الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الرسالة وهلمَّ جرّا ، وإنَّك تجد الاحتجاج بما ذكر وغيره في كثير من شعر الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وفي كلماتهم المنثورة ، قبل أن تنعقد نطفة الكميت ، كخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، وعبد الله بن عبّاس ، والفضل بن عبّاس ، وعمّار بن ياسر ، وأبي ذرّ الغفاري ، وقيس بن سعد الأنصاري ، وربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب ، وعبد الله ابن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، وزفر بن زيد بن حذيفة ، والنجاشي بن الحرث بن كعب ، وجرير بن عبد الله البجلي ، وعبد الرحمن بن حنبل حليف بني جُمع ، وآخرين كثيرين.

وقد فتح لهم هذا الباب بمصراعيه أمير المؤمنين عليّ ـ صلوات الله عليه ـ في كتبه وخطبه الطافحة بذلك ، المبثوثة في طيّات الكتب ومعاجم الخطب والرسائل.

قال شيخنا المفيد كما في الفصول (١) (٢ / ٨٥) : إنّما نظم الكميت معنى كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام في منثور كلامه في الحجَّة على معاوية ، فلم يزل آل محمد عليهم‌السلام بعد أمير المؤمنين يحتجّون بذلك ، ومتكلّمو الشيعة قبل الكميت وفي زمانه وبعده ، وذلك موجودٌ في الأخبار المأثورة والروايات المشهورة ، ومن بلغ إلى الحدِّ الذي بلغه الجاحظ في البهت سقط كلامه.

اللاميّة من الهاشميّات :

ألا هل عمٍ في رأيه مُتأمِّلُ

وهل مدبرٌ بعد الإساءة مُقبلُ

روى أبو الفرج في الأغاني (٢) (١٥ / ١٢٦) بالإسناد عن أبي بكر الحضرمي ، قال : استأذنت للكميت على أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام في أيَّام التشريق بمنى فأذن له ، فقال له الكميت : جعلت فداك إنّي قلت فيكم شعراً أحبُّ أن أُنشدَكَهُ.

__________________

(١) الفصول المختارة : ص ٢٣٣.

(٢) الأغاني : ١٧ / ٣٣.

٢٨١

فقال : «يا كميت اذكر الله في هذه الأيّام المعلومات ، وفي هذه الأيّام المعدودات». فأعاد عليه الكميت القول ، فرقَّ له أبو جعفر عليه‌السلام فقال : «هات». فأنشده قصيدته حتى بلغ :

يُصيبُ به الرامون عن قوسِ غيرهمْ

فيا آخرٌ أسدى له الغيَّ أوّلُ

فرفع أبو جعفر عليه‌السلام يديه إلى السماء وقال : «اللهمَّ اغفر للكميت».

وعن محمد بن سهل ـ صاحب الكميت ـ قال : دخلت مع الكميت على أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام فقال له : جعلت فداك ألا أنشدك؟

قال : «إنّها أيّامٌ عظامٌ». قال : إنَّها فيكم. قال : «هات». وبعث أبو عبد الله عليه‌السلام إلى بعض أهله فقرب ، فأنشده فكثر البكاء ، حتى أتى على هذا البيت :

يُصيب به الرامون عن قوس غيرهم

فيا آخرٌ أسدى له الغيَّ أوّلُ

فرفع أبو عبد الله عليه‌السلام يديه ، فقال : «اللهمَّ اغفر للكميت ما قدّم وما أخّر ، وما أسرَّ وما أعلن ، وأَعطه حتى يرضى». الأغاني (١) (١٥ / ١٢٣) ، المعاهد (٢) (٢ / ٢٧).

ورواه البغدادي في خزانة الأدب (٣) (١ / ٧٠) وفيه بعد قوله : فكثر البكاء وارتفعت الأصوات ، فلمّا مرَّ على قوله في الحسين رضى الله عنه :

كأنَّ حسيناً والبهاليلُ حولَهُ

لأسيافهم ما يختلي المتبتّلُ

وغاب نبيُّ الله عنهم وفقده

على الناس رزءٌ ما هناك مُجلّلُ

فلم أرَ مخذولاً لأجلِ مصيبةٍ

وأوجب منه نصرةً حين يخذلُ

__________________

(١) الاغاني : ١٧ / ٢٦.

(٢) معاهد التنصيص : ٣ / ٩٦ رقم ١٤٨.

(٣) خزانة الأدب : ١ / ١٤٥.

٢٨٢

فرفع (١) جعفر الصادق رضى الله عنه يديه وقال : «اللهمَّ اغفر للكميت ما قدّم وأخّر ، وما أسرَّ وأعلن ، وأَعطه حتى يرضى». ثمّ أعطاه ألف دينار وكسوة ، فقال له الكميت : والله ما أحببتكم للدنيا ولو أردتها لأتيتُ من هي في يديه ، ولكنَّني أحببتكم للآخرة ، فأمّا الثياب التي أصابت أجسادكم فإنّي أقبلها لبركتها ، وأمّا المال فلا أقبله.

روى أبو الفرج في الأغاني (٢) (١٥ / ١١٩) عن عليّ بن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، قال : كان هشام بن عبد الملك قد اتّهم خالد بن عبد الله ، وكان يُقال : إنَّه يريد خلعك ، فوجد بباب هشام يوماً رقعةً فيها شعرٌ ، فدخل بها على هشام فقرئت عليه :

تألّقَ برقٌ عندنا وتقابَلَتْ

أَثافٍ لِقدْرِ الحَربِ أخشى اقتبالها

فدونَك قِدرَ الحربِ وهي مُقِرَّةٌ

لكفّيك واجعل دون قِدرٍ جعالها

ولن تنتهي أو يبلغَ الأمرُ حدّهُ

فَنلْها برسْلٍ قبل أن لا تنالها

فتجْشَمَ منها ما جَشَمْتَ مِنَ التي

بسوراء هرّت نحو حالكَ حالها

تلافَ أمورَ الناس قبل تفاقُمٍ

بعَقدَةِ حَزْمٍ لا يُخاف انحلالها

فما أبرمَ الأقوامُ يوماً لحيلةٍ

من الأمر إلاّ قلَّدوك احتيالها

وقد تُخبِرُ الحربُ العوانُ بسرّها

وإن لم يَبُحْ مَن لا يريدُ سؤالها

فأمر هشام أن يجتمع له من بحضرته من الرواة فَجُمِعوا ، فأمر بالأبيات فقرِئت عليهم ، فقال : شعر من تشبه هذه الأبيات؟ فأجمعوا جميعاً من ساعتهم أنَّه كلام الكميت بن زيد الأسدي. فقال هشام : نعم هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله.

