الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

وما الناس إلاّ حاسدٌ ومكذِّبٌ

ومضطغنٌ ذو إحْنةٍ وَتِراتِ

إذا ذَكروا قتلى ببدرٍ وخيبرٍ

ويومَ حُنينٍ أسبلوا العَبَراتِ

قبورٌ بكوفانٍ وأخرى بطَيْبَةٍ

وأخرى بفَخٍّ نالَها صلواتي

وقبرٌ ببغدادٍ لنفسٍ زكيّةٍ

تَضَمَنَّها الرحمنُ في الغُرُفاتِ

فأمّا المُصِماتُ (١) التي لستُ بالغاً

مبالِغَها منّي بكُنهِ صِفاتِ

إلى الحشرِ حتى يبعثَ اللهُ قائماً

يفرِّجُ منها الهمّ والكُرباتِ

نفوسٌ لدى النهرين من أرض كربلا

مُعَرَّسُهمْ فيها بشطِّ فراتِ

تقسّمهم رَيْبُ الزمان كما ترى

لهم عُقرةٌ (٢) مغشيّةُ الحجراتِ

سوى أنّ منهم بالمدينة عُصْبةً

مدى الدهر أنضاءً من الأزماتِ

قليلةُ زوّارٍ سوى بعض زُوَّرٍ

من الضبع والعِقبان والرخَماتِ

لهم كلَّ حينٍ نومةٌ بمضاجعٍ

لهم في نواحي الأرضِ مختلفاتِ

وقد كان منهم بالحجازِ وأهلها

مغاويرُ يُختارون في السرواتِ

تنكّبَ لَأْواء (٣) السنينَ جوارَهمْ

فلا تَصْطَليهِمْ جمرةُ الجَمَراتِ

إذا وَرَدُوا خَيْلاً تشمَّسَ (٤) بالقَنَا

مَساعرُ جمرِ الموتِ والغَمَراتِ

وإنْ فَخَروا يوماً أتَوا بمحمدٍ

وجبريلَ والفرقانِ ذي السُّوَراتِ

ملامَك في أهلِ النبيِّ فإنّهمْ

أحبّايَ ما عاشوا وأهلُ ثِقاتي

تخيّرْتُهمْ رُشْداً لأمري فإنّهمْ

على كلِّ حالٍ خيرةُ الخِيَرَاتِ

فيا ربِّ زدني من يقيني بصيرةً

وزد حبَّهم يا ربِّ في حسناتي

بنفسيَ أنتمْ من كهولٍ وفتيةٍ

لفكِّ عُناة أو لحمل دِياتِ

أُحبُّ قَصيَ الرحْم من أجل حبِّكمْ

وأهجرُ فيكم أُسرتي وبناتي

__________________

(١) المصمات : الدواهي والأمور العظيمة.

(٢) في معجم الأدباء : عُمْرة.

(٣) اللأواء : الشدّة وضيق المعيشة.

(٤) تشمّس : امتنع بسلاحه عن العدو ، يقال فرس شموس إذا منعت ظهرها وأبت الركوب.

٥٠١

وأكتمُ حُبِّيكم مخافةَ كاشح

عنيدٍ لأهلِ الحقِّ غير مواتِ

لقد حفّتِ الأيّامُ حولي بشَرِّها

وإنّي لأرجو الأمْنَ بعد وفاتي

ألم ترَ أنّي مُذ ثلاثين حِجّةً

أروحُ وأغدوا دائمَ الحسَرَاتِ

أرى فَيْئَهَمْ في غيرهم متقسَّماً

وأيدِيَهُمْ من فَيْئِهمْ صَفِراتِ

فآلُ رسولِ اللهِ نُحْفٌ جُسُومُهمْ

وآلُ زياد حُفَّلُ القَصَراتِ (١)

بناتُ زيادٍ في القصورِ مصونةٌ

وآلُ رسولِ اللهِ في الفَلَواتِ

إذا وُتِروا مدّوا إلى أهل وترهم

أكُفّا من الأوتارِ منقبضاتِ

فلو لا الذي أرجوهُ في اليوم أو غدٍ

لقطّعَ قلبي إثرَهم حسراتي

خروجُ إمامٍ لا محالة خارجٍ (٢)

يقوم على اسم الله والبركاتِ

يميِّز فينا كل حقٍّ وباطلٍ

ويَجزي على النعْماءِ والنّقِماتِ

سَأقْصُرُ نفسي جاهداً عن جِدالِهِمْ

كفانيَ ما ألقى من العَبَراتِ

فيا نفسُ طِيبي ثمّ يا نفسُ أبْشِري

فغيرُ بعيدٍ كلُّ ما هو آتِ

فإن قرّب الرحمنُ من تلك مُدّتي

وأخّرَ من عمري لطول حياتي

شُفِيتُ ولم أتركْ لنفسي رزيّةً

ورَوّيت منهم مُنْصُلي وقناتي

أُحاول نقلَ الشمس من مستقرِّها

وأُسْمِعُ أحجاراً من الصلِداتِ

فمن عارفٍ لم ينتفعْ ومعاندٍ

يميلُ مع الأهواء والشبهاتِ

قصاراي منهم أن أموتَ بِغُصّةٍ

تَرَدّدُ بين الصدر واللَهَواتِ

كأنّك بالأضلاعِ قد ضاق رَحْبُها

لِما ضُمِّنَتْ من شدّة الزفراتِ

٥ ـ أخرج شيخ الإسلام أبو إسحاق الحمّوئي المترجم له (١ / ١٢٣) عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي ، قال : أنشدت قصيدة لمولاي عليّ الرضا رضى الله عنه :

مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةٍ

ومنزلُ وحيٍ مُقفرُ العرصاتِ

__________________

(١) الحُفّل من الحافل : الممتلئ. القَصَرات جمع قَصَرة : أصل العنق. (المؤلف)

(٢) خارج : صفة للإمام ، وخبر «لا» محذوف تقديره واقع.

