الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

أصحابنا أنَّه روى بإسناده عن سهل بن ذبيان ، قال : دخلت على الإمام عليِّ بن موسى الرضا عليه‌السلام في بعض الأيّام قبل أن يدخل عليه أحدٌ من الناس ، فقال لي : «مرحباً بك يا ابن ذبيان ، الساعة أراد رسولنا أن يأتيك لتحضر عندنا». فقلت : لما ذا يا ابن رسول الله؟ فقال : «لمنام رأيتُهُ البارحة ، وقد أزعجني وأرّقني». فقلت : خيراً يكون إن شاء الله تعالى. فقال : «يا ابن ذبيان ، رأيت كأنّي قد نُصِب لي سُلَّمٌ فيه مائة مرقاة فصعدت إلى أعلاه». فقلت : يا مولاي ، أُهنِّيك بطول العمر ، وربما تعيش مائة سنة. فقال عليه‌السلام : «ما شاء الله كان».

ثمَّ قال : «يا ابن ذبيان ، فلمّا صعدت إلى أعلى السلّم رأيت كأنّي دخلت في قبّة خضراء يُرى ظاهرها من باطنها ، ورأيت جدّي رسول الله جالساً وإلى يمينه وشماله غلامان حَسَنان يشرق النور من وجههما ، ورأيت امرأة بهيّة الخلقة ، ورأيت بين يديه شخصاً بهيَّ الخلقة جالساً عنده ، ورأيت رجلاً واقفاً بين يديه وهو يقرأ :

لأُمِّ عمرو باللوى مربع

طامسةٌ أعلامها بَلْقَعُ

فلمّا رآني النبيُّ قال لي : مرحباً بك يا ولدي يا عليَّ بن موسى الرضا ، سلِّم على أبيك عليّ. فسلّمت عليه ، ثمَّ قال لي : سلِّم على أمِّك فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فسلّمت عليها ، فقال لي : فسلّم على أبويك الحسن والحسين. فسلّمت عليهما ، ثمّ قال لي : وسلّم على شاعرنا ومادحنا في دار الدنيا السيِّد إسماعيل الحميري. فسلّمت عليه وجلست ، فالتفت النبيُّ إلى السيِّد إسماعيل ، وقال له : عُد إلى ما كنّا فيه من إنشاد القصيدة ، فأنشد يقول :

لأمِّ عمرو باللوى مربعُ

طامسةٌ أعلامها بَلْقَعُ

فبكى النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا بلغ إلى قوله :

ووجهه كالشمس إذ تطلعُ

٣٢١

بكى النبيُّ وفاطمة ومن معه ، ولمّا بلغ إلى قوله :

قالوا له لو شئتَ أَعْلَمتَنا

إلى منِ الغايةُ والمفزعُ

رفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه ، وقال : إلهي أنت الشاهد عليَّ وعليهم أَنِّي أَعلَمتهم أنَّ الغاية والمفزع عليُّ بن أبي طالب ، وأشار بيده إليه وهو جالسٌ بين يديه.

قال عليُّ بن موسى الرضا : فلمّا فرغ السيِّد إسماعيل الحميري من إنشاد القصيدة التفتَ النبيُّ إليَّ وقال لي : يا عليّ بن موسى احفظ هذه القصيدة ومُرْ شيعتنا بحِفظها وأَعلِمْهم أنَّ من حفظها وأَدمَن قراءتها ضَمِنْتُ له الجنّة على الله تعالى.

قال الرضا : ولم يزل يكرِّرها عليَّ حتى حفظتها منه ، والقصيدة هذه. ثمَّ ذكرها برمّتها».

قال الأميني : هذا المنام ذكره القاضي الشهيد المرعشي في مجالس المؤمنين (١) (ص ٤٣٦) نقلاً عن رجال الكشّي ، ولم يوجد في المطبوع منه. ولعلّ القاضي وقف على أصل النسخة الكاملة ووجده فيه ، ونقله الشيخ أبو عليّ في رجاله منتهى المقال (٢) (ص ١٤٣) عن عيون الأخبار لشيخنا الصدوق ، وتبعه الشيخ المعاصر في تنقيح المقال (٣) (١ / ٥٩). والسيِّد الأمين في أعيان الشيعة (١٣ / ١٧٠) ، ولم نجده في نسخ العيون المخطوطة والمطبوعة.

ورواه شيخنا المولى محمد قاسم الهزارجريبي في شرح القصيدة ، والسيِّد الزنوزي في الروضة الأولى من كتابه الضخم الفخم رياض الجنّة ، والسيِّد محمد مهدي في آخر كتابه رياض المصائب (٤).

__________________

(١) مجالس المؤمنين : ٢ / ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

(٢) منتهى المقال : ص ١٢٢.

(٣) تنقيح المقال : ١ / ١٤٣.

(٤) رياض المصائب : ص ٤٧٥ ـ ٤٧٩.

٣٢٢

شروح القصيدة :

شرح هذه العينيّة جمعٌ من أعلام الطائفة منهم :

١ ـ الشيخ حسين بن جمال الدين الخوانساري : المتوفّى (١٠٩٩).

٢ ـ ميرزا علي خان الگلپايگاني تلميذ العلاّمة المجلسي.

٣ ـ المولى محمد قاسم الهزارجريبي : المتوفّى بعد سنة (١١١٢) وقد صنّف فيها كتابه التحفة الأحمديّة ، ويوجد هذا الشرح في النجف الأشرف.

٤ ـ بهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن الأصبهاني ، الشهير بالفاضل الهندي المولود (١٠٦٢) والمتوفّى (١١٣٥).

٥ ـ الحاج المولى محمد حسين القزويني : المتوفّى في القرن الثاني عشر.

٦ ـ الحاج المولى صالح بن محمد البرغاني.

٧ ـ الحاج ميرزا محمد رضا القراجة داغي التبريزي ، فرغ منه سنة (١٢٨٩) وطبع في تبريز سنة (١٣٠١).

