الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الشاعر

عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد ـ بالتصغير ـ بن سهم بن عمرو ابن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي ، أبو محمد وأبو عبد الله.

أحد دُهاة العرب الخمسة ، منه بدأت الفتن وإليه تعود. وتقحّمه في البوائق والمخاريق ثابت مشهور تضمّنته طيّات الكتب ، وتناقلته الآثار والسِيَر ، وإذا استرسلتَ في الكلام عن الجور ، والفجور ، فحدِّث عنه ولا حرج ، كما تجده في كلمات الصحابة الأوّلين ، فالبغل نغل وهو لذلك أهل (١) ، ويقع الكلام في ترجمته على نواحٍ شتّى.

نسبه :

أبوه هو الأبتر بنصِّ الذكر الحميد : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٢) وعليه أكثر أقوال المفسِّرين والعلماء (٣).

وفي بعض التفاسير ، وإن جاء ترديدٌ بينه وبين أبي جهل وأبي لهب وعقبة بن أبي معيط وغيرهم ، إلاّ أنّ القول الفصل ما ذكره الفخر الرازي من : أنّ كُلاّ من أُولئك كانوا يَشنَئون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ أنّ ألهجهم به ، وأشدّهم شنأةً العاص بن وائل. فالآية تشملهم أجمع ، وتخصُّ اللعين بخزيٍ آكد ، ولذلك اشتهر بين المفسِّرين أنَّه هو المراد.

قال الرازي في تفسيره (٤) (٨ / ٥٠٣) : رُوي أنّ العاص بن وائل كان يقول : إنَ

__________________

(١) مثل يضرب لمن لؤم أصله ، فخبث فعله [مجمع الأمثال : ١ / ١٨٥ رقم ٥٣٣]. (المؤلف)

(٢) الكوثر : ٣.

(٣) راجع الطبقات لابن سعد : ١ / ١١٥ [١ / ١٣٣] ، والمعارف لابن قتيبة : ص ١٢٤ [ص ٢٨٥] ، وتاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٣٠ [١٣ / ٤٩٣ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٩ / ٢٣٢]. (المؤلف)

(٤) التفسير الكبير : ٣٢ / ١٣٢ ، ١٣٣.

١٨١

محمداً أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده ، فإذا مات انقطع ذكره ، واسترحتم منه ، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة ، وهذا قول ابن عبّاس ، ومقاتل ، والكلبي ، وعامّة أهل التفسير. وقال (ص ٥٠٤) بعد نقل الأقوال الأُخَر : ولعلّ العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبةً على هذا القول ، فلذلك اشتهرت الروايات بأنَّ الآية نزلت فيه.

وروى التابعيُّ الكبير سليم بن قيس الهلالي في كتابه (١) : أنَّ الآية نزلت في المترجَم نفسه ، كان أحد شانئي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا مات ولده إبراهيم ، فقال : إنَّ محمداً قد صار أبتر لا عقب له. وذكّره بذلك أمير المؤمنين في أبيات له تأتي ، فقال :

إن يَقرِنوا وصيَّهُ والأبترا

شاني الرسولِ واللعينَ الأخزرا

وذكّره بذلك عمّار بن ياسر يوم صفِّين وعبد الله بن جعفر ، في حديثيهما الآتيين. فالمترجَم له هو الأبتر ابن الأبتر ، وبذلك خاطبه أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتاب له يأتي بقوله : «من عبد الله أمير المؤمنين ، إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص ، شانئ محمد وآل محمد في الجاهليّة والإسلام».

تُعرِّفنا الآية الكريمة المذكورة أنَّ كلَّ معزوٍّ إلى العاص من الولد من ذكر أو أنثى ، من المترجم له أو غيره ليسوا لرشدة ، فمن هنا تعرف فضيلة عمرو من ناحية النسب ، أضف إلى ذلك حديث أمِّه ليلى العنزيّة الجلاّنيّة.

كانت أمّه ليلى أشهر بغيٍّ بمكّة ، وأرخصهنَّ أُجرةً ، ولمّا وضعته ادّعاه خمسة ، كلّهم أتوها ، غير أنّ ليلى ألحقته بالعاص لكونه أقرب شبهاً به ، وأكثر نفقةً عليها ، ذكرت ذلك أروى بنت الحارث بن عبد المطّلب ، لمّا وفدت إلى معاوية ، فقال لها : مرحباً بك يا عمّة؟ فكيف كنت بعدنا؟

فقالت : يا ابن أخي ، لقد كفرتَ يد النعمة ، وأسأت لابن عمِّك الصحبة ،

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس : ٢ / ٧٣٧ ح ٢٢.

١٨٢

وتسمَّيت بغير اسمك ، وأخذت غير حقِّك ، من غير بلاء كان منك ولا من آبائك ، ولا سابقة في الإسلام ، ولقد كفرتم بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتعسَ الله منكم الجدود ، وأصعرَ منكم الخدود ، حتى ردّ الله الحقَّ إلى أهله ، وكانت كلمة الله هي العليا ، ونبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنصور على من ناوأه ولو كره المشركون ، فكنّا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظّا ، ونصيباً ، وقدراً ، حتى قبض الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغفوراً ذنبه ، مرفوعاً درجته ، شريفاً عند الله مرضيّا ، فصرنا ـ أهل البيت ـ منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون ، يُذبِّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وصار ابن عمِّ سيِّد المرسلين فيكم بعد نبيِّنا بمنزلة هارون من موسى حيث يقول : (قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) (١) ولم يجمع بعد رسول الله لنا شملٌ ، ولم يَسهُلْ لنا وعرٌ ، وغايتنا الجنّة ، وغايتكم النار.

فقال لها عمرو بن العاص : أيّتها العجوز الضالَّة اقصري من قولكِ ، وغضِّي من طرفك.

قالت : ومن أنت ، لا أمَّ لك؟ قال : عمرو بن العاص.