٥٠٢

قال لي الرضا : «أفلا أُلحِقُ البيتين بقصيدتك؟». قلت : بلى يا ابن رسول الله ، فقال :

«وقبر بطوسٍ يا لها من مصيبةٍ

ألحّت بها الأحشاءُ بالزفراتِ

إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً

يفرِّج عنّا الهمَّ والكرباتِ (١)»

قال دعبل : ثمّ قرأت باقي القصيدة فلمّا انتهيت إلى قولي :

خروجُ إمامٍ لا محالة واقعٌ

يقوم على اسم الله والبركاتِ

بكى الرضا بكاء شديداً ثمّ قال : «يا دعبل نطق روح القدُس بلسانك ، أتعرف من هذا الإمام؟» قلت : لا ، إلاّ أنّي سمعت خروج إمام منكم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

فقال : «إنّ الإمام بعدي ابني محمد ، وبعد محمد ابنه عليّ ، وبعد عليّ ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم ، وهو المنتظر في غيبته ، المُطاع في ظهوره ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً ، وأمّا متى يقوم فإخبارٌ عن الوقت. لقد حدَّثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : مَثَلُه كَمَثل الساعة لا تأتيكم إلاّ بغتة». ويأتي هذا الحديث عن الشبراوي أيضاً.

٦ ـ قال أبو سالم بن طلحة الشافعي المتوفّى (٦٥٢) في مطالب السؤول(ص ٨٥):

قال دعبل : لمّا قلت مدارس آيات قصدت بها أبا الحسن عليَّ بن موسى الرضا وهو بخراسان وليّ عهد المأمون ، فأحضرني المأمون وسألني عن خبري ثمّ قال لي : يا دعبل أنشدني مدارس آيات خلت من تلاوة ، فقلت : ما أعرفُها يا أمير المؤمنين ،

__________________

(١) ألحقها الإمام عليه‌السلام بعد قول دعبل : [ ] وقبر ببغدادٍ لنفسٍ زكيّةٍ [ ] تضمّنها الرحمنُ في الغُرُفاتِ [ ] (المؤلف)

٥٠٣

فقال : يا غلام أحضر أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام. فلم يكن إلاّ ساعة حتى حضر ، فقال له : يا أبا الحسن ، سألت دعبلاً عن مدارس آيات خَلَتْ من تلاوة فذكَرَ أنّه لا يعرفها. فقال لي أبو الحسن : «يا دعبل أنشِدْ أمير المؤمنين». فأخذت فيها فأنشدتها ، فاستَحْسَنها فأمر لي بخمسين ألف درهم. وأمر لي أبو الحسن الرضا بقريب من ذلك.

فقلت : يا سيِّدي إن رأيتَ أن تَهَبَني شيئاً من ثيابك ليكون كفني. فقال : «نعم». ثمّ دفع لي قميصاً قد ابتذله ومِنْشفة لطيفة ، وقال لي : «احفظ هذا تُحْرَسْ به» ثمّ دفع لي ذو الرياستين أبو العبّاس الفضل بن سهل وزير المأمون صلةً ، وحَمَلَني على برذون أصفر خراسانيّ ، وكنت أُسايره في يوم مطير وعليه ممطر خزّ وبُرْنُس ، فأمر لي به ودعا بغيره جديد ولبسه ، وقال : إنّما آثرتك باللبيس لأنّه خير الممطرين ، قال : فأُعطِيتُ به ثمانين ديناراً فلم تَطِبْ نفسي ببيعه ، ثمّ كَرَرْتُ راجعاً إلى العراق ، فلمّا صِرتُ في بعض الطريق خرج علينا الأكراد فأخذونا ، فكان ذلك اليوم يوماً مطيراً ، فبقيتُ في قميصٍ خَلقٍ وضُرٍّ شديد ، متأسِّفاً ، من جميع ما كان معي ، على القميص والمنشفة ومفكّراً في قول سيّدي الرضا ، إذ مرَّ بي واحدٌ من الأكراد الحراميّة تحته الفرس الأصفر الذي حملني عليه ذو الرياستين وعليه الممطر ، ووقف بالقرب منّي ليجتمع إليه أصحابه وهو ينشد ـ مدارس آيات خلت من تلاوة ـ ويبكي ، فلمّا رأيت ذلك عَجِبْتُ من لصّ من الأكراد يتشيّعُ ، ثمّ طمعتُ في القميص والمنشفة فقلت : يا سيِّدي ، لمن هذه القصيدة؟ فقال : وما أنت وذاك؟ ويلك!. فقلت : لي فيه سببٌ أُخبرك به ، فقال : هي أشهر بصاحبها من أن تُجهلَ. فقلت : من؟ قال : دعبل بن عليّ الخزاعي شاعر آل محمد جزاه الله خيراً. قلت له : يا سيِّدي فأنا والله دعبل وهذه قصيدتي ، الحديث.

وقال (ص ٨٦) بعد ذكر الحديث ما لفظه : فانظر إلى هذه المنقبة وما أعلاها وما أشرفها ، وقد يقف على هذه القصّة بعض الناس ممّن يطالع هذا الكتاب ويقرؤه

٥٠٤

فتدعوه نفسه إلى معرفة هذه الأبيات المعروفة ب ـ مدارس آيات ـ ويشتهي الوقوف عليها ، وينسبُني في إعراضي عن ذكرها إمّا أنّني لم أعرفها ، أو : أنّني جَهِلتُ ميل النفوس حينئذٍ إلى الوقوف عليها ، فأحببتُ أن أُدخِلَ راحةً على بعض النفوس ، وأن أدفعَ عنّي هذا النقص المتطرِّق إلى بعض الظنون ، فأوردت منها ما يناسب ذلك ، وهي :

ذكرتُ محلَّ الرَّبعِ من عرفاتِ

وأرسلتُ دمعَ العينِ بالعبراتِ

وفلَّ عُرى صبري وهاج صَبابتي

رسومُ ديارٍ أقفرَتْ وعِراتِ

مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تلاوةٍ

ومَهبطُ وحي مُقفِرُ العرصاتِ

لآلِ رسولِ اللهِ بالخَيْفِ من منى

وبالبيتِ والتعريفِ والجَمَراتِ

ديارُ عليٍّ والحسينِ وجعفرٍ

وحمزةَ والسجّادِ ذي الثفناتِ (١)

ديارٌ عفاها جَوْرُ كلِّ مُنابذٍ

ولم تَعْفُ بالأيّام والسنواتِ

ودارٌ لعبد الله والفضلِ صنوهِ

سليلِ (٢) رسولِ الله ذي الدعواتِ

منازلُ كانت للصّلاة وللتّقى

وللصومِ والتطهيرِ والحسناتِ

منازلُ جبريلُ الأمينُ يحلُّها

من الله بالتسليمِ والزكواتِ

منازلُ وحيِ اللهِ مَعدِنِ علمِهِ

سبيلِ رشادٍ واضحِ الطُرقاتِ

منازلُ وحي الله ينزلُ حولَها

على أحمد الروحات والغدواتِ

فأين الأُلى شطّت بهم غُربةُ النّوى

أفانينَ في الأقطار مفترقاتِ

هُمُ آلُ ميراث النبيِّ إذا انتموا

وهمْ خيرُ ساداتٍ وخيرُ حُماةِ

__________________

(١) ذكر الثعالبي في ثمار القلوب : ص ٢٣٣ [ص ٢٩١ رقم ٤٣٩] بيتين من القصيدة ، أحدهما : مدارس آيات. والثاني هذا البيت ، وقال : (ذو الثفنات) كان يقال لكلّ من عليّ بن الحسين بن عليّ عليهم‌السلام وعليّ بن عبد الله بن عبّاس : ذو الثفنات ، لِما على أعضاء السجود منهما من السجدات الشبيهة بثفنات الإبل ؛ وذلك لكثرة صلاتهما. (المؤلف)

(٢) في الديوان : نجيِّ رسول الله.

