الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

١٩ ـ

عمرو وابن أخيه

كان لعمرو بن العاص ابن أخ (١) أريب من بني سهم جاءه من مصر ، فقال له : ألا تخبرني يا عمرو بأيِّ رأي تعيش في قريش؟ أعطيت دينك ، وتمنّيت دنيا غيرك ، أترى أهل مصر وهم قَتَلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعليٌّ حيٌّ؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدّمه في الكتاب (٢)؟

فقال عمرو : يا ابن أخي إنَّ الأمر لله دون عليّ ومعاوية. فقال الفتى :

ألا يا هندُ أُختَ بني زيادٍ

رُمي عمروٌ بداهيةِ البلادِ

رُمي عمروٌ بأعورَ عَبْشَميٍ

بعيدِ القعر محشيِّ الكبادِ (٣)

له خُدعٌ يَحارُ العقلُ فيها

مزخرفةٌ صوائدُ للفؤادِ

فشرّطَ في الكتابِ عليه حرفاً

يُناديه بخدعته المنادي

وأثبت مثلَهُ عمروٌ عليه

كلا المرأين حيّةُ بطنِ وادي

ألا يا عمرو ما أحرزت مصراً

وما مِلْت الغداة إلى الرشاد

وبعت الدين بالدنيا خساراً

فأنت بذاك من شرِّ العبادِ

فلو كنتَ الغداةَ أخذتَ مصراً

ولكن دونها خرطُ القتادِ

وفدتَ إلى معاويةَ بنِ حربٍ

فكنتَ بها كوافدِ قومِ عادِ

وأُعطيتَ الذي أعطيتَ منها

بِطَرْسٍ فيه نضحٌ من مدادِ

ألم تعرف أبا حسنٍ عليّا

وما نالتْ يداه من الأعادي

عدلتَ به معاويةَ بنَ حربٍ

فيا بُعد البياضِ من السوادِ

__________________

(١) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ابن عم. (المؤلف)

(٢) يعني كتاباً كتبه معاوية لعمرو بمصر ، وجعلها طعمة له. (المؤلف)

(٣) يعني معاوية. يقال في النسبة إلى عبد شمس : عبشمي. حشا حشواً : ملأ. احتشى : امتلأ. (المؤلف)

٢٢١

ويا بُعد الأصابعِ من سُهيلٍ

ويا بُعد الصلاحِ من الفسادِ

أتأمنُ أن تراه على خِدَبٍ

يحثُّ الخيل بالأُسُلِ الحِدادِ (١)

ينادي بالنزالِ وأنت منهُ

قريبٌ فانظرَنْ مَن ذا تُعادي

فقال عمرو : يا ابن أخي لو كنت مع عليّ وسعني بيتي ، ولكنّي الآن مع معاوية. فقال له الفتى : إنّك إن لم تُرد معاوية لم يُردك. ولكنّك تريد دنياه ويريد دينك.

وبلغ معاوية قول الفتى ، فطلبه فهرب ، فلحق بعليٍّ ، فحدّثه بأمر عمرو ومعاوية.

قال : فَسَرَّ ذلك عليّا وقرّبه.

قال : وغضب مروان وقال : ما بالي لا أُشْترى كما اشتُرِيَ عمرو؟ فقال معاوية : إنّما يُشترى الرجال لك!.

قال : فلمّا بلغ عليّا ما صنع معاوية وعمرو ، قال :

يا عجباً لقد سمعتُ مُنكرا

كَذِباً على اللهِ يُشيبُ الشعرا

يسترقُ السمعَ ويُغشي البصرا

ما كان يرضى أحمدٌ لو أُخبرا

أن يقرِنوا وصيَّهُ والأبترا

شاني الرسولِ واللعينَ الأخزرا (٢)

كلاهما في جُندِهِ قد عسكرا

قد باعَ هذا دينَه فأفجرا

من ذا بدنيا بيعِهِ قد خَسرا

بمُلْكِ مصرٍ إن أصابَ الظفرا

إنّي إذا الموتُ دَنا وحَضرا

شمّرتُ ثوبي ودعوتُ قنبرا

قدِّم لوائي لا تؤخِّرْ حذَرا

لن ينفع الحذارُ ممّا قُدِّرا

لمّا رأيتُ الموتَ موتاً أحمرا

عبّأتُ هَمْدانَ وعَبّوا حِمْيَرا

__________________

(١) خِدَبّ ـ بالكسر وتشديد الموحّدة : سنام البعير الضخم. الأُسُل : الرماح. (المؤلف)

(٢) الخزر : ضيق العين. الخزرة بالضم : انقلاب الحدقة نحو اللحاظ ، وهو أقبح الحول. (المؤلف)

٢٢٢

حيٌّ يمانٍ يُعْظِمُون الخَطَرا

قِرنٌ إذا ناطحَ قِرناً كَسَرا

قل لابن حربٍ لا تَدِبَّ الحمرا

أَرْوِدْ قليلاً أبْدِ منك الضجرا (١)

لا تحسبنّي يا ابن حرب غَمَرا (٢)

وسَلْ بنا بدراً معاً وخيبرا

كانت قريشٌ يوم بدرٍ جزرا

إذ وردوا الأمر فذمّوا الصَدَرا (٣)

لو أنَّ عندي يا ابن حرب جعفرا

أو حمزةَ القِرمَ الهُمامَ الأزهرا

رأت قريشٌ نجمَ ليلٍ ظُهُرا

الإمامة والسياسة (١ / ٨٤) ، كتاب صفِّين لابن مزاحم (ص ٢٤) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٣٨) (٤).

٢٠ ـ

غانمة بنت غانم وعمرو

بلغ غانمة بنت غانم سبُّ معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم وهي بمكّة ، فقالت : يا معشر قريش والله ما معاوية بأمير المؤمنين ، ولا هو كما يزعم ، هو والله شانىء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنّي آتيةٌ معاوية وقائلةٌ له بما يعرق منه جبينه ، ويكثر منه عويله.