قالت : يا ابن اللخناء النابغة ، تتكلّم وأمّك كانت أشهر امرأة بمكّة ، وآخذهن لأُجرة ، اربَع على ظَلعك (٢) وَاعْنَ بشأن نفسك ، فو الله ما أنت من قريش في اللُّباب من حسبها ، ولا كريم منصبها ، ولقد ادّعاك ستّة (٣) نفرٍ من قريش ، كلّهم يزعم أنَّه أبوك ، فسئلت أمُّك عنهم ، فقالت : كلّهم أتاني ، فانظروا أشبههم به فألحقوه به ، فغلب عليك شَبَه العاص بن وائل ، فَلَحِقت به ، ولقد رأيت أمّك أيّام منى بمكّة مع كلّ عبدٍ

__________________

(١) الأعراف : ١٥٠.

(٢) مثل يضرب لمن يتوعّد. ربع في المكان أي أقام به. الظلع ، العرج : يقال : ظلع البعير أي غمز في مشيته. فالمعنى : لا تجاوز حدّك في وعيدك ، وأبصر نقصك وعجزك عنه [المستقصى في أمثال العرب : ١ / ١٣٨ رقم ٥٣٣]. (المؤلف)

(٣) في العقد الفريد : [١ / ٢٢٥] ، وروض المناظر:[١ / ٢٢٩ حوادث سنة ٦٠ ه‍]: خمسة.(المؤلف)

١٨٣

عاهر ، فائتمّ بهم ، فإنّك بهم أشبه (١).

وقال الإمام السبط الحسن الزكي ـ سلام الله عليه ـ بمحضر من معاوية وجمع آخر : «أمّا أنت يا ابن العاص فإنَّ أمرك مشترك ، وضعتك أمّك مجهولاً من عِهرٍ وسِفاح ، فتحاكم فيك أربعة (٢) من قريش ، فغلب عليك جزّارُها ، ألأمُهم حَسَباً ، وأخبثُهم منصباً ، ثمّ قام أبوك فقال : أنا شانئ محمد الأبتر ، فأنزل الله فيه ما أنزل» (٣).

وعدّه الكلبي أبو المنذر هشام : المتوفّى (٢٠٤ ، ٢٠٦) في كتابه مثالب العرب ـ الموجود عندنا ـ ممّن يدين بسفاح الجاهليّة ، وقال في باب تسمية ذوات الرايات : وأمّا النابغة أمّ عمرو بن العاص فإنّها كانت بغيّا من طوائف مكّة ، فقدمت مكّة ومعها بنات لها ، فوقع عليها العاص بن وائل في الجاهليّة في عدّة من قريش منهم : أبو لهب ، وأميّة بن خلف ، وهشام بن المغيرة ، وأبو سفيان بن حرب ، في طهر واحد ، فولدت عمراً ، فاختصم القوم جميعاً فيه ، كلٌّ يزعم أنَّه ابنه. ثمَّ إنَّه أضرب عنه ثلاثة وأكبَّ عليه اثنان : العاص بن وائل ، وأبو سفيان بن حرب ، فقال أبو سفيان : أنا والله وضعته في حِر أمِّه. فقال العاص : ليس هو كما تقول ، هو ابني ، فحكّما أمّه فيه ، فقالت : للعاص. فقيل لها بعد ذلك : ما حملكِ على ما صنعتِ وأبو سفيان أشرف من العاص؟ فقالت : إنَّ العاص كان ينفق على بناتي ، ولو ألحقته بأبي سفيان لم ينفق عليَّ العاص شيئاً ، وخفتُ الضيعة ، وزعم ابنها عمرو بن العاص أنّ أمّه امرأة من عنزة بن

__________________

(١) بلاغات النساء : ص ٢٧ [ص ٤٣] ، العقد الفريد : ١ / ١٦٤ [١ / ٢٢٥] ، روض المناظر : ٨ / ٤ [١ / ٢٢٩ حوادث سنة ٦٠ ه‍] ، ثمرات الأوراق : ١ / ١٣٢ [ص ١٥٢] ، دائرة المعارف لفريد وجدي : ١ / ٢١٥ ، جمهرة الخطب : ٢ / ٣٦٣ [٢ / ٣٨٢ رقم ٣٧٠]. (المؤلف)

(٢) في لفظ الكلبي وسبط ابن الجوزي [تذكرة الخواص : ص ٢٠١] : خمسة. (المؤلف)

(٣) أخذنا هذه الجملة من حديث المهاجاة الطويلة ، الواقعة بين الإمام الحسن بن عليّ وبين عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، في مجلس معاوية. رواه ابن أبي الحديد في شرحه : ٢ / ١٠١ [٦ / ٢٩١ خطبه ٨٣] نقلاً عن كتاب المفاخرات للزبير بن بكّار ، وذكره سبط ابن الجوزي في التذكرة : ص ١١٤ [ص ٢٠١]. (المؤلف)

١٨٤

أسد بن ربيعة.

كان الزناة الذين اشتهروا بمكّة جماعة منهم هؤلاء المذكورون ، وأميّة بن عبد شمس ، وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص أخو مروان بن الحكم ، وعتبة بن أبي سفيان أخو معاوية ، وعقبة بن أبي مُعيط (١).

وعدّه الكلبي من الأدعياء في باب ـ أدعياء الجاهليّة ـ وقال : قال الهيثم : ومن الأدعياء عمرو بن العاص ، وأمّه النابغة حبشيّةٌ ، وأخته لأمِّه أُريْنب ـ بضم الألف ـ وكانت تُدعى لعفيف بن أبي العاص ، وفيها قال عثمان لعمرو بن العاص : لمن كانت تُدعى أختك أُريْنب يا عمرو؟ فقال : لعفيف بن أبي العاص. قال عثمان : صدقت. انتهى.