٥٠٥

مطاعيمُ في الإعسارِ في كلِّ مشهدٍ

لقد شُرِّفوا بالفضلِ والبَركاتِ

إذا لم نُناجِ اللهَ في صَلواتِنا

بذكرِهمُ لم يَقْبَلِ الصّلواتِ

أئمّةُ عَدْلٍ يُقتدى بفعالِهم

وتُؤمَنُ منهم زَلّةُ العَثَراتِ

فيا ربِّ زِدْ قلبي هدىً وبصيرةً

وَزِدْ حبَّهم يا ربِّ في حسناتي

ديارُ رسول الله أصبحنَ بلقعاً

ودار زيادٍ أصبحتْ عمراتِ

وآل رسول الله غُلَّت رقابُهمْ

وآل زيادٍ غُلّظُ القَصَرَاتِ

وآل رسول الله تَدمى نحورُهُمْ

وآل زياد زيَّنوا الحَجَلاتِ (١)

وآل رسول الله تُسبى حريمُهم

وآلُ زياد آمِنوا السَرباتِ

وآل زياد في القصور مصونةٌ

وآل رسولِ اللهِ في الفلواتِ

فيا وارثي علمِ النبيِّ وآلَهُ

عليكم سلامٌ دائمُ النَفَحاتِ

لقد آمنتْ نفسي بكمْ في حياتِها

وإنّي لأرجو الأمنَ بعد مماتي

٧ ـ ذكر شمس الدين سبط ابن الجوزي الحنفي : المتوفّى (٦٥٤) في تذكرته (٢) (ص ١٣٠) من القصيدة (٢٩) بيتاً ، وفيها ما لم يذكره الحموي في معجم الأدباء. وذُكرت في هامش التذكرة القصيدة من أوَّلها إلى ـ مدارس آيات.

٨ ـ ذكر صلاح الدين الصفدي : المتوفّى (٧٦٤) في الوافي بالوفيات (٣) (١ / ١٥٦) طريق رواية القصيدة عن عبيد الله (٤) بن جخجخ النحوي عن محمد بن جعفر بن لنكك أبي الحسن البصري النحوي عن أبي الحسين العباداني عن أخيه عن دعبل. وهذا الطريق ذكره جلال الدين السيوطي في بغية الوعاة (٥) (ص ٩٤).

__________________

(١) الحَجَلاتِ : جمع حَجَلَة ، وهي بيت يزيّن بالثياب والأسرّة والستور.

(٢) تذكرة الخواص : ص ٢٢٧.

(٣) الوافي بالوفيات : ١٤ / ١٤ رقم ١٢.

(٤) قال ياقوت الحموي : كان ثقة صحيح الكتابة [وذكره السيوطي في بغية الوعاة : ٢ / ١٢٦ رقم ١٦٠٧]. (المؤلف)

(٥) بغية الوعاة : ١ / ٢١٩ رقم ٣٩٦.

٥٠٦

٩ ـ روى الشبراوي الشافعي : المتوفّى (١١٧٢) في الإتحاف (ص ١٦٥) عن الهروي ، قال : سمعت دعبلاً يقول : لمّا أنشدت مولاي الرضا قصيدتي التي أوّلها :

مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةٍ

ومهبطُ وحيٍ مقفرُ العَرَصاتِ

فلمّا انتهيت إلى قولي :

خروجُ إمامٍ لا محالةَ خارجٍ

يقوم على اسم الله والبركاتِ

يميِّز فينا كلَّ حقٍّ وباطلٍ

ويُجزي على النعماء والنقماتِ

بكى الرضا عليه‌السلام بكاءً شديداً ثمَّ رفع رأسه إليّ فقال لي : «يا خزاعيُّ نطق روحُ القُدُس على لسانِك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟». فقلت : لا يا سيِّدي؟ إلاّ أنّي سَمِعْتُ بخروجِ إمامٍ منكم ، إلى آخر ما مرَّ عن الحمّوئي (١).

وفي الإتحاف (ص ١٦١) : نقل الطبري في كتابه عن أبي الصلت الهَرَوي قال : دخل الخزاعيُّ على عليِّ بن موسى الرضا بمرو ، فقال : يا ابن رسول الله ، إنّي قلت فيكم أهلَ البيتِ قصيدة ، وآليتُ على نفسي أن لا أُنشِدَها أحداً قبلك ، وأُحبُّ أن تسمعها منّي ، فقال له عليُّ الرضا : «هات قل» ، فأنشأ يقول :

ذكرتُ محلَّ الربعِ من عَرَفاتِ

فَأجْرَيتُ دمعَ العينِ بالعَبَراتِ

وفلَّ عُرى صَبري وهاجَتْ صبابتي

رسومُ ديارٍ أقْفَرتْ وَعِراتِ

مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةٍ

ومَهْبطُ وَحيٍ مُقفِرُ العَرَصاتِ

لآل رسول اللهِ بالخَيْفِ من منى

وبالبيتِ والتعريفِ والجمراتِ

ديار عليٍّ والحسينِ وجعفرٍ

وحمزةَ والسجّادِ ذي الثفَناتِ

__________________

(١) وذكره الصدوق في العيون : ص ٣٧٠ [٢ / ٢٩٦ ح ٣٥ باب ٦٦] ، وكمال الدين : ص ٣٧٢ ، والطبرسي في إعلام الورى : ص ١٩٢ [ص ٣١٨]. (المؤلف)

