الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

منقِّباً ويحسبه فذّا من أفذاذ هذا العصر الذهبيِّ ، عصر النور ، عصر البحث والتنقيب الذي مُني بمثل هذا الدكتور وأمثاله من جمال مستنوقة (١) يُسرّون حَسْواً في ارتغاء (٢) يريدون أن يفخِّذوا أمّةً كبيرةً تُعدُّ بالملايين عن الأمّة الإسلاميّة بنسبة الإلحاد إليهم من تناسخ وحلول فيلعن هؤلاء أولئك لاعتقادهم بكفرهم ، ويغضب أولئك على هؤلاء عندما يقفون على مثل هذا الإفك الشائن ، فيقع مالا تحمد مغبّته من شقِّ العصا وتفريق الكلمة ، وذلك مُنية من قيّض طه حسين لمثل هذه المعرّة وأثابه عليها.

ألم يسائل هذا الرجل باحثٌ عن مصدر هاتين الفريَتين؟ هل قرأهما في كتاب من كتب الشيعة؟ أم سمعهما من شيعيّ؟ أو بلغه الخبر عن عالم من علماء الإماميّة؟ وهؤلاء الشيعة وكتبهم منذ العصور المتقادمة حتى اليوم تحكم بكفر من يقول بالتناسخ والحلول وتدين بالبراءة منه ، فهلاّ راجع الدكتور هاتيك الكتب قبل أن يرمي لا عن سَدَد؟ وتخطّ يمينه لا عن رَشَد؟ نعم سبقه في نسبة التناسخ إلى السيِّد ، ابن حزم الأندلسي في الفِصَل (٣) ، وقد عرفت ابن حزم ونزعاته في الجزء الأوّل (ص ٣٢٣ ـ ٣٣٩).

وأمّا القول بالرجعة فليس من سنخ القول بالتناسخ والحلول ، وقد نطق بها الكتاب والسنّة كما فُصِّل في طيّات الكتب الكلاميّة وتضمّنته التآليف التي أفردها أعلام الإماميّة فيها ، وقد عرف من وقف على أخبار السيِّد وشعره وحجاجه براءته من كلِّ ما نبذه به من سخافة ، إن لم يكن الدكتور ممّن يرى أنَّ التهالك في موالاة أهل

__________________

(١) مثل سائر [يضرب لمن يكون في حديث ثم ينتقل إلى غيره ويخلطه به. انظر : المستقصى في أمثال العرب : ١ / ١٥٨ رقم ٦٢٥]. (المؤلف)

(٢) مثل يضرب [لمن يريك أنَّه يُعينك ، وإنّما يجرُّ النفع إلى نفسه. انظر : مجمع الأمثال : ٣ / ٥٢٥ رقم ٤٦٨٠]. (المؤلف)

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل : ٤ / ١٨٢.

٣٦١

البيت ومودّتهم ومدحهم والذبّ عنهم سخافة!.

حديثه مع من لم يتشيّع :

لم يكن يرى السيِّد لمناوئي العترة الطاهرة ـ صلوات الله عليهم ـ حُرمةً وقدراً ، وكان يشدّد النكير عليهم في كلِّ موقف ويلفظهم بألسنة حِداد بكلِّ حول وطول ، وله في ذلك أخبارٌ ، منها :

١ ـ عن محمد بن سهل الحميري عن أبيه قال (١) : انحدر السيِّد الحميري في سفينة إلى الأهواز ، فماراهُ رجلٌ في تفضيل عليِّ عليه‌السلام وباهله على ذلك ، فلمّا كان الليل قام الرجل ليبول على حرف السفينة ، فدفعه السيِّد فغرّقه ، فصاح الملاّحون : غرق والله الرجل. فقال السيّد : دعوه فإنّه باهلي (٢).

٢ ـ إن السيِّد كان بالأهواز ، فمرّت به امرأة من آل الزبير تُزَفُّ إلى إسماعيل بن عبد الله بن العبّاس ، وسمع الجلبة فسأل عنها فأُخبر بها ، فقال :

أَتتْنا تُزَفُّ على بغلةٍ

وفوق رِحالتها قُبّه

زبيريّةٌ من بنات الذي

أحلَّ الحرام من الكعبه (٣)

تُزَفُّ إلى ملكٍ ماجدٍ

فلا اجتمعا وبها الوَجْبه

فدخلت في طريقها إلى خَرِبةٍ للخلاء فنَهشَتْها أفعى فماتت ، فكان السيِّد يقول : لحقتها دعوتي (٤).

٣ ـ عن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر قال : خرج أهل

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٧٢.

(٢) الظاهر : باهلني. (المؤلف)

(٣) يعني عبد الله بن الزبير ، وقد تحَصّن بالبيت الحرام وقاتل به. (المؤلف)

(٤) الأغاني : ٧ / ٢٧٠.

٣٦٢

البصرة يستسقون ، وخرج فيهم السيِّد وعليه ثيابُ خزٍّ وجُبّةٌ ومِطرفٌ وعمامةٌ فجعل يجرُّ مِطرفه ويقول :

اهبِط إلى الأرض فَخُذ جَلْمداً

ثمَّ ارمهم يا مُزنُ بالجَلْمدِ

لا تَسقِهم من سَبَلٍ قطرةً

فإنّهم حربُ بني أحمدِ (١)

٤ ـ حدّثني أبو سليمان الناجي قال : جلس المهديّ يوماً يعطي قريشاً صلاتٍ لهم وهو وليُّ عهد ، فبدأ ببني هاشم ثمّ بسائر قريش ، فجاء السيِّد فرفَع إلى الربيع ـ حاجب المنصور ـ رقعة مختومة وقال : إنَّ فيها نصيحة للأمير فأَوصِلها إليه. فأَوصلها ، فإذا فيها :