فكتب عامل معاوية إليه بذلك ، فلمّا بلغه أنَّ غانمة قد قَرُبَتْ منه ، أمر بدار ضيافة فنظّفت ، وأُلقي فيها فرش ، فلمّا قربت من المدينة استقبلها يزيد في حَشَمه

__________________

(١) أدبّ الصبي : سَيّره. أرود في السير : رفق وتمهّل. الضجر ـ بفتح الضاد والجيم : القلق من غم وضيق نفس. (المؤلف)

(٢) الغَمَر : من لم يجرّب الأمور.

(٣) الجزرة : الشاة التي تذبح ، والجمع جزر ـ بالفتح وقد تكسر. الصدر ـ بالتحريك : رجوع المسافر من مقصده ، والشاربة من الورد. (المؤلف)

(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٨ ، وقعة صفِّين : ص ٤١ ـ ٤٤ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٦٨ خطبة ٢٦.

٢٢٣

ومماليكه ، فلمّا دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم ، فقال لها يزيد : إنَّ أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته ، وكانت لا تعرفه.

فقالت : من أنت كلأك الله؟ قال : يزيد بن معاوية. قالت : فلا رعاك الله يا ناقص لست بزائد. فتمعّر لون يزيد ، فأتى أباه فأخبره ، فقال : هي أسنُّ قريش وأعظمهم. فقال يزيد : كم تعدُّ لها يا أمير المؤمنين؟ قال : كانت تعدُّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة عام ، وهي من بقيّة الكرام.

فلمّا كان من الغد ، أتاها معاوية فسلّم عليها. فقالت : على المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان. ثمَّ قالت : من منكم ابن العاص (١)؟ قال عمرو : ها أنا ذا. فقالت : وأنت تسبُّ قريشاً وبني هاشم؟ وأنت أهل السبِّ ، وفيك السبُّ ، وإليك يعود السبُّ ، يا عمرو إنّي والله لعارفةٌ بعيوبك وعيوب أمِّك ، وإنّي أذكر لك ذلك عيباً عيباً : وُلدت من أمة سوداء ، مجنونة حمقاء ، تبول من قيام ، وتعلوها اللئام ، إذا لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذ من نطفته ، ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً ، وأمّا أنت فقد رأيتك غاوياً غير راشد ، ومفسداً غير صالح ، ولقد رأيتَ فحل زوجتك على فراشك ، فما غرت ولا أنكرت ، وأمّا أنت يا معاوية فما كنت في خير ولا رُبِّيت في خير ، فمالك ولبني هاشم؟ أنساء بني أميّة كنسائهم؟ .. الحديث. وهو طويلٌ وقد حذفنا من أوّله مقدار ما ذكر ، راجع المحاسن والأضداد للجاحظ (٢) (ص ١٠٢ ـ ١٠٤) ، وفي طبعةٍ (١١٨ ـ ١٢١) ، والمحاسن والمساوئ للبيهقي (٣) (١ / ٦٩ ـ ٧١).

هذه حقيقة الرجل ونفسيّاته وروحيّاته منذ العهد الجاهليِّ ، وفي دور النبوّة وبعده إلى ما أثاره من فتن التقت بها حلقتا البطان في أيّام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يوم تحيّزه إلى ابن آكلة الأكباد لدحض الحقِّ وأهله ، وما كان يتحرّى فيها من الغوائل

__________________

(١) في لفظ الجاحظ : أفيكم عمرو بن العاص؟ (المؤلف)

(٢) المحاسن والأضداد : ص ٨٨ ٩٠.

(٣) المحاسن والمساوئ : ص ٩١ ٩٤.

٢٢٤

وبعدها ، إلى أن اصطلمه القدر الحاتم ، واخترمته منيّته يوم خابت أمنيّته ، فطفق يتقلقل بين أطباق الجحيم ، وتضربه زبانيتها بمقامع من حديد ، ولعلّنا ألمسناك هذه الحقيقة باليد ، فلن تجد في تضاعيف هاتيك الأعوام له مأثرةً يتبجّح بها ابن أنثى ، خلا ما تقوّله زبائنه من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، وما عسى أن يكون مقيلها من ظلِّ الحقِّ؟ بعد ما أثبتناه من الحقيقة الراهنة ، ووقفنا عليه من أحوال رواة السوء وشناشنهم في افتعال المدائح للزعانفة المؤتلفة معهم في النزعات الباطلة.

وأمّا تأميره في غزوة ذات السلاسل فلا يجديه نفعاً بعد ما علمناه من أنَّه كان يتظاهر بالإسلام ، ويبطن النفاق في طيلة حياته ، وما كان الصالح العامّ والحكمة الإلهيّة يحدوان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العمل بالبواطن ، وإنّما يجاري القوم مجاري ظواهرهم ؛ لأنَّهم حديثو عهد بالجاهليّة ، والإسلام لمّا يتحكّم في أفئدتهم ، فلو كاشفهم على السرائر لانتكصوا على أعقابهم ، وتقهقروا إلى جاهليّتهم الأولى ، فكان يسايرهم على هذا الظاهر ، لعلّهم يتمرّنون باعتناق الدين ، ويأخذ من قلوبهم محلّه ؛ ولذلك إنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم بنفاق كثير من أصحابه كما أخبره الله تعالى بقوله (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) (١) إلى غيرها من الآيات الكريمة ، لكنَّه يستر عليهم رعاية لما أبرمه حذار الانتكاث ، فكان تأمير عمرو ـ مع علمه بنفاقه ـ لتلك الحكمة البالغة ، غير ملازم لحسن حاله على ما عرفته من كلام مولانا أمير المؤمنين ، من أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عقد له الراية شرط عليه شرطاً قد أخلفه.

ويُعرب عن حقيقة ما نرتئيه قول أبي عمرو وغيره : إنَّ عمرو بن العاص ادّعى على أهل الإسكندريّة أنّهم قد نقضوا العهد الذي كان عاهدهم ، فعمد إليها فحارب أهلها وافتتحها ، وقتل المقاتلة ، وسبى الذريّة ، فنقم ذلك عليه عثمان ، ولم يصحّ عنده نقضهم العهد ، فأمر بردّ السبي الذي سبوا من القرى إلى مواضعهم ، وعزل عمراً عن

__________________

(١) التوبة : ١٠١.