٨ ـ السيِّد محمد عبّاس ابن السيّد علي أكبر الموسوي : المتوفّى (١٣٠٦) ، أحد شعراء الغدير في القرن الرابع عشر ، يأتي هناك شعره وترجمته.

٩ ـ الحاج المولى حسن ابن الحاج محمد إبراهيم ابن الحاج محتشم الأَرْدَكاني : المتوفّى (١٣١٥).

١٠ ـ الشيخ بخش علي اليزدي الحائريّ : المتوفى (١٣٢٠).

١١ ـ ميرزا فضل عليّ ابن المولى عبد الكريم الإيرواني التبريزي : المتوفّى سنة نيّف و (١٣٣٠) مؤلِّف حدائق العارفين (١).

١٢ ـ الشيخ عليّ بن علي رضا الخوئي : المتوفّى (١٣٥٠).

١٣ ـ السيِّد أنور حسين الهندي : المتوفّى (١٣٥٠).

١٤ ـ السيّد علي أكبر ابن السيِّد رضيّ الرضوي القمّي : المولود سنة (١٣١٧).

__________________

(١) في الذريعة إلى تصانيف الشيعة : ٦ / ٢٨٩ رقم ١٥٥٤ : أنّه توفّي سنة ١٣٣٧.

٣٢٣

١٥ ـ الحاج المولى عليّ التبريزي مؤلِّف وقائع الأيّام المطبوع (١).

وخمّسها جمعٌ من العلماء والأدباء منهم : شيخنا الحُرّ العاملي صاحب الوسائل وحفيده الشيخ عبد الغني العاملي نزيل البصرة والمتوفّى بها ، ومطلع تخميسه :

جوىً به كأس الأسى أَجرَعُ

صِرْفاً وأجفاني حَيَاً (٢) تَدْمَعُ

فاسمع حديثاً بالأسى مسمعُ

لأُمِّ عمروٍ باللّوى مربعُ

ومنهم : الشيخ حسن بن مُجلّي الخطّي ، وأوّل تخميسه :

لا تنكروا إنْ جِيرَتي أزمعوا

هَجْراً وحبلَ الوصل قد قطّعوا

كم دِمنةٍ خاويةٍ تجزعُ

لأُمِّ عمروٍ باللّوى مربعُ

كانت بأهلِ الوُدّ إنسيّةً

تزهو بزَهرِ الروض موشيّةً

فأصبحت بالرغم منسيّةً

تروع عنها الطير وحشيّةً

ومنهم : سيِّدنا السيِّد عليّ النقي النقوي الهندي ، الآتي شعره وترجمته في القرن الرابع عشر ، ومستهلُّ تخميسه :

أتنطوي فوق الأسى الأضلعُ

صبراً وترقا منِّيَ الأدمعُ؟

وذاك حيث الظعن قد أزمعوا

لأُمِّ عمروٍ باللّوى مربعُ

قد ذاكرَتهُ السُحْبُ وسْميّةً

ولاعبَتْهُ الريحُ شرقيّةً

لأَرْسُمٍ أصبحنَ منسيّةً

تروع عنها الطير وحشيّةً

ومن غديريّات السيِّد الحميري :

ـ ١١ ـ

هبَّ عليَّ بالمَلامِ والعَذَلْ

وقال كم تذكرُ بالشعر الأُوَلْ

__________________

(١) هذه الشروح وقفت على بعضها ، ونقلت جملة منها عن الذريعة لشيخنا الرازي. (المؤلف)

(٢) الحيا : المطر.