قل لابن عبّاس سميِّ محمدٍ

لا تُعْطِيَنَّ بني عَدِيٍّ دِرْهما

احْرِم بني تَيْم بن مُرّةَ إنَّهمْ

شرُّ البَرِيّة آخراً ومُقدَّما

إنْ تُعطِهم لا يشكروا لك نِعْمةً

ويكافئوك بأن تُذَمَّ وتُشتَما

وإنِ ائتمنتهمُ أَو استعمَلتهمْ

خانُوك واتّخذوا خراجك مَغنما

ولئن مَنَعْتَهُمُ لقد بدءوكمُ

بالمنع إذ ملكوا وكانوا أظلما

منعوا تُراثَ محمدٍ أعمامَهُ

وابنيْه وابنتَه عديلةَ مريما

وتأمّروا من غير أن يُستَخلَفوا

وكفى بما فعلوا هنالك مأثَما

لم يشكروا لمحمدٍ إنعامَهُ

أَفَيَشْكرون لغيرهِ إنْ أنعما

واللهُ منَّ عليهمُ بمحمدٍ

وهداهمُ وكسا الجُنوبَ وأطعما

ثمَّ انْبَروا لوصيِّه ووليِّه

بالمنكرات فجرّعوه العلقما

قال : فرمى بها إلى أبي عبيد الله معاوية بن يسار الكاتب للمهدي ثمّ قال : اقطع العطاء. فقطعه ، وانصرف الناس ، ودخل السيِّد إليه ، فلما رآه ضحك وقال : قد

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٧٠.

٣٦٣

قبلنا نصيحتك يا إسماعيل. ولم يُعطِهم شيئاً (١).

٥ ـ عن سُوَيد بن حمدان بن الحُصَين قال : كان السيِّد يختلف إلينا ويغشانا ، فقام من عندنا ذات يوم ، فخلفه رجلٌ وقال : لكم شرفٌ وقدرٌ عند السلطان ، فلا تجالسوا هذا فإنّه مشهورٌ بشرب الخمر وشتم السلف. فبلغ ذلك السيِّد فكتب إليه :

وصَفْتُ لك الحوض يا ابنَ الحُصَين

على صفةِ الحارث الأعورِ (٢)

فإن تُسقَ منه غداً شَربةً

تَفُز من نصيبك بالأوفرِ

فما ليَ ذنبٌ سوى أنّني

ذكرتُ الذي فرَّ عن خيبرِ

ذكرتُ امرأً فرَّ عن مرحبٍ

فرارَ الحمارِ من القَسْوَرِ

فأنكرَ ذاك جليسٌ لكم

زنيمٌ أخو خُلُقٍ أعورِ

لحاني بحبِّ إمامِ الهدى

وفاروقِ أمَّتنا الأكبرِ

سأحلِقُ لحيَتَهُ إنَّها

شهودٌ على الزور والمُنكَرِ

قال : فهجر والله مشايخنا جميعاً ذلك [الرجل] (٣) ولزموا محبّة السيِّد ومجالسته. الأغاني (٤) (٧ / ٢٥٠ ـ ٢٥٤).

٦ ـ عن معاذ بن سعيد الحميري قال : شهد السيِّد إسماعيل بن محمد الحميري رحمه‌الله عند سوّار القاضي بشهادة ، فقال له : ألست إسماعيل بن محمد الذي يُعرَفُ بالسيِّد؟ فقال : نعم. فقال له : كيف أَقدَمْتَ على الشهادة عندي وأنا أعرف عداوتك للسلف؟ فقال السيِّد : قد أعاذني الله من عداوة أولياء الله وإنّما هو شيء

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٦٣.

(٢) هو الحارث الأعور الهمداني : المتوفّى سنة (٦٥) من مُقَدّمي أصحاب أمير المؤمنين ، يأتي ذكره [في الجزء الحادي عشر] في ترجمة والد شيخنا البهائي في شعراء القرن العاشر. (المؤلف)

(٣) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٤) الأغاني : ٧ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

٣٦٤

لزمني. ثمَّ نهض فقال له : قم يا رافضيّ ، فو الله ما شَهدتَ بحقّ. فخرج السيِّد رحمه‌الله وهو يقول :

أبوك ابن سارق عَنْزِ النبيِ

وأنت ابن بنت أبي جَحْدَرِ

ونحن على رَغمِكَ الرافضو

ن لأهل الضلالة والمنكرِ

ثمّ عمل شعراً وكتبه في رقعة وأَمَر من ألقاها في الرقاع بين يدي سَوّار.

قال : فأخذ الرقعة سوّار ، فلما وقف عليها خرج إلى أبي جعفر المنصور وكان قد نزل الجسر الأكبر ليستعديَ على السيِّد ، فسبقه السيِّد إلى المنصور فأنشأ قصيدته التي يقول فيها (١) :

يا أمينَ الله يا من

صورُ يا خَيرَ الوُلاةِ

إنَّ سوّارَ بنَ عبدِ اللّ

هِ من شرّ القضاةِ

نَعثليٌ (٢) جمليٌ

لكمُ غيرُ مواتي

جدّه سارقُ عَنزٍ

فجرةً من فَجَراتِ

لرسولِ الله والقا

ذِفُهُ بالمُنْكراتِ (٣)

والذي كان يُنادي

من وراء الحُجُراتِ (٤)

يا هناةُ اخرج إلينا

إنَّنا أهلُ هَناتِ

فاكفنيه لا كفاهُ اللّ

هُ شرَّ الطارقاتِ

__________________

(١) أوّلها : [ ] قم بنا يا صاحِ واربَع [ ] في المغاني الموحِشات [ ] (المؤلف)

(٢) قال الاستاذ العدويّ في تعليقه على الأغاني : ٧ / ٢٦١ : نعثل في الاصل : اسم رجل يهودي من أهل المدينة ، وقيل : نعثل رجل لحياني (طويل اللحية) من أهل مصر. كان يُشَبَّهُ به عثمان رضي‌الله‌عنه إذا نِيلَ منه. (المؤلف)

(٣) أخذنا هذا البيت من الأغاني : ٧ / ٢٦١ [٧ / ٢٨١] ، والطبقات لابن المعتز : ص ٨ [ص ٣٤]. (المؤلف)

(٤) إشارة إلى نزول آية الحُجُرات في بني العنبر أجداد القاضي سوّار. (المؤلف)

٣٦٥

سَنَّ فينا سُنَناً كا

نت مواريثَ الطغاةِ

فهجوناه ومن يهجو

يُصِب بالفاقراتِ (١)

قال : فضحك أبو جعفر المنصور وقال : نصبتك قاضياً فامدحه كما هجوته ، فأنشد رحمه‌الله يقول :