٢٢٥

مصر ، وولّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري مصراً بدله ، فكان ذلك بدء الشرِّ بين عمرو بن العاص وعثمان بن عفان ، فلمّا بدا بينهما من الشرّ ما بدا ، اعتزل عمرو في ناحية فلسطين بأهله ، وكان يأتي المدينة أحياناً ويطعن على عثمان (١). وسعّر عليه الدنيا ناراً ، ولما أتاه قتله قال : أنا أبو عبد الله إذا نكأت (٢) قرحة أدميتها.

وولّى عمر عمرو بن العاص على مصر ، وبقي والياً عليها إلى أوّل خلافة عثمان ، ثمَّ إنَّ عثمان عزله عن الخراج واستعمله على الصلاة ، واستعمل على الخراج عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ثمَّ جمعهما لعبد الله بن سعد وعزل عمراً ، فلمّا قدم عمرو المدينة جعل يطعن على عثمان ، فأرسل إليه يوماً عثمان خالياً به. فقال : يا ابن النابغة ما أسرع ما قمل جربّان (٣) جُبّتك؟ إنَّما عهدك بالعمل عام أوّل ، أتطعن عليَّ وتأتيني بوجه وتذهب عنّي بالآخر؟ والله لو لا أكلة ما فعلت ذلك.

فقال عمرو : إنَّ كثيراً ممّا يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل ، فاتِّق الله يا أمير المؤمنين في رعيّتك. فقال عثمان : والله لقد استعملتك على ظَلعِك (٤) ، وكثرة القالة فيك. فقال عمرو : قد كنت عاملاً لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عنّي راضٍ. فقال عثمان : وأنا والله لو أخذتك بما أخذك به عمر لاستقمت ، ولكنّي لنتُ لك فاجترأت عليَّ.

فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقدٌ عليه ، يأتي عليّا مرّة فيؤلّبه على عثمان ، ويأتي الزبير مرّة فيؤلّبه على عثمان ، ويأتي طلحة مرّة فيؤلّبه على عثمان ، ويعترض الحاجّ فيخبرهم بما أحدث عثمان.

__________________

(١) الاستيعاب : ٢ / ٤٣٥ [القسم الثالث / ١١٨٧ رقم ١٩٣١] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ١١٢ [٦ / ٣٢٠ خطبة ٨٣]. (المؤلف)

(٢) نكأ القرحة : قشرها قبل أن تبرأ. (المؤلف)

(٣) جربّان الجبّة ـ بضم الجيم والراء وكسرهما وتشديد الباء : جيبها. (المؤلف)

(٤) أي على ما فيك من عيب وميل. والظلع ـ في الاصل : غمز البعير في مشيه. (المؤلف)

٢٢٦

ولمّا قصد الثوّار إلى المدينة ، أخرج لهم عثمان عليّا ، فكلّمهم فرجعوا عنه ، وخطب عثمان الناس فقال : إنَّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمرٌ ، فلمّا تيقّنوا أنّه باطلٌ ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم. فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد : اتَّق الله يا عثمان فإنَّك قد ركبت نهابير (١) وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب ، فناداه عثمان فقال : وإنّك هناك يا ابن النابغة ، قَمَلت والله جبّتك منذ تركتك من العمل. وفي لفظ البلاذري في الأنساب (٢) : يا ابن النابغة وإنّك ممّن تُؤلّب عليَّ الطغام ، لأنّي عزلتك عن مصر.

فلمّا كان حصر عثمان الأوّل ، خرج عمرو من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها : السبع ، فنزل بها ، وكان يقول : أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحةً نكأتها ، والله إن كنت لألقى الراعي فأحرِّضه عليه. وفي لفظ البلاذري : وجعل يحرِّض الناس على عثمان حتى رعاة الغنم.

فبينما هو بقصره بفلسطين ، إذ مرَّ به راكب من المدينة ، فسأله عمرو عن عثمان ، فقال : تركته محصوراً. قال عمرو : أنا أبو عبد الله قد يضرط العير والمكواة في النار ، فلمّا بلغه مقتل عثمان ، قال عمرو : أنا أبو عبد الله ، قتلته وأنا بوادي السباع ، من يلي هذا الأمر من بعده؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيباً ، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلاّ سيستنظف الحقَ (٣) ، وهو أكره من يليه إليَّ.

فلمّا بلغه أنَّ علياً قد بويع له ، اشتدّ عليه وتربّص لينظر ما يصنع الناس ، ثمَّ نمى إليه أنَّ معاوية بالشام يأبى أن يبايع عليّا ، وأنّه يُعظِمُ قتل عثمان ، ويحرِّضُ على الطلب بدمه ، فاستشار ابنيه عبد الله ومحمداً في الأمر ، وقال : ما تريان؟ أمّا عليٌّ فلا

__________________

(١) جمع نهبورة بالضم : المهلكة. (المؤلف)

(٢) أنساب الاشراف : ٢ / ٢٨٢ رقم ٣٦٠.

(٣) استنظف الشيءَ : أخذ كلّه. (المؤلف)

٢٢٧

خير عنده وهو رجلٌ يَدِلُ (١) بسابقته ، وهو غيرُ مشركي في شيء من أمره. فقال عبد الله بن عمرو : توفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ ، وتوفّي أبو بكر رضى الله عنه وهو عنك راضٍ ، وتوفّي عمر رضى الله عنه وهو عنك راضٍ ، أرى أن تكفَّ يدك وتجلس في بيتك ، حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال محمد بن عمرو : أنت نابٌ من أنياب العرب ، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت ولا ذكر.

قال عمرو : أمّا أنت يا عبد الله فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي وأسلم في ديني ، وأمّا أنت يا محمد فأمرتني بالذي أنبه لي في دنياي وأشرّ لي في آخرتي.

ثمَّ خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه حتى قدم على معاوية ، فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان ، فقال عمرو بن العاص : أنتم على الحقِّ ، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو ، فقال ابنا عمرو لعمرو : ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك؟! انصرف إلى غيره ، فدخل عمرو على معاوية ، فقال : والله لعجب لك إنّي أرفدك بما أرفدك وأنت معرضٌ عنّي؟ أَم والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة ، إنَّ في النفس من ذلك ما فيها ، حيث نقاتلُ من تعلمُ سابقته وفضله وقرابته ، ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية ، وعطف عليه.