٣٢٤

كُفَّ عن الشرِّ فقلت لا تقل

ولا تخل أكفُّ عن خير العملْ

إنّي أُحبُّ حيدراً مُناصِحاً

لمن قفا مُواثِباً لمن نَكَلْ

أُحبُّ من آمن بالله ولم

يُشركْ به طَرفة عينٍ في الأَزَلْ

ومن غدا نفسَ الرسول المصطفى

صلّى عليهِ اللهُ عند المُبْتَهلْ

وثانيَ النبيِّ في يوم الكِسا

إذ طهّرَ اللهُ به منِ اشتملْ

وقال خلّفْتُ لكمْ كتابَهُ

وعترتي وكلُّ هذين ثَقَلْ

فليت شعري كيف تُخلفونني

في ذا وذا إذا أردتُ المرتحلْ؟

وجاء من مكّةَ والحجيجُ قدْ

صاحبَهُ من كلِّ سَهْلٍ وجَبَلْ

حتى إذا صار بخُمٍّ جاءَهُ

جبريلُ بالتبليغِ فيهم فنزلْ

وقُمَّ ذاك الدوحُ فاستوى على

رَحْلٍ ونادى بعليٍّ فارتحلْ

وقال هذا فيكمُ خليفتي

ومن عليه في الأمور المتّكلْ

نحن كهاتين وأومأ باصبَعٍ

من كفِّه عن إصبَعٍ لم تنفصِلْ

لا تبتغوا بالطّهر عنهُ بَدَلاً

فليس فيكم لعليٍّ مِن بَدلْ

ثمَّ أدارَ كفّهُ لكفِّهِ

يرفعُها منه إلى أعلى مَحَلْ

فقال بايعوا له وسلّموا ال

 ـ أمرَ إليه واسلموا من الزللْ

ألست مولاكم فذا مولىً لكم

واللهُ شاهدٌ بذا عزَّ وجلْ

يا ربِّ والِ من يوالي حيدراً

وعادِ من عاداهُ واخذُلْ من خَذَلْ

يا شاهدي بلّغتُ ما أنزلهُ

إليَّ جبريلُ وعنهُ لم أَحُلْ

فبايَعُوا وهنَّئوا وبَخْبَخوا

والصدرُ مطويٌّ لهُ على دَغلْ

فقل لمن ينقِمُ منه ما رأى؟

وقل لمن يَعدِلُ عنه لِمْ عدلْ؟

 ـ ١٢ ـ

أَعلِماني أيَّ برهانٍ جَلِي

فتقولان بتفضيل علي؟

بعد ما قام خطيباً مُعْلِناً

يوم خُمٍّ باجتماعِ المحفلِ

٣٢٥

أَحمدُ الخير ونادى جاهراً

بمقالٍ منه لم يفْتَعِلِ

قال إنَّ الله قد أخبَرني

في معاريضِ الكتابِ المُنْزَلِ

إنَّه أكملَ ديناً قيِّماً

بعليٍّ بعد أن لم يَكْمُلِ

وهو مولاكمْ فويلٌ للذي

يتولّى غيرَ مولاه الولي

وهو سيفي ولساني ويدي

ونصيري أبداً لم يَزَلِ

وهو صنوي وصفيِّي والذي

حُبُّهُ في الحشر خيرُ العملِ

نوره نوري ونوري نوره

وهو بي متّصِلٌ لم يُفْصَلِ

وهو فيكم من مقامي بَدَلٌ

وَيْلُ من بَدَّلَ عهدَ البدلِ

قولُهُ قولي فمَنْ يأمرهُ

فليُطعْهُ فيهِ ولَيمتثلِ

إنَّما مولاكُمُ بعدي إذا

حان موتي ودنا مُرتحلي

ابن عمّي ووصيِّي وأخي

ومُجيبي في الرعيل الأوَّلِ

وهو بابٌ لعلومي فسقوا

ماءَ صبر بنقيع الحنظلِ

قطّبوا في وجهِهِ وائتمروا

بينهم فيهِ بأمرٍ مُعْضِلِ

 ـ ١٣ ـ

أَشهدُ باللهِ وآلائهِ

والمرءُ عمّا قاله يُسألُ

أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ

خليفةُ الله الذي يَعدِلُ

وأنَّه قد كان من أحمدٍ

كمِثلِ هارونَ ولا مرسَلُ

لكن وصيٌّ خازنٌ عندهُ

عِلمٌ من الله به يعملُ

قد قام يوم الدوحِ خيرُ الورى

بوجهِهِ للناس يستقبلُ

وقال من قد كنت مولىً له

فذا لهُ مولىً لكم موئلُ

لكنْ تواصوا بعليِّ الهدى

أن لا يُوالوه وأن يخذلوا

 ـ ١٤ ـ

قام النبيُّ يوم خُمٍّ خاطباً

بجانب الدوحاتِ أو حيالها

٣٢٦

فقال منْ كنت له مولىً فذا

مولاه ربِّي اشهدْ مراراً قالَها

قالوا سمعنا وأطعنا كلُّنا

وأسرعوا بالألسنِ اشتغالها

وجاءه مشيخَةٌ يقدمهمْ

شيخٌ يُهنّي حيدراً مثالها

قال له بخٍ بخٍ من مثلُكا

أصبحتَ مولى المؤمنين يا لَها

يا عجباً وللزمان عجبٌ

تلقى ذوو الفكرِ به ضلالَها

إنَّ رجالاً بايَعَتْهُ إنَّما

بايعتِ اللهَ ، فما بدا لها؟

وكيف لم تشهد رجالٌ عندما

استَشْهَدَ في خطبتهِ رجالَها؟

وناشد الشيخَ فقال إنَّني

كَبُرتُ حتى لم أجد أمثالَها

فقال والكاذبُ يُرمى بالتي

ليس تواري عِمّة تنالها

أشار في الأبيات الأخيرة إلى ما مرّ (١ / ١٦٦ ـ ١٨٥ و ١٩١ ـ ١٩٥) من حديث مناشدة أمير المؤمنين عليه‌السلام في الرحبة بحديث الغدير لمّا نُوزعَ في خلافته ، وكتمان أنس ابن مالك شهادته له ، وإصابة دعوته عليه‌السلام عليه.

ـ ١٥ ـ

لمن طَللٌ كالوشم لم يتكلّمِ

وَنُؤيٌ وآثارٌ كترقيش معجمِ؟

ألا أيُّها العاني الذي ليس في الأذى

ولا اللوم عندي في عليٍّ بمحجمِ

ستأتيك منّي في عليٍّ مقالةٌ

تسوؤك فاستأخرْ لها أو تقدّمِ

عليٌّ له عندي على من يَعيبُه

من الناس نصرٌ باليدينِ وبالفمِ

متى ما يُرِدْ عندي مُعاديه عيبَهُ

يجدْ ناصراً من دونِهِ غيرَ مفحَمِ

عليٌّ أحبُّ الناس إلاّ محمداً

إليَّ فدعني من ملامِك أو لُمِ

عليٌّ وصيُّ المصطفى وابنُ عمِّهِ

وأوّلُ من صلَّى ووحّد فاعلمِ

عليٌّ هو الهادي الإمام الذي به

أنارَ لنا من ديننا كلَّ مظلِمِ

عليٌّ وليُّ الحوض والذائد الذي

يُذبِّب عن أرجائه كلَّ مجرمِ

٣٢٧

عليٌّ قسيمُ النار من قولِهِ لها

ذَري ذا وهذا فاشربي منه واطعَمي

خذي بالشوى ممّن يُصيبُكِ منهمُ

ولا تَقربي من كان حزبي فتظلِمي

عليٌّ غداً يُدعى فيكسوه ربُّهُ

ويُدنيه حقّا من رفيقٍ مكرَّمِ

فإن كنتَ منه يوم يُدنيه راغماً

وتُبدي الرضا عنه من الآن فارغمِ

فإنّك تلقاه لدى الحوض قائماً

مع المصطفى الهادي النبيِّ المعظَّمِ

يُجيزانِ من والاهُما في حياتِهِ

إلى الروحِ والظلِّ الظَّليل المُكمَّمِ

عليٌّ أميرُ المؤمنين وحقُّهُ

من الله مفروضٌ على كلِّ مسلمِ

لأنَّ رسول الله أوصى بحقِّه

وأشرَكَهُ في كلِّ فيءٍ ومَغنمِ

وزوجته صِدِّيقةٌ لم يكن لها

مُقارِنةٌ غير البتولةِ مريمِ

وكان كهارونَ بن عمرانَ عندَهُ

من المصطفى موسى النجيبِ المكلَّمِ

وأوجب يوماً بالغدير ولاءَهُ

على كلِّ بَرٍّ من فصيحٍ وأعجمِ

لدى دَوحِ خُمٍّ آخذاً بيمينه

ينادي مبيناً باسمه لم يُجَمْجِمِ

أما والذي يهوي إلى ركن بيته

بِشُعْثِ النواصي كلُّ وجناءَ عَيْهمِ (١)