إنِّي امرؤٌ من حِميرٍ أُسرَتي

بحيث تحوي سَروها حِميرُ

آليتُ لا أمدَح ذا نائلٍ

له سناءٌ وله مفخرُ

إلاّ مِن الغُرِّ بني هاشمٍ

إنَّ لهم عندي يداً تُشكرُ

إنَّ لهم عندي يداً شكرها

حقٌّ وإن أنكرَها مُنكرُ

يا أحمدَ الخيرِ الذي إنّما

كان علينا رحمةً تُنشرُ

حمزة والطيّار في جَنّةٍ

فحيث ما شاء دعا جعفرُ

منهم وهادينا الذي نحن مِن

بعد عَمانا فيه نستبصرُ

لمّا دجا الدينُ ورقَّ الهدى

وجارَ أهل الأرض واستكبروا

ذاك عليُّ بن أبي طالبٍ

ذاك الذي دانتْ له خيبرُ

دانت وما دانت له عَنوةً

حتى تدهدى عرشه الأكبرُ

ويوم سَلْعٍ إذ أتى عاتباً

عمرو بن عبدٍ مُصلِتاً يخطُرُ

يخطُرُ بالسيف مُدِلاّ كما

يخطُر فَحلُ الصِّرْمةِ الدَّوسرُ (٢)

إذ جلَّل السيفَ على رأسه

أبيض عضباً حدُّه مُبتِرُ

فخرَّ كالجذع وأوداجهُ

ينصبُّ منها حَلَبٌ أحمرُ

وكان أيضاً ممّا جرى له مع سَوّار ؛ ما حدّث به الحرث بن عبيد الله الربيعي ، قال : كنت جالساً في مجلس المنصور وهو بالجسر الأكبر وسوّار عنده والسيِّد ينشده :

__________________

(١) الفاقرة : الدّاهية الشديدة. هذا البيت أخذناه من طبقات ابن المعتز : ص ٧ [ص ٣٤]. (المؤلف)

(٢) الصِّرمة بالكسر : القطعة من الإبل. الدّوسر : الضخم الشديد. (المؤلف)

٣٦٦

إنَّ الاله الذي لا شيء يشبهُهُ

آتاكُمُ المُلْكَ للدنيا وللدينِ

آتاكمُ اللهُ مُلكاً لا زوال له

حتى يُقادَ إليكم صاحبُ الصينِ

وصاحب الهند ماخوذٌ برُمّته

وصاحب الترك محبوسٌ على هونِ

حتى أتى [على] القصيدة والمنصور يضحك ، فقال سوّار : هذا والله يا أمير المؤمنين يُعطيك بلسانه ما ليس في قلبه ، والله إنَّ القوم الذين يدين بحبِّهم لَغيرُكم ، وإنَّه لَيَنطوي في عداوتكم.

فقال السيِّد : والله إنَّه لكاذب وإنَّني في مديحكم لصادقٌ ، ولكنَّه حمله الحسد إذ رآك على هذه الحال ، وإنَّ انقطاعي ومودّتي لكم أهل البيت لعِرقٌ لي فيها عن أبويَّ ، وإنَّ هذا وقومه لأعداؤكم في الجاهليّة والإسلام ، وقد أنزل الله على نبيِّه ـ عليه وآله السلام ـ في أهل بيت هذا (١) (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) سورة الحجرات : (٤). فقال المنصور : صدقت. فقال سوّار : يا أمير المؤمنين إنّه يقول بالرجعة ، ويتناول الشيخين بالسبِّ والوقيعة فيهما. فقال السيّد : أمّا قوله : بأنّي أقول بالرجعة فإنَّ قولي في ذلك على ما قال الله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) سورة النمل : (٨٣).

وقد قال في موضع آخر : (... وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) سورة الكهف (٤٧) ، فعلمت أنَّ هاهُنا حشرَين ؛ أحدهما عامٌّ والآخر خاصٌّ. وقال سبحانه (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) سورة غافر (١١). وقال الله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) سورة البقرة (٢٥٩). وقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) سورة البقرة (٢٤٣).

فهذا كتاب الله ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يُحْشَرُ المتكبِّرون في صُوَرِ

__________________

(١) راجع تفسير الخازن : ٤ / ١٧٤ [٤ / ١٦٥]. (المؤلف)

٣٦٧

الذرِّ يومَ القيامة» (٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لم يَجْرِ في بني إسرائيل شيءٌ إلاّ ويكون في أمّتي مثلُهُ حتى المسخُ والخَسْف والقذف» (٣) ، وقال حذيفة : والله ما أبعد أن يمسخ الله كثيراً من هذه الأمّة قردةً وخنازير (٤). فالرجعة التي نذهب إليها هي ما نطق به القرآن وجاءت به السنّة. وإنّني لأعتقد أنَّ الله تعالى يَرُدُّ هذا ـ يعني سوّاراً ـ الى الدنيا كلباً أو قرداً أو خنزيراً أو ذرَّة ، فإنّه والله متجبِّرٌ متكبِّرٌ كافرٌ.

قال : فضحك المنصور ، وأنشد السيِّد يقول :

جاثيتُ سَوّاراً أبا شَمْلَةٍ

عند الإمام الحاكم العادلِ

فقال قولاً خطأً كلّه

عند الورى الحافي والناعلِ

ما ذبَّ عمّا قلتُ من وَصْمَةٍ

في أَهلِهِ بل لجَّ في الباطلِ

وبان للمنصور صِدقي كما

قد بان كذبُ الأَنْوَكِ الجاهلِ

يُبغضُ ذا العرشِ ومن يصطفي

من رُسْلِه بالنيِّر الفاضلِ

ويَشْنَأُ الحَبرَ الجوادَ الذي

فُضِّلَ بالفضلِ على الفاضلِ

ويعتدي بالحُكمِ في مَعشَرٍ

أَدَّوا حقوق الرسلِ للراسلِ

فبيّنَ اللهُ تزاويقَه

فصارَ مِثْلَ الهائمِ الهائلِ

قال : فقال المنصور : كُفَّ عنه. فقال السيِّد : يا أمير المؤمنين ، البادي أظلم ، يكُفّ عنّي حتى أَكُفَّ عنه. فقال المنصور لسوّار : تكلّم بكلام فيه نصفَةٌ ، كُفَّ عنه حتى لا يهجوك. الفصول المختارة (١) (١ / ٦١ ـ ٦٤).

