ حُساماً يومَ مَلحَمةٍ

إلاّ وتحجُبُه في رأسِ محتجبِ

كيومِ خيبرَ إذ لمْ يمتنعْ زُفَرٌ

عن اليهودِ بغير الفَرِّ والهرَبِ

فأغضبَ المصطفى إذ جرَّ رايتَهُ

على الثرى ناكِصاً يهوي على العَقِبِ

فقال إنّي سأُعطيها غداً لفتىً

يُحِبُّهُ اللهُ والمبعوثُ مُنْتَجَبِ

حتى غدوتَ بها جذلانَ تَحمِلُها

تِلقاءَ أرعنَ من جَمْعِ العدى لَجِبِ (١)

جَمُّ الصلادمِ والبيضِ الصوارم و

الزرق اللهاذِم والماذيّ واليَلَبِ (٢)

فالأرضُ من لاحقيّاتٍ مُطَهَّمةٌ

والمستظلُّ مَثارُ القَسْطَلِ الهَدِبِ

وعارَض الجيش من نقعٍ بوارقه

لمع الأسنَّةِ والهنديّة القُضُبِ

أقدمتَ تضربُ صبراً تحتَهُ فغدا

يُصَوِّبُ مُزْناً ولو أحجمتَ لم يُصِبِ

غادرتَ فرسانَهُ من هاربٍ فَرِقٍ

أو مُقعصٍ (٣) بدمِ الأوداجِ مُختضبِ

لك المناقب يعيا الحاسبون بها

عَدّا ويعجِزُ عنها كلُّ مُكتتِبِ

كرجعةِ الشمسِ إذ رُمتَ الصلاةَ وقد

راحَتْ تَوارى عن الأبصارِ بالحُجُبِ

رُدَّتْ عليك كأنّ الشُّهْبَ ما اتّضَحَتْ

لناظرٍ وكأنّ الشمسَ لم تَغِبِ

وفي براءةَ أنباءٌ عجائبُها

لم تُطوَ عن نازحٍ يوماً ومُقتربِ

وليلةَ الغارِ لمّا بتَّ ممتلئاً

أمْناً وغيرُك ملآنٌ من الرُعُبِ

ما أنتَ إلاّ أخو الهادي وناصرُهُ

ومُظْهِرُ الحقِّ والمنعوتُ في الكُتُبِ

وزوجُ بَضعتِهِ الزهراءِ يَكنُفُها (٤)

دون الورى وأبو أبنائه النُّجُبِ

__________________

(١) جَذِل وجذلان : فَرِح وفرحان. أرعن : أحمق. جيش لَجِب : ذو كثرة وجَلْبة. (المؤلف)

(٢) الصلدم : الصلب ، الأسد. الزرق : يكنّى به عن الأسِنَّة والنصال لما في لونها من الزرقة. اللهاذم جمع لهذم : الحادّ القاطع. الماذي : كلّ سلاح من الحديد. اليَلَبُ : الفولاذ وخالص الحديد. (المؤلف)

(٣) قَعَصَهُ وأقعَصَه : قتله مكانه. (المؤلف)

(٤) كنَفَ الشيء : صانه وحفظه وحاطه وضمّه إليه. (المؤلف)

٤١٢

من كلِّ مجتهدٍ في الله مُعْتضِدٍ

بالله معتقدٍ للهِ مُحتسبِ

هادينَ للرُشدِ إن ليلُ الضَّلالِ دَجا

كانوا لطارقهم أهدى من الشُهُبِ

لُقِّبتُ بالرفض لمّا إن منحتُهمُ

وُدِّي وأحسنُ ما أُدعى به لقبي

صلاة ذي العرشِ تَتْرى كلَّ آونةٍ

على ابن فاطمةَ الكشّافِ للكُرَبِ

وابنيه من هالكٍ بالسُمِّ مُخْتَرمٍ

ومن معفَّر خدٍّ في الثرى تَربِ

والعابدِ الزاهد السجّاد يتبعُهُ

وباقر العلم داني غايةِ الطَلَبِ

وجعفرٌ وابنه موسى ويتبعُهُ ال

برُّ الرضا والجواد العابد الدئبُ (١)

والعسكريَّينِ والمهديَّ قائمهمْ

ذي الأمر لابس أثوابِ الهدى القُشُبِ

مَنْ يملأُ الأرضَ عدلاً بعد ما مُلِئَتْ

جوراً ويَقْمَعُ أهل الزَيْغِ والشَّغبِ

القائدُ البُهَمَ الشوسَ الكماة إلى

حربِ الطغاة على قبِّ الكلا الشَّزِبِ (٢)