يُوافينَ بالركبانِ من كلِّ بلدةٍ

لقد ضلَّ يوم الدوح من لم يُسلِّمِ

وأوصى إليه يوم ولّى بأمره

وميراث علم من عُرى الدين محكَمِ

القصيدة يوجد منها (٤٢) بيتاً

قال الحافظ المرزباني في أخبار السيِّد (٢) : إنَّ السيِّد الحميري كتب بهذه القصيدة إلى عبد الله بن إباض رأس الإباضية ، لمّا بلغه أنَّه يعيبُ على عليّ عليه‌السلام ويتهدّد السيِّد بذكره عند المنصور بما يوجب قتله ، فلمّا وصلت إلى ابن إباض امتعض منها جدّا ، وأجلب في أصحابه وسعى به إلى الفقهاء والقرّاء ، فاجتمعوا وصاروا إلى المنصور وهو بدجلة البصرة ، فرفعوا قصّته فأحضرهم ، وأحضر السيِّد فسألهم عن

__________________

(١) ناقة عَيْهم : أي سريعة.

(٢) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٧٢ ـ ١٧٣.

٣٢٨

دعواهم ، فقالوا : إنَّه يشتم السلف ، ويقول بالرجعة ، ولا يرى لك ولا لأهلك إمامة. فقال لهم : دعوني أنا واقصدوا لما في أنفسكم.

ثمَّ أقبل على السيِّد فقال : ما تقول فيما يقولون؟ فقال : ما أشتم أحداً ، وأنّي لأترحّم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا ابن إباض قل له يترحّم على عليٍّ وعثمان وطلحة والزبير.

فقال له : ترحّم على هؤلاء. فَتَلَوّى ـ تثاقل ـ ساعة فخذفه المنصور بعُود كان بين يديه ، وأمر بحبسه فمات في الحبس ، وأمر بمن كان معه فضُربوا بالمقارع ، وأمر للسيِّد بخمسة آلاف درهم.

ـ ١٦ ـ

يا لقَومي للنبيِّ المصطفى

ولما قد نالَ من خيرِ الأُممْ

جحَدوا ما قالهُ في صنوِه

يومَ خُمٍّ بين دوحٍ مُنتظمْ

أيُّها الناس فمن كنتُ لهُ

والياً يوجب حقّي في القِدمْ

فعليٌّ هو مولاهُ لمنْ

كنتُ مولاهُ قضاءً قد حُتِمْ

أفلا ينفُذُ فيهم حكمُه

عجباً يولعُ في القلب الضرَمْ

 ـ ١٧ ـ

ألا إنَّ الوصيّةَ دون شك

لخيرِ الخلقِ من سامٍ وحامِ

وقال محمدٌ بغدير خُمٍ

عن الرحمن يَنْطِقُ باعتزامِ

يصيحُ وقد أشار إليه فيكمْ

إشارةَ غيرِ مُصغٍ للكلامِ

ألا من كنت مولاهُ فهذا

أخي مولاه فاستمعوا كلامي

فقال الشيخُ يقدِمُهمْ إليه

وقد حُصِدت يداه من الزحامِ

ينادي أنت مولاي ومولى ال

أنام فَلِمْ عصى مولى الأنامِ؟

وقد ورِث النبيَّ رِداهُ يوماً

وبُردتَه ولائِكةَ اللجامِ

٣٢٩

ـ ١٨ ـ

على آل الرسول وأقربيه

سلامٌ كلّما سجع الحمامُ

أليسوا في السماء هُمُ نجومٌ

وهم أعلام عزٍّ لا يُرامُ

فيا من قد تحيّرَ في ضلالٍ

أميرُ المؤمنين هو الإمامُ

رسولُ الله يومَ غدير خُمٍ

أنافَ به وقد حَضَر الأنَامُ

تأتي القصيدة بتمامها في ترجمته.

قال ابن المعتز في طبقاته (١) (ص ٨) : حَكَوا عن بعضهم أنّه قال : رأيت حمّالاً عليه حِملٌ ثقيلٌ وقد جهده ، فقلت : ما هذا؟ فقال : ميميّات السيِّد.

ـ ١٩ ـ

نفسي فداءُ رسول الله يوم أتى

جبريلُ يأمر بالتبليغ إعلانا

إن لم تُبلّغْ فما بلّغتَ فانتصبَ

النبيُّ مُمتَثِلاً أمراً لِمَنْ دانا

وقال للناس منْ مَولاكُمُ قبلاً

يومَ الغدير فقالوا أنت مولانا

أنت الرسولُ ونحن الشاهدون على

أن قد نَصَحْتَ وقد بيّنتَ تِبيانا

هذا وليُّكمُ بعدي أُمرتُ بهِ

حَتْماً فكونوا له حِزباً وأعوانا

هذا أبرُّكُمُ بِرّا وأكثركمْ

علماً وأوّلُكم بالله إيمانا

هذا له قُربةٌ منّي ومنزلةٌ

كانت لهارون من موسى بنِ عمرانا

 ـ ٢٠ ـ

أتى جبرئيلٌ والنبيُّ بضَحْوةٍ

فقال أقم والناس في الوَخْد (٢) تُمْحَنُ

وبلّغْ وإلاّ لم تُبلّغْ رسالةً

فَحطَّ وحَطَّ الناسُ ثَمَّ ووطّنوا

على شجراتٍ في الغديرِ تقادمتْ

فقام على رَحلٍ ينادي ويُعلنُ

__________________

(١) طبقات الشعراء : ص ٣٦.

(٢) الوَخْد : ضرب من سير الإبل.