__________________

(٢) أخرجه الترمذي [٤ / ٥٦٥ ح ٢٤٩٢] ، والنسائي ، والمنذري في الترغيب والترهيب : ٣ / ٢٢٥ [٣ / ٥٦٧ ح ٣٠] ، وابن الديبع في تيسير الوصول : ٤ / ١٥١ [٤ / ١٨٢ ح ٥]. (المؤلف)

(٣) راجع سنن ابن ماجة : ٢ / ٥٠٣ [٢ / ١٣٥٠ ح ٤٠٦٢]. (المؤلف)

(٤) راجع سنن ابن ماجة : ٢ / ٤٨٩ [٢ / ١٣٣٣ ح ٤٠٢٠] ، والترغيب والترهيب : ٣ / ١٠٧ [٣ / ١١]. (المؤلف)

(١) الفصول المختارة : ص ٥٩ ـ ٦٣.

٣٦٨

وروى أبو الفرج للسيِّد مما أنشده المنصور في سوّار القاضي قوله :

قل للإمام الذي يُنجى بطاعتِهِ

يوم القيامة من بُحبوحة النارِ

لا تستعينَنْ جزاك الله صالحةً

يا خير من دَبَّ في حُكْمٍ بسوّارِ

لا تَسْتَعِنْ بخبيث الرأي ذي صَلَفٍ

جمِّ العُيوبِ عظيمِ الكِبر جبّارِ

تُضحي الخصومُ لديهِ من تَجَبُّرِهِ

لا يرفعون إليه لَحْظ أبصارِ

تيهاً وكبراً ولولا ما رفعتَ له

من ضَبْعه كان عين الجائع العاري

فدخل سوّار ، فلمّا رآه المنصور تبسّم وقال أما بلغك خبر إياس بن معاوية (١) حيث قَبِل شهادة الفرزدق واستزاد في الشهود؟ فما أحوجك للتعريض للسيِّد ولسانه؟ ثمّ أمر السيِّد بمصالحته وأمَرهُ بأن يصير إليه معتذراً ففعل فلم يعذره ، فقال :

أتَيْتُ دَعِيَّ بني العنبرِ

أرومُ اعتذاراً فلم أُعْذَرِ

فقلتُ لنفسي وعاتبتُها

على اللؤمِ في فعلها : أقْصِري

أيعتذرُ الحرُّ ممّا أتى

إلى رجل من بَني العَنْبَرِ

أبوك ابن سارقِ عَنْزِ النبيِ

وأمُّكَ بنتُ أبي جَحْدَرِ

ونحنُ على رغْمِك الرافضو

نَ لأهل الضلالةِ والمُنْكرِ

قال : وبلغ السيِّد أنّ سوّاراً قد أعدّ جماعة يشهدون عليه بسرقةٍ ليقطعه ، فشكاه إلى أبي جعفر ، فدعا بسوّار وقال له : قد عزلتك عن الحكم للسيِّد أو عليه ، فما تعرّضَ له بسوء حتى مات (٢).

٧ ـ عن إسماعيل بن الساحر قال : تلاحى رجلان من بني عبد الله بن دارم في

__________________

(١) هو إياس بن معاوية بن قُرَّة المُزَني البصري ، ولاّه عمر بن عبد العزيز قضاء البصرة ، تُوفّي سنة (١٢٢) ، وحديث قبوله شهادة الفرزدق يوجد في الأغاني : ١١ / ٥٠ [٧ / ٢٧٥] ، و ١٩ / ٥٠ طبع بولاق. (المؤلف)

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٣٦٩

المفاضلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضيا بحكم أوّل من يطلع فطلع السيِّد ، فقاما إليه وهما لا يعرفانه ، فقال له مفضِّل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام منهما : إنّي وهذا اختلفنا في خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : عليّ بن أبي طالب. فقطع السيِّد كلامه ثمّ قال : وأيّ شيء قال هذا الآخر ابن الزانية؟! فضحك من حضر ، ووجم الرجل ، ولم يَحِر جواباً.

الأغاني (١) (٧ / ٢٤١) ، وطبقات الشعراء لابن المعتز (٢) (ص ٧) عن محمد بن عبد الله السّدوسي عن السيِّد نفسه.

٨ ـ في كتاب الحيوان للجاحظ (٣) (١ / ٩١) : شبّه السيِّد بن محمد الحميري عائشة في نصبها الحرب يوم الجمل لقتالِ بنيها بالهرّة حين تأكل أولادها ، فقال :

جاءت مع الأشْقَيْنِ في هَودَجٍ

تُزْجي إلى البصرة أجنادَها

كأنّها في فِعلها هِرَّةٌ

تُريد أنْ تأكُلَ أولادَها

أخبارُه ومُلَحه :

روى أبو الفرج وغيره شطراً وافياً من أخبار السيِّد ومُلَحه ونوادره ، لو جمعت لأتى كتاباً ، ونحن نضرب عن ذكر جميعها صفحاً ، ونقتصر منها بنبذة يسع لذكرها المجال.

١ ـ روى أبو الفرج في الأغاني (٤) (٧ / ٢٥٠) بإسناده عن رجل قال : كنت أختلف إلى ابنَي قيس ، وكانا يرويانِ عن الحسن (٥) ؛ فلقيني السيِّد يوماً وأنا منصرفٌ

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٦١.

(٢) طبقات الشعراء : ص ٣٣.

(٣) كتاب الحيوان : ١ / ١٩٧.

(٤) الأغاني : ٧ / ٢٧١.