وروى أبو عبيدة معمر بن المثنّى المتوفّى (٢٠٩ ، ٢١١) في كتاب الأنساب : أنّ عمراً اختصم فيه يوم ولادته رجلان : أبو سفيان والعاص ، فقيل : لتحكم أمّه ، فقالت : إنّه من العاص بن وائل. فقال أبو سفيان : أما إنّي لا أشكّ أنَّني وضعته في رحم أمِّه ، فأبت إلاّ العاص ، فقيل لها : أبو سفيان أشرف نسباً! فقالت : إنَّ العاص بن وائل كثير النفقة عليَّ ، وأبو سفيان شحيحٌ. ففي ذلك يقول حسّان بن ثابت لعمرو بن العاص ، حيث هجاه مكافأةً له عن هجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أبوك أبو سفيان لا شكّ قد بدَتْ

لنا فيكَ منهُ بيِّناتُ الدلائلِ

ففاخِر به إمّا فخرتَ ولا تكنْ

تفاخرُ بالعاص الهجين ابن وائلِ

وإنَ التي في ذاك يا عمرو حُكِّمتْ

فقالت رجاءً عندَ ذاكَ لنائلِ

من العاص عمروٌ تُخبرُالناس كلّما

تجمّعتِ الأقوامُ عند المحاملِ (٢)

وقال الزمخشري في ربيع الأبرار (٣) : كانت النابغة أمّ عمرو بن العاص أمة

__________________

(١) وإلى هنا ذكره سبط ابن الجوزي في تذكرته : ص ١١٧ [ص ٢٠٥] عن المثالب. (المؤلف)

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ١٠١ [٦ / ٢٨٥ خطبة ٨٣]. (المؤلف)

(٣) ربيع الأبرار : ٣ / ٥٤٨ و ٢ / ١٩.

١٨٥

لرجل من عنزة ـ بالتحريك ـ فَسُبيتْ ، فاشتراها عبد الله بن جذعان التيميّ بمكّة ، فكانت بغيّا. ثمّ ذكر نظير الجملة الأولى من كلام الكلبي ، ونسب الأبيات المذكورة إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب. وقال : جُعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمِّه ولم تكن بمنصب مرضيٍّ ، فأتاه بمصر أميراً عليها ، فقال : أردت أن أعرف أمَّ الأمير. فقال : نعم ؛ كانت امرأة من عَنزة ، ثمّ من بني جلاّن ، تُسمّى ليلى ، وتُلقّب النابغة ، اذهب وخذ ما جُعل لك (١).

وقال الحلبي في سيرته (٢) (١ / ٤٦) في نكاح البغايا ونكاح الجمع من أقسام نكاح الجاهليّة :

الأوّل : أن يطأ البغيّ جماعة متفرِّقين واحداً بعد واحد ، فإذا حملت وولدت أُلحِقَ الولد بمن غلب عليه شبهه منهم.

الثاني : أن تجتمع جماعة دون العشرة ، ويدخلون على امرأة من البغايا ذوات الرايات كلّهم يطؤها ، فإذا حملت ووضعت ، ومرّ عليها ليالٍ بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، وهو ابنك يا فلان. تسمّي من أحبّت منهم ، فيلحق به ولدها ، لا يستطيع أن يمتنع منهم الرجل إن لم يغلب شبهه عليه ، وحينئذٍ يحتمل أن تكون أمُّ عمرو بن العاص رضى الله عنه من القسم الثاني ، فإنّه يقال : إنّه وطئها أربعة وهم : العاص ، وأبو لهب ، وأميّة ، وأبو سفيان ، وادّعى كلّهم عمراً ، فألحقَتْهُ بالعاص لإنفاقه على بناتها. ويُحتمل أن يكون من القسم الأوّل ، ويدلُّ عليه ما قيل : إنّه أُلحِقَ بالعاص لغلبة شبهه عليه ، وكان عمرو يُعيَّرُ بذلك ، عيّره عليّ ، وعثمان ، والحسن ،

__________________

(١) ورواه المبرّد في الكامل [٢ / ٨٣] ، ابن قتيبة في عيون الأخبار : ١ / ٢٨٤ ، ابن عبد البر في الاستيعاب [القسم الثالث / ١١٨٤ رقم ١٩٣١] ، وذُكر في شرح النهج لابن أبي الحديد : ٢ / ١٠٠ [٦ / ٢٨٤ خطبة ٨٣] ، جمهرة الخطب : ٢ / ١٩ [٢ / ٢٥ ـ ٢٦ رقم ١٨]. (المؤلف)

(٢) السيرة الحلبيّة : ١ / ٤٣.

١٨٦

وعمّار بن ياسر ، وغيرهم من الصحابة وسيأتي ذلك في قصّة قتل عثمان ، عند الكلام على بناء مسجد المدينة (١).

عبد الله [بن جعفر] وعمرو :

روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ الشام (٢) (٧ / ٣٣٠) : أنّ عمرو بن العاص قال لعبد الله بن جعفر الطيّار ، ذي الجناحين ، في مجلس معاوية : يا ابن جعفر ـ يريد تصغيره! ـ فقال له : لئن نسبتني إلى جعفر فلستُ بدعيٍّ ، ولا أبتر ، ثمّ ولّى وهو يقول :

تعرّضتَ قرنَ الشمس وقتَ ظهيرةٍ

لتَستُرَ منه ضوءَهُ بظلامِكا

كفرتَ اختياراً ثمّ آمنتَ خِيفةً

وبغضُكَ إيّانا شهيدٌ بذلكا

عبد الله [بن أبي سفيان] وعمرو :

أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٣) (٧ / ٤٣٨) : أنّ عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب الهاشميّ ، قدم على معاوية وعنده عمرو ، فجاء الآذن ، فقال : هذا عبد الله ، وهو بالباب. فقال : ائذن له.

فقال عمرو : يا أمير المؤمنين لقد أذنتَ لرجل كثير الخلوات للتلهّي ، والطَرَبات للتغنّي ، صدوفٌ عن السنان ، محبٌّ للقيان ، كثيرٌ مزاحُهُ ، شديدٌ طِماحه ، ظاهر الطيش ، ليِّنُ العيش ، أخّاذٌ للسلف ، صفّاقٌ للشرف.

فقال عبد الله : كذبت يا عمرو ، وأنت أهله ، ليس كما وصفت ، ولكنّه : للهِ

__________________

(١) ذكر قتل عثمان عند الكلام على بناء المسجد : ٢ / ٧٢ ـ ٨٨ [٢ / ٧٦ ـ ٧٨] ولم يوجد هناك شيء ممّا أوعز إليه. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٩ / ٦٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ٧٨.

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٩ / ٣٦٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ٢٣٨.