أنساب الأشراف للبلاذري (٥ / ٧٤ ، ٨٧) ، تاريخ الطبري (٥ / ١٠٨ ـ ١١١ و ٢٢٤) ، كامل ابن الأثير (٣ / ٦٨) ، تذكرة السبط (ص ٤٩) ، جمهرة رسائل العرب (١ / ٣٨٨) (٢).

وكان بعد تلك المساومة المشؤومة يحرِّض الناس على قتل الإمام أمير المؤمنين ،

__________________

(١) أدلّ وتدلّل : انبسط واجترأ. (المؤلف)

(٢) أنساب الاشراف : ٢ / ٢٨٢ ـ ٢٨٦ رقم ٣٦٠ ٣٦٤ ، تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٣٥٦ ـ ٣٦١ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، وص ٥٦٠ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٥٨ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، تذكرة الخواص : ص ٨٦ ـ ٨٧.

٢٢٨

كما فعله على عثمان حتى قتله ، وافتخر به بقوله : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع. ثمّ جعل قميصه وسيلة النيل إلى الرتبة والراتب ، وقام بطلب دمه ، قائلاً : إنَّ في النفس من ذلك ما فيها.

وممّن حثّهم على أمير المؤمنين وألّبهم عليه حريثٌ مولى معاوية بن أبي سفيان. قال ابن عساكر في تاريخه (١) (٤ / ١١٣) : قال معاوية لحريث : اتَّق عليّا ثمَّ ضع رمحك حيث شئت. فقال له عمرو بن العاص : إنَّك والله يا حريث لو كنت قرشيّا لأحبّ معاوية أن تقتل عليّا ، ولكن كره أن يكون لك حظّها! فإن رأيت منه فرصة فاقتحم عليه.

ولمّا قُتل أمير المؤمنين عليه‌السلام استبشر بذلك ، وبشّره به سفيان بن عبد شمس بن أبي وقّاص. قال ابن عساكر في تاريخه (٢) (٦ / ١٨١) : لمّا طُعن أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، ذهب سفيان يبشّر معاوية وعمرو بن العاص بقتله ، فكتب معاوية إلى عمرو وهو يقول :

وَقَتْكَ وأسبابُ المنونِ كثيرةٌ

منيّةُ شيخٍ من لؤيِّ بنِ غالبِ

فيا عمرو مهلاً إنّما أنت عمُّهُ

وصاحبُه دون الرجالِ الأقاربِ

نجوتَ وقد بلَّ المراديُّ سيفَهُ

من ابن أبي شيخِ الأباطحِ طالبِ

ويضربُني بالسيفِ آخرُ مثلُهُ

فكانت عليه تلك ضربة لازبِ

وأنت تناغي كلَّ يوم وليلةٍ

بمصرك بيضاً كالظِباء الشوازبِ (٣)

هذه نفسيّة الرجل وتمام حقيقته اللائحة على تجارته البائرة ، وصفقته الخاسرة ، وبضاعته المزجاة من الدين المبطّن بالإلحاد والمكتنف بالنفاق ، ولو لم يكن

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٤ / ٣٣٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢٧٥.

(٢) المصدر السابق : ٧ / ٣٧٦ ، تهذيب تاريخ دمشق : ٦ / ١٨٣ ترجمة سفيان بن عبد شمس.

(٣) الشوازب : المضمّرات.

٢٢٩

كذلك لما اقتنع بتلك المساومة ، وهو يعرف الثمن والمثمن ، ويعلم سابقة أمير المؤمنين ، وفضله ، وقرابته ، ويقول : إن يَلِهِ ابن أبي طالب فلا أراه إلاّ سيستنظف الحقَّ. ومع ذلك يظهر بغضه وعداءه بقوله : وهو أكره من يليه إليَّ ، ويعترف بالحقِّ ويتحيّز إلى خلافه ، ويعرف الموضع الصالح للخلافة ، ثمَّ يميل مع الهوى ويقول : إنّما أردنا هذه الدنيا. فيبيع دينه لمعاوية بثمن بخس ـ مصر وكورها ـ ويؤلّب الناس على الإمام الطاهر بنصِّ الكتاب العزيز ، ويُسَرُّ بقتله. ولقد صارح بكلِّ ذلك صراحة لا تقبل التأويل ، وهي مستفادةٌ من نصوصه ونصوص الصحابة الأوّلين ، وبها عُرف في التاريخ الصحيح ، كما سمعت من دون أيِّ استنباط أو تحوير ، فلا بارك الله في صفقة يمينه ، ولا غار له بخير.

حديث شجاعته :

لم نعهد لابن النابغة موقفاً مشهوداً في المغازي والحروب ، سواءٌ في ذلك العهد الجاهليّ ودور النبوّة. وأمّا وقعة صفِّين فلم يُؤثر عنه سوى مخزاة سوأته مع أمير المؤمنين وفراره من الأشتر ، وقد بقي عليه عار الأولى مدى الحقب والأعوام ، وجرى بها المثل ، وغنّى بها أهل الحجاز ، وجاء في شعر عتبة بن أبي سفيان :

سوى عمروٍ وَقَتْهُ خصيتاهُ

نجا ولقلبِهِ منهُ وجيبُ (١)

وفي شعر معاوية بن أبي سفيان يذكر عمراً وموقفه ، كما يأتي :

فقد لاقى أبا حسنٍ عليّا

فآب الوائليُّ مآب خازي

فلو لم يُبدِ عورتَهُ لَلاقى

به ليثاً يذلِّلُ كلَّ غازي

وفي شعر الحارث بن نصر السهميِّ :

__________________

(١) سيأتي أنّ البيت من قصيدة للوليد بن عقبة قالها في عمرو بن العاص بعد فراره أمام أمير المؤمنين (ع) ، كما ذكر ذلك نصر بن مزاحم في وقعة صفّين : ص ٤١٨.