(٥) هو أبو سعيد الحسن بن أبي [الحسن] يَسَار البصري : المتوفّى (١١٠) ، قال ابن أبي الحديد [في شرح نهج البلاغة : ٤ / ٩٥ خطبة ٥٦] : كان ممّن قيل إنّه يبغض عليّا عليه‌السلام ويذمّه. (المؤلف)

٣٧٠

من عندهما ، فقال : أرِني ألواحك أكتُب فيها شيئاً وإلاّ أخذتُها فمحوت ما فيها. فأعطيته ألواحي فكتب فيها :

لشربَةٌ من سَوِيقٍ عند مَسْغبةٍ

وأكلَةٍ من ثريدٍ لحمُه واري

أشدُّ ممّا روى حُبّا إليَّ بنو

قيسٍ وممّا روى صَلْتُ بنُ دينارِ

ممّا رواهُ فلانٌ عن فُلانِهمُ

ذاك الذي كان يدعوهم إلى النارِ

٢ ـ جلس السيِّد يوماً إلى قوم فجعل يُنشدُهم وهم يلغطُون. فقال :

قد ضيّع الله ما جمّعتُ من أدبٍ

بين الحمير وبين الشاءِ والبقرِ

لا يسمعون إلى قولٍ أجيء به

وكيف تستمعُ الأنعامُ للبشرِ

أقول ما سكتوا إنسٌ فإن نَطَقوا

قلتُ الضفادعُ بين الماء والشجرِ (١)

٣ ـ اجتمع السيِّد في طريقه بامرأة تميميّة إباضيّة ، فأعجبها وقالت : أريد أن أتزوّج بك ونحن على ظهر الطريق. قال : يكون كنكاح أمِّ خارجة قبل حضور وليٍّ وشهود ، فاستضحكت وقالت : ننظر في هذا ، وعلى ذلك فمن أنت؟ فقال :

إن تسأليني بقومي تسألي رجلاً

في ذرْوةِ العزِّ من أحياءِ ذي يمنِ

حولي بها ذو كلاع في منازلها

وذو رُعيْنٍ وهَمْدانٌ وذو يَزَنِ

والأزْدُ أزْدُ عُمانَ الأكرمونَ إذا

عُدَّتْ مآثُرهمْ في سالِف الزمنِ

بانت كريمتُهمْ عنّي فدارُهُمُ

داري وفي الرحبِ من أوطانهِمْ وطني

لي منزلانِ بلَحجٍ منزلٌ وَسَطٌ

منها ولي منزلٌ للعزّ في عدنِ

ثمّ الوَلاءُ الذي أرجو النجاة به

من كبّة النار للهادي أبي حسنِ

فقالت : قد عرفناك ولا شيء أعجب من هذا : يمانٍ وتميميّة ؛ ورافضيٌّ وإباضيّة ، فكيف يجتمعان؟. فقال : بحُسن رأيك فيَّ تسخو نفسك ، ولا يذكر أحدُنا

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٧٣.

٣٧١

سَلَفاً ولا مذهباً. قالت : أفليس التزويج إذا عُلِم انكشف معه المستور ، وظهرت خفيّات الأمور؟ قال : أعرِضُ عليكِ أخرى. قالت : ما هي؟ قال : المتعة التي لا يعلم بها أحدٌ. قالت : تلك أخت الزنا. قال : أعيذكِ باللهِ أن تكفري بالقرآن بعد الإيمان. قالت : فكيف؟ قال : قال الله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) (١).

فقالت : ألا تستخير الله وأقلِّدك إن كنت صاحب قياس؟

قال : قد فعلت. فانصرَفَتْ معه وبات مُعرِّساً بها ، وبلَغَ أهلها من الخوراج أمرها ، فتوعّدوها بالقتل وقالوا : تزوّجتِ بكافر. فجحدَتْ ذلك ولم يعلموا بالمتعة. فكانت مدّة تختلف إليه على هذه السبيل من المتعة وتواصلهُ حتى افترقا (٢).

قول السيِّد في صدر القصّة : يكون كنكاح أمّ خارجة : إيعازٌ إلى المَثل السائر : أسرعُ من نكاح أمِّ خارِجة ، يُضرَبُ به في السرعة. وأمُّ خارجة هي عَمْرَة بنت سعد ابن عبد الله بن قدار بن ثعلبة ، كان يأتيها الخاطب فيقول : خِطب. فتقول : نِكحْ فيقول : انزلي فتقول : أنِخْ.

قال المبرّد : ولَدتْ أمُّ خارجة للعرب في نيّف وعشرين حيّا من آباء متفرقة ، وكانت هي إحدى النساء اللاّتي إذا تزوّجت واحد الرجل فأصبحت عنده كان أمرُها إليها إن شاءت أقامت وإن شاءت ذهبت ، وعلامة ارتضائها للزوج أن تعالج له طعاماً إذا أصبح (٣)

٤ ـ قال عليُّ بن المغيرة : كنت مع السيِّد على باب عقبة بن سَلم ، ومعنا ابنٌ لسليمان بن عليٍّ ننتظره وقد أُسرِجَ له ليركب ، إذ قال ابن سليمان بن عليّ يعرّض

__________________

(١) النساء : ٢٤.

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٨٣ ـ ٢٨٥.

(٣) راجع مجمع الأمثال : ٢ / ١٣٢ رقم ١٨٧١.

٣٧٢

بالسيِّد : أشعر الناس والله الذي يقول :

محمد خير من يمشي على قَدَمٍ

وصاحباه وعثمانُ بنُ عفّانا

فوثب السيِّد وقال : أشعر والله منه الذي يقول :

سائل قُريشاً إذا ما كنت ذا عَمَهٍ

من كان أثبتَها في الدين أوتادا؟

من كان أعلَمَها علماً وأحلمَها

حلماً وأصدقها قولاً وميعادا؟

إن يُصدِقوك فلن يَعْدوا أبا حسنٍ

إن أنت لم تلقَ للأبرار حُسّادا

ثمّ أقبل على الهاشميِّ فقال : يا فتى نِعمَ الخَلَفُ أنت لشرفِ سلفك ، أراك تَهدِمُ شرفك ، وتثلِبُ سلفك ، وتسعى بالعداوة على أهلك ، وتفضِّل من ليس أصلُكَ من أصلِه على من فضلكَ من فضلِهِ ، وسأُخبر أميرَ المؤمنين عنك بذا حتى يَضَعَك. فوثب الفتى خَجِلاً ولم ينتظر عُقبة بن سَلم. وكتب إليه صاحبُ خبره بما جرى عند الرَّكوبة حتى خرجت الجائزة للسيِّد (١).