١٨٧

ذكور ، ولبلائه شكور ، وعن الخنا زجور ، سيِّد كريم ، ماجد صميم ، جواد حليم ، إن ابتدأ أصاب ، وإن سُئل أجاب ، غيرُ حَصِرٍ ولا هيّاب ، ولا فاحش عَيّاب ، كذلك قضى الله في الكتاب ، فهو كالليثِ الضرغام ، الجريء المقدام ، في الحسب القمقام ، ليس بدعيٍّ ولا دنيٍّ ، كمن اختصم فيه من قريش شرارُها ، فغلب عليه جزّارها ، فأصبح ينوء بالدليل ، ويأوي فيها إلى القليل ، مذبذَب بين حيّين ، كالساقط بين المهدين ، لا المعتزى إليهم قبلوه ، ولا الظاعن عنهم فقدوه ، فليت شعري بأيّ حسَب تنازل للنضال؟ أم بأيِّ قديم تَعرّض للرجال؟ أبنفسك؟ فأنت الخوّار الوغد الزنيم. أم بمن تنتمي إليه؟ فأنت أهل السفه والطيش والدناءة في قريش ، لا بشرف في الجاهليّة شُهِر ، ولا بقديم في الإسلام ذُكر ، غير أنَّك تنطقُ بغير لسانك ، وتنهَضُ بغير أركانك ، وايمُ الله إن كان لأسهل للوعث (١) وألمّ للشعث (٢) أن يكعمَكَ (٣) معاوية على ولوعك بأعراض قريش كِعام الضبع في وجاره (٤) ، فأنت لست لها بكفيٍّ ، ولا لأعراضها بوفيٍّ.

قال : فتهيّأ عمرو للجواب ، فقال له معاوية : نشدتك الله إلاّ ما كففت. فقال عمرو : يا أمير المؤمنين دعني أنتصر فإنّه لم يدع شيئاً. فقال معاوية : أمّا في مجلسك هذا فدع الانتصار ، وعليك بالاصطبار.

وأشار إلى هذه القصّة ابن حجر في الإصابة (٢ / ٣٢٠).

إسلامه :

إنَّ الذي حدانا إليه يقين لا يخالجه شكٌّ ، بعد الأخذ بمجامع ما يُؤثر عن الرجل

__________________

(١) الوعث ـ بالفتح ـ : العسر الغليظ. (المؤلف)

(٢) يقال : لمّ الله شعثهم : أي جمع أمرهم. (المؤلف)

(٣) يقال : ـ كعم البعير : أي شدَّ فمه لئلا يعضّ أو يأكل. (المؤلف)

(٤) الوجار ـ بكسر الواو وفتحها ـ : جحر الضبع ، وغيرها. (المؤلف)

١٨٨

في شئونه وأطواره ، أنَّه لم يعتنق الدين اعتناقاً ، وإنّما انتحله انتحالاً وهو في الحبشة ، نزل بها مع عمارة بن الوليد لاغتيال جعفر وأصحابه رُسل النبيِّ الأعظم ، تنتهي إليه الأنباء عن أمر الرسالة ، ويبلغه التقدّم والنشور له ، وسمع من النجاشي قوله : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ فقال : أيّها الملك أكذلك هو؟ فقال : ويحك يا عمرو أطعني واتّبعه ، فإنّه والله لعلى الحقِّ ، وليظهرنَّ على من خالفه ، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده (١).

فَرَاقَهُ التزلّفُ إلى صاحب الرسالة بالتسليم له ، فلم ينكفئ إلى الحجاز إلاّ طمعاً في رتبة ، أو وقوفاً على لُماظة من العيش ، أو فرَقاً من البطش الإلهي بالسلطة النبويّة. فنحن لا نعرفه في غضون هاتيك المُدَد التي كان يداهِن فيها المسلمين ويصانعهم إبقاءً لحياته ، واستدراراً لمعاشه ، إلاّ كما نعرفه يوم كان يهجو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقصيدة ذات سبعين بيتاً ، فلعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدد أبياته.

وهو كما قال أمير المؤمنين : «متى ما كان للفاسقين وليّا ، وللمسلمين عدوّا؟! وهل يشبه إلاّ أمّه التي دفعت به» (٢) وكان كما يأتي عن أمير المؤمنين ، من قوله : «والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسرّوا الكفر ، فلمّا وجدوا أعواناً ، رجعوا إلى عداوتهم منّا».

قال ابن أبي الحديد في الشرح (٣) (١ / ١٣٧) : قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه‌الله : قول عمرو بن العاص لمعاوية ـ لمّا قال له معاوية : يا أبا عبد الله إنّي لأكره لك أن تتحدّث العرب عنك إنّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا ـ : دعنا عنك. كنايةٌ عن الإلحاد بل تصريحٌ به ، أي : دع هذا الكلام لا أصل له ، فإنَّ اعتقاد الآخرة وإنّها لا تُباع بعرض الدنيا من الخرافات ، وما زال عمرو بن العاص ملحداً ما تردّد قطُّ في

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ٣ / ٣١٩ [٣ / ٢٨٩] وغير واحد من كتب السيرة النبويّة والتاريخ. (المؤلف)

(٢) تذكرة خواص الأمّة : ص ٥٦ [ص ٩٧] ، السيرة الحلبيّة : [٣ / ٢٠] وغيرها. (المؤلف)

(٣) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٦٥ خطبة ٢٦ ، ٦ / ٣٢١ و ٣٢٥ خطبة ٨٣ ، ٧ / ٥٨ خطبة ٩٢.

١٨٩

الإلحاد والزندقة ، وكان معاوية مثله.

وقال في (٢ / ١١٣) : ونقلت أنا من كتب متفرِّقة ، كلمات حكميّة ، تُنسب إلى عمرو بن العاص ، استحسنتها وأوردتها لأنّي لا أجحد لفاضل فضله ، وإن كان دينه عندي غير مرضيٍّ.

وقال في (ص ١١٤) : قال شيخنا أبو عبد الله : أوّل من قال بالإرجاء المحض معاوية وعمرو بن العاص ، كانا يزعمان أنَّه لا يضرّ مع الإيمان معصية ، ولذلك قال معاوية لمن قال : حاربت من تعلم. وارتكبت ما تعلم ، فقال : وثقت بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (١).

وقال في (٢ / ١٧٩) : وأمّا معاوية : فكان فاسقاً مشهوراً بقلّة الدين ، والانحراف عن الإسلام ، وكذلك ناصره ومظاهره على أمره عمرو بن العاص ، ومن تبعهما من طغام أهل الشام وأجلافهم وجهّال الأعراب ، فلم يكن أمرهم خافياً في جواز محاربتهم واستحلال قتالهم.