٢٣٠

فقولا لعمروٍ وابنِ أرطاةَ أبْصِرا

سبيلَكما لا تَلْقيا الليثَ ثانيهْ

ولا تحمدا إلاّ الحيا وخصاكما

هما كانتا للنفس واللهِ واقيهْ

وفي شعر الأمير أبي فراس :

ولا خيرَ في دفعِ الردى بمذلّةٍ

كما ردّها يوماً بسوأته عمرو

وفي شعر الزاهي البغدادي :

وصدَّ عن عمروٍ وبُسْرٍ كَرَماً

إذ لقيا بالسوأتين من شخصْ

وقال آخر :

ولا خيرَ في صَوْن الحياة بِذِلّةٍ

كما صانَها يوماً بذلّتِهِ عمرو

وقال عبد الباقي الفاروقي العمري :

وليلةالهريرِ قد تكشّفتْ

عن سوأةِ ابنِ العاصِ لمّا غُلبا

فحاد عنهُ مُغْضِباً حيدرةٌ

وعفَّ والعفوُ شِعارُ النُّجَبَا

ولو يشأ ركّبَ فيهِ زَجّةً

تركيبَ مزجيٍّ كمعدي كربا

وكان قد تكرّر منه هذا العمل المخزي كما سيأتي ، ولو كان للرجل شيءٌ من البسالة لَجَبَهَ مُعيِّريه بتعداد مشاهده ، وسَلَقَهم بلسانٍ حديد ، وهو ذلك الصلِف المُفَوّه ، وفيما أُمِّر من الحروب كان الزحف للجيش الباسل دونه ، فلم يسطُ أمامه ، وإنّما كان رئيّا في أمرهم يدير وجه الحيلة فيه ، كما أنَّه كان في صفِّين كذلك ، لم يبارح سرادق معاوية ، وطفق يبديه دهاءه إلاّ في موقفين سيوافيك تفصيلهما ، ولذلك كلّه اشتهر بالدهاء دون الشجاعة.

قال البيهقي في المحاسن والمساوئ (١) (١ / ٣٩) : قال عمرو بن العاص لابنه عبد الله يوم صفّين : تبيّنْ لي هل ترى عليَّ بن أبي طالب رضى الله عنه؟ قال عبد الله : فنظرت

__________________

(١) المحاسن والمساوئ : ص ٥٤.

٢٣١

إليه فرأيته ، فقلت : يا أبه ها هو ذاك على بغلة شهباء ، عليه قباءٌ أبيض وقلنسوةٌ بيضاء. قال : فاسترجع وقال : والله ما هذا بيوم ذات السلاسل ولا بيوم اليرموك ولا بيوم أجنادين ، وددت أنَّ بيني وبين موقفي بُعد المشرقين.

هذا هو الذي عرفه منه معاصروه ، وستقف على أحاديثهم ، نعم جاء ابن عبد البرّ بعد لأيٍ من عمر الدهر ، فتهجّس في الاستيعاب (١) فعدّه من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهليّة ، مذكوراً بذلك فيهم. ولعلّ ابن منير (٢) المولود بعد ابن عبد البرّ بعشر سنين وقف على كلامه في الاستيعاب وحكمه ببطولة الرجل ، فقال في قصيدته التتريّة :

وأقول إن أخطا معا

ويةٌ فما أخطا القَدَرْ

هذا ولم يَغْدُرْ معا

ويةٌ ولا عمروٌ مَكَرْ

بطلٌ بسوأتهِ يقاتلُ

لا بصارمِهِ الذَكَرْ

فإليك ما يُؤثر في مواقفه ، حتى ترى عيَّه عن القُحوم إلى الفوارس في مضمار النضال ، والدنوّ من نقع الحومة ، وتقف على حقيقته من هذه الناحية أيضاً ، وتعرف قيمة كلام ابن حجر في الإصابة (٣ / ٢) : من أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرِّبه ويدنيه ، لمعرفته وشجاعته. ولا نسائله متى قرّبه وأدناه.

أمير المؤمنين وعمرو

في معترك القتال بصفّين

كان عمرو بن العاص عدوّا للحرث بن النضر الخثعمي ، وكان من أصحاب عليٍّ عليه‌السلام ، وكان عليٌّ قد تهيّبته فرسان الشام ، وملأ قلوبهم بشجاعته ، وامتنع كلٌ

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٨٨ رقم ١٩٣١.

(٢) أحد شعراء الغدير في القرن السادس ، تأتي هناك [في الجزء الرابع] قصيدته التترية ، وترجمته. (المؤلف)

٢٣٢

منهم من الإقدام عليه ، وكان عمرو ما جلس مجلساً إلاّ ذكر فيه الحرث بن النضر الخثعميّ وعابه ، فقال الحرث :

ليس عمروٌ بتاركٍ ذكره الحربَ

مدى الدهر أو يلاقي عليّا

واضعَ السيفِ فوقَ مَنْكبِهِ الأي

 ـ منِ لا يحسِبُ الفوارسَ شيّا

ليت عمراً يلقاهُ في حومةِ النَقْ

 ـ عِ وقد أمستِ السيوفُ عِصِيّا

حيث يدعو البراز حاميةُ القومِ

إذا كان بالبرازِ مليّا

فوق شُهْبٍ مثلِ السَحُوق (١) من النَخ

 ـ لِ ينادي المبارزين إليّا

ثمَّ يا عمرو تستريحُ من الفخر

وتلقى به فتىً هاشميّا

فالقَهُ إن أردت مَكرُمة الدهر

أو الموتَ كلّ ذاك عليّا

فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمراً ، فأقسم بالله لَيَلْقَيَنَّ عليّا ولو مات ألف موتة ، فلمّا اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه ، فتقدّم عليٌّ وهو مخترطٌ سيفاً ، معتقلٌ رمحاً ، فلمّا رَهَقَه هَمَزَ فرسه ليعلو عليه ، فألقى عمرو نفسه عن فرسِهِ إلى الأرض شاغراً برجليه ، كاشفاً عورته ، فانصرف عنه عليٌّ لافتاً وجهه مستدبراً له ، فعدَّ الناس ذلك من مكارم عليٍّ وسؤدده ، وضرب بها المثل.

كتاب صفّين لابن مزاحم (٢) (ص ٢٢٤) ، شرح ابن أبي الحديد (٣) (٢ / ١١٠)

وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (٤) (١ / ٩١) : ذكروا أنَّ عمراً قال لمعاوية : أتجبن عن عليٍّ وتتّهمني في نصيحتي إليك؟ والله لأُبارِزَنَّ عليّا ولو متُّ ألف موتة في أوّل لقائه ، فبارزه عمرو فطعنه عليٌّ فصرعه ، فاتّقاه بعورته ، فانصرف عنه عليٌ

__________________

(١) سحقت النخل : طالت. فهي سحوق ـ بالفتح ـ والجمع سُحُق ـ بالضم. (المؤلف)

(٢) وقعة صفّين : ص ٤٢٣.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٣١٣ خطبة ٨٣.