٣٣٠

وقال ألا من كنتُ مولاه منكُمُ

فمولاهُ من بعدي عليٌّ فأذعِنوا

فقال شقيٌّ منهمُ لقرينِهِ

وكم من شقيٍّ يستزلُّ ويفتِنُ

يمدُّ بِضَبْعَيهِ عليّا وإنَّهُ

لما بالذي لم يُؤتَهُ لَمُزيِّنُ

كأن لم يكن في قلبه ثقةٌ به

فيا عجباً أنَّى ومن أينَ يُؤمِنُ؟!

 ـ ٢١ ـ

منحتُ الهوى المحضَ منّي الوصيّا

ولا أمنحُ الوُدَّ إلاّ عليَّا

دعاني النبيُّ عليه‌السلام

إلى حبِّهِ فأجبتُ النبيَّا

فعاديتُ فيه وواليتُهُ

وكنتُ لمولاهُ فيه وليَّا

أقام بخُمٍّ بحيثُ الغديرُ

فقال فأسمعَ صوتاً نَديَّا

ألا ذا إذا متُّ مولاكمُ

فأفْهَمَهُ العُرْبَ والأعجميَّا

 ـ ٢٢ ـ

به وصّى النبيُّ غَداةَ خُمٍ

جميعَ الناس لو حَفِظوا النبيَّا

وناداهمُ ألست لكم بمولى

عبادَ الله فاستمعوا إليَّا

فقالوا أنتَ مولانا وأولى

بنا منّا فضَمَّ له عليَّا

وقال لهم بصوتٍ جَهْوَرِيٍ

وأسمَع صوتَه منْ كان حيَّا

فمن أنا كنتُ مولاهُ فإنّي

جعلت له أبا حسنٍ وليَّا

فعادى اللهُ من عاداهُ منكمْ

وكان بمن تولاّه حفيَّا

 ـ ٢٣ ـ

وقام محمدٌ بغدير خُمٍ

فنادى مُعلِناً صَوتاً نَدِيَّا

لمن وافاهُ من عُربٍ وعُجْمٍ

وحفُّوا حول دوحته حنيَّا

ألا مَن كنتُ مولاه فهذا

له مولىً وكان به حفيَّا

٣٣١

إلهي عادِ من عادى عليّا

وكُن لِوليِّهِ ربِّي وليَّا (١)

الشاعر

أبو هاشم وأبو عامر إسماعيل بن محمد بن يزيد بن وداع الحميري ، الملقَّب بالسيِّد.

نسبه : ذكر أبو الفرج الأصبهاني (٢) وكثيرٌ من المؤرِّخين أنَّه حفيد يزيد بن ربيعة مفرِّغ أو ابن مفرِّغ الحميري الشاعر المشهور ، الذي هجا زياداً وبنيه ونفاهم عن آل حرب ، وحبسه عبيد الله بن زياد لذلك وعذّبه ثم أطلقه معاوية. لكنَّ المرزباني نسبه إلى يزيد بن وداع ، وقال في كتاب أخبار الحميري (٣)) : أمّه من حُدّان (٤) ، تزوّج بها أبوه لأنَّه كان نازلاً فيهم ، وأمُّ هذه المرأة بنت يزيد بن ربيعة بن مفرِّغ الحميري الشاعر المعروف ، وليس ليزيد بن مفرِّغ عقبٌ من وَلَد ذكر ، ولقد غلط الأصمعيّ في نسبة السيِّد إلى يزيد بن مفرِّغ من جهة أبيه ، لأنّه جدُّه من جهة أمّه. انتهى.

وذكر المرزباني له في معجم الشعراء :

إنّي امرؤٌ حِمْيَريٌّ حين تَنسبُني

جدّي رَعينٌ وأخوالي ذوو يَزَنِ

ثمَّ الولاءُ الذي أرجو النجاة به

يومَ القيامة للهادي أبي الحسنِ (٥)

يُكنّى بأبي هاشم ، وقال شيخ الطائفة (٦) : بأبي عامر ، وكان يلقَّب منذ صغر

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٣ / ٤٣٠.

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٤٨.

(٣) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٥١.

(٤) حُدّان ـ بضمّ المُهْمَلة ـ إحدى مَحالّ البصرة القديمة ، يقال لها : بنو حدّان. سمّيت باسم قبيلة أبوها حدّان بن شمس بن عمرو بن الأزد. (المؤلف)

(٥) البيتان من أبيات له تأتي قصّتها. (المؤلف)

(٦) رجال الطوسي : ص ١٤٨ رقم ١٠٨.

٣٣٢

سنِّه بالسيِّد ، قال أبو عمرو الكشّي في رجاله (١) (ص ١٨٦): رُوي أنَّ أبا عبد الله عليه‌السلام لقي السيِّد بن محمد الحميري وقال : «سمّتك أمّك سيِّداً ، وفِّقت في ذلك ، وأنت سيّد الشعراء». ثمّ أنشد السيّد في ذلك :

ولقد عجبتُ لقائلٍ لي مرّةً

علاّمةٍ فَهْمٍ من الفقهاءِ

سماك قومك سيِّداً صدقوا به

أنت الموفَّقُ سيِّدُ الشعراءِ

ما أنت حين تَخُصُّ آل محمدٍ

بالمدح منك وشاعرٌ بسواءِ

مَدَحَ الملوكَ ذوي الغنى لعطائِهمْ

والمدحُ منك لهم بغير عَطاءِ

فابشر فإنَّك فائزٌ في حُبِّهم

لو قد وردتَ عليهمُ بجزاءِ

ما يعدِلُ الدنيا جميعاً كلّها

من حوض أحمدَ شربةً من ماءِ

أبواه وقصّته معهما :

روى أبو الفرج في الأغاني (٢) (٧ / ٢٣٠) بإسناده عن سليمان بن أبي شيخ : أنَّ أبَوَي السيِّد كانا إباضيَّين (٣) ، وكان منزلهما بالبصرة في غرفة بني ضَبَّة ، وكان السيِّد يقول : طالما سُبَّ أمير المؤمنين في هذه الغرفة ، فاذا سئل عن التشيّع من أين وقع له؟ قال : غاصت عليَّ الرحمة غوصاً. وروي عن السيِّد : أنَّ أبويه لمّا علما بمذهبه هَمّا بقتله ، فأتى عُقبة بن سَلْم الهنائي فأخبره بذلك ، فأجاره وبوّأه منزلاً وهبه له ، فكان فيه حتى ماتا فورثهما.