وهناك كلماتٌ ذُكرت في مصادر وثيقة تُمثِّل الرجل بين يدي القارئ بروحيّاته وحقيقته ، وتخبره بعُجره وبُجره (٢) ، وإليك نماذج منها :

١ ـ

كلمة النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

دخل زيد بن أرقم على معاوية ، فإذا عمرو بن العاص جالسٌ معه على السرير ، فلمّا رأى ذلك زيد ، جاء حتى رمى بنفسه بينهما ، فقال له عمرو بن العاص : أما وجدتَ لك مجلساً إلاّ أن تقطعَ بيني وبين أمير المؤمنين؟

__________________

(١) الزمر : ٥٣.

(٢) العُجر : العروق المتعقّدة في الظَهر. البُجر : العروق المتعقّدة في البطن. مثل يضرب لمن يُخبَر بجميع عيوبه [مجمع الأمثال : ١ / ٤٢٠ رقم ١٢٥٨]. (المؤلف)

١٩٠

فقال زيد : إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غزا غزوة وأنتما معه فرآكما مجتمعَين ، فنظر إليكما نظراً شديداً ، ثمّ رآكما اليوم الثاني واليوم الثالث ، كلّ ذلك يديم النظر إليكما ، فقال في اليوم الثالث : «إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعَينِ ففرِّقوا بينهما ، فإنّهما لن يجتمعا على خير».

كذا أخرجه ابن مزاحم في كتاب صفِّين (١) (ص ١١٢) ، ورواه ابن عبد ربِّه في العقد الفريد (٢) (٢ / ٢٩٠) عن عبادة بن الصامت ، وفيه : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله في غزوة تبوك ولفظه : «إذا رأيتموهما اجتمعا ففرِّقوا بينهما ، فإنّهما لا يجتمعان على خير».

٢ ـ

كلمة أمير المؤمنين عليه‌السلام

روى أبو حيّان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة (٣ / ١٨٣) قال : قال الشعبي : ذكر عمرو بن العاص عليّا ، فقال : فيه دُعابة. فبلغ ذلك عليّا ، فقال :

«زعم ابن النابغة أنَّي تلعابة ، تمراحة ، ذو دُعابة ، أعافس ، وأمارس. هيهات يمنع من العِفاس والمِراس (٣) ، ذكر الموت وخوف البعث والحساب ، ومن كان له قلب ، ففي هذا من هذا له واعظ وزاجر ، أما وشرُّ القول الكذب ، إنَّه لَيَعِدُ فيُخلف ، ويحدِّث فيكذب ، فإذا كان يوم البأس ، فإنّه زاجر وآمر ، ما لم تأخذِ السيوفُ بهامِ الرجال ، فإذا كان ذاك ، فأعظمُ مكيدتِهِ في نفسه ، أن يمنح القومَ استه».

ورواه بهذا اللفظ شيخ الطائفة في أماليه (٤) (ص ٨٢) من طريق الحافظ ابن عقدة.

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٢١٨.

(٢) العقد الفريد : ٤ / ١٤٥.

(٣) العفاس ـ بالكسر ـ : الفساد. المراس : العبث واللعب. (المؤلف)

(٤) أمالي الطوسي : ص ١٣١ ح ٢٠٨.

١٩١

صورةٌ أخرى على رواية الشريف الرضي :

«عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أنّ فيَّ دُعابة ، وأنّي امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس ، لقد قال باطلاً ، ونطق آثماً ، أما وشرُّ القول الكذب ، إنّه ليقول فيكذب ، ويَعِدُ فيخلِف ، ويسأل فيلحِف ، ويُسأل فيَبخَل ، ويخونُ العهد ، ويقطع الإلّ ، فإذا كان عند الحرب فأيُّ زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها؟! فإذا كان ذلك ، كان أكبر مكيدته أن يمنح القِرْمَ سُبّتَهُ ، أما والله إنّي لَيمنعُني من اللّعبِ ذكر الموت ، وإنّه لَيمْنَعُهُ من قول الحقِّ نسيان الآخرة ، وإنّه لم يُبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أَتيّةً ، ويرضَخَ له على ترك الدين رضيخة (١)». نهج البلاغة (٢) (١ / ١٤٥).

صورةٌ أخرى على رواية ابن قتيبة :

قال زيد بن وهب : قال لي عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه :

«عجباً لابن النابغة! يزعم أنَّي تَلْعابة ، أعافس وأمارس ، أما وشرُّ القول أكذبه ، إنّه يسأل فيُلحِف ، يُسأل فيبخل ، فإذا كان عند البأس فإنّه امرؤٌ زاجرٌ ، ما لم تأخذ السيوف مآخذها من هام القوم ، فإذا كان كذلك ، كان أكبر همِّه أن يُبرقِط (٣) ويمنح الناس استه ، قبّحه الله وترّحه». ـ عيون الأخبار (١ / ١٦٤).

صورةٌ أخرى على رواية ابن عبد ربِّه :

ذُكر عمرو بن العاص عند عليّ بن أبي طالب ، فقال فيه عليٌّ :

«عجباً لابن الباغية! يزعم أنَّي بلقائه أعافس وأمارس ، ألا وشرُّ القول أكذبه ، إنّه يسأل فيلحف ، ويُسأل فيَبخل ، فإذا احمرَّ البأس ، وحَمِي الوطيس ، وأخذت السيوف

__________________

(١) يقال : رضخ له من ماله رضيخة ، أي : قليلاً من كثير. (المؤلف)

(٢) نهج البلاغة : ص ١١٥ خطبة ٨٤.

(٣) برقط : فرّ هارباً ، وولّى متلفّتاً.

١٩٢

مآخذها من هام الرجال ، لم يكن له همٌّ إلاّ غرقة ثيابه (١) ، ويمنح الناس استه ، فضَّه الله وترّحه». ـ العقد الفريد (٢) (٢ / ٢٨٧).