ثمَّ كتب إلى خالد يخبره ، وكتب إليه بالأبيات ، وخالد يومئذ بواسط ، فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه ، وقال لأصحابه : إنَّ هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أميّة ، فأتوني من شعر هذا بشيء ، فأُتي بقصيدته اللاميّة التي أوّلها :

__________________

(١) كذا في المصدر بالفاء.

(٢) الأغاني : ١٧ / ١٨.

٢٨٣

ألا هل عمٍ في رأيهِ متأمِّلُ

وهل مدبرٌ بعد الإساءة مقبلُ

فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام ، يقول : هذا شعر الكميت ، فإن كان قد صدق في هذا فقد صدق في ذاك. فلمّا قرئت على هشام اغتاظ ، فلمّا سمع قوله :

فيا ساسةً هاتوا لنا من جوابكم

ففيكم لعمري ذو أفانين مقولُ

اشتدَّ غيظه ، فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه ، ويضرب عنقه ، ويهدم داره ، ويصلبه على ترابها. فلمّا قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته ، وأعلن الأمر رجاء أن يتخلّص الكميت ، فقال : كتب إليَّ أمير المؤمنين وإنّي لأكره أن استفسد عشيرته ، وسمّاه ، فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد ، فأخرج غلاماً له مولّداً ظريفاً ، فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة ، وقال : إن أنت وردت الكوفة فأنذرت الكميت لعلّه أن يتخلّص من الحبس فأنت حرٌّ لوجه الله ، والبغلة لك ، ولك عليَّ بعد ذلك إكرامك والإحسان إليك.

فركب البغلة فسار بقيّة يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبّحها ، فدخل الحبس متنكّراً ، فخبّر الكميت بالقصّة ، فأرسل الى امرأته وهي ابنة عمّه يأمرها أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفّان ، ففعلت. فقال : ألبسيني لبسة النساء ، ففعلت. ثمّ قالت له : أقبل فأقبل ، وأدبر فأدبر ، فقالت : ما أدري إلاّ يبساً في منكبيك ، اذهب في حفظ الله. فمرَّ بالسجّان فظنَّ أنَّه المرأة فلم يعرض له ، فنجا وأنشأ يقول :

خرجت خروجَ القِدحِ قِدحِ ابن مقبلِ

على الرغم من تلك النوابح والمُشْلي (١)

عليَّ ثيابُ الغانياتِ وتحتَها

عزيمةُ أمرٍ أشبهت سَلَّةَ النصْلِ

وورد كتاب خالد إلى والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام ، فأرسل

__________________

(١) النوابح : كلاب الصيد ، كنّى بها عمّن يتعقبه. والمشلي : من أشلى ، يشلي ، إذا أغرى الكلب ودعاه إلى الصيد.

٢٨٤

إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فَيُنفِذ فيه أمر خالد ، فدنا من باب البيت (١) ، فكلّمتهم المرأة وخبّرتهم أنَّها في البيت ، وأنَّ الكميت قد خرج. فكتب بذلك إلى خالد فأجابه : حرّة كريمة افتدت ابن عمِّها بنفسها. وأمر بتخليتها ، فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام ، فقال قصيدته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس ويقول :

أسودينا وأحمرينا

فهاج الكميت ذلك حتى قال :

ألا حيّيت عنّا يا مدينا

وهل ناسٌ تقول مسلّمينا

وهي ثلاثمائة بيت.

وقال في (ص ١١٤) (٢) : إنَّ خالد بن عبد الله القسري روّى جاريةً حسناء قصائد الكميت ـ الهاشميّات ـ وأعدّها ليهديها إلى هشام ، وكتب إليه بأخبار الكميت وهجائه بني أميّة ، وأنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها :

فيا ربّ هل إلاّ بك النصرُ يُبتغى

ويا ربّ هل إلاّ عليك المعوَّلُ

وهي طويلة يرثي فيها زيد بن عليّ وابنه الحسين بن زيد ، ويمدح بني هاشم ، فلمّا قرأها أكبرها ، وعظمت عليه واستنكرها ، وكتب إلى خالد يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده. فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقة بداره ، فأُخذ وحُبس في المحبس ، وكان أبان بن الوليد عاملاً على واسط ، وكان الكميت صديقه ، فبعث إليه بغلام على بغل وقال له : أنت حرٌّ ... إلى آخر ما يأتي إن شاء الله تعالى.

وللكميت في حديث الغدير من قصيدة قوله :

__________________

(١) المقصود بالبيت هنا السجن.

(٢) الأغاني : ١٧ / ٦.

٢٨٥

عليٌّ أميرُ المؤمنينَ وحقُّهُ

من اللهِ مفروضٌ على كلِّ مسلمِ

وأنَّ رسول اللهِ أوصى بحقِّهِ

وأشركه في كلِّ حقٍّ مقسَّمِ

وزوّجهُ صدّيقةً لم يكنْ لها

مُعادلةٌ غيرُ البتولة مريمِ

وردّم أبوابَ الذين بنى لهمْ

بيوتاً سوى أبوابه لم يُرَدِّمِ

وأوجبَ يوماً بالغدير ولايةً

على كلِّ برٍّ من فصيحٍ وأعجمِ

تفسير أبي الفتوح (١) (٢ / ١٩٣)

الشاعر

أبو المستهلّ الكميت بن زيد بن خنيس بن مخالد (٢) بن وهيب بن عمرو بن سُبيع ابن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ابن نزار.