وروى المرزباني في أخبار السيِّد (٤) بإسناده عن إسماعيل بن الساحر راوية

__________________

(١) رجال الكشّي : ٢ / ٥٧٣ رقم ٥٠٧.

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٤٩.

(٣) الإباضية ، بكسر الهمزة : أصحاب عبد الله بن إباض الذي خرج في أيام مروان بن محمد ، وهم قوم من الحَرُورية زعموا أنَّ مخالفهم كافر ، وكفّروا عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام وأكثر الصحابة. (المؤلف)

(٤) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٥٣.

٣٣٣

السيِّد قال : كنت أتغدّى مع السيِّد في منزله ، فقال لي : طال والله ما شتم أميرُ المؤمنين عليه‌السلام ولعن في هذا البيت. قلت : ومن فعل ذلك؟ قال : أبواي كانا إباضيَّين. قلت : فكيف صرت شيعيّا؟ قال : غاصت عليَّ الرحمة فاستنقذتني.

روى المرزباني (١) أيضاً عن حردان الحفّار ، عن أبيه وكان أصدق الناس أنَّه قال : شكا إليَّ السيِّد أنَّ أمّه توقظه بالليل وتقول : إنّي أخاف أن تموت على مذهبك فتدخل النار ؛ فقد لَهِجتَ بعليٍّ وولده فلا دنيا ولا آخرة. ولقد نغّصَتْ عليَّ مطعمي ومشربي ، وقد تركت الدخول إليها ، وقلت أنشد قصيدة منها :

إلى أهل بيتٍ ما لِمنْ كان مؤمناً

من الناسِ عنهمْ في الولايةِ مذهبُ

وكم من شقيقٍ لامني في هَواهمُ

وعاذلةٍ هبّتْ بليلٍ تؤنِّبُ

تقول ولم تقصد وتعتب ضلّةً

وآفةُ أخلاقِ النساءِ التعتّبُ

وفارقت جيراناً وأهلَ مودّةٍ

ومن أنت منه حينَ تدعى وتُنسبُ

فأنت غريبٌ فيهمُ متباعدٌ

كأنَّك ممّا يتَّقونكَ أجربُ

تَعيبُهمُ في دينهمْ وهُمُ بما

تدينُ به أزرى عليك وأعيبُ

فقلتُ دعيني لن أُحبِّر مِدحةً

لغيرهمُ ما حجَّ للهِ أركُبُ

أَتَنْهَيْنَني عن حبِّ آل محمدٍ

وحبُّهمُ ممّا به أتقرَّبُ

وحبّهمُ مثلُ الصلاة وإنَّه

على الناس من بعد الصلاة لأوجبُ (٢)

وقال المرزباني (٣) : أخبرني محمد بن عبيد الله البصري عن محمد بن زكريّا الغلابي ، قال : حدّثتني العبّاسة بنت السيِّد قالت : قال لي أبي : كنت وأنا صبيٌّ أسمع أَبَويَّ يَثلبانِ أمير المؤمنين عليه‌السلام فأَخرجُ عنهما وأبقى جائعاً ، وأُوثر ذلك على الرجوع

__________________

(١) أخبار السيّد الحميري : ص ١٥٤.

(٢) في بعض النسخ : من بعض الصلاة لأوجبُ. وحقّ المقام أن يقول : من قبلِ الصلاة. (المؤلف)

(٣) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٥٤.

٣٣٤

إليهما ، فأبيت في المساجد جائعاً لحبّي فراقهما وبغضي إيّاهما ، حتى إذا أَجهدني الجوع رجعتُ فأكلتُ ثمَّ خرجتُ ، فلمّا كبُرتُ قليلاً وعقلت وبدأت أقول الشعر قلت لأبويَّ : إنَّ لي عليكما حقّا يصغُر عند حقِّكما عليَّ ، فجنِّباني إذا حضرتُكما ذِكر أمير المؤمنين عليه‌السلام بسوء ، فإنَّ ذلك يزعجني وأَكرهُ عقوقكما بمقابلتكما ، فتماديا في غيِّهما فانتقلت عنهما ، وكتبت إليهما شعراً وهو :

خفْ يا محمدُ فالقَ الإصباحِ

وأَزل فساد الدين بالإصلاحِ

أَتسبُّ صنوَ محمدٍ ووصيَّهُ

ترجو بذلك فوزة الإنجاحِ؟

هيهات قد بَعُدا عليك وقرّبا

منك العذاب وقابضَ الأرواحِ

أوصى النبيُّ له بخيرِ وصيّةٍ

يومَ الغديرِ بِأَبْيَنِ الإفصاحِ

إلى آخر الأبيات المذكورة في غديريّاته. فتواعدني بالقتل ، فأتيت الأمير عُقبة ابن سَلْم فأخبرته خبري ، فقال لي : لا تقربْهما ، وأعدَّ لي منزلاً أمرَ لي فيه بما أحتاج إليه ، وأجرى عليَّ جراية تَفْضُل على مؤونتي.

وقال (١) : كان أبواه يُبغضان عليّا عليه‌السلام فسمعهما يسبّانِهِ بعد صلاةِ الفجر! فقال :

لعن اللهُ والديَّ جميعاً

ثمَّ أصلاهما عذابَ الجحيمِ

حَكما غَدوةً كما صلّيا الفج

رَ بِلَعْنِ الوصيِّ بابِ العلومِ

لعنا خيرَ من مشى فوق ظهر ال

أرضِ أو طاف مُحرِماً بالحَطيمِ

كَفَرا عند شَتْمِ آل رسول ال

لّهِ نسلِ المُهذَّبِ المعصومِ

والوصيِّ الذي به تثبتُ الأر

ضُ ولولاه دُكدِكَتْ كالرميمِ

وكذا آلُهُ أولو العلمِ والفه

مِ هداةٌ إلى الصراط القويمِ

خلفاء الإله في الخَلْقِ بالعد

ل وبالقسط عند ظُلْم الظلومِ

__________________

(١) أخبار السيّد الحميري : ص ١٧٦.