٣ ـ

كلمة أخرى له عليه‌السلام

لمّا رفع أهل الشام المصاحف على الرماح يوم صفِّين ، يدعون إلى حكم القرآن ، قال عليٌّ عليه‌السلام :

«عباد الله : أنا أحقُّ من أجاب إلى كتاب الله ، ولكنّ معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي مُعَيط ، وحبيب بن مَسلَمة ، وابن أبي سَرْح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي أعْرَفُ بهم منكم ، صَحِبتُهمْ أطفالاً ، وصَحِبتهم رجالاً ، فكانوا شرَّ أطفال ، وشرَّ رجال ، إنّها كلمة حقّ يراد بها الباطل ، إنّهم والله ما رفعوها ، إنّهم يعرفونها ولا يعملون بها ، وما رفعوها لكم إلاّ خديعة ومكيدة». ـ كتاب صفّين لابن مزاحم (٣) (ص ٢٦٤).

٤ ـ

كلمة أخرى له عليه‌السلام

قال أبو عبد الرحمن المسعودي : حدّثني يونس بن أرقم بن عوف ، عن شيخ من بكر بن وائل ، قال : كنّا مع عليّ بصفّين ، فرفع عمرو بن العاص شقّة خميصةٍ (٤) في رأس رمح ، فقال ناسٌ : هذا لواء عقده له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يزالوا كذلك حتى بلغ عليّا.

__________________

(١) فى المصدر : إلاّ نزعة ثيابه.

(٢) العقد الفريد : ٤ / ١٤١.

(٣) وقعة صفّين : ص ٤٨٩.

(٤) الخميصة : كساء أسود مربّع له علمان.

١٩٣

فقال عليٌّ : «هل تدرون ما أمر هذا اللواء؟ إنَّ عدوّ الله عمرو بن العاص أخرج له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الشِّقَّة ، فقال : من يأخذها بما فيها؟ فقال عمرو : وما فيها يا رسول الله؟.

قال : فيها أن لا تُقاتل به مسلماً ، ولا تقرِّبه من كافر. فأخذها ، فقد والله قرّبه من المشركين ، وقاتل به اليوم المسلمين ، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر ، فلمّا وجدوا أعواناً رجعوا إلى عداوتهم منّا ، إلاّ أنَّهم لم يدعوا الصلاة». كتاب صفّين لابن مزاحم (١) (ص ١١٠).

٥ ـ

كتاب أمير المؤمنين إلى عمرو

«من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى الأبتر ابن الأبتر ، عمرو بن العاص بن وائل ، شانئ محمد وآل محمد في الجاهليّة والإسلام. سلام على من اتّبع الهدى.

أمّا بعد : فإنّك تركتَ مروءتَك لامرئ فاسق مهتوك سترُهُ ، يَشينُ الكريمَ بمجلسه ، ويسفِّهُ الحليمَ بخَلْطَتِهِ ، فصار قلبُكَ لقلبه تَبَعاً ، كما قيل : وافق شنٌّ طبقة (٢) ، فسلَبكَ دينَكَ ، وأمانتَك ، ودنياك ، وآخرتَك ، وكان علمُ الله بالغاً فيك ، فصرتَ كالذئب يتبعُ الضرغام إذا ما الليل دجا ، أو أتى الصبح ، يلتمسُ فاضلَ سؤرِه ، وحوايا فريستِه ، ولكن لا نجاةَ من القدر ، ولو بالحقِّ أخذت لأدركتَ ما رجوتَ ، وقد رشدَ من كانَ الحقُّ قائده ، فإن يمكّنِ اللهُ منك ومن ابن آكلةِ الأكباد ، ألحقتُكما بمن قتلَه الله من ظَلَمَة قريش على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن تُعْجِزا وتبقيا بعدي ، فالله حسبكما ، وكفى بانتقامه انتقاماً ، وبعقابه عقاباً. والسلام».

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٢١٥.

(٢) مثل سائر له قصّة يستفاد منها. شنّ : اسم رجل. طبقة : اسم امرأة. راجع مجمع الأمثال للميداني : ٢ / ٣٢١ [٣ / ٤١٨ رقم ٤٣٤٠]. (المؤلف)

١٩٤

فائدةٌ

هذا الكتاب بهذه الصورة ، ذكرها ابن أبي الحديد (١) في شرحه (٢) (٤ / ٦١) نقلاً عن كتاب صفِّين لنصر بن مزاحم ، ولم نجده فيه ، فمن أمعن النظر في جلِّ ما نقله ابن أبي الحديد عن هذا الكتاب يعلم بأنَّ المطبوع منه هو مختصره لا أصله ، وهو أكبر من الموجود بكثير.

صورة أخرى له :

«فإنَّك قد جعلتَ دينَك تبعاً لدنيا امرئٍ ظاهرٍ غيّهُ ، مهتوكٍ سترُهُ ، يشينُ الكريم بمجلسه ، ويسفِّهُ الحليم بخلطَتِهِ ، فاتّبعتَ أثرَهُ وطلبتَ فضلَهُ اتِّباعَ الكلبِ للضرغامِ يلوذُ بمخالبهِ ، وينتظرُ ما يُلقى إليه من فضلِ فريستهِ ، فأَذهبَ دنياك وآخرتَكَ ، ولو بالحقِّ أخذتَ أدركتَ ما طلبتَ ، فإن يمكّنِ اللهُ منك ومن ابن أبي سفيان ، أَجْزِكُما بما قدّمتما ، وإن تُعْجِزا وتبقيا فما أمامكما شرٌّ لكما. والسلام». نهج البلاغة (٣) (٢ / ٦٤).

٦ ـ

خطبة أمير المؤمنين بعد التحكيم

لمّا خرجت الخوارج وهرب أبو موسى إلى مكّة ، وردّ عليٌّ عليه‌السلام ابن عبّاس إلى البصرة ، قام في الكوفة خطيباً ، فقال :

«الحمد لله ، وإن أتى الدهرُ بالخَطْبِ الفادح ، والحدثِ الجليل ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، ليس معه إلهٌ غيره ، وأنّ محمداً عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) وذكره عنه الدكتور أحمد زكي صفوت في جمهرة الرسائل : ١/٤٨٦ (رقم ٤٥٤). (المؤلف).

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٦/١٦٣ كتاب ٣٩.

(٣) نهج البلاغة : ص ٤١١ كتاب ٣٩.