قال أبو الفرج : شاعر مقدَّم عالمٌ بلغات العرب ، خبير بأيّامها ، من شعراء مضر وألسنتها ، والمتعصِّبين على القحطانيّة ، المقارنين المقارعين لشعرائهم ، العلماء بالمثالب والأيّام ، المفاخرين بها ، وكان في أيّام بني أميّة ، ولم يدرك الدولة العبّاسيّة ومات قبلها ، وكان معروفاً بالتشيّع لبني هاشم ، مشهوراً بذلك.

سئل معاذ الهرّاء : من أشعر الناس؟ قال : أمن الجاهليِّين أم من الإسلاميِّين؟ قالوا : بل من الجاهليِّين. قال : امرؤ القيس ، وزهير ، وعبيد بن الأبرص. قالوا : فمن الإسلاميِّين؟. قال : الفرزدق ، وجرير ، والأخطل ، والراعي.

قال : فقيل له : يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت. قال : ذاك أشعر الأوّلين والآخرين (٣).

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح : ٤ / ٢٨٠.

(٢) وقيل : مخالد بن ذويبة بن قيس بن عمرو. (المؤلف)

(٣) الأغاني : ١٥ / ١١٥ و ١٢٧ [١٧ / ٣ ، ٣٥]. (المؤلف)

٢٨٦

وقد مرَّ (ص ١٦٨) قول الفرزدق له : أنت والله أشعر من مضى وأشعرمن بقي. وكان مبلغ شعره حين مات خمسة آلاف ومائتين وتسعة وثمانين بيتاً على ما في الأغاني (١) والمعاهد (٢) (٢ / ٣١) ، أو أكثر من خمسة آلاف قصيدة كما في كشف الظنون (٣) ، نقلاً عن عيون الأخبار لابن شاكر (١ / ٣٩٧) وقد جمع شعره الأصمعي وزاد فيه ابن السكّيت ، ورواه جماعة ، عن أبي محمد عبد الله بن يحيى المعروف بابن كناسة الأسدي المتوفّى (٢٠٧) ، ورواه ابن كناسة ، عن الجزّي ، وأبي الموصل ، وأبي صدقة الأسديِّين ، وألّف كتاباً أسماه سرقات الكميت من القرآن وغيره (٤).

ورواه ابن السكّيت عن أستاذه نصران ، وقال نصران : قرأت شعر الكميت على أبي حفص عمر بن بكير ، وعمل شعره السكّري أبو سعيد الحسن بن الحسين المتوفّى (٢٧٥) ، كما في فهرست ابن النديم (٥) (ص ١٠٧ و ٢٢٥) وصاحب شعره محمد بن أنس ، كما في تاريخ ابن عساكر (٦) (٤ / ٤٢٩).

وحكى ياقوت في معجم الأدباء (٧) (١ / ٤١٠) عن ابن النجّار ، عن أبي عبد الله أحمد بن الحسن الكوفي النسّابة ، أنّه قال : قال ابن عبدة النسّاب : ما عرف النسّاب أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت النزاريّات فأظهر بها علماً كثيراً ، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيّامها ، فلمّا سمعت هذا جمعت شعره ، فكان عوني على التصنيف لأيّام العرب.

__________________

(١) الأغاني : ١٧ / ٣١.

(٢) معاهد التنصيص : ٣ / ٩٥ رقم ١٤٨.

(٣) كشف الظنون : ١ / ٨٠٨.

(٤) التعبير بالسرقة لا يخلو من مسامحة ، فإنّها ليست إلاّ أخذاً بالمعنى ، أو تضميناً لكلم من القرآن ، وحسب الكميت ـ وأيّ شاعر ـ أن يقتصّ أثر الكتاب الكريم. (المؤلف)

(٥) الفهرست : ص ٧٨ و ١٧٩.

(٦) تاريخ مدينة دمشق : ١٤ / ٦٠٣.

(٧) معجم الأدباء : ٣ / ٨.

٢٨٧

وقال بعضهم : كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر : كان خطيب أسد ، فقيه الشيعة ، حافظ القرآن العظيم ، ثَبْتَ الجَنان ، كاتباً حسن الخطّ ، نسّابة جدلاً ، وهو أوّل من ناظر (١) في التشيّع ، رامياً لم يكن في أسد أرمى منه ، فارساً شجاعاً ، سخيّا دَيِّناً. خزانة الأدب (٢) (١ / ٦٩) ، شرح الشواهد (٣) (ص ١٣).

ولم تزل عصبيّته للعدنانيّة ومهاجاته شعراء اليمن متصلةً ، والمناقضة بينه وبينهم شائعة في حياته ، وفي إثرها ناقض دعبل وابن عُيينة قصيدته المذهَّبة بعد وفاته ، وأجابهما أبو الزلفاء البصري مولى بني هاشم ، وكان بينه وبين حكيم الأعور الكلبي مفاخرة ومناظرة تامّة.

فائدة :

حكيم الأعور المذكور ، أحد الشعراء المنقطعين إلى بني أميّة بدمشق ، ثمَّ انتقل إلى الكوفة.

جاء رجلٌ إلى عبد الله بن جعفر ، فقال له : يا ابن رسول الله هذا حكيم الأعور ينشد الناس هجاءكم بالكوفة.

فقال : هل حفظت شيئاً؟.

قال : نعم وأنشد :

صَلَبْنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ

ولم نرَ مهديّا على الجذع يُصلَبُ

وقِستمْ بعثمانٍ عليّا سَفاهةً

وعثمانُ خيرٌ من عليٍّ وأطيبُ

فرفع عبد الله يديه إلى السماء وهما تنتفضان رعدة ، فقال : اللهمّ إن كان كاذباً

__________________

(١) مرّ فساد هذه النسبة الى المترجم له : ص ١٩١. (المؤلف)

(٢) خزانة الأدب : ١ / ١٤٤.