٣٣٥

صلوات الإله تَتْرى عليهمْ

مُقْرَناتٍ بالرحبِ والتسليمِ

ورواها ابن شاكر في الفوات (١) (١ / ١٩).

عظمته والمؤلّفون في أخباره :

لم تفتأ الشيعة تبجِّل كلَّ مُتهالك في ولاء أئمّة أهل البيت ، وتقدِّر له مكانة عظيمة ، وتُكْبر منه ما أكبره الله سبحانه ورسوله من منصّة العظمة. أضف إلى ذلك ما كان بمرأى منهم ومسمع في حقّ السيِّد خاصّة من تكريم أئمّة الحقّ ـ صلوات الله عليهم ـ مثواه ، وتقريبهم لمحلّه منهم ، وإزلافهم إيَّاه ، وتقديرهم لسعيه المشكور في الإشادة بذكرهم والذبِّ عنهم ، والبثِّ لفضائلهم ، وتظاهره بموالاتهم ، وإكثاره من مدائحهم ، مع ردِّه الصلات تجاه هاتيك العقود الذهبيّة ؛ لأنَّ ما كان يصدر منه من تلكم المظاهر لم تكن إلاّ تزلّفاً منه إلى المولى سبحانه ، وأداءً لأجر الرسالة ، وصلةً للصادع بها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولقد كاشف في ذلك كلّه أبويه الناصبيَّين الخارجيَّين ، فكان معجزة وقته في التلفّع بهذه المآثر كلّها ، والتظاهر بهذا المظهر الطاهر ، ومنبته ذلك المنبت الخبيث ، فما كان الشيعيُّ يومذاك وهلمّ جرّا يجد من واجبه الدينيِّ إلاّ إكباره وخفض الجناح عند عظمته.

قال ابن عبد ربّه في العقد الفريد (٢) (٢ / ٢٨٩) : السيِّد الحميري وهو رأس الشيعة ، وكانت الشيعة من تعظيمها له تلقي له وسادة بمسجد الكوفة.

وفي حديث شيخ الطائفة الآتي : قال جعفر بن عفّان الطائي للسيِّد : يا أبا هاشم أنت الرأس ونحن الأذناب.

وليس ذلك ببدعٍ من الشيعة بعد ما أزلفه الإمام الصادق عليه‌السلام وأراه من دلائل الإمامة ما أبقى له مكرمة خالدة حفظها له التاريخ كحديث انقلاب الخمر لبناً ، والقبر ،

__________________

(١) فوات الوفيات : ١ / ١٨٨ رقم ٧٢.

(٢) العقد الفريد : ٤ / ١٤٤.

٣٣٦

وإطلاق لسانه في مرضه وغيرها ، واستفاض الحديث بترحُّمه عليه‌السلام عليه والدعاء له والشكر لمساعيه ، وبلغهم قوله عليه‌السلام لعُذّاله فيه : «لو زَلّت له قدمٌ فقد ثبتت الأخرى». وقد أخبره بالجنّة.

وكان يستنشد الإمام عليه‌السلام شعره ويحتفل به ، وقد أنشده إيّاه فُضيل الرسّان وأبو هارون المكفوف ، والسيِّد نفسه.

روى أبو الفرج عن عليّ بن إسماعيل التميمي عن أبيه قال : كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام إذ استأذن آذنه للسيِّد فأمره بإيصاله ، وأقعد حُرَمَه خلف ستر ، ودخل فسلّم وجلس ، فاستنشده فأنشد قوله :

أُمرر على جَدَثِ الحسي

ن فقل لأعظُمِه الزكيَّه

يا أَعْظُماً لا زلتِ من

وَطْفَاءَ (١) ساكبةٍ رَوِيَّه

فإذا مَررتَ بقبرِهِ

فأَطِلْ به وَقْفَ المطيَّه

وابْكِ المطهَّرَ للمطهَّ

رِ والمطهَّرةِ النقيَّه

كبُكاءِ مُعْولةٍ أَتَتْ

يوماً لواحدها المنيَّه (٢)

قال : فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدّرُ على خدَّيه ، وارتفع الصراخ والبكاء من داره ، حتى أمره بالإمساك ، فأمسك. قال : فحدّثت أبي بذلك لمّا انصرفت ، فقال لي : ويلي على الكيسانيِّ الفاعل ابن الفاعل يقول :

فإذا مررت بقبرِهِ

فأَطِلْ به وَقْفَ المَطيَّه

فقلت : يا أبت وما ذا يصنع؟ قال : أولا ينحر؟! أولا يقتُل نفسه؟! فثكلته أمّه. الأغاني (٣) (٧ / ٢٤٠).

__________________

(١) وطف المطر : انهمر. يقال : سحابة وطفاء ؛ أي مسترخية لكثرة مائها. (المؤلف)

(٢) يوجد من القصيدة (٢٣) بيتاً. (المؤلف)

(٣) الأغاني : ٧ / ٢٦٠.

٣٣٧

وهذه القصيدة أنشدها أبو هارون المكفوف الإمامَ الصادق عليه‌السلام. روى شيخنا ابن قولويه في الكامل (ص ١٠٤ ـ ١٠٦ باب ٣٣) عن أبي هارون ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه‌السلام».

قال : فأنشدته فبكى. فقال : «أنشدني كما تنشدون» يعني بالرقّة. قال : فأنشدته :

أُمررْ على جَدَثِ الحسي

ن فقل لأَعظُمِهِ الزكيَّه

[قال : فبكى] (١) ثمّ قال : «زدني». قال : فأنشدته القصيدة الأخرى. وفي لفظه الآخر : فأنشدته :

يا مريمُ قومي اندُبي مولاكِ

وعلى الحسين فأسعدي ببكاكِ

قال : فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر. الحديث.