٥ ـ روى أبو سليمان الناجي : أنّ السيِّد قَدِمَ الأهواز وأبو بُجير بن سِماك الأسدي يتولاّها وكان له صديقاً ، وكان لأبي بُجير مولىً يقال له يزيد بن مذعور يحفَظ شعر السيِّد وينشده أبا بُجير ، وكان أبو بُجير يتشيّع فذهب السيِّد إلى قومٍ من إخوانه بالأهواز فنزل بهم وشرب عندهم ؛ فلمّا أمسى انصرف ، فأخذه العَسَس (٢) فحُبِس. فكتب من غدهِ الأبيات وبعث بها إلى يزيد بن مذعور. فدخل على أبي بُجير وقال : قد جنى عليك صاحب عَسَسِك ما لا قِوام لك به. قال : وما ذلك؟ قال : اسمع هذه الأبيات كتبها السيِّد من الحبس ، فأنشده يقول :

قفْ بالديار وحيِّها يا مربعُ

واسأل وكيف يجيبُ من لا يَسمعُ

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٨٥.

(٢) جمع العاس ، من عسَّ عسّا : طاف بالليل يحرُسُ الناس. (المؤلف)

٣٧٣

إنَّ الديار خَلَتْ وليس بجوِّها

إلاّ الضوابحُ والحَمامُ الوُقَّعُ

ولقد تكون بها أوانسُ كالدُّمى (١)

جُمْلٌ وعزّةُ والربابُ وبَوْزَعُ

حُورٌ نواعمُ لا ترى في مثلها

أمثالهنَّ من الصيانة أربعُ

فَعَرِينَ بعد تألُّفٍ وتَجمُّعٍ

والدهر ـ صاح ـ مُشَتِّت ما تجمعُ

فاسلم فإنّك قد نزلتَ بمنزلٍ

عند الأمير تضُرُّ فيه وتنفَعُ

تُؤتى هواك إذا نطقت بحاجةٍ

فيه وتشفع عنده فَيُشَفِّعُ

قُلْ للأمير إذا ظفِرتَ بخلوةٍ

منه ولم يكُ عنده من يَسْمعُ

هب لي الذي أحببته في أحمدٍ

وبنيهِ إنّك حاصدٌ ما تزرعُ

يختصُّ آلَ محمد بمحبةٍ

في الصدر قد طُوِيَتْ عليها الأضلُعُ (٢)

ويقول فيها :

قم يا ابن مذعور فأَنشِد نكّسوا

خُضُعَ الرقاب بأعينٍ لا تُرْفعُ

لو لا حِذار أبي بُجير أظهروا

شنآنهم وتفرّقوا وتصدّعوا

لا تجزَعوا فلقد صبَرنا فاصبروا

سبعين عاماً والأُنوف تُجدَّعُ

إذ لا يزال يقوم كلَّ عَرُوبةٍ (٣)

منكم بصاحبنا خطيبٌ مِصْقَعُ

مُسحنفِرٌ (٤) في غيِّه متتابعٌ

في الشتم مثّله بخيلٌ يسجعُ

ليَسُرَّ مخلوقاً ويُسخِطَ خالقاً

إنَّ الشقيَّ بكلِّ شرٍّ مُولَعُ

فلمّا سمعها أبو بُجير دعا صاحب عَسَسه فشتمه ، وقال : جنيتَ عليَّ ما لا يَدَ لي به ، اذهب صاغراً إلى الحبس وقل : أيُّكم أبو هاشم؟ ؛ فإذا أجابك فأخرِجه واحمله

__________________

(١) الدّمى جمع دُميَة : الصورة المُزَيّنة فيها حمرة كالدم. (المؤلف)

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٨٦.

(٣) يوم الجمعة كان يُسمّى قديماً : يوم عَرُوبة ويوم العَرُوبة. والأفصح عدم ادخال الأَلف واللام. (المؤلف)

(٤) المسحَنْفر : المسرع.

٣٧٤

على دابّتك وامشِ معه صاغراً حتى تأتيَني به. ففعل ، فأبى السيِّد ولم يُجبه إلى الخروج إلاّ بعد أن يُطلِق له كلَّ من أُخذ معه ، فرجع إلى أبي بُجير فأخبره ، فقال : الحمد لله الذي لم يقل أخْرِجهم وأعطِ كلَّ واحد منهم مالاً. فما كنّا نقدر على خلافه ، افعل ما أحبَّ برغم أنفك الآن ، فمضى فخلّى سبيله وسبيل كلّ من كان معه ممّن أُخِذ في تلك الليلة ، وأُتي به إلى أبي بُجير : فتناوله بلسانه وقال : قَدِمتَ علينا فلم تأتِنا وأتيتَ بعض أصحابك الفُسّاق ، وشَرِبت ما حُرِّم عليك حتى جرى ما جرى. فاعتذر من ذلك إليه ، فأمَر له أبو بُجير بجائزةٍ سنيّة وحمله وأقام عنده مدّة (١).

٦ ـ قال أبو الفرج في الأغاني (٢) (٧ / ٢٥٩) : أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال : حدّثنا عمر بن شَبّة قال : حدّثنا حاتم بن قَبيصة قال : سمع السيِّد محدِّثاً يحدِّث : أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ساجداً فركب الحسن والحسين على ظهره ، فقال عمر رضى الله عنه : نِعْمَ المَطيُّ مطيُّكما.

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «ونِعْمَ الراكبان هما». فانصرف السيِّد من فوره فقال في ذلك :

أتى حَسنٌ والحسينُ النبيَ

وقد جلسا حَجْرةً يلْعبانِ

ففدّاهما ثمّ حيّاهما

وكانا لديه بذاك المكانِ

فراحا وتحتهما عاتقاهُ

فنعمَ المطيّةُ والراكبانِ

وَلِيدانِ أمُّهما بَرّةٌ

حَصانٌ مُطهّرةٌ للحَصَانِ

وشيخُهما ابنُ أبي طالبٍ

فَنِعْمَ الوليدانِ والوالدانِ

خليليَّ لا تُرْجيا واعلما

بأنّ الهدى غيرُ ما تزعمانِ

وأنّ عَمَى الشك بعد اليقينِ

وضعفَ البصيرةِ بعد العيانِ

ضلالٌ فلا تَلجَجَا فيهما

فبئست لعَمرُكما الخصلتانِ

__________________

(١) الأغاني : ٧ / ٢٩١.