(٣) شرح شواهد المغني : ١ / ٣٨ رقم ٦.

٢٨٨

فسلّط عليه كلباً ، فخرج حكيم من الكوفة فأدلج (١) ، فافترسه الأسد. معجم الأدباء (٢) (٤ / ١٣٢)

الكميت وحياته المذهبية

يجد الباحث في خلال السِيَر وزُبُر الحديث ، شواهد واضحة على أنَّ الرجل لم يتّخذ شاعريّته وما كان يتظاهر به من التهالك في ولاء أهل البيت عليهم‌السلام وسيلةً لما يقتضيه النهمة ، وموجبات الشره من التلمّظ بما يستفيده من الصِّلات والجوائز ، أو تحرّي مُسانحات وجرايات ، أو الحصول على رتبةٍ أو راتب ، أنّى وآل رسول الله كما يقول عنهم دعبل الخزاعي :

أرى فيْأهم في غيرهم مُتَقَسَّماً

وأيدِيَهُمْ من فيئهم صَفِراتِ

وهم ـ سلام الله عليهم ـ فضلاً عن شيعتهم :

مشرّدون نفوا عن عُقرِ دارِهمُ

كأنّهم قد جَنوا ما ليس يُغتَفرُ

وقد انهالت الدنيا ـ قضّها بقضيضها ـ على أضدادهم يوم ذاك من طغمة الأمويّين ، ولو كان المتطلّب يطلب شيئاً من حطام الدنيا ، أو حصولاً على مرتبة ، أو زلفةً تربي به ، لطلبها من أولئك المتغلّبين على عرش الخلافة الإسلاميّة.

فرجلٌ يلوي بوجهِهِ عنهم إلى أُناس مضطهدين مقهورين ، ويقاسي من جرّاء ذلك الخوف والاختفاء ، تتقاذف به المفاوز والحزون ، مفترعاً ربوة طوراً ، ومسفّا إلى الأحضّة تارة ، ووراءه الطلب الحثيث ، وبمطلع الأكمة النطع والسيف ، ليس من الممكن أن يكون ما يتحرّاه إلاّ خاصّة في من يتولاّهم ، لا توجد عند غيرهم ، وهذا هو شأن الكميت مع أئمّة الدين عليهم‌السلام ، فقد كان يعتقد فيهم أنّهم وسائله إلى المولى

__________________

(١) أدلج القوم : ساروا الليل كلّه ، أو في آخره. (المؤلف)

(٢) معجم الأدباء : ١٠ / ٢٤٨.

٢٨٩

سبحانه ، وواسطة نجاحه في عقباه ، وأنَّ مودّتهم أجر الرسالة الكبرى.

روى الشيخ الأكبر الصفّار في بصائر الدرجات (١) بإسناده عن جابر ، قال : دخلت على الباقر عليه‌السلام فشكوت إليه الحاجة فقال : «ما عندنا درهمٌ» ، فدخل الكميت فقال : جعلت فداك أنشدك؟ فقال : انشد ، فأنشده قصيدة. فقال : «يا غلام أخرِج من ذلك البيت بَدرةً فادفعها إلى الكميت». فقال : جعلت فداك ، أُنشدك أخرى؟ فأنشده. فقال : «يا غلام أخرج بدرةً فادفعها إليه». فقال : جعلت فداك ، أُنشدك أخرى؟ فأنشده. فقال : «يا غلام أخرج بدرةً فادفعها إليه» فقال جعلت فداك ، والله ما أحبّكم لعَرَض الدنيا ، وما أردت بذلك إلاّ صلة رسول الله وما أوجب الله عليَّ من الحقِّ ، فدعا له الباقر عليه‌السلام فقال : «يا غلام رُدّها إلى مكانها». فقلت : جعلت فداك ، قلت لي : ليس عندي درهم ، وأمرت للكميت بثلاثين ألفاً! (٢).

فقال : «ادخل ذلك البيت» ، فدخلت فلم أجد شيئاً ، فقال : «ما سترنا عنكم أكثر ممّا أظهرنا». الحديث.

قال صاعد : دخلنا مع الكميت على فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام ، فقالت : هذا شاعرنا أهل البيت. وجاءت بقَدَحٍ فيه سَويقٌ ، فحرّكته بيدها ، وسقت الكميت فشربه ، ثمَّ أمرت له بثلاثين ديناراً ومركب ، فهملت عيناه وقال : لا والله لا أقبلها ؛ إنّي لم أحبّكم للدنيا. الأغاني (٣) (١٥ / ١٢٣).

وللكميت في ردِّه الصلات الطائلة على سروات المجد من بني هاشم ، مكرمةٌ ومحمدةٌ عظيمةٌ ، أبقت له ذكرى خالدة ، وكلٌّ من تلكم المواقف شاهد صدق على خالص ولائه وقوّة إيمانه ، وصفاء نيّته ، وحسن عقيدته ، ورسوخ دينه ، وإباء نفسه ،

__________________

(١) بصائر الدرجات : ص ٣٧٦ ح ٥.

(٢) في مناقب ابن شهرآشوب : ٥ / ٧ [٤ / ٢٠٣] : خمسين ألف درهم. (المؤلف)

(٣) الأغاني : ١٧ / ٢٧.

٢٩٠

وعلوِّ همّته ، وثباته في مبدئه العلويِّ المقدَّس ، وصدق مقاله للإمام السجّاد زين العابدين عليه‌السلام : إنّي قد مدحتك أن يكون لي وسيلة عند رسول الله.