٥٠٧

ديارٌ لعبدِ الله والفضلِ صِنوِهِ

نَجيِّ رسول اللهِ في الخَلواتِ

منازلُ كانت للصلاة وللتقى

وللصوم والتطهير والحَسَناتِ

منازلُ جبريلُ الأمينُ يَحِلُّها

من الله بالتعليم والرحماتِ

منازلُ وحيِ الله معدنِ علمهِ

سبيلِ رشادٍ واضحِ الطرقاتِ

قفا نسألِ الدارَ التي خَفَّ أهلُها

متى عهدُها بالصومِ والصلواتِ

وأين الأُلى شطّتْ بهم غُربةُ النوى

فأمْسَيْنَ في الأقطار مُفترقاتِ

أُحبُّ قضاء الله من أجل حبِّهمْ

وأهجرُ فيهم أُسرتي وثِقاتي

همُ أهلُ ميراثِ النبيِّ إذا انتموا

وهمْ خيرُ سادات وخيرُ حُماةِ

مطاعيمُ في الإعسار في كلِّ مشهدٍ

لقد شُرِّفوا بالفضلِ والبركاتِ

أئمّةُ عَدلٍ يُقتدَى بفعالِهم

وتُؤْمَنُ منهمْ زلَّةُ العَثَراتِ

فيا ربِّ زِدْ قلبي هدىً وبصيرةً

وزد حبّهم يا ربِّ في حسناتي

لقد آمنتْ نفسي بهمْ في حياتِها

وإنّي لأرجُو الأمنَ بعد وَفاتي

ألم تَرَ أنّي مُذْ ثلاثينَ حِجّةً

أروحُ وأغدو دائمَ الحَسَراتِ

أرى فيئَهم في غيرِهمْ مُتَقَسَّماً

وأيدِيَهمْ من فَيْئِهِمْ صَفِراتِ

إذا وُتِروا مَدّوا إلى أهلِ وِتْرِهِمْ

أكُفّا عن الأوتارِ منقبضاتِ

وآلُ رسول الله نُحْفٌ جُسُومُهمْ

وآلُ زياد غُلَّظ القَصَراتِ

سأبكيهمُ ما ذَرَّ في الأُفق شارقٌ

ونادى منادي الخير بالصلواتِ

وما طلعت شمسٌ وحان غُروبها

وبالليلِ أبكيهمْ وبالغَدَواتِ

ديارُ رسولِ اللهِ أصبحْنَ بَلْقَعاً

وَآلُ زيادٍ تسكُن الحُجُراتِ

وَآلُ زيادٍ في القصورِ مصونةٌ

وآلُ رسولِ اللهِ في الفَلَواتِ

فلو لا الذي أرجوه في اليومِ أو غدٍ

تقطّعُ نفسي إثرهم حسراتي

خروجُ إمامٍ لا محالةَ خارجٍ

يقوم على اسمِ اللهِ بالبركاتِ

يُميِّز فينا كلَّ حُسنٍ وباطلٍ

ويَجزي عن النعماء والنَقِماتِ

فيا نفسُ طيبي ثمّ يا نفسُ فاصبري

فغيرُ بعيد كلُّ ما هو آتِ

٥٠٨

وهي قصيدةٌ طويلةٌ عدّة أبياتها مائةٌ وعشرون بيتاً. ولمّا فرغ دعبل من إنشادها نهض أبو الحسن الرضا وقال : «لا تبرح» فأنفذ إليه صُرّة فيها مائة دينار واعتذر إليه. فردّها دعبل وقال : والله ما لهذا جئتُ وإنّما جئت للسلام عليه والتبرُّك بالنظر إلى وجهه الميمون ، وإنّي لفي غنىً ، فإن رأى أن يعطيني شيئاً من ثيابه للتبرُّك فهو أحبُّ إليَّ ، فأعطاه الرضا جبّة خَزّ وردَّ عليه الصُرَّة وقال للغلام : «قل له : خذْها ولا تَرُدّها ؛ فإنّك ستصرفها أَحوَجَ ما تكونُ إليها». فأخذها وأخذ الجبَّة. إلى آخر حديث اللصوص المذكور.

١٠ ـ ذكر الشبلنجي في نور الأبصار (١) (ص ١٥٣) ما مرَّ عن الشبراوي برُمّته حرفيّا.

أمّا أعلام الطائفة :

فقد ذكر القصيدة وقصّة الجُبّة واللصوص جمعٌ كثيرٌ [منهم] لا نطيل المقال بذكر كلماتهم ، بل نقتصر منها على ما لم يُذكر في الكلمات المذكورة.

روى شيخنا الصدوق في العيون (٢) (ص ٣٦٨) والإكمال (٣) عن الهروي قال : دخل دعبل على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام بمرو فقال له : يا ابن رسول الله ، إنِّي قد قلتُ فيكم قصيدة وآليتُ على نفسي أن لا أُنْشِدَها أحداً قبلك ، فقال عليه‌السلام : «هاتها» ، فأنشده ، فلمّا بلغ إلى قوله :

أرى فيْئَهُمْ في غيرهم مُتَقَسَّماً

وَأيْدِيَهُمْ من فَيْئِهِمْ صَفِراتِ

بكى أبو الحسن عليه‌السلام وقال له : «صدقْتَ يا خزاعِيُّ» ، فلمّا بلغ إلى قوله :

__________________

(١) نور الأبصار : ص ٣١٠.

(٢) عيون أخبار الرضا : ٢ / ٢٩٤ ح ٣٤ باب ٦٦.

(٣) كمال الدين : ص ٣٧٣ ـ ٣٧٦ باب ٣٥.

٥٠٩

إذا وُتِروا مَدّوا إلى واتريهمُ

أكُفّا عن الأوتارِ مُنقبضاتِ

جعل أبو الحسن عليه‌السلام يُقَلِّب كفَّيه ويقول : «أجل والله منقبِضات» ، فلمّا بلغ إلى قوله :

لقد خِفْتُ في الدنيا وأيّامِ سعيها

وإنّي لأرجو الأمنَ بعد وفاتي

قال الرضا : «آمنك الله يوم الفزع الأكبر». فلمّا انتهى إلى قوله :

وقبرٌ ببغدادٍ لنفسٍ زَكيّةٍ

تضمّنها الرحمنُ في الغُرُفاتِ

قال له الرضا : «أفَلا أُلْحِق لكَ بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟».