١٩٥

أمّا بعد : فإنَّ معصية الناصح الشفيق ، العالم المجرِّب ، تُورِثُ الحسرة ، وتُعقِبُ الندامة ، وقد كنت أَمَرتُكُم في هذه الحكومة أمري ، ونحلتُ لكم مخزون رأيي ، لو كان يُطاع لقصير أمر(١) ، فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الجفاة ، والمنابذين العصاة ، حتى ارتاب الناصح بنصحه ، وضنَّ الزَّنْدُ بقدحه ، فكنت أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن(٢) :

أمرتكُمُ أمري بمنعرج اللِّوى

فلم تستبينوا النصحَ إلاّ ضحى الغدِ

ألا إن هذين الرجلين عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري اللذين اخترتموهما حَكَمين ، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحيَيَا ما أمات القرآن ، وأماتا ما أحيا القرآن ، واتّبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدىً من الله ، فَحَكَما بغير حجّة بيِّنة ، ولا سُنّةٍ ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يَرشُد(٣) ، فبرئ الله منهما ورسولُه وصالحُ المؤمنين ، واستعِدّوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام».

الإمامة والسياسة(٤) (١ / ١١٩) ، تاريخ الطبري(٥) (٦ / ٤٥) ، مروج الذهب(٦) (٢ / ٣٥) ، نهج البلاغة(٧) (١ / ٤٤) ، كامل ابن الأثير(٨) (٣ / ١٤٦).

ذكر ابن كثير في تاريخه (٩) (٧ / ٢٨٦) هذه الخطبة ، ولمّا لم يعجبه ذكر أهل العبث

__________________

(١) قصير هو مولي جذيمة الأبرش وكان قد أشار على سيّده أن لا يأمن الزبّاء ملكة الجزيرة وقد دعته إليها ليتزوّجها فخالفه وقصد فقتلته فقال فصير لا يطاع لقصير أمر فذهب مثلا (مجمع الأمثال : ٣/١٩٨ رقم ٣٦٤٦). المؤلف

(٢) دريد بن الصمّة (المؤلف)

(٣) في الإمامة والسياسة: لم يرشد هما الله (المؤلف)

(٤) الإمامة والسياسة : ١/١٢٣.

(٥) تاريخ الأمم والملوك : ٥/٧٧ حوادث سنة ٣٧ هـ.

(٦) مروج الذهب : ٢/٤٢١.

(٧) نهج البلاغة : ص ٧٩ خطبة ٣٥.

(٨) الكامل في التاريخ : ٢/٤٠٠ حوادث سنة ٣٧ هـ.

(٩) البداية والنهاية : ٧/٣١٧ حوادث سنة ٣٧ هـ.

١٩٦

والفساد بما هم عليه ، أو لم يره صادراً من أهله في محلِّه ، أو لم يرض أن تطّلع الأمّة الإسلاميّة على حقيقة عمرو بن العاص وصُويحبه بتر الخطبة ، وذكرها إلى آخر البيت فقال : ثمّ تكلّم فيما فعله الحكمان فردّ عليهما ما حكما به وأنّبهما ، وقال ما فيه حطٌّ عليهما. انتهى.

وهناك لأمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبه كلمات كثيرة حول الرجل ، مثل قوله : «قد سار إلى مصر ابن النابغة عدوُّ الله ، ووليُّ مَن عادى الله». وقوله : «إنَّ مصر افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم الذين صدّوا عن سبيل الله ، وبغوا الإسلام عوجاً» (١). نضرب عنها صفحاً روماً للاختصار.

٧ ـ

قنوت أمير المؤمنين بلعن عمرو

أخرج أبو يوسف القاضي في الآثار (ص ٧١) ، من طريق إبراهيم قال : إنَّ عليّا رضى الله عنه قنت يدعو على معاوية رضى الله عنه حين حاربه ، فأخذ أهل الكوفة عنه ، وقنت معاوية يدعو على عليّ ، فأخذ أهل الشام عنه.

وروى الطبري في تاريخه (٢) (٦ / ٤٠) قال : كان عليٌّ إذا صلّى الغداة يقنتُ فيقول : «اللهم العن معاوية ، وعمراً ، وأبا الأعور السلَمي ، وحبيباً ، وعبد الرحمن بن خالد ، والضحّاك بن قيس ، والوليد».

فبلغ ذلك معاوية ، فكان إذا قنت لعن عليّا ، وابن عبّاس ، والأشتر ، وحسناً ، وحسيناً.

ورواه نصر بن مزاحم في كتاب صفِّين (٣) (ص ٣٠٢) وفي طبعة مصر(ص ٦٣٦)

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦/١١ و ٦٢ (٥/١٠٧ و ١٠٨ حوادث سنة ٣٨ هـ). (المولف)

(٢) المصدر السابق ٥/٧١ حوادث سنة ٣٧ هـ.

(٣) وقعة صفّين : ص ٥٥٢.

١٩٧

وفيه : كان عليٌّ إذا صلّى الغداة والمغرب وفرغ من الصلاة يقول : اللهمّ العن معاوية ، وعمراً ، وأبا موسى ، وحبيب بن مسلمة ...».

إلى آخر الحديث باللفظ المذكور ، غير أنّ فيه : قيس بن سعد مكان الأشتر.

وقال ابن حزم في المحلّى (٤ / ١٤٥): كان عليٌّ يقنت في الصلوات كلّهنّ ، وكان معاوية يقنت أيضاً ، يدعو كلُّ واحد منهما على صاحبه.

ورواه الوطواط في الخصائص (١) (ص ٣٣٠) وزاد فيه : ولم يزل الأمر على ذلك برهةً من ملك بني أميّة ، إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ، فمنع من ذلك. وذكره ابن الأثير في الكامل (٢) (٣ / ١٤٤) بلفظ الطبري.

وقال أبو عمر في الاستيعاب) (٣) ـ في الكنى ـ في ترجمة أبي الأعور السلمي : كان هو وعمرو بن العاص مع معاوية بصفِّين ، وكان من أشدّ من عنده على عليّ رضى الله عنه ، وكان عليٌّ رضى الله عنه يذكره في القنوت في صلاة الغداة ، يقول : «اللهمّ عليك به» مع قوم يدعو عليهم في قنوته. وذكره على لفظ الطبري ، أبو الفداء في تاريخه (١ / ١٧٩).