ويعرب عن ذلك كلّه صريح قوله للإمام الباقر محمد بن عليّ عليهما‌السلام : والله ما أحبّكم لعَرَض الدنيا ، وما أردت بذلك إلاّ صلة رسول الله وما أوجب الله عليَّ من الحقِّ. وقوله الآخر له عليه‌السلام : لا والله لا يعلم أحدٌ أنَّي آخذٌ منها حتى يكون الله الذي يكافئني. وقوله للإمامين الصادقين عليهما‌السلام : والله ما أحببتكم للدنيا ، ولو أردتها لأتيت من هي في يديه ، ولكنّي أحببتكم للآخرة. وقوله لعبد الله بن الحسن ابن عليّ عليهما‌السلام : والله ما قلت فيكم إلاّ لله ، وما كنت لآخذ على شيء جعلته لله مالاً ولا ثمناً. وقوله لعبد الله الجعفري : ما أردت بمدحي إيّاكم إلاّ الله ورسوله ، ولم أك لآخذ لذلك ثمناً من الدنيا ، وقوله لفاطمة بنت الإمام السبط : والله إنّي لم أحبّكم للدنيا. وهذا شأن الشيعة سلفاً وخلفاً ، وشيمة كلِّ شيعيٍّ صميم ، وأدب كلّ متضلّع بالنزعات العلويّة ، وروح كلِّ علويٍّ جعفريٍّ ، وهذا شعار التشيّع ليس إلاّ ، وبمثل هذا فليعمل العاملون.

وكان أئمّة الدين ورجالات بني هاشم يلحّون في أخذ الكميت صلاتهم ، وقبوله عطاياهم ، مع إكبارهم محلّه من ولائه ، واعتنائهم البالغ بشأنه ، والاحتفاء والتبجيل له ، والاعتذار منه بمثل قول الإمام السجّاد ـ صلوات الله عليه ـ له : «ثوابك نعجز عنه ، ولكن ما عجزنا عنه فإنَّ الله لا يعجز عن مكافأتك». وهو مع ذلك كلّه كان على قدمٍ وساق من إبائه واستعفائه ، إظهاراً لولائه المحض لآل الله ، وقد مرّ أنّه ردَّ على الإمام السجّاد عليه‌السلام أربعمائة ألف درهم ، وطلب من ثيابه التي تلي جسده ليتبرّك بها ، وردّ على الإمام الباقر مائة ألف مرّة وخمسين ألفاً أخرى ، وطلب قميصاً من قُمُصه وردَّ على الإمام الصادق ألف دينار وكسوة ، واستدعى منه أن يكرمه بالثوب الذي مسَّ جلده. وردَّ على عبد الله بن الحسن ضيعته التي أعطى له كتابها ،

٢٩١

وكانت تسوى بأربعة (١) آلاف دينار ، وردَّ على عبد الله الجعفري ما جمع له من بني هاشم ما كان يقدَّر بمائة ألف درهم.

فكل من هذه خُبرٌ يصدِّق الخبر ؛ بأنَّ مدح الكميت عترة نبيِّه الطاهر وولاءه لهم ، وتهالكه بكلّه في حبِّهم ، وبذله النفس والنفيس دونهم ، ونيله من مناوئيهم ، ونصبه العداء لمخالفيهم ، لم يكن إلاّ لله ولرسوله فحسب ، وما كان له غرضٌ من حطام الدنيا وزخرفها ، ولا مرمىً من الثواب العاجل دون الآجل ، وكلُّ واقف على شعره يراه كالباحث بظلفه عن حتفه ، ويجده مستقتلاً بلسانه ، قد عرّض لبني أميّة دمه ، مستقبلاً صوارمهم ، كما نصَّ عليه الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، وقال : «اللهمّ إنَّ الكميت جاد في آل رسولك وذريّة نبيِّك نفسه حين ضنَّ الناس ، وأظهر ما كتمه غيره».

وقال عبد الله الجعفري لبني هاشم : هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم ، وعرّض دمه لبني أميّة.

وخالد القسري لمّا أراد قتله رأى في شعره غنىً وكفاية عن أيِّ حيلة وسعاية عليه ، فاشترى جاريةً وعلَّمها الهاشميّات وبعثها إلى هشام بن عبد الملك ، وهو لمّا سمعها منها ، قال : استقتل المرائي. وكتب إلى خالد بقتله وقطع لسانه ويده.

فكان الكميت منذ غضاضة من شبيبته التي نظم فيها الهاشميّات خائفاً يترقّب طيلة عمره ، مختفياً في زوايا الخمول ، إلى أن أقام بقريضه الحجّة ، وأوضح به المحجّة ، وأظهر به الحقَّ ، وأتمَّ به البرهنة ، وبلغ ضالّته المنشودة من بثِّ الدعاية إلى العترة الطاهرة ، فلمّا دوّخ صيت شعره الأقطار ، وقرّطت به الآذان ، ودارت على الألسن ، استجاز الإمام أبا جعفر الباقر عليه‌السلام أن يمدح بني أميّة صوناً لدمه فأجاز له. رواه أبو الفرج في الأغاني (٢) (١٥ / ١٢٦) بإسناده عن ورد بن زيد أخي الكميت قال : أرسلني

__________________

(١) الظاهر أنّه قدس‌سره ضمّن «تسوى» معنى «تقدّر» فعدّاه بالباء.

(٢) الأغاني : ١٧ / ٣٣ ، ٣٥.

٢٩٢

الكميت إلى أبي جعفر عليه‌السلام فقلت له : إنَّ الكميت أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع ، فتأذن له أن يمدح بني أميّة؟

قال : نعم. هو في حلٍّ ، فليقل ما شاء ، فنظم قصيدته الرائية التي يقول فيها :

فالآن صرتُ إلى أميّ

ة والأمور إلى المصائر

ودخل على أبي جعفر عليه‌السلام فقال له : «يا كميت أنت القائل :

فالآن صرتُ إلى أميّ

ة والأمور إلى المصائر؟»

قال : نعم. قد قلت ، ولا والله ما أردت به (١) إلاّ الدنيا ، ولقد عرفت فضلكم ، قال : «أمّا إن قلت ذلك ، إنَّ التقيّة لَتَحِلّ».