فقال : بلى يا ابن رسول الله ، فقال عليه‌السلام :

«وقبرٌ بطوسٍ يا لها من مصيبةٍ

تَوَقّدُ في الأحشاءِ بالحُرُقاتِ

إلى الحشر حتى يبعثَ اللهُ قائماً

يُفرِّج عنّا الهمَّ والكُرُباتِ»

فقال دعبل : يا ابن رسول الله هذا القبر الذي بطوس قبر من هو؟

فقال الرضا : «قبري ، ولا تنقضي الأيّام والليالي حتى تصير طوس مُختلَف شيعتي وزوّاري ، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في دَرَجَتي يوم القيامة مغفوراً له». ثمّ نهض الرضا عليه‌السلام وأمر دعبل أن لا يبرح من موضعه ، فذكر قصّة الجبّة واللصوص ثمّ قال :

كانت لدعبل جاريةٌ لها من قِبَلِهِ محلٌّ ، فَرَمَدَتْ عينُها رَمَداً عظيماً ، فأُدخِل أهل الطبِّ عليها فنظروا إليها فقالوا : أمّا العين اليمنى فليس لنا فيها حيلةٌ وقد ذهبت ، وأمّا اليسرى فنحن نعالجها ونجتهد ونرجو أن تَسلمَ. فاغتَمَّ لذلك دعبل غمّا شديداً وجزع عليها جزعاً عظيماً ، ثمّ إنّه ذكر ما كان معه من وُصْلَة الجُبّة ، فَمَسَحَها على عَيْني الجارية وعصبها بعصابة منها من أوّل الليل ، فأصبحت وعيناها أصحّ ممّا كانتا قبلُ

٥١٠

ببركة أبي الحسن الرضا عليه‌السلام (١).

في مشكاة الأنوار (٢) ومؤجِّج الأحزان (٣) : رُوي أنّه لمّا قرأ دعبل قصيدته على الرضا عليه‌السلام وذكر الحجّة ـ عجَّل الله فرجه ـ بقوله :

فلو لا الذي أرجوهُ في اليومِ أو غدٍ

تُقطِّعُ نفسي إثْرَهُمْ حَسَراتي

خروجُ إمامٍ لا محالةَ خارجٍ

يقوم على اسمِ الله والبركاتِ

وضع الرضا عليه‌السلام يَدَهُ على رأسه ، وتواضع قائماً ودعا له بالفَرَج. وحكاه عن المشكاة صاحب الدمعة الساكبة (٤) وغيره.

ولهذه التائيّة عدّة شروح لأعلام الطائفة منها :

شرح العلاّمة الحجّة السيِّد نعمة الله الجزائري : المتوفّى (١١١٢).

شرح العلاّمة الحجّة كمال الدين محمد بن محمد الفَسَوي الشيرازي.

شرح العلاّمة الحاج ميرزا عليّ العلياري التبريزي : المتوفّى (١٣٢٧).

لفت نظر

إنَّ مستهلَّ هذه القصيدة ليس كلّ ما ذكروه ؛ فإنّها مبدوءةٌ بالنسيب ومطلعها :

تجاوبن بالإرنان والزفراتِ

نوائحُ عُجْمُ اللفظِ والنطقاتِ

قال ابن الفتّال في روضته (٥) (ص ١٩٤) ، وابن شهرآشوب في المناقب (٦)

__________________

(١) وذكره الطبرسي في إعلام الورى : ص ١٩١ [ص ٣١٦] ، والإربِلي في كشف الغُمّة : ص ٢٧٥ [٣ / ١١٢]. (المؤلف)

(٢) تأليف الشيخ محمد بن عبد الجبّار البحراني. (المؤلف)

(٣) تأليف الشيخ عبد الرضا بن محمد الأوالي البحراني. (المؤلف)

(٤) الدمعة الساكبة للنبهاني : ٧ / ٣٦٥.

(٥) روضة الواعظين : ١ / ٢٢٧.

(٦) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ٣٦٦.

٥١١

(٢ / ٣٩٤) : رُوي أنّ دعبل أنشدها الإمام عليه‌السلام من قوله : مدارس آياتٍ ، وليس هذا البيت رأس القصيدة ، ولكن أنشدها من هذا البيت فقيل له : لِمَ بدأت بمدارس آيات؟ قال : استحييت من الإمام عليه‌السلام أن أُنشدَه التشبيب ، فأنشدته المناقب ورأس القصيدة :

تجاوبن بالإرنان والزفراتِ

نوائحُ عُجْمُ اللفظِ والنطقاتِ

ذكرها (١) برمّتها وهي مائة وعشرون بيتاً الإربِلي في كشف الغمّة ، والقاضي في المجالس (ص ٤٥١) ، والعلاّمة المجلسي في البحار (١٢ / ٧٥) ، والزنوزي في الروضة الأولى من رياض الجنّة ، ونصَّ على عددها المذكور الشبراوي والشبلنجي كما مرَّ. فما قدّمناه عن الحموي من أنّ نُسَخَ هذه القصيدة مختلفةٌ ، في بعضها زياداتٌ يُظنُّ أنّها مصنوعةٌ ألحَقَها بها أناسٌ من الشيعة ، وإنّا موردون هنا ما صحَّ منها من بعض الظنِّ الذي هو إثمٌ ، وقد ذكر هو في معجم البلدان ما هو خارجٌ عمّا أثبته في معجم الأدباء من الصحيح عنده فحسب ، راجع (٢ / ٢٨) ، وذكر المسعودي في مروج الذهب (٢ / ٢٣٩) وغيره بعض ما ذكره في معجم البلدان. وأثبت سبط ابن الجوزي في التذكرة ، وابن طلحة في المطالب ، والشبراوي في الاتحاف ، والشبلنجي في نور الأبصار زيادات لا توجد فيما استصحّه الحَمَوي ، وليس من الممكن قذف هؤلاء الأعلام بإثبات المفتعل.

وبما أنّ العلم تدريجيُّ الحصول ؛ فمن المحتمل أنّ الحموي يوم تأليفه معجم الأدباء لم يَقِفْ به البحث على أكثر ممّا ذَكَر ، ثمّ لمّا توسّع في العلوم ثبت عنده غيره أيضاً فأدرجه في معجم البلدان الذي هو متأخّرٌ في التأليف ، ولذلك يُحيل فيه على معجم الأدباء في أكثر مجلّداته. راجع (٢ / ٤٥ ، ١١٧ ، ١٣٥ ، ١٨٦ و ٣ / ١١٧ ، ١٨٤

__________________

(١) كشف الغمّة : ٣ / ١١٢ ـ ١١٧ ، مجالس المؤمنين : ٢ / ٥٢٠ ـ ٥٢٤ ، بحار الأنوار : ٤٩ / ٢٤٤ ، الإتحاف بحبّ الأشراف : ص ١٦١ ، نور الأبصار : ص ٣١٠ ، معجم الأدباء : ١١ / ١٠٣ ، معجم البلدان : ١ / ٣١٦ ، مروج الذهب : ٣ / ٣٢٧ ، تذكرة الخواص : ص ٢٢٧ ، مطالب السؤول : ص ٨٦.