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٧٨.

٣٧٥

أيُرجى عليٌّ إمام الهدى

وعثمانُ ما أَعنَدَ المرجيانِ

ويُرجى ابنُ حربٍ وأشياعُهُ

وهُوجُ الخوارجِ بالنهروانِ

يكون إمامُهمْ في المعاد

خبيثَ الهوى مؤمنَ الشيصبانِ (١)

وذكر ابن المعتز في طبقاته (٢) (ص ٨) أبياتاً من دون ذكر الحديث وهي :

أتى حَسَناً والحسينَ الرسولُ

وقد برزا ضحوةً يلعبانِ

وضمّهما وتفَدّاهما

وكانا لديه بذاك المكانِ

وطأطأَ تحتهما عاتِقَيهِ

فَنِعْمَ المطيّةُ والراكبانِ

وذكر المرزباني في أخبار السيِّد ستّة أبيات منها ، ولم يذكر الحديث وزاد :

جزى الله عنّا بني هاشمٍ

بإنعامِ أحمدَ أعلى الجِنانِ

فكلّهمُ طيِّبٌ طاهرٌ

كريمُ الشمائِلِ حُلو اللسانِ

قال الأميني : هذه القصيدة تتضمّن أحاديث وردت في الإمامين السبطين ، وقد تَلفَت جملةٌ من أبياتها ، فقوله :

أتى حسنٌ والحسينُ النبيَ

وقد جلسا حَجرةً يلعبانِ

إشارةٌ إلى ما أخرجه الطبراني (٣) وابن عساكر في تاريخه (٤) (٤ / ٣١٤) عن أبي أيّوب الأنصاري قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين يلعبان بين يديه وفي حجره فقلت : يا رسول الله أتحبّهما؟ فقال : «كيف لا أحبّهما ، وهما ريحانتاي من الدنيا أشمّهما».

__________________

(١) الشيْصَبَان : اسم الشيطان. (المؤلف)

(٢) طبقات الشعراء : ص ٣٥.

(٣) المعجم الكبير : ٤ / ١٥٦ ح ٣٩٩٠.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٥ / ٢٢ ، وفي ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ـ الطبعة المحقّقة ـ : رقم ٦١.

٣٧٦

وعن جابر قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حامل الحسن والحسين على ظهره ، وهو يمشي بهما فقلت : نِعْمَ الجمل جملكما. فقال : «نعْمَ الراكبان هما». وفي لفظ : دخلت عليه والحسن والحسين على ظهره ، وهو يمشي بهما على أربع يقول صلى الله عليه وسلم : «نعْمَ الجملُ جملكما ونعْمَ العدلان أنتما». أخرجه ابن عساكر في تاريخ الشام (١) (٤ / ٢٠٧).

وقوله :

أتى حسناً والحسينَ الرسولُ

وقد برزوا ضحوةً يلعبان

وبعده من أبيات إشارة إلى ما أخرجه الطبراني (٢) عن يعلى بن مُرّة وسلمان قالا :

كنّا حول النبيّ صلى الله عليه وسلم فجاءت أمُّ أيمَن فقالت : يا رسول الله ، لقد ضلَّ الحسن والحسين ، وذلك رأد النهار ـ يقول : ارتفاع النهار ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قوموا فاطلبوا ابنيَّ» ، وأخذ كلُّ رجل تجاه وجهة ، وأخذت نحو النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل حتى أتى سفح جبل ، وإذا الحسن والحسين يلتزق كلُّ واحد منهما صاحبه ، وإذا شجاعٌ على ذَنَبِهِ يخرجُ من فيه شبه النار ، فأسرعَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ انساب فدخل بعض الأجحرة ، ثمّ أتاهما فأفرق بينهما ومسح وجوههما ، وقال : «بأبي وأمّي أنتما ما أكرمكما على الله!» ثمّ حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخر على عاتقه الأيسر ، فقلت : طوبى لكما نِعْمَ المطيّة مطيّتكما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ونعْمَ الراكبان هما! وأبوهما خيرٌ منهما». الجامع الكبير للسيوطي كما في ترتيبه (٣) (٧ / ١٠٦). وأخرج ابن عساكر في تاريخه (٤) (٤ / ٣١٧) عن عمر قال : رأيت الحسن والحسين على عاتقَي

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٤ / ٥١٢ ، وفي ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام ـ الطبعة المحقّقة ـ : رقم ١٥٨.

(٢) المعجم الكبير : ٣ / ٦٥ ح ٢٦٧٧.

(٣) كنز العمّال : ١٣ / ٦٦٢ ح ٣٧٦٨٥.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٥ / ٣٩ ، وفي ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ـ الطبعة المحقّقة ـ : رقم ١٤٨.

٣٧٧

النبيِّ ، فقلت : نِعْمَ الفَرَسُ راحلتكما ـ وفي لفظ ابن شاهين في السنّة : نِعْمَ الفَرَسُ تحتكما ـ. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ونِعْمَ الفارسان هما».

٧ ـ عن سليمان بن أرقم قال : كنت مع السيِّد فمرَّ بقاصٍّ على باب أبي سفيان بن العلاء وهو يقول : يوزَنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في كِفّة بأمّته أجمع فيرجَحُ بهم ، ثمّ يُؤتى بفلان فيوزنُ بهم فيرجحُ ، ثمّ يؤتى بفلان فيوزَنُ بهم فيرجَحُ ، فأقبل على أبي سفيان فقال : لعمري إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرجح على أمّته في الفضل ، والحديث حقٌّ ؛ وإنّما رجح الآخران الناس في سيِّئاتهم ؛ لأنّ من سنَّ سنّةً سيئةً فعُمِل بها بعده كان عليه وزرُها وَوِزر من عمل بها (١).

قال : فما أجابه أحدٌ ، فمضى فلم يبق أحدٌ من القوم إلاّ سبّه. الأغاني (٢) (٧ / ٢٧١).