وروى الكشّي في رجاله (٢) (ص ١٣٥) بإسناده عن درست بن أبي منصور ، قال : كنت عند أبي الحسن موسى عليه‌السلام وعنده الكميت بن زيد ، فقال للكميت : «أنت الذي تقول :

فالآن صرتُ إلى أميّ

ة والأمور إلى المصائر»

قال : قد قلت ذلك فو الله ما رجعت عن إيماني ، وإنّي لكم لمُوالٍ ، ولعدوِّكم لقالٍ ، ولكنّي قلته على التقيّة.

قال : أما لئن قلت ذلك ، إنَّ التقيّة تجوز في شرب الخمر.

لفت نظر :

أحسب أنَّ الإمام المذكور في حديث الكشّي هو أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام ، ولا يتمُّ ما فيه من أبي الحسن موسى عليه‌السلام ؛ إذ الكميت توفّي بلا اختلاف أجده سنة (١٢٦)

__________________

(١) أي أراد بقوله : صرت ، مصير الدنيا إليهم لا الخلافة. (المؤلف)

(٢) رجال الكشّي : ٢ / ٤٦٥ رقم ٣٦٤.

٢٩٣

قبل ولادة أبي الحسن موسى بسنتين أو ثلاث. كما لا يتمُّ القول باتّحاده مع حديث أبي الفرج المرويِّ عن الإمام أبي جعفر ، إذ درست بن أبي منصور لا يروي عنه عليه‌السلام ، وليس من تلك الطبقة.

الكميت ودعاء الأئمّة له

من الواضح أنَّ أدعية ذوي النفوس القدسيّة ، والألسنة الناطقة بالمشيئة الإلهيّة المعبِّرة عن الله ، من الذين يوحي إليهم ربّهم ، ولا يتكلّمون إلاّ بإذنه ، وما ينطقون عن الهوى ، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى ، ليست مجرّد شفاعة لأيِّ أحد ، ومسألة خيرٍ من المولى لكلِّ إنسان كائناً من كان ، بل فيها إيعاز بأنَّ المدعوَّ له من رجال الدين ، وحلفاء الخير والصلاح ، ودعاة الأمّة إليهما ، وممّن قيّضه المولى للدعوة إليه ، والأخذ بناصر الهدى ، رغماً على أباطيل الحياة وأهوائها الضالَّة ، إلى فضائل لا تُحصى على اختلاف المدعوِّ لهم فيها.

وقلّما دُعي لأحدٍ مثلما دُعي للكميت ، وقد أكثر النبيُّ الأعظم والأئمّة من أولاده ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ دعاءهم له ، فاسترحم له النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة كما مرّ في حديث البياضي ، واستجزى له بالخير ، وأثنى عليه أخرى كما في منام نصر بن مزاحم ، وقال له ثالثة : «بوركت وبورك قومك» كما في حديث السيوطي ، ودعا له الإمام السجّاد زين العابدين عليه‌السلام بقوله : «اللهمَّ أحيه سعيداً وأَمْتهُ شهيداً ، وأرِهِ الجزاء عاجلاً ، وأجزل له جزيل المثوبة آجلاً». ودعا له أبو جعفر الباقر عليه‌السلام في مواقف شتّى في مثل أيام التشريق بمنى وغيرها ، متوجِّهاً إلى الكعبة بالاسترحام والاستغفار له غير مرّة ، وبقوله : «لا تزال مؤيّداً بروح القدس» تارةً أخرى ، ومن دعائه عليه‌السلام له في أيّام البيض ما رواه الشيخ الأقدم أبو القاسم الخزّاز القمّي في كفاية الأثر في النصوص على الأئمّة الاثني عشر (١) بإسناده عن الكميت ، أنَّه قال : دخلت على

__________________

(١) كفاية الأثر : ص ٢٤٨.

٢٩٤

سيِّدي أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر ، فقلت : يا ابن رسول الله إنّي قد قلت فيكم أبياتاً ، أفتأذن لي في إنشادها؟ فقال : «[إنّها] (١) أيّام البيض». قلت : فهو فيكم خاصّة. قال : «هات». فأنشأت أقول :

أضحكني الدهرُ وأبكاني

والدهرُ ذو صرفٍ وألوانِ

لتسعةٍ بالطفِّ قد غُودروا

صاروا جميعاً رَهْنَ أكفانِ

فبكى عليه‌السلام ، وبكى أبو عبد الله عليه‌السلام ، وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء ، فلمّا بلغت إلى قولي :

وستّةٌ لا يُتجارى بهم

بنو عقيلٍ خيرُ فرسانِ

ثمَّ عليُّ الخيرِ مولاهُمُ

ذكرهمُ هَيّجَ أحزاني

فبكى ، ثمَّ قال عليه‌السلام : «ما من رجل ذكرَنا أو ذُكرنا عنده يخرج من عينيه ماءٌ ولو مثل جناح البعوضة إلاّ بنى الله له بيتاً في الجنّة ، وجعل ذلك الدمع حجاباً بينه وبين النار». فلمّا بلغت إلى قولي :

من كان مسروراً بما مسّكمْ

أو شامتاً يوماً من الآنِ

فقد ذللتم بعد عزّ فما

أدفع ضيماً حين يغشاني

أخذ بيدي ثمَّ قال : «اللهمَّ اغفر للكميت ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر».

فلمّا بلغت إلى قولي :

متى يقوم الحقّ فيكم متى

يقومُ مهديُّكمُ الثاني

قال : «سريعاً إن شاء الله سريعاً». ثمَّ قال : «يا أبا المستهلّ إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين ، لأنَّ الأئمّة بعد رسول الله اثنا عشر ، الثاني عشر هو القائم».

__________________

(١) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

٢٩٥

قلت : يا سيِّدي فمن هؤلاء الاثنا عشر؟ قال : «أوّلهم عليُّ بن أبي طالب ، وبعده الحسن والحسين ، وبعد الحسين عليّ بن الحسين ، وبعده أنا ، ثمَّ بعدي هذا ، ووضع يده على كتف جعفر». قلت : فمَن بعد هذا؟

قال : «ابنه موسى ، وبعد موسى ابنه عليّ ، وبعد عليّ ابنه محمد ، وبعد محمد ابنه عليّ ، وبعد عليّ ابنه الحسن ، وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، ويشفي صدور شيعتنا». قلت : فمتى يخرج يا ابن رسول الله؟ قال : «لقد سُئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال : إنَّما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلاّ بغتة».