٥١٢

و ٤ / ٢٢٨ ، ٤٠٠ و ٥ / ١٨٧ ، ٢٨٩ و ٦ / ١٧٧) وغيرها ، لكنّ سوء ظنِّه بالشيعة حداه إلى نسبة الافتعال إليهم عند تدوين الترجمة ، ونحن لا نناقشه الحساب في هذا التظنِّي ؛ فإنَّ الله لهم بالمرصاد وهو نعم الرقيب والحسيب.

الشاعر

أبو عليّ ـ أبو جعفر ـ دعبل بن عليّ بن رَزِين (١) بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن بُديل بن ورقاء بن عمرو بن ربيعة بن عبد العزّى بن ربيعة بن جزي بن عامر بن مازن بن عدي بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.

أخذناه من (٢) فهرست النجاشي (ص ١١٦) ، وتاريخ الخطيب (٨ / ٣٨٢) ، وأمالي الشيخ (ص ٢٣٩) ، وتاريخ ابن عساكر (٥ / ٢٢٧) ، ومعجم الأدباء للحموي (١١ / ١٠٠) وقال : وعلى هذا الأكثر ، والإصابة لابن حجر (١ / ١٤١).

بيت رزين :

بيت علم وفضل وأدب. وإن خصّه ابن رشيق في عمدته (٣) (٢ / ٢٩٠) بالشعر ، فإنَّ فيهم محدِّثين وشعراء ، وفيهم السؤدد والشرف ، وكلّ الفضل والفضيلة ببركة دعاء النبيِّ الأطهر لجدِّهم الأعلى بُديل بن ورقاء ، لمّا أوقفه العبّاس بن عبد المطّلب يوم الفتح بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله ، هذا يوم قد شرّفتَ فيه قوماً

__________________

(١) في الأغاني : ٨ / ٢٩ [٢٠ / ١٣١] ابن سليمان بن تميم بن نهشل بن خداش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن مزيقيا. (المؤلف)

(٢) رجال النجاشي : ص ١٦١ رقم ٤٢٨ ، أمالي الطوسي : ص ٣٧٦ ح ٨٠٥ ، تاريخ مدينة دمشق : ٦ / ٨٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ١٧٢.

(٣) العمدة : ٢ / ٣٠٧ باب ١٠٢.

٥١٣

فما بال خالك بُديل بن ورقاء وهو قعيد حبّه (١)؟ قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «احسِرْ عن حاجبيك يا بُديل» ؛ فحَسَر عنهما وحدَر لثامه ، فرأى سواداً بعارضه فقال : «كم سنوك يا بُديل؟» فقال : سبعٌ وتسعون يا رسول الله ، فتبسّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «زادك الله جمالاً وسواداً وأمتعك وولدك» (٢).

ومؤسِّس شرفهم الباذخ البطل العظيم عبد الله بن بُديل بن ورقاء الذي كان هو وأخواه عبد الرحمن ومحمد رُسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن كما في رجال الشيخ. وكانوا هم وأخوهم عثمان من فرسان مولانا أمير المؤمنين الشهداء في صفِّين (٣) ، وأخوهم الخامس نافع بن بُديل استشهد على عهد النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورثاه ابن رواحة بقوله :

رَحِمَ اللهُ نافعَ بنَ بُديلٍ

رحمةَ المبتغي ثوابَ الجهادِ

صابراً صادقَ الحديثِ إذا ما

أكثَرَ القومُ قال قولَ السدادِ (٤)

فحسب هذا البيت شرفاً أنّ فيه خمسةَ شهداء ، وهم بعين الله ومع ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان عبد الله من متقدِّمي الشجعان ، والمتبرّز في الفروسيّة ، والمتحَلّي بأعلى مراتب الإيمان ، وعدّه الزُّهري من دُهاة العرب الخمسة كما في الإصابة (٢ / ٢٨١) قال له أمير المؤمنين يوم صفِّين : «احمل على القوم». فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذٍ سيفان ودرعان ، فجعل يضرب بسيفه قدماً ويقول :

لم يبقَ غيرُ الصبر والتوكّلِ

والتُرسِ والرمحِ وسيفٍ مصقلِ

ثمَّ التمشِّي في الرعيل الأوّلِ

مشي الجِمال في حياضِ المنهلِ

__________________

(١) كذا في النسخة المخطوطة من الأمالي ، وفي الطبعة المحقّقة : قعيد حيِّه.

(٢) أمالي الشيخ : ص ٢٣٩ [ص ٣٧٦ ح ٨٠٥] ، الإصابة : ١ / ١٤١ [رقم ٦١٤]. (المؤلف)

(٣) صفّين لابن مزاحم : ص ١٢٦ [ص ٢٤٥] ، خصال الصدوق ، شرح النهج : ١ / ٤٨٦ [٥ / ١٩٦ خطبة ٦٥] ، الإصابة : ٣ / ٣٧١ [رقم ٧٧٥٨]. (المؤلف)

(٤) الإصابة : ٣ / ٥٤٣ [رقم ٨٦٥٠]. (المؤلف)

٥١٤

فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية والذين بايعوه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بُديل ، وبعث إلى حبيب بن مَسلَمة الفهري وهو في الميسرة ، أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس واضطرم الفيلقان ؛ ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام ، وأقبل عبد الله بن بُديل يضرب الناس بسيفه قُدُماً ، حتى أزال معاوية عن موقفه وجعل ينادي : يا ثارات عثمان! وإنّما يعني أخاً له قُتل ، وظنَّ معاوية وأصحابه أنّه يعني : عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيراً ، وأرسل إلى حبيب بن مسلَمة مرّة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق ، فكشفها حتى لم يبق مع ابن بُديل إلاّ نحو مائة إنسان من القرّاء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجَّ ابن بُديل في الناس ، وصمّم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ، ويصمد نحوه حتى انتهى إليه ، ومع معاوية عبد الله بن عامر واقفاً ، فنادى معاوية بالناس : وَيْلَكم ؛ الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح. فرضخه الناس بالصخر والحجارة ، حتى أثخنوه فسقط ، فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه.

وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ؛ فأمّا عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه وترحّم عليه وكان له من قبلُ أخاً وصديقاً ، فقال معاوية : اكشف عن وجهه. فقال : لا والله لا يُمثَّل به وفيَّ روح ، فقال معاوية : اكشف عن وجهه فإنّا لا نُمثِّل به ؛ قد وهبناه لك. فكشف ابن عامر عن وجهه فقال معاوية : هذا كبش القوم وربّ الكعبة ، اللهمّ أظفِرني بالأشتر النخعي والأشعث الكندي! والله ما مثل هذا إلاّ كما قال الشاعر (١)

أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عضّها

وإن شمّرَتْ عن ساقِها الحربُ شمّرا

ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه

قِدى الشِّبْر (٢) يحمي الأنف أن يتأخّرا

__________________

(١) هو حاتم الطائي من قصيدة في ديوانه : ص ١٢١ [ص ٤٩] ، ولم يُرْوَ فيه البيت الثالث. (المؤلف)

(٢) قِدى الشبر : قدره.

٥١٥

كليثٍ هزبرٍ كان يحمي ذمارَهُ

رَمَتْهُ المنايا قَصْدَها فتقطَّرا (١)

ثمّ قال : إنّ نساء خزاعة لو قدَرَت على أن تقاتلني فضلاً عن رجالها لفَعَلَتْ (٢).

ومرّ بعبد الله بن بُديل وهو بآخر رمق من حياته الأسود بن طَهْمان الخزاعي ، فقال له : عزَّ عليَّ والله مصرعك! أما والله لو شَهدْتُك لآسيتُك ولدافعت عنك ، ولو رأيت الذي أشعرك لأحببتُ أن لا أُزايله ولا يزايلني حتى أقتله أو يلحقني بك. ثمّ نزل إليه فقال : رحمك الله يا عبد الله ، إن كان جارُك ليَأمنُ بوائقك ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيراً. أوصني رحمك الله. قال : أُوصيك بتقوى الله ، وأن تناصح أمير المؤمنين ، وتقاتل معه حتى يظهر الحقّ أو تلحق بالله ، وأبلغ أمير المؤمنين عنّي السلام ، وقل له : قاتل على المعركة حتى تجعلَها خلف ظهرك ؛ فإنّه من أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب. ثمّ لم يلبث أن مات ، فأقبل الأسود إلى عليّ عليه‌السلام فأخبره فقال : «رحمه‌الله جاهد معنا عدوّنا في الحياة ونصح لنا في الممات» (٣).

وينمُّ عن عظمة عبد الله بن بُديل بين الصحابة العلويّة قول ابن عدي بن حاتم (٤) ـ رضوان الله عليه ـ يوم صفِّين :

أبعد عمّارٍ وبعدَ هاشمِ

وابن بُديلٍ فارسِ الملاحمِ

نرجو البقاءَ مثل حُلْم الحالمِ

وقد عضَضْنا أمسِ بالأباهمِ

وقول سليمان بن صُرَد الخزاعيّ (٥) يوم صفِّين :

__________________

(١) تقطّر : سقط صريعاً. (المؤلف)

(٢) كتاب صفِّين لابن مزاحم : ص ١٢٦ [ص ٢٤٦] ، شرح النهج لابن أبي الحديد : ١ / ٤٨٦ [٥ / ١٩٦ خطبة ٦٥]. (المؤلف)

(٣) كتاب صفِّين لابن مزاحم : ص ٢٤٣ طبع إيران ، ص ٥٢ [ص ٤٥٦] طبع مصر ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٩٩ [٨ / ٩٢ خطبة ١٢٤]. (المؤلف)

(٤) وقعة صفِّين : ص ٤٠٣.

(٥) وقعة صفِّين : ص ٤٠٠.

٥١٦

يا لَكَ يوماً كاسفاً عَصَبْصَبا (١)

يا لكَ يوماً لا يُواري كوكبا

يا أيّها الحيُّ الذي تذبذبا

لسنا نخاف ذا ظُلَيْمٍ حَوْشَبا

لأنّ فينا بطلاً مُجرَّبا

ابنُ بُديلٍ كالهِزَبْرِ مُغْضَبا

أمسى عليٌّ عندنا مُحَبَّبا

نفديه بالأمّ ولا نُبقي أبا

وقول الشنّي (٢) في أبيات له :

فإن يكُ أهلُ الشامِ أوْدَوا بهاشمٍ

وأوْدَوا بعمّارٍ وأبْقَوا لنا ثُكْلا

وبابنَي بُديلٍ فارِسَيْ كلِّ بُهْمَةٍ

وغيثٍ خزاعيٍّ به ندفعُ المَحْلا (٣)

وأمّا أبو المترجم عليُّ بن رزين فكان من شعراء عصره ، ترجمه المرزباني في معجم الشعراء (٤) (١ / ٢٨٣) ، وجدّه رزين كان مولى عبد الله بن خلف الخزاعيّ أبي طلحة الطلحات ، كما ذكره ابن قتيبة في الشعر والشعراء (٥).

وعمّ المترجم عبد الله بن رزين ، أحد الشعراء كما ذكره ابن رشيق في العمدة (٦).

وابن عمِّه أبو جعفر محمد أبو الشيص بن عبد الله المذكور ، شاعرٌ له ديوان عمله الصولي في مائة وخمسين ورقة ، توجد ترجمته في البيان والتبيين (٣ / ٨٣) ، الشعر

__________________

(١) العصبصب : الشديد.

(٢) وقعة صفّين : ص ٤٠٥.

(٣) البُهْمة بالضم : الجيش. المحْل : الخديعة والكيد. الشدّة. الجدب. (المؤلف)

(٤) معجم الشعراء : ص ١٣٦.

(٥) جدّ المترجَم له هو رزين بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن بُديل بن ورقاء وهو خزاعي دماً لا ولاءً. وأمّا ما في الشعر والشعراء : ص ٥٧٦ من أنَّ جدّه كان مولى لعبد الله بن خلف الخزاعي ، فالمقصود به طاهر بن الحسين أحد قوّاد المأمون واسم جده رُزَيق ، وبه افتخر دعبل في قصيدته التي خاطب بها المأمون بقوله : إنّي من القوم الذين سيوفُهُمْ قتلت أخاك وشرّفوك بمقعدِ

(٦) العمدة : ٢ / ٣٠٧ باب ١٠٢.

٥١٧

والشعراء (١) (ص ٣٤٦) ، الأغاني (٢) (١٥ / ١٠٨) ، فوات الوفيات (٣) (٢ / ٢٥) ، وغيرها.