٨ ـ عن محمد بن كُناسة قال : أهدى بعض ولاة الكوفة إلى السيِّد رداءاً عَدَنيّا ، فكتب إليه السيِّد ، فقال :

وقد أتانا رداءٌ من هَديّتكمْ

فلا عَدِمتُكَ طولَ الدهر من والِ

هو الجمالُ جزاك اللهُ صالحةً

لو أنَّه كان موصولاً بسربالِ

فبعث إليه بخلعة تامّة وفرس جواد ، وقال : يُقطَعُ عتاب أبي هاشم واستزادته إيّانا (٣)

٩ ـ روى المرزباني (٤) مسنداً عن الحرث بن عبيد الله بن الفضل قال : كنّا عند

__________________

(١) أخرج حديث : من سنَّ ، ابن ماجة في سننه : ١ / ٩٠ [١ / ٧٥ ح ٢٠٧] ، ومسلم [في صحيحه : ٥ / ٢٢٨ ح ١٥ كتاب العلم] ، والترمذي [في سننه : ٥ / ٤٢ ح ٢٦٧٥] ، والنسائي [في السنن الكبرى : ٢ / ٤٠ ح ٢٣٣٥] وغيرهم [كأحمد في مسنده : ٥ / ٤٨٣ ح ١٨١٧٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد : ١ / ١٦٨]. (المؤلف)

(٢) الأغاني : ٧ / ٢٩٠.

(٣) الأغاني : ٧ / ٢٩٠.

(٤) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٥٨.

٣٧٨

المنصور ، فأمر بإحضار السيِّد فحضر. قال : أنشدني مَدْحَك لنا في قصيدتك الميميّة التي أوّلها :

أتعرفُ داراً عَفى رَسْمُها

ودع التشبيب. فأنشده وقال :

فَدَعْ ذا وقُلْ في بني هاشمٍ

فإنّك باللهِ تستعصمُ

بني هاشم حبُّكمُ قُربَةٌ

وحبُّكمُ خير ما يُعلَمُ

بكمْ فتَحَ اللهُ بابَ الهدى

كذاك غداً بكمُ يَختِمُ

أُلامُ وألقى الأذى فيكمُ

ألا لائمي فيكمُ ألوَمُ

وما ليَ ذنبٌ يعدّونهُ

سوى أنَّني بكمُ مغْرَمُ

وإنّي لكمْ وامقٌ ناصحٌ

وإنّي بحبِّكم مُعْصَمُ (١)

فأصبحتُ عندهمُ مأثمي

مآثرُ فرعون أوَ اعظمُ

فلا زلتُ عندكمُ مرتضى

كما أنا عندهمُ مُتْهمُ

جعلت ثنائي ومدحي لكم

على رَغمِ أنفِ الذي يُرغَمُ

فقال له المنصور : أظنُّك أودَيتَ في مدحنا كما أودى (٢) حسّان بن ثابت في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أعرف هاشميّا إلاّ ولك عليه حقٌّ. والسيِّد يشكره ، وهو يكلّمه بكلام من وصفه ما سمعته يقول لأحد مثله.

١٠ ـ روى المرزباني في أخبار السيِّد (٣) بإسناده عن جعفر بن سليمان ، قال :

كنّا عند المنصور فدخل عليه السيِّد ، فقال له : أنشدني قصيدتك التي تقول فيها :

__________________

(١) في المصدر : بحبلكم بدلاً من بحبّكم.

(٢) أودى به العمر : أي ذهب به وطال ، والمراد : أنّه كثير المدح لبني هاشم. وفي أخبار السيِّد : أوذيتَ ... كما أُوذي.

(٣) أخبار السيِّد الحميري : ص ١٦٢.

٣٧٩

ملَكَ ابنُ هندٍ وابن أروى قبلَهُ

مُلْكاً أمرَّ بحلِّه الإبرامُ

[فأنشدها حتى بلغ إلى قوله :] (١)

وأضاف ذاك إلى يزيدٍ مُلْكَهُ

إثمٌ عليه في الورى وغَرامُ

أخزى الإله بني أميّةَ إنّهمْ

ظلموا العباد بما أتوهُ وحامُوا

نامت جدودُهمُ وأُسقِطَ نَجْمُهمْ

والنجمُ يسقطُ والجدودُ تنامُ

جَزَعَتْ أميّةُ من ولاية هاشمٍ

وبَكَتْ ومنهمْ قد بكى الإسلامُ

إن يجزعوا فلقد أتتهُمْ دَوْلةٌ

وبها تدوم عليكمُ الأيّامُ

فَلَكمْ يكونُ بكلِّ شَهرٍ أشهرٌ

وبكلِّ عامٍ واحدٍ أعوامُ

يا رهطَ أحمدَ إنَّ مَن أعطاكُمُ

مُلكَ الورى وعطاؤه أقسامُ

ردَّ الوراثة والخلافة فيكمُ

وبنو أميّة صاغرون رِغامُ

لَمُتَمِّمٌ لكمُ الذي أعطاكُمُ

ولكم لديه زيادةٌ وتمامُ

أنتم بنو عمِّ النبيِّ عليكمُ

من ذي الجلال تحيّةٌ وسلامُ

وورثتموهُ وَكنتمُ أولى به

إنَّ الولاء تحوزُهُ الأرحامُ

ما زلت أعرفُ فضلَكم ويُحبُّكمْ

قلبي عليه وإنّني لَغُلامُ

أُوذى وأُشتَمُ فيكمُ ويُصيبني

من ذي القرابة جفوةٌ وملامُ

حتى بلغتُ مدى المشيب فأصبحتْ

منّي القرونُ كأنّهنّ ثَغامُ (٢)

قال : فرأيت المنصور يلقمه من كلِّ شيء كان بين يديه ويقول : شكراً لله ولك يا إسماعيل حبّك لأهل البيت ـ صلّى الله عليهم ـ ومدحك لهم ، وجزاك عنّا خيراً. يا ربيع ادفع إلى إسماعيل فرساً وعبداً وجاريةً وألف درهم ، واجعل الألف له في كلّ شهر.

__________________

(١) أثبتنا الزيادة من المصدر.

(٢) الثَّغام : شجر أبيض الزهر ، واحدته : ثغامة. يقال : صار الرأس ثاغماً ، أي أبيض. (المؤلف)

٣٨٠