أهلُ الهدى لا أُناسٌ باع بائعُهُمْ

دينَ المُهَيمنِ بالدنيا وبالرُتبِ

لو أنّ أضغانهم في النارِ كامنةٌ

لأغْنَتِ النار عن مُذْكٍ ومحتطِبِ

يا صاحبَ الكوثر الرقراقِ زاخرةً

ذُدِ النواصِبَ عن سَلساله العَذِبِ

قارعتُ منهم كُماةً في هواكَ بما

جرَّدتُ من خاطرٍ أو مِقْوَلٍ ذَرِبِ

حتى لقد وَسَمَتْ كَلْماً جباهَهمُ

خواطري بمُضاء الشعرِ والخُطَبِ

صَحِبْتُ حبّكَ والتقوى وقد كَثُرَتْ

ليَ الصحابُ فكانا خيرَ مُصْطَحِبِ

فاستَجْلِ من خاطرِ العبديِّ آنسةً

طابتْ ولَو جاوَزَتْكَ اليوم لم تَطِبِ

جاءتْ تَمايلُ في ثَوْبَيْ حَياً وهدىً

إليك حاليةً بالفضلِ والأدبِ

أتعَبتُ نفسيَ في مدْحِيكَ عارفةً

بأنّ راحتَها في ذلك التَعبِ

وذكر ابن شهرآشوب في المناقب (٣) (١ / ١٨١) طبع إيران للعبديِّ قوله :

__________________

(١) في البيت إقواء.

(٢) البُهم : جمع البُهمة : الشجاع. الشوس : الشديد الجريء في القتال. القبّ : القطع [الشَزِب : اليابس]. (المؤلف)

(٣) مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٧٥.

٤١٣

ما لعليٍّ سوى أخيه

محمد في الورى نظيرُ

فداهُ إذ أقبلتْ قُرَيشٌ

عليه في فرشِهِ الأميرُ

وافاه في خُمٍّ وارتضاه

خليفةً بعدَهُ وزيرُ

الشاعر

أبو محمد سفيان بن مُصعب العبديّ الكوفيّ ، من شعراء أهل البيت الطاهر المتزلّفين إليهم بولائه وشعره ، المقبولين عندهم لصدق نيّته وانقطاعه إليهم ؛ وقد ضَمَّن شعره غير يسير من مناقب مولانا أمير المؤمنين الشهيرة ، وأكثَر من مدحه ومدح ذريَّته الأطيبين وأطاب ، وتفجَّع على مصائبهم ورثاهم على ما انتابهم من المِحَن ، ولم نَجِد في غير آل الله له شعراً.

استنشده الإمام الصادق ـ صلوات الله عليه ـ شعره كما في رواية ثقة الإسلام الكليني في روضة الكافي (١) بإسناده عن أبي داود المسترقّ عنه قال :

دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : «قولوا لأمِّ فَروَة تجيء فتسمع ما صُنِع بجدّها». قال : فجاءت فقعدت خلف الستر. ثمّ قال : أنْشِدْنا. قال : فقلت :

فَرْوَ جودي بدمعكِ المسكوبِ

قال : فصاحت وصِحْنَ النساء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الباب [الباب] (٢) فاجتمع أهل المدينة على الباب ، قال : فبعث إليهم أبو عبد الله : صبيٌّ لنا غُشي عليه فَصِحْنَ النساء.

واستنشد شعرَهُ الإمامُ أبا عمارة المنشد كما في الكامل لابن قولويه (ص ١٠٥) بإسناده عن أبي عمارة قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا أبا عمارة أنشدني للعبديِّ في

__________________

(١) روضة الكافي : ٨ / ٢١٥ ح ٢٦٣.

(٢) أثبتنا الزيادة من المصدر.

٤١٤

الحسين عليه‌السلام». قال : فأنشدته فبكى ، ثمّ أنشدته فبكى ، ثمّ أنشدته فبكى. قال : فو الله ما زِلتُ أنشِدُه ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار. الحديث.

عدّه شيخ الطائفة في رجاله (١) من أصحاب الإمام الصادق ، ولم يك صحبته مجرّد أُلفة معه ، أو محض اختلاف إليه ، أو أنّ عصراً واحداً يجمعهما ، لكنّه حظي بزُلفة عنده منبعثة عن صميم الوُدّ وخالص الولاء ، وإيمان لا يشوبه أيُّ شائبة حتى أمر الإمام عليه‌السلام شيعته بتعليم شعره أولادهم وقال : «إنّه على دين الله» ، كما رواه الكشّي في رجاله (٢) (ص ٢٥٤) بإسناده عن سماعة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا معشر الشيعة علّموا أولادكم شعر العبديِّ فإنّه على دين الله».