(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٥.

٢٣٣

وولّى بوجهه دونه ، وكان عليّ رضى الله عنه لم ينظر قطُّ إلى عورة أحد حياءً وتكرّماً وتنزّهاً عمّا لا يحلُّ ولا يجلُّ بمثله ـ كرّم الله وجهه.

وقال المسعودي في مروج الذهب (١) (٢ / ٢٥) : إنَّ معاوية أقسم على عمرو لمّا أشار عليه بالبراز إلاّ أن يبرز إلى عليٍّ ، فلم يجد عمرو من ذلك بُدّا فبرز ، فلمّا التقيا عرفه عليٌّ ، وشال السيف ليضربه به ، فكشف عمرو عن عورته وقال : مكرهٌ أخوك لا بطل. فحوّل عليٌّ وجهه وقال : «قبحت» ورجع عمرو إلى مصافّه.

اجتمع عند معاوية في بعض ليالي صفِّين عمرو بن العاص ، وعتبة بن أبي سفيان ، والوليد بن عقبة ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن عامر ، وابن طلحة الطلحات الخزاعي ، فقال عتبة : إنَّ أمرنا وأمر عليِّ بن أبي طالب لعجيب ، ما فينا إلاّ موتورٌ مجتاحٌ ، أمّا أنا فقتل جدّي عتبة بن ربيعة ، وأخي حنظلة ، وشرك في دم عمّي شيبة يوم بدر ، وأمّا أنت يا وليد فقتل أباك صبراً ، وأمّا أنت يا ابن عامر فصرع أباك وسلب عمّك ، وأمّا أنت يا ابن طلحة فقتل أباك يوم الجمل ، وأيتم إخوتك ، وأمّا أنت يا مروان فكما قال الشاعر (٢).

وأفلتهنَّ علباءَ جريضاً

ولو أدركته صفر الوطاب (٣)

فقال معاوية : هذا الإقرار ، فأيَّ غُيُر غيَّرت (٤)؟ قال مروان : وأيَّ غُيُر تريد؟ قال : أريد أن تشجُروه بالرماح. قال : والله يا معاوية ما أراك إلا هاذياً أو هازئاً ، وما

__________________

(١) مروج الذهب : ٢ / ٤٠٥.

(٢) البيت لامرئ القيس. (المؤلف)

(٣) أفلته : خلّصه وأطلقه. أفلت : تخلّص. علباء من علب اللحم : تغيّرت رائحته بعد اشتداده. الجريض : المشرف على الهلاك. الصفر ـ بالحركات الثلاث : الخالي. الوطب : سقاء اللبن ، والجمع وطاب. [قوله : صفر الوطاب : مثل يضرب لمن مات أو قتل. مجمع الأمثال : ٢ / ٢٢٢ رقم ٢١٠٩]. (المؤلف)

(٤) في شرح نهج البلاغة ووقعة صفّين : فأين الغُيُر؟

٢٣٤

أرانا إلاّ ثَقُلنا عليك. فقال ابن عقبة :

يقول لنا معاويةُ بنُ حرب

أما فيكم لواترِكمْ طَلُوبُ

يشدُّ على أبي حسنٍ عليٍ

بأسمرَ لاتُهجِّنهُ العَكوبُ (١)

فيهتك مجمَع اللّباتِ منه

ونقع القومِ مُطَّرِد يثوبُ

فقلتُ لهُ أتلعبُ يا ابن هندٍ

كأنَّك بيننا رجلٌ غريبُ

أتُغرينا بحيّةِ بطنِ وادٍ

إذا نهشَتْ فليس لها طبيبُ

وما ضَبُعٌ يدِبُّ ببطن وادٍ

أُتيح (٢) له بهِ أسدٌ مهيبُ

بأضعف حيلةً منّا إذا ما

لقيناه ولقياه عجيبُ

دعا للقاهُ في الهيجاءِ لاقٍ

فأخطا نفسَه الأجلُ القريبُ

سوى عمرو وَقَتْهُ خصيتاهُ

نجا ولقلبِهِ منه وجيبُ

كأنّ القومَ لمّا عاينوهُ

خلالَ النقع ليس لهم قُلوبُ

لعمر أبي معاوية بنِ حربٍ

وما ظنّي ستلحقه العيوبُ

لقد ناداه في الهيجا عليٌ

فأسمعه ولكن لا يُجيبُ

فغضب عمرو ، وقال : إن كان الوليد صادقاً فَلْيَلْقَ عليّا ، أو فليقف حيث يسمع صوته ، وقال عمرو :

يُذكّرني الوليد دعا عليٍ

وبطن المرء يملؤه الوعيدُ

متى تذكُرْ مشاهده قريشٌ

يَطِر من خوفه القلبُ الشديدُ

فأمّا في اللقاءِ فأين منهُ

معاويةُ بن حرب والوليدُ

وعيّرني الوليدُ لقاء ليثٍ

إذا ما زار (٣) هابتْهُ الأُسودُ

__________________

(١) هجّنه الأمر : قبّحه وعابه. العَكوب ـ بالفتح : الغبار. (المؤلف)

(٢) تاح تيحاً وتوحاً : قدر وتهيّأ. رجل متيح : أي لا يزال يقع في بليّة. (المؤلف)

(٣) من الزئير : صوت الاسد. (المؤلف)

٢٣٥

لقيتُ ولست أجهلُهُ عليّا

وقد بلَّت من العَلَقِ اللُبودُ (١)

فأطعنُهُ ويطعنُني خلاساً (٢)

وما ذا بعد طعنتهِ أُريدُ

فرُمها أنت يا ابن أبي مُعَيْطٍ

وأنت الفارسُ البطلُ النَجيدُ (٣)

وأقسم لو سمعت ندا عليٍ

لطارَ القلبُ وانتفخ الوريدُ

ولو لاقيتَهُ شُقَّتْ جيوبٌ

عليكَ ولُطّمتْ فيك الخدودُ (٤)

وفي رواية سبط ابن الجوزي (٥) : ثمَّ التفت الوليد إلى عمرو بن العاص وقال : إن لم تصدِّقوني فسلوا. أراد تبكيت عمرو.