ورواه شيخنا الصدوق في ثواب الأعمال (٢).

وهناك منامات صادقة تنمُّ عن تزلُّف السيِّد عند النبيِّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّت جملة منها (ص ٢٢١ ـ ٢٢٤) ، وروى أبو الفرج عن إبراهيم بن هاشم العبدي أنّه قال : رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وبين يديه السيِّد الشاعر وهو ينشد :

أجَدَّ بآلِ فاطمةَ البُكُورُ

فدمعُ العين مُنْهمرٌ غزيرُ

حتى أنشده إيّاها على آخرها وهو يسمع قال : فحدَّثت هذا الحديث رجلاً جمعتني وإيّاه طوس عند قبر عليّ بن موسى الرضا ، فقال لي : والله لقد كنت على خلاف ، فرأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام وبين يديه رجلٌ ينشد :

__________________

(١) الزيادة من المصدر.

(٢) ثواب الأعمال : ص ٨٣.

٣٣٨

أجدَّ بآل فاطمةَ البُكُورُ

فدمعُ العين مُنْهمرٌ غزيرُ

إلى آخر القصيدة.

فاستيقظت من نومي ، وقد رسخ في قلبي من حبِّ عليِّ بن أبي طالب رضى الله عنه ما كنت أعتقده. الأغاني (١) (٧ / ٢٤٦)

هذه مكرمةٌ للسيِّد تشفُّ عن عظمة محلّه ، وحسن عقيدته ، وخلوص نيّته ، وسلامة مذهبه ، وطهارة ضميره ، وصدق موقفه. ومهما عرف أعلام الأمّة مسيس حاجة المجتمع إلى سرد تاريخ مثل السيِّد من رجالات الفضيلة سلفاً وخلفاً ، أفرد جمعٌ منهم تآليف في أخبار السيِّد وشعره ، فمنهم :

١ ـ أبو أحمد عبد العزيز الجلودي الأزدي البصري : المتوفّى (٣٣٢).

٢ ـ الشيخ صالح بن محمد الصرمي ، شيخ أبي الحسن الجندي.

٣ ـ أبو بكر محمد بن يحيى الكاتب الصولي : المتوفّى (٣٣٥).

٤ ـ أبو بشر أحمد بن إبراهيم العمّي البصري ، ذكر له شيخ الطائفة في فهرسته (ص ٣٠) كتاب أخبار السيِّد وشعره ، وفي معجم الأدباء (٢ / ٢٢٦) : كتاب أخبار السيِّد ، ويظهر من رجال النجاشي (ص ٧٠) ومعالم العلماء أنّه ألّف كتاباً في أخباره وكتاباً في شعره.

٥ ـ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد ، المعروف بابن عبدون شيخ النجاشي.

٦ ـ أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني : المتوفّى (٣٧٨) ، له كتاب أخبار السيِّد ، وقفنا على بعض أجزائه ، وهو جزء من كتابه أخبار الشعراء المشهورين المكثرين في عشرة آلاف ورقة كما في فهرست ابن النديم (٢).

٧ ـ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عيّاش الجوهري : المتوفّى (٤٠١).

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٦٦.

(٢) الفهرست : ص ١٤٦.

٣٣٩

٨ ـ إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان النخعي.

٩ ـ المستشرق الفرنسوي بربيه دي مينار ، جمع أخباره في مائة صحيفة ، طبعت في پاريس.

فهرست النجاشي (ص ٥٣ ، ٦٣ ، ٦٤ ، ٧٠ ، ١٤١ ، ١٧١) ، فهرست ابن النديم (ص ٢١٥) ، فهرست شيخ الطائفة (ص ٣٠) ، معالم العلماء (ص ١٦) ، الأعلام (١ / ١١٢) (١).

الثناء على أدبه وشعره :

كان السيّد في مقدَّمي المكثرين المجيدين وأحد الشعراء الثلاثة الذين عُدّوا أكثر الناس شعراً في الجاهليّة والإسلام ، وهم : السيِّد ، وبشّار ، وأبو العتاهية.

قال أبو الفرج (٢) : لا يُعلَم أنَّ أحداً قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع. وقال المرزباني (٣) : لم يُسمَع أن أحداً عمل شعراً جيِّداً وأكثر غير السيِّد ، وروى عن عبد الله بن إسحاق الهاشمي قال : جمعت للسيِّد ألفي قصيدة وظننت أنَّه ما بقي عليَّ شيءٌ ، فكنت لا أزال أرى من ينشدني ما ليس عندي ، فكتبت حتى ضجرت ثمَّ تركت.

وقال : سُئل أبو عبيدة من أشعرُ المولَّدين؟ قال : السيِّد وبشّار. ونقل عن الحسين بن الضحّاك أنَّه قال : ذاكرني مروان بن أبي حفصة أمر السيِّد بعد موته ، وأنا أحفظ الناس لشعر بشّار والسيِّد ، فأنشدته قصيدته المذهَّبة التي أوّلها (٤) :

__________________

(١) رجال النجاشي : ص ١٩٩ رقم ٥٢٨ ، ص ٨٧ رقم ٢١١ ، ص ٨٥ رقم ٢٠٧ ، ص ٩٦ رقم ٢٣٩ ، ص ٧٣ رقم ١٧٧ ، ص ٢٤٤ رقم ٦٤٠ ، فهرست ابن النديم : ص ١٤٦ ، معالم العلماء : ص ١٨ رقم ٨١ ، ص ١١٨ رقم ٧٨٦ ، الأعلام : ٥ / ٢١٤.

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٤٩.

(٣) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٥٢ ، ١٥٣.

(٤) مرّ أول القصيدة : ص ٢١٣ ، والبيتان هما البيت الخامس عشر والسادس عشر منها. (المؤلف)

٣٤٠