ويَنِمُّ عن صدق لهجته ، واستقامة طريقته في شعره ، وسلامة معانيه عن أيِّ مغمز ، أمر الإمام عليه‌السلام إيّاه بنظم ما تنوح به النساء في المأتم ، كما رواه الكشّي في رجاله (ص ٢٥٤).

وكان يأخذ الحديث عن الصادق عليه‌السلام في مناقب العترة الطاهرة فينظمه في الحال ثمّ يعرضه عليه ، كما رواه ابن عيّاش في مقتضب الأثر (٣) عن أحمد بن زياد الهمداني قال : حدّثني عليُّ بن إبراهيم بن هاشم قال : حدّثني أبي عن الحسن بن عليّ سجاده ، عن أبان بن عمر خَتَن آل ميثم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فدخل عليه سفيان بن مصعب العبدي قال : جعلني الله فداك ما تقول في قوله تعالى ذكره : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (٤).

قال : «هم الأوصياء من آل محمد الاثني عشر ، لا يعرف الله إلاّ من عَرَفهم وعرفوه». قال : فما الأعراف جُعِلتُ فداك؟ قال : «كثائب من مِسْك ، عليها رسول

__________________

(١) رجال الطوسي : ص ٢١٣ رقم ١٦٥.

(٢) رجال الكشّي : ٢ / ٧٠٤ رقم ٧٤٨.

(٣) مقتضب الأثر : ص ٤٨.

(٤) الأعراف : ٤٦.

٤١٥

الله والأوصياء يعرفون كلاّ بسيماهم». فقال سفيان : أفلا أقول في ذلك شيئاً؟ فقال من قصيدة :

أيا رَبْعَهُمْ هل فيك لي اليومَ مَربَعُ

وهل لليالٍ كنَّ لي فيك مرجعُ

يقول فيها :

وأنتم وُلاةُ الحَشْرِ والنَشْرِ والجَزا

وأنتمْ ليوم المفزَعِ الهوْلِ مفزَعُ

وأنتم على الأعرافِ وهي كثائبٌ

من المِسْكِ ريّاها بكمْ يَتَضوَّعُ

ثمانيةٌ بالعرش إذ يحملونَهُ

ومن بعدهمْ في الأرضِ هادونَ أربَعُ (١)

والقارئ إذا ضمّ بعض ما ذكرنا من حديث المترجم له إلى الآخر يقف على رتبة عظيمة له من الدين يقصُرُ دون شأوها الوصف بالثقة ، ويُشاهَدُ له في طيّات الحديث والتاريخ حسن حال وصحّة مذهب تفوق شئون الحسان ، فلا مجال للتوقّف في ثقته كما فعله العلاّمة الحلّي (٢) ، ولا لعدِّه من الحسان كما فعله غيره (٣) ، ولا يبقى لنسبته إلى الطيّارة ـ أي الغلوّ والارتفاع في المذهب ـ وزنٌ كما رآه أبو عمرو الكشّي (٤) في شعره ، ولم نجد في شعره البالغ إلينا إلاّ المذهب الصحيح ، والولاء المحض لعترة الوحي ، والتشيّع الخالص عن كلِّ شائبة سوء.

ويزيدك ثقةً به واعتماداً عليه رواية مثل أبي داود المنشد سليمان بن سفيان المُستَرقّ المتسالم على ثقته عنه ، وأبو داود هو شيخ الأثبات الأجلّة نظراء الحسن بن محبوب ، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، وعليّ بن الحسن بن فضّال.

كما أنّ إفراد مثل الحسين بن محمد بن عليٍّ الأزدي الكوفي المجمع على ثقته

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٧ / ٢٦٨.

(٢) رجال الحلّي : ص ٨٢.

(٣) تنقيح المقال : ٢ / ٤٠.

(٤) رجال الكشّي : ٢ / ٧٠٤ رقم ٧٤٨.

٤١٦

وجلالته ، تأليفاً في أخبار المترجم له وشعره كما عدّه النجاشي في فهرسته (١) (ص ٤٩) من كتبه يُؤذن بموقفه الشامخ عند أعاظم المذهب ، وينبئ عن إكبارهم محلّه من العلم والدين.