وترجمه ابن المعتز في طبقاته (٤) (ص ٢٦ ـ ٣٣) وذكر له قصائد طويلة ، غير أنّه عكس في اسمه واسم أبيه وذكره بعنوان : عبد الله بن محمد ، والصحيح : محمد بن عبد الله ، وعبد الله بن أبي الشيص المذكور ، شاعرٌ له ديوانٌ في نحو سبعين ورقة ، وذكره أبو الفرج في الأغاني (٥) (١٥ / ١٠٨) وقال : إنّه شاعرٌ صالح الشعر وكان منقطعاً إلى محمد بن طالب ، فأخذ منه جامع شعر أبيه ، ومن جهته خرج إلى الناس ، وترجمه ابن المعتز في طبقاته (٦) (ص ١٧٣).

أبو الحسن عليّ أخو دعبل :

كان شاعراً له ديوان شعر في نحو خمسين ورقة كما في فهرست ابن النديم (٧) ، سافر مع أخيه المترجم إلى أبي الحسن الرضا ـ سلام الله عليه ـ سنة (١٩٨) وحظيا بحضرته الشريفة مدّة طويلة.

قال أبو الحسن عليٌّ هذا : رحلنا أنا ودعبل سنة (١٩٨) إلى سيِّدي أبي الحسن عليِّ بن موسى الرضا ، فأقمنا عنده إلى آخر سنة مائتين وخرجنا إلى قمٍّ بعد أن خلع سيِّدي أبو الحسن الرضا على أخي دعبل قميصاً خزّا أخضر وخاتماً فُصُّه عقيق ، ودفع إليه دراهم رضويّة ، وقال له : «يا دعبل صِرْ إلى قم ؛ فإنّك تفيد بها». وقال له : «احتفظ بهذا القميص ؛ فقد صلّيتُ فيه ألفَ ليلةٍ ألفَ ركعة ، وختمت فيه القرآن ألفَ

__________________

(١) الشعر والشعراء : ص ٥٧١.

(٢) الأغاني : ١٦ / ٤٣٢.

(٣) فوات الوفيات : ٣ / ٤٠٢ رقم ٤٦٩.

(٤) طبقات الشعراء : ص ٧٢.

(٥) الأغاني : ١٦ / ٤٣٢.

(٦) طبقات الشعراء : ص ٣٦٤.

(٧) فهرست ابن النديم : ص ١٨٣.

٥١٨

ختمة» (١). ولد سنة (١٧٢) وتوفّي (٢٨٣).

وخلّف أبا القاسم إسماعيل بن عليّ الشهير بالدعبلي المولود (٢٥٧) ، يروي كثيراً عن والده أبي الحسن ، كان مقامه بواسط وَوَلِي الحِسْبة (٢) بها ، له كتاب تاريخ الأئمّة وكتاب النكاح.

رَزين أخو دعبل

وأخوه هذا أحد شعراء هذا البيت ، ولدعبل فيه أبيات في تاريخ ابن عساكر (٣) (٥ / ١٣٩).

وقال الأزدي : وخرج إبراهيم بن العبّاس ، ودعبل ورزين ابنا عليّ رجّالةً إلى بعض البساتين ـ أو : إلى زيارة أبي الحسن الرضا عليه‌السلام كما في رواية العيون (٤)) ـ فلقوا جماعة من أهل السواد من حُمّال الشوك ، فأعطَوْهم شيئاً وركبوا حميرهم ، فقال إبراهيم :

أُعيدت بعد حمل الشو

ك أحمالاً من الخَزفِ

نشاوى لا من الخمرةِ

بل من شِدَّة الضَّعفِ

ثمّ قال لرزين : أجِزْها ، فقال :

فلو كنتمْ على ذاك

تصيرون إلى القَصْفِ

تساوَتْ حالكمْ فيهِ

ولا تَبقوا على الخَسْفِ

__________________

(١) فهرست النجاشي : ص ١٩٧ [ص ٢٧٦ رقم ٧٢٧] ، أمالي الشيخ : ص ٢٢٩ [ص ٣٥٩ ح ٧٤٩]. (المؤلف)

(٢) يأتي كلامنا في الحسبة في الجزء الرابع عند ترجمة ابن الحجّاج البغدادي. (المؤلف)

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٦ / ٨١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ١٨٩.

(٤) عيون أخبار الرضا : ٢ / ١٥٣ ح ٧.

٥١٩

ثمّ قالا لدعبل : أجِزْ يا أبا عليّ فقال :

فإذْ فاتَ الذي فاتَ

فكونوا من ذوي الظرفِ

وخفّوا نقصف اليومَ

فإنّي بائعٌ خُفِّي

بدائع البداءة (٢ / ٢١٠)

أمّا المترجَم

فهو دعبل (١) يكنّى أبا عليّ عند الجميع ، وعن ابن أيّوب (٢) : أبو جعفر. وفي الأغاني عن ابن أيّوب : إنَّ اسمه محمد ، وفي تاريخ الخطيب (٨ / ٣٨٣) : زعم أحمد بن القاسم أنّ اسمه الحسن ، وقال ابن أخيه إسماعيل : اسمه عبد الرحمن. وقال غيرهما : محمد ، وعن إسماعيل : إنّما لقَّبَتْهُ دايتُه بدعبل لدعابة كانت فيه ، فأرادت ذعبلاً فقلبت الذال دالاً.

يُقال : أصله كوفيٌّ كما في كثير من المعاجم ، وقيل : من قرقيسيا. وكان أكثر مقامه ببغداد ، وخرج منها هارباً من المعتصم لمّا هجاه وعاد إليها بعد ذلك ، وجوَّل في الآفاق ، فدخل البصرة ودمشق ومصر على عهد المطّلب بن عبد الله بن مالك المصريّ وولاّه أسوان ، فلمّا بلغ هجاؤه إيّاه عزله ، فأنفذ إليه كتاب العزل مع مولى له ، وقال : انتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة ، فإذا علاه فأوصل الكتاب إليه ، وامنعه من الخطبة ، وأنزله عن المنبر واصعد مكانه. فلمّا أن علا المنبر وتنحنح ليخطب ناوله الكتاب ، فقال له دعبل : دعني أخطِب فإذا نزلتُ قرأته. قال : لا ، قد أمرني أن أمنعك الخطبة حتى تقرأه ، فقرأه وأنزله عن المنبر معزولاً وخرج منها إلى المغرب إلى بني

__________________

(١) الدعبل : الناقة التي معها ولدها ، البعير المسنّ ، الشيء القديم ـ الأغاني [٢٠ / ١٣٤ ، ١٣٥]. (المؤلف)

(٢) في الأغاني ، ومعاهد التنصيص [٢ / ١٩٠ رقم ١١٥] ، ونهاية الأرب [٣ / ٩١]. (المؤلف)

٥٢٠