وناهيك به فضلاً دعاء الإمام الصادق عليه‌السلام له في مواقفه المشهودة في أشرف الأيّام رافعاً يديه قائلاً : «اللهمَّ اغفر للكميت ما قدّم وأخّر ، وما أسرَّ وأعلن ، وأعطه حتى يرضى». وينمُّ عن إجابة تلك الأدعية الصالحة ، الصادرة من النفوس الطاهرة بالألسنة الصادقة ، أمر النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا إبراهيم سعد الأسدي في منامه بقراءة سلامه عليه ، وإنبائه بأنَّ الله قد غفر له. وكذلك نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعبل الخزاعي في الطيف عن معارضة الكميت ، وقوله له : إنَّ الله قد غفر له. وكان بنو أسد ـ قبيلة الكميت ـ يحسّون بركة دعاء النبيِّ له ولهم بقوله : «بوركت وبورك قومك». ويشاهدون آثار الإجابة فيهم ، ويجدون في أنفسهم نفحاتها ، وكانوا يقولون : إنَّ فينا فضيلةً ليست في العالم ، ليس منّا إلاّ وفيه بركة وراثة الكميت (١).

ومن تلك الأدعية المستجابة التي شوهدت آثارها ، وأبقت للكميت فضيلة مع الأبد ، ما رواه شيخنا قطب الدين الراوندي في الخرائج والجرائح (٢) : أنَّ محمد بن عليّ الباقر عليه‌السلام دعا للكميت لمّا أراد أعداء آل محمد أخذه وهلاكه وكان متوارياً ، فخرج في

__________________

(١) مرّ الحديث : ص ١٩٠. (المؤلف)

(٢) الخرائج والجرائح : ٢ / ٩٤١.

٢٩٦

ظلمة الليل هارباً ، وقد أقعدوا على كلِّ طريق جماعة ليأخذوه إذا ما خرج في خفية ، فلمّا وصل الكميت إلى الفضاء وأراد أن يسلك طريقاً جاء أسدٌ يمنعه من أن يسري منها ، فسلك جانباً آخر فمنعه منه أيضاً ، كأنَّه أشار إلى الكميت أن يسلك خلفه ، ومضى الأسد في جانب الكميت ، إلى أن أمِن وتخلّص من الأعداء.

وفي معاهد التنصيص (١) (٢ / ٢٨) : قال المستهلّ : أقام الكميت مدّة متوارياً ، حتى إذا أيقن أنَّ الطلب خفَّ عنه خرج ليلاً في جماعة من بني أسد على خوف ووجل ، وفيمن معه صاعد غلامه ، وأخذ الطريق على القطقطانة ، وكان عالماً بالنجوم مهتدياً بها ، فلمّا صار سحيراً صاح بنا : هوِّموا (٢) يا فتيان. فهوّمنا ، وقام فصلّى. قال المستهلّ : فرأينا شخصاً ، فتضعضعت له. فقال : ما لك؟ قلت : أرى شخصاً مقبلاً. فنظر إليه ، فقال : هذا ذئب قد جاء يستطعمكم ، فجاء الذئب فربض ناحيةً ، فأطعمناه يد جزور فتعرّقها ، ثمَّ أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه ، فارتحلنا ، وجعل الذئب يعوي ، فقال الكميت : ماله ويله ، ألم نطعمه ونسقه؟! وما أعرفني بما يريد ، هو يدلّنا أنّا لسنا على الطريق! تيامنوا يا فتيان. فتيامنّا ، فسكن عواؤه ، فلم نزل نسير حتى جئنا الشام ، فتوارى في بني أسد وبني تميم.

وهذا جانب عظيم من نواحي مكرمات الكميت وفضائله ، لو أُضيف إلى ما يظهر من كلماته المعربة عن نفسيّاته ، ومواقفه الكاشفة عن خلائقه الكريمة ، وما قيل فيه وفي مآثره الجمّة يمثّله بين يدي القارئ بمظاهر روحيّاته ، ونصب عينيه مجالي نفسيّاته ، وأمثلة مكارم أخلاقه ، وما كان يحمله بين جنبيه من العلم ، والفقه ، والأدب ، والإباء ، والشمم ، والحماسة ، والهمّة ، واللباقة ، والفصاحة ، والبلاغة ، والخلق الكامل ، وقوّة القلب ، والدين الخالص ، والتشيّع الصحيح ، والصلاح المحض ، والرشد والسداد ، إلى فضائل تكسبه فوز النشأتين لا تُحصى.

__________________

(١) معاهد التنصيص : ٣ / ٩٨ رقم ١٤٨.

(٢) هَوّم تهويماً : نام قليلاً. (المؤلف)

٢٩٧

الكميت وهشام بن عبد الملك

كان خالد بن عبد الله القسري قد أُنشِدَ قصيدة الكميت التي يهجو فيها اليمن ، وهي التي أوّلها :

ألا حُيّيتِ عنّا يا مَدِينا

وهل ناسٌ تقولُ مسلّمينا

فقال : والله لأقتلنّه. ثمَّ اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن ، وتخيّرهنّ نهايةً في الحسن والكمال والأدب ، فروّاهنّ الهاشميّات ، ودسّهنّ مع نخّاس إلى هشام بن عبد الملك فاشتراهنَّ جميعاً ، فلمّا أنس بهنّ واستنطقهنَّ ، رأى منهنَّ فصاحةً وأدباً ، فاستقرأهنّ القرآن فقرأن ، واستنشدهنَّ الشعر فأنشدن قصائد الكميت ـ الهاشميّات ـ فقال هشام : ويلكنَّ من قائل هذا الشعر؟ قلن : الكميت بن زيد الأسدي. قال : في أيِّ بلد هو؟ قلن : بالعراق ثمَّ بالكوفة.