نبوغه في الأدب والحديث :

إنَّ الواقف على شعر شاعرنا العبديّ وما فيه من الجودة والجزالة والسهولة والعذوبة والفخامة والحلاوة والمتانة ، يشهد بنبوغه في الشعر وتضلّعه في فنونه ، ويعترف له بالتقدُّم والبروز ، ويرى ثناء الحميري سيّد الشعراء عليه بأنّه أشعر الناس من أهله فى محلّه. روى أبو الفرج في الأغاني (٢) (٧ / ٢٢) عن أبي داود المسترقّ سليمان بن سفيان : أنّ السيّد والعبديّ اجتمعا ، فأنشد السيِّد :

إنّي أدينُ بما دانَ الوصيُّ بهِ

يومَ الخريبةِ (٣) من قَتْلِ المُحلّينا

وبالذي دانَ يومَ النهْرَوانِ بهِ

وشاركَتْ كفَّه كفِّي بصفّينا

فقال له العبدي : أخطأت ؛ لو شاركت كفُّكَ كفَّه كنت مثله ، ولكن قل : تابعت كفّه كفّي ، لتكون تابعاً لا شريكاً. فكان السيِّد بعد ذلك يقول : أنا أشعر الناس إلاّ العبدي.

والمتأمِّل في شعره يرى موقفه العظيم في مقدَّمي رجال الحديث ومكثري حمَلته ، ويجده في الرعيل الأوّل من جامعي شتاته ، وناظمي شوارده ، ورواة نوادره ، وناشري طُرَفِه ، ويَشهَدُله بكثرة الدراية والرواية ، ويُشاهِد همّته العالية وولعه الشديد في بثِّ الأخبار المأثورة في آل بيت العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ وستقف على ذلك كلّه في ذكر نماذج شعره.

__________________

(١) رجال النجاشي : ص ٦٥ رقم ١٥٤.

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٩٣.

(٣) الخريبة : موضع بالبصرة كانت به واقعة الجمل. (المؤلف)

٤١٧

ولادته ووفاته :

لم نقف على تأريخَي ولادةِ المترجم له ووفاتِه ، ولم نعثر على ما يقرِّبنا إلاّ ما سمعت من روايته عن الإمام جعفر بن محمد عليه‌السلام واجتماعه مع السيِّد الحميري المولود سنة (١٠٥) والمتوفّى سنة (١٧٨) ومع أبي داود المسترق ، وملاحظة تأريخَي ولادة أبي داود المسترق الراوي عنه ووفاته تؤذننا بحياة شاعرنا العبديِّ إلى حدود سنة وفاة الحميري. فإنَّ أبا داود تُوفِّي (٢٣١) كما في فهرست النجاشي (١) أو في (٢٣٠) كما في رجال الكشّي (٢) ، وعاش سبعين سنة كما ذكره الكشّي ، فيكون ولاة أبي داود سنة (١٦١) على قول النجاشي و (١٦٠) على اختيار الكشّي ، وبطبع الحال كان له من عمره حين روايته عن المترجم أقلّ ما تستدعيه الرواية ، فيستدعي بقاء المترجم أقلاّ (٣) إلى أواخر أيّام الحميري ، فما في أعيان الشيعة (٤) (١ / ٣٧٠) من كون وفاة المترجم في حدود سنة (١٢٠) قبل ولادة الراوي عنه أبي داود المسترق بأربعين سنة ، خالٍ عن كلِّ تحقيق وتقريب.

ومن نماذج شعره :

إنّا روينا في الحديث خَبَرا

يعرفُهُ سائرُ من كان روى

إنَّ ابن خطّابٍ أتاهُ رجلٌ

فقال كم عِدَّة تطليقِ الإما

فقال يا حيدرُ كم تطليقةً

للأمَةِ اذكرهُ فأومى المرتضى

__________________

(١) رجال النجاشي : ص ١٨٣ رقم ٤٨٥.

(٢) ما في نسخ الكشّي [٢ / ٦٠٩ رقم ٥٧٧] من ذكر تاريخ وفاة أبي داود برقم (١٣٠) تصحيف (٢٣٠) ، ويشهد بالتصحيف رواية طبقة أصحاب الإمامين الرضا والجواد عليهما السّلام عنه ، وكذلك رواية الحسن بن محبوب المولود سنة (١٤٩) والمتوفّى سنة (٢٢٤) ، ورواية محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب المتوفّى سنة (٢٦٢). (المؤلف)

(٣) كذا.