قال هشام بن محمد : ومعنى هذا الكلام : أنَّ عليّا خرج يوماً من أيام صفِّين ، فرأى عمرو بن العاص في جانب العسكر ولم يعرفه ، فطعنه فوقع ، فبدت عورته ، فاستقبل عليّا فأعرض عنه ، ثمَّ عرفه فقال : «يا ابن النابغة أنت طليق دبرك أيّام عمرك» وكان قد تكرّر منه هذا الفعل.

رواية ابن عبّاس :

روى نصر (٦) بإسناده عن ابن عبّاس قال : تعرّض عمرو بن العاص لعليّ يوماً من أيّام صفِّين ، وظنَّ أنَّه يطمع منه في غرّة ـ أي : في غفلة ـ فيصيبه ، فحمل عليه عليٌّ عليه‌السلام فلمّا كاد أن يخالطه أذرى ـ أي : ألقى ـ نفسه عن فرسه ، ورفع ثوبه ، وشغر (٧)

__________________

(١) اللبد ـ بالكسر : الشعر المجتمع بين كتفي الأسد. ما يجعل على ظهر الفرس تحت السرج ، الجمع : لبود وألباد. (المؤلف)

(٢) يقال : الرجلان يتخالسان : أي يروم كلّ منهما قتل صاحبه. (المؤلف)

(٣) النجيد : الشجاع الماضي فيما يعجز غيره. (المؤلف)

(٤) كتاب صفّين : ص ٢٢٢ [ص ٤١٧ ـ ٤١٨] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ١١٠ [٦ / ٣١٤ ـ ٣١٥ خطبة ٨٣] ، تذكرة السبط : ص ٥١ [ص ٨٩ ـ ٩٠]. (المؤلف)

(٥) تذكرة الخواص : ص ٩٠.

(٦) وقعة صفّين : ص ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

(٧) شغر الكلب : رفع إحدى رجليه فبال. (المؤلف)

٢٣٦

برجله فبدت عورته ، فصرف عليه‌السلام وجهه عنه ، وقام معفَّراً بالتراب ، هارباً على رجليه ، معتصماً بصفوفه ، فقال أهل العراق : يا أمير المؤمنين أفلت الرجل. فقال : «أتدرون من هو؟». قالوا : لا. قال : «إنَّه عمرو بن العاص ، تلقّاني بسوأته فذكّرني بالرَحِم ، ـ لفظ ابن كثير ـ فصرفت وجهي عنه».

ورجع عمرو إلى معاوية فقال : ما صنعت يا أبا عبد الله؟ فقال : لقيني عليٌّ فصرعني. قال : احمد الله وعورتك ـ وفي لفظ ابن كثير : احمد الله واحمد استك ـ والله إنّي لأظنّك لو عرفته لما اقتحمت عليه. وقال معاوية في ذلك :

ألا لله من هفواتِ عمروٍ

يعاتبُني على تركي برازي

فقد لاقى أبا حسنٍ عليّا

فآب الوائليُّ مآب خازي

فلو لم يُبدِ عورتَهُ للاقى

به ليثاً يُذلِّل كلَّ غازي

له كفٌّ كأنَّ براحتيها

منايا القوم يخطفُ خطفَ بازي

فإن تكن المنيّةُ أخطأتهُ

فقد غنّى بها أهل الحجازِ

فغضب عمرو وقال : ما أشدّ تعظيمك عليّا في كسري هذا ـ وفي لفظ ابن أبي الحديد : ما أشدَّ تغبيطك أبا تراب في أمري (١) ـ هل أنا إلاّ رجل لقيه ابن عمِّه فصرعه؟! أَفَتُرى السماء قاطرةً لذلك دماً؟! قال : لا ، ولكنَّها مُعقبة لك خزياً.

كتاب صفّين (٢) (ص ٢١٦) ، شرح ابن أبي الحديد (٣) (٢ / ٢٨٧) ، تاريخ ابن كثير (٤) (٧ / ٢٦٣).

__________________

(١) في لفظ نصر : ما أشدّ تغبيطك عليّا في أمري ، وفي لفظ ابن أبي الحديد : ما أشدّ تعظيمك أبا تراب في أمري.

(٢) وقعة صفّين : ص ٤٠٦ ـ ٤٠٨.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٨ / ٦٠ ـ ٦١ خطبة ١٢٤.

(٤) البداية والنهاية : ٧ / ٢٩٢ حوادث سنة ٣٧ ه‍.

٢٣٧

معاوية وعمرو

استأذن عمرو بن العاص على معاوية بن أبي سيان ، فلمّا دخل عليه استضحك معاوية ، فقال عمرو : ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ أدام الله سرورك. قال : ذكرتُ ابن أبي طالب وقد غَشِيَكَ بسيفه فاتّقيته وولّيتَ. فقال : أتشمتُ بي يا معاوية؟ وأعجب من هذا يوم دعاك إلى البراز ، فالتمع لونك ، وأَطّتْ (١) أضالعك ، وانتفخ منخرُك ، والله لو بارزته لأوجعَ قذالك (٢) ، وأيتم عيالك ، وبزّك سلطانك ، وأنشأ عمرو يقول :

معاويَ لا تَشمَتْ بفارس بُهمةٍ

لقي فارساً لا تعتريه الفوارسُ

معاويَ إنْ أبصرتَ في الخيلِ مُقبلاً

أبا حسنٍ يهوي دَهَتْكَ الوساوسُ

وأيقنتَ أنَّ الموتَ حقٌّ وأنَّهُ

لنفسِك إنْ لم تمضِ في الركض حابسُ

فإنَّكَ لو لاقيتَهُ كنت بومةً (٣)

أُتيحَ لها صقرٌ من الجوِّ رايسُ (٤)

وما ذا بقاءُ القومِ بعد اختباطِهِ؟

وإنَّ امرأً يلقى عليّا لآيسُ

دعاكَ فصمّت دونه الأُذنُ هارباً

فنفسُكَ قد ضاقت عليها الأمالسُ (٥)