فكتب إلى خالد عامله في العراق : ابعث إليَّ برأس الكميت بن زيد. فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقةٌ بداره ، فأُخذ وحبس في الحبس.

وكان أبان بن الوليد عاملاً على واسط ، وكان الكميت صديقه ، فبعث إليه بغلام على بغل ، وقال له : أنت حرٌّ إنْ لحقته والبغل لك. وكتب له :

أمّا بعد : فقد بلغني ما صرتَ إليه وهو القتل ، إلاّ أن يدفع الله ، وأرى لك أن تبعث إلى حُبّى ـ يعني زوجة الكميت وكانت ممّن تتشيّع أيضاً ـ فإذا دخلت عليك ، تنقّبت نقابها ، ولبست ثيابها وخرجت ، فإنّي أرجو الأوبة لك.

قال : فركب الغلام البغل ، وسار بقيّة يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبّحها ، فدخل الحبس متنكّراً ، وأخبر الكميت بالقصّة ، فبعث إلى امرأته وقصَّ عليها القصّة ، وقال لها : أي ابنة عمّ إنَّ الوالي لا يقدم عليكِ ولا يسلمكِ قومكِ ، ولو خِفتُ عليكِ ما عَرّضْتُكِ له. فألبَسَتهُ ثيابها وإزارها وخمّرته ، وقالت له : أقبل وأدبر ،

٢٩٨

ففعل ، فقالت : ما أُنكر منك شيئاً إلاّ يَبَساً في كتفيك ، فاخرج على اسم الله تعالى. وأخرجت معه جاريتين لها.

فخرج وعلى باب السجن أبو الوضّاح حبيب بن بُدير ومعه فتيان من أسد فلم يُؤبه له ، ومشى الفتيان بين يديه إلى سكّة شبيب بناحية الكناس ، فمرَّ بمجلس من مجالس بني تميم ، فقال بعضهم : رجل ورب الكعبة ، وأمر غلامه فأتبعه ، فصاح به أبو الوضّاح يا كذا وكذا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم ، وأومأ إليه بنعله فولّى العبد مدبراً ، وأدخله أبو الوضّاح منزله.

ولمّا طال على السجّان الأمر نادى الكميت فلم يجبه ، فدخل ليعرف خبره ، فصاحت به المرأة : وراءك ، لا أمَّ لك. فشقَّ ثوبه ومضى صارخاً إلى باب خالد ، فأخبر الخبر ، فأحضر المرأة ، فقال لها : يا عدوَّة الله احْتَلْت على أمير المؤمنين وأخرجتِ عدوَّ أمير المؤمنين ، لأُنَكِلَنَّ بك ، ولأصنعنَّ ، ولأفعلنَّ. فاجتمعت بنو أسد عليه ، وقالوا له : ما سبيلك على امرأة منّا خُدعت. فخافهم ، فخلّى سبيلها.

وسقط غراب على الحائط ونعب ، فقال الكميت لأبي الوضّاح : إنّي لمأخوذ ، وإنَّ حائطك لساقطٌ. فقال : سبحان الله! هذا ما لا يكون إن شاء الله تعالى ، وكان الكميت خبيراً بالزجر ـ الكهانة ـ فقال له : لا بدَّ أن تحوِّلني. فخرج به إلى بني علقمة ـ وكانوا يتشيّعون ـ فأقام فيهم ، ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب.

قال المستهلّ : وأقام الكميت مدّةً متوارياً ، حتى إذا أيقن أنَّ الطلب خفَّ عنه ، خرج ليلاً في جماعة من بني أسد وبني تميم ، وأرسل إلى أشراف قريش ، وكان سيِّدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص ، فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا : يا أبا خالد هذه مكرمة أتاك بها الله تعالى ، هذا الكميت بن زيد لسان مضر ، وكان أمير المؤمنين قد كتب في قتله ، فنجا حتى تخلّص إليك وإلينا. قال :

٢٩٩

فمروه أن يعوذ بقبر معاوية بن هشام بدير حنيناء.

فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره ، ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام ، فقال : يا أبا شاكر مكرمة أتيتك بها تبلغ الثريّا إن اعتقدتَها ، فإن علمتَ أنَّك تفي بها وإلاّ كتمتها. قال : وما هي؟ فأخبره الخبر ، وقال : إنّه قد مدحكم عامّة وإيّاك خاصّة بما لم يُسمع بمثله ، فقال : عليَّ خلاصه.

فدخل على أبيه هشام وهو عند أمّه في غير وقت دخول ، فقال له هشام : أجئت لحاجة؟ قال : نعم. قال : هي مقضيّةٌ إلاّ أن تكون الكميت. فقال : ما أُحبُّ أن تستثني عليَّ في حاجتي ، وما أنا والكميت! فقالت أمّه : والله لَتَقْضِيَنَّ حاجته كائنةً ما كانت ، قال : قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قُطْرَيْها. قال : [هي الكميت] (١) يا أمير المؤمنين! وهو آمنٌ بأمان الله وأماني ، وهو شاعر مضر ، وقد قال فينا قولاً لم يُقل مثله. قال : قد أمّنته ، وأجزت أمانك له ، فاجلس له مجلساً يُنْشدك فيه ما قال فينا ، فعقد مجلساً وعنده الأبرش الكلبي ، فتكلّم بخطبة ارتجلها ما سُمع بمثلها قطُّ ، وامتدحه بقصيدته الرائيَّة ، ويقال : إنّه قالها ارتجالاً ، وهي قوله :

قف بالديار وقوف زائر

فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله :

ما ذا عليك من الوقو

ف بها وإنَّك غير صاغرْ

درجَتْ عليك الغاديا

تُ الرائحاتُ من الأعاصرْ

ويقول فيها :

فالآن صرت إلى أميّ

ة والأمور إلى المصائرْ

__________________

(١) أثبتنا الزيادة من معاهد التنصيص.

٣٠٠