(٤) أعيان الشيعة : ٧ / ٢٦٧.

٤١٨

بإصْبعيه فثنى الوَجه إلى

سائلهِ قال اثنتانِ وانثنى

قال له تعرف هذا قال لا

قال له هذا عليّ ذو العلا

وقد رَوى عِكْرمةٌ في خَبرٍ

ما شَكَّ فيه أحدٌ ولا امترى

مرَّ ابن عبّاسٍ على قومٍ وقد

سبّوا عليّا فاستراعَ وبكى

وقال مغتاظاً لهم أيُّكمُ

سبَّ إلهَ الخَلقِ جلَّ وعلا

قالوا معاذ اللهِ قال أيُّكمْ

سبَّ رسول الله ظُلماً واجتَرا

قالوا معاذ اللهِ قال أيُّكمْ

سبَّ عليّا خير من وَطى الحَصَى

قالوا نعم قد كان ذا فقال قد

سمعتُ واللهِ النبيَّ المجتبى

يقول من سَبَّ علياً سبَّني

وسبَّتي سبُّ الإله واكتفى

محمد وصنوُهُ وابنتهُ

وابناه خيرُ من تحفّى واحتذى

صلّى عليهم ربُّنا باري الورى

ومُنْشيء الخَلق على وجه الثرى

صفّاهُمُ الله تعالى وارتضى

واختارهم من الأنام واجتبى

لولاهُمُ اللهُ ما رفَعَ السما

ولا دحى الأرضَ ولا أنشا الورى

لا يقبلُ اللهُ لعبدٍ عَمَلاً

حتى يُواليهم بإخلاص الولا

ولا يتِمُّ لامرئٍ صلاتهُ

إلاّ بذكراهمْ ولا يزكو الدُعا

لو لم يكونوا خير من وَطأ الحصى

ما قال جبريلُ لهم تحت العبا

هل أنا منكم شرفاً ثمّ علا

يُفاخر الأملاك إذ قالوا بلى

لو أنّ عبداً لقي الله بأع

مال جميع الخلق بِرّا وتُقى

ولم يكن والى عليّا حَبِطتْ

أعمالُه وكُبَّ في نار لظى

وإنَّ جبريلَ الأمينَ قال لي

عن مَلَكَيْهِ الكاتبينِ مذ دنا

إنّهما ما كتبا قطُّ على ال

طهرِ عليٍّ زلَّةً ولا خَنَا (١)

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٧ / ٢٧٠.

٤١٩

بيان ما حوته الأبيات من الحديث

ممّا أخرجه أعلام العامّة

قوله :

إنّا روينا في الحديث خَبَراً

يعرفُهُ سائرُ من كان روى

أخرج الحافظ الدارقطني وابن عساكر (١) : أنّ رجلين أتيا عمر بن الخطّاب وسألاه عن طلاق الأمَة ، فقام معهما فمشى حتى أتى حَلْقَةً في المسجد فيها رجلٌ أصلع فقال : أيّها الأصلع ما ترى في طلاق الأمَة؟ فرفع رأسه إليه ثمّ أومأ إليه بالسبّابة والوسطى ، فقال لهما عمر : تطليقتان.

فقال أحدهما : سبحان الله ، جئناك وأنت أمير المؤمنين فمشيتَ معنا حتى وقفت على هذا الرجل فسألته فرضيتَ منه أن أومأ إليك. فقال لهما : تدريان من هذا؟ قالا : لا.

قال : هذا عليُّ بن أبي طالب ، أشهدُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم لَسَمِعْتُهُ وهو يقول : «إنَّ السماوات السبع والأرضين السبع لو وُضِعتا في كَفَّةٍ ثُم وُضِعَ إيمانُ عليٍّ في كَفّةٍ لرجحَ إيمان عليّ بن أبي طالب».

وفي لفظ الزمخشري : جئناك وأنت الخليفة فسألناك عن طلاقٍ فجئت إلى رجل فسألته ، فو الله ما كلَّمك.

فقال له عمر : ويلَك أتدري من هذا؟

ونقله عن الحافظين ـ الدارقطني وابن عساكر ـ الكنجي في الكفاية (٢) (ص ١٢٩) وقال : هذا حسنٌ ثابتٌ. ورواه من طريق الزمخشري خطيب الحرمين

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ١٢ / ٢٩٦ ، وفي ترجمة الإمام عليّ بن ابي طالب عليه‌السلام : رقم ٨٧١.

(٢) كفاية الطالب : ص ٢٥٨ باب ٦٢.

٤٢٠