وأيقنت أنَّ الموتَ أقربُ موعدٍ

وأنَّ الذي ناداك فيها الدهارسُ (٦)

وتشمتُ بي أن نالني حدُّ رمحِهِ

وعضّضني نابٌ من الحربِ ناهسُ (٧)

أبى اللهُ إلاّ أنَّهُ ليثُ غابةٍ

أبو أشبُلٍ تُهدى إليه الفرائس

__________________

(١) أطّ [الأطيط] : صوت الإبل : حنّت. (المؤلف)

(٢) القذال : بين الأُذنين من مؤخر الرأس ، والجمع قُذل ، وأقذلة. (المؤلف)

(٣) البوم والبومة : طائر يسكن الخراب. يضرب به المثل في الشؤم. (المؤلف)

(٤) من راس يريس : مشى متبختراً. يقال راس القوم : اعتلى عليهم وغلبهم. (المؤلف)

(٥) الأمالس والاماليس ، جمع إمليس : الفلاة التي ليس فيها نبات. (المؤلف)

(٦) الدهرس : الشدّة والبليّة. (المؤلف)

(٧) نهس اللحم نهساً ـ بفتح العين وكسره ـ : أخذه ونتفه ومدّه بالفم. (المؤلف)

٢٣٨

وأيُّ امرئٍ لاقاه لم يُلْفَ شِلْوُه

بمعتركٍ تسفي عليه الروامسُ (١)

فإن كنتَ في شكٍّ فأرهجْ عَجاجَهُ

وإلاّ فتلك التُرّهاتُ البسابسُ (٢)

فقال معاوية : مهلاً يا أبا عبد الله؟ ولا كلّ هذا. قال : أنت استدعيته.

وفي لفظ ابن قتيبة في عيون الأخبار (١ / ١٦٩) : رأى عمرو بن العاص معاوية يوماً يضحك ، فقال له : مِمَّ تضحك يا أمير المؤمنين؟ أضحك الله سنّك. قال : أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوأتك يوم ابن أبي طالب ، أما والله لقد وافقته منّاناً كريماً ، ولو شاء أن يقتلك لقتلك.

قال عمرو : يا أمير المؤمنين ، أما والله إنّي لعن يمينك ، حين دعاك إلى البراز فاحْوَلّتْ عيناك ، وربا سَحرُك (٣) ، وبدا منك ما أكره ذكره لك ، فمن نفسك فاضحك أو دَع.

وفي لفظ البيهقي في المحاسن والمساوئ (٤) (١ / ٣٨) : دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ناسٌ ، فلمّا رآه مقبلاً استضحك ، فقال : يا أمير المؤمنين أضحك الله سنّك وأدام سرورك وأقرَّ عينك ، ما كلُّ ما أرى يوجب الضحك.

فقال معاوية : خطر ببالي يوم صفّين يوم بارزت أهل العراق ، فحمل عليك عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه فلمّا غَشِيَك طرحت نفسك عن دابّتك وأبديت عورتك ، كيف حضرك ذهنك في تلك الحال؟ أما والله لقد وافقت هاشميّا منافيّا ، ولو شاء أن يقتلك لقتلك.

__________________

(١) الرمس : الستر والتغطية. ويقال لما يحثى على القبر من التراب : رمس. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين : ص ٢٥٣ [ص ٤٧٣] ، أمالي الشيخ : ص ٨٤ ، [ص ١٣٤ ح ٢١٧] تذكرة السبط : ص ٥٢ [ص ٩١]. (المؤلف)

(٣) ربا ربواً : انتفخ. السَحر ـ بفتح السين وضمّه ـ : الرئة. (المؤلف)

(٤) المحاسن والمساوئ : ص ٥٣.

٢٣٩

فقال عمرو : يا معاوية إن كان أضحكك شأني فمن نفسك فاضحك ، أما والله لو بدا له من صفحتك مثل الذي بدا له من صفحتي لأوجع قذالك ، وأيتم عيالك ، وأنهب مالك ، وعزل سلطانك ، غير أنَّك تحرّزت منه بالرجال في أيديها العوالي ، أما إنّي قد رأيتك يوم دعاك إلى البراز فاحولّت عيناك ، وأزبد شدقاك ، وتنشّر منخراك ، وعرق جبينك ، وبدا من أسفلك ما أكره ذكره!. فقال معاوية : حسبك حيث بلغت لم نرد كلّ هذا.

وفي لفظ الواقدي : قال معاوية يوماً لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله لا أراك إلاّ ويغلبني الضحك. قال : بما ذا؟ قال : أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفِّين ، فأذريت نفسك فرَقاً من شبا سنانه ، وكشفت سوأتك له. فقال عمرو : أنا منك أشدُّ ضحكاً ؛ إنّي لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سَحرك ، وربا لسانك في فمك ، وعصب ريقك ، وارتعدت فرائصك ، وبدا منك ما أكره ذكره لك. فقال معاوية : لم يكن هذا كلّه ، وكيف يكون؟ ودوني عكٌّ والأشعريّون. قال : إنَّك لَتعلم أنَّ الذي وصفتُ دون ما أصابك ، وقد نزل ذلك بك ودونك عك والأشعريّون ، فكيف كانت حالك لو جمعكما مأقط الحرب؟ قال : يا أبا عبد الله خض بنا الهزل إلى الجدّ ؛ إنَّ الجبن والفرار من عليٍّ لا عار على أحد فيهما. شرح ابن أبي الحديد (١) (٢ / ١١١).

قال نصر في كتابه (٢) (ص ٢٢٩) : وكان معاوية لم يزل يشمت عمراً ، ويذكر يومه المعهود ويضحك ، وعمرو يعتذر بشدّة موقفه بين يدي أمير المؤمنين ، فشمت به معاوية يوماً وقال : لقد أنصفتكم إذ لقيت سعيد بن قيس وفررتم ، وإنَّك لجبان ، فغضب عمرو ثمَّ قال : والله لو كان عليّا ما قحمتَ عليه ، يا معاوية فهلاّ برزت إلى عليٍّ إذ دعاك إن كنت شجاعاً كما تزعم؟ وقال عمرو في ذلك :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٣١٧ خطبة ٨٣.

(٢) وقعة صفّين : ص ٤٣٢.

٢٤٠