وقال الزيلعي في نصب الراية (٢ / ١٣١) : قال إبراهيم : وأهل الكوفة إنّما أخذوا القنوت عن عليٍّ ، قنت يدعو على معاوية حين حاربه ، وأهل الشام أخذوا القنوت عن معاوية ، قنت يدعو على عليٍّ.

ورواه أبو المظفّر سبط ابن الجوزي الحنفيّ في تذكرته (٤) (ص ٥٩) بلفظ الطبري حرفيّا إلى قنوت معاوية ، وزاد فيه : محمد بن الحنفيّة ، وشريح بن هاني. وذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(٥) (١ / ٢٠٠) نقلاً عن كتابي صفِّين لابن ديزيل

__________________

(١) غرّر الخصائص : ص ٣٣٣.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢/٣٩٧ حوادث سنة ٣٧ هـ.

(٣)الاستيعاب : القسم الرابع /١٦٠٠ رقم ٢٨٤٩.

(٤) تذكرة الخواص : ص ١٠٢.

(٥) شرح نهج البلاغة : ٢/٢٦٠ خطبة ٣٥.

١٩٨

المترجم له (١ / ٧٣) ونصر بن مزاحم. وذكره الشبلنجي في نور الأبصار(١)(ص ١١٠).

٨ ـ

دعاء عائشة على عمرو

لمّا بلغ عائشة قتل محمد بن أبي بكر ، جزعت عليه جزعاً شديداً ، وجعلت تقنت وتدعو في دُبُر الصلاة على معاوية وعمرو بن العاص.

رواه الطبري في تاريخه (٢) (٦ / ٦٠) ، ابن الأثير في الكامل (٣) (٣ / ١٥٥) ، ابن كثير في تاريخه (٤) (٧ / ٣١٤) ، ابن أبي الحديد في شرح النهج (٥) (٢ / ٣٣).

٩ ـ

الإمام الحسن الزكيّ وعمرو

روى الزبير بن بكّار في كتاب المفاخرات قال : اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط ، وعتبة بن أبي سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة ، وقد كان بلغهم عن الحسن بن عليّ عليه‌السلام قوارص (٦) ، وبلغه عنهم مثل ذلك ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنَّ الحسن قد أحيا أباه وذِكره ، وقال فصُدِّق ، وأمر فأُطيع ، وخفقتْ له النعال ، وإنَّ ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه ، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا. قال معاوية : فما تريدون؟

قالوا : ابعث عليه فليحضر لِنَسُبَّه ونَسُبَّ أباه! ونعيِّره ، ونوبِّخه ، ونخبره أنَّ أباه

__________________

(١) نور الأبصار : ص ٢٢٠.

(٢) تاريخ الأمم والملوك : ٥/١٠٥ حوادث سنة ٣٨ هـ.

(٣) الكامل في التاريخ : ٢/٤١٣ حوادث سنة ٣٨ هـ.

(٤) البداية والنهاية : ٧/٣٤٩ حوادث سنة ٣٨ هـ.

(٥) شرح نهج البلاغة : ٦/٨٨ خطبة ٦٧.

(٦) الكلمة القارضة : التي تنغض وتؤلم والجمع قوارص (المؤلف)

١٩٩

قتل عثمان ، ونقرّره بذلك ، ولا يستطيع أن يغيِّر علينا شيئاً من ذلك. قال معاوية : إنّي لا أرى ذلك ولا أفعله. قالوا : عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لَتفعلَنَّ. فقال : ويْحَكم لا تفعلوا ، فو الله ما رأيته قطُّ جالساً عندي إلاّ خفتُ مقامه وعيبه لي. قالوا : ابعث إليه على كلِّ حال. قال : إن بعثتُ إليه لأُنصِفَنَّه منكم. فقال عمرو بن العاص : أتخشى أن يأتي باطله على حقِّنا؟! أو يربي قوله على قولنا؟ قال معاوية : أما إنّي إن بعثتُ إليه لآمرنَّه أن يتكلّم بلسانه كلّه. قالوا : مُره بذلك. قال : أمّا إذا عصيتموني وبعثتم إليه وأبيتم إلاّ ذلك ، فلا تمرضوا له في القول ، واعلموا أنَّهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ، ولا يَلصقُ بهم العار ، ولكن اقذفوه بحجره ، تقولون له : إنَّ أباك قتل عثمان ، وكره خلافة الخلفاء من قبله.

فبعث إليه معاوية ، فجاءه رسوله ، فقال : إنَّ أمير المؤمنين يدعوك. قال : «من عنده؟» فسمّاهم ، فقال الحسن عليه‌السلام : «ما لهم؟ خرَّ عليهم السقف مِن فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون». ثمّ قال : «يا جارية ابغيني ثيابي ، اللهمّ إنّي أعوذ بك من شرورهم ، وأدرأ بك في نحورهم ، وأستعين بك عليهم ، فاكْفِنيهم كيف شئت ، وأنّى شئت ، بحول منك وقوّة يا أرحم الراحمين».

ثمّ قام فدخل على معاوية. إلى أن قال : فتكلّم عمرو بن العاص ، فحمد الله وصلّى على رسوله ، ثمّ ذكر عليّا عليه‌السلام فلم يترك شيئاً يعيبه به إلاّ قاله ، وقال : إنّه شتم أبا بكر ، وكره خلافته ، وامتنع من بيعته ثمّ بايعه مكرهاً ، وشرك في دم عمر ، وقتل عثمان ظلماً ، وادّعى من الخلافة ما ليس له. ثمّ ذكر الفتنة يعيِّره بها ، وأضاف إليه مساوئ. وقال : إنّكم يا بني عبد المطّلب لم يكن الله ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء ، واستحلالكم ما حرّم الله من الدماء ، وحِرصِكم على المُلك ، وإتيانِكم ما لا يَحِلُّ! ثمّ إنّك يا حسن تحدِّث نفسك أنّ الخلافةَ صائرةٌ إليك ، وليس عندك عقلُ ذلك ولا لبُّه ، كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك ، وتركك أحمق قريش ، يُسخَرُ منك ويُهزَأُ بك! وذلك لسوء عمل أبيك ، وإنّما دعوناك لِنَسُبّك وأباك. فأمّا أبوك فقد تفرّد

٢٠٠