الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

تسير إلى ابن ذي يزنٍ سعيدٍ

وتترك في العجاجةِ من دعاكا

فهل لك في أبي حسن عليٍ

لعلّ الله يُمكنُ من قفاكا

دعاك إلى النزال فلم تُجِبهُ

ولو نازلتَهُ تَرِبت يداكا

وكنت أصمَّ إذ ناداك عنهُ

وكان سكوتُه عنه مناكا

فآب الكبشُ قد طحنتْ رحاه

بنجدتِهِ ولم تطحن رحاكا

فما أنصفت صحبك يا ابن هندٍ

أتفرقه وتغضبُ من كفاكا

فلا والله ما أضمرتَ خيراً

ولا أظهرتَ لي إلاّ هواكا

أشار عمرو بن العاص في هذه الأبيات إلى ما رواه نصر في كتاب صفّين (١) (ص ١٤٠) وغيره من المؤرخين : من أنَّ عليّا عليه‌السلام ـ قام يوم صفّين بين الصفَّين ، ثمَّ نادى : «يا معاوية». يكرِّرها فقال معاوية : اسألوه ما شأنه؟ قال : «أحبُّ أن يظهر لي فأكلّمه كلمة واحدة» فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلمّا قارباه لم يلتفت إلى عمرو ، وقال لمعاوية : «ويحك علام يقتتل الناس بيني وبينك ، ويضرب بعضهم بعضاً؟ ابرز إليَّ ، فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له». فالتفت معاوية إلى عمرو ، فقال : ما ترى يا أبا عبد الله فيما هاهنا ، أُبارزه؟! فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل! واعلم أنّه إن نكلتَ عنه لم تزل سبّة عليك وعلى عقبك ما بقي عربيٌّ. فقال معاوية : يا عمرو ليس مثلي يخدع عن نفسه ، والله ما بارز ابن أبي طالب رجلاً قطُّ إلاّ سقى الأرض من دمه. ثمَّ انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف ، وعمرو معه.

خرج عليٌّ عليه‌السلام ذات يوم في صفّين منقطعاً من خيله ومعه الأشتر ، يتسايران رويداً يطلبان التلَّ ليقفا عليه ، وعليٌّ يقول :

إنّي عليٌّ فسلوا لتخبروا

ثمَّ ابرزوا إلى الوغى أو ادبروا

سيفي حسامٌ وسِناني أزهرُ

منّا النبيُّ الطيِّبُ المطهَّرُ

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٢٧٤.

٢٤١

وحمزةُ الخيرِ ومنّا جعفرُ

له جناحٌ في الجنانِ أخضرُ

ذا أسدُ الله وفيه مفخَرُ

هذا بهذا وابن هند محجرُ

مذبذبٌ مطَّردٌ مؤخَّرُ

إذ برز له بُسر بن أرطاة مقنَّعاً في الحديد لا يُعرف ، فناداه : أبرز إليَّ أبا حسن! فانحدر إليه على تُؤدةٍ (١) غير مكترثٍ به ، حتى إذا قاربه طعنه وهو دارعٌ ، فألقاه على الأرض ، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه ، فاتّقاه بُسر بعورته ، وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه ، فانصرف عنه عليه‌السلام مستدبراً له ، فعرفه الأشتر حين سقط ، فقال : يا أمير المؤمنين هذا بُسر بن أرطاة ، هذا عدوّ الله وعدوّك. فقال : «دعه عليه لعنة الله ، أبعد أن فعلها؟» فحمل ابن عمّ لِبُسر شابّ على عليٍّ وهو يقول :

أرديتَ بُسراً والغلام ثائره

أرديتَ شيخاً غاب عنه ناصره

وكلّنا حامٍ لبُسرٍ واترهْ

فحمل عليه الأشتر وهو يقول :

أكلَّ يوم رجلُ شيخ شاغره

وعورةٌ تحت العَجاج ظاهره

تُبرزها طعنة كفٍّ واتره

عمروٌ وبُسر رُميا بالفاقره

فطعنه الأشتر فكسر صلبه ، وقام بُسر من طعنة عليٍّ ، وولّت خيله ، وناداه عليٌّ : يا بسر معاوية كان أَحقَّ بهذا منك. فرجع بُسر إلى معاوية ، فقال له معاوية : ارفع طرفك قد أدال (٢) الله عمراً منك. فقال في ذلك الحارث بن نضر السهمي (٣) :

__________________

(١) أي تأنٍّ وتمهّل. (المؤلف)

(٢) أدال الشيء : جعله متداولا. يقال أدال الله زيداً من عمرو ، أي نزع الدولة من عمرو وحوّلها إلى زيد. (المؤلف)

(٣) في وقعة صفّين : النضر بن الحارث.

٢٤٢

أفي كلِّ يوم فارسٌ تندبونه

له عورةٌ تحتَ العجاجةِ باديهْ

يكفُّ بها عنه عليٌّ سِنانَهُ

ويضحكُ منها في الخلاءِ معاويهْ

بدتْ أمسِ من عمروٍ فقنّع رأسَهُ

وعورةُ بُسر مثلُها حَذْوَ حاذيهْ

فقولا لعمرو وابن أرطاةَ أَبصِرا

سبيلكما لا تَلقيا الليثَ ثانيهْ

ولا تحمدا إلاّ الحيا وخُصاكُما

هما كانتا للنفس والله واقيهْ

فلولاهما لم تَنْجُوَا من سنانِه

وتلك بما فيها عن العَوْدِ ناهيهْ

متى تلقيا الخيل المشيجةَ صيحةً (١)

وفيها عليٌّ فاتركا الخيلَ ناحيهْ

وكونا بعيداً حيث لا تبلغ القنا

ونار الوغى إنَّ التجارب كافيهْ

وإن كان منه بعدُ في النفس حاجةٌ

فعودوا إلى ما شئتما هي ما هيهْ

كتاب صفِّين (٢) (ص ٢٤٦) ، الاستيعاب (٣) (١ / ٦٧) ، شرح ابن أبي الحديد (٤) (٢ / ٣٠٠) ، مطالب السؤول (ص ٤٣) ، تاريخ ابن كثير (٥) (٤ / ٢٠) ، نور الأبصار (٦) (ص ٩٥).

ينبئنا التاريخ أنَّ عمراً ليس بأوّل رجل كشف عن سوأته من بأس أمير المؤمنين ، وإنّما قلّد طلحة بن أبي طلحة ؛ فإنَّه لمّا حمل عليه أمير المؤمنين يوم أحد ورأى أنَّه مقتولٌ لا محالة ، استقبله بعورته وكشف عنها. راجع تاريخ ابن كثير (٤ / ٢٠) وذكره الحلبي في سيرته (٧) (٢ / ٢٤٧) ثمَّ قال : وقع لسيِّدنا عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ مثل ذلك في يوم صفِّين مرّتين : الأولى : حمل على بُسر بن أرطاة ، والثانية : حمل على

__________________

(١) في وقعة صفّين : المشيحة صبحة.

(٢) وقعة صفّين : ص ٤٦١.

(٣) الاستيعاب : القسم الأوّل / ١٦٥ رقم ١٧٤.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٨ / ٩٥ خطبة ١٢٤.

(٥) البداية والنهاية : ٤ / ٢٣ حوادث سنة ٣ ه‍.

(٦) نور الأبصار : ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٧) السيرة الحلبيّة : ٢ / ٢٢٣.

٢٤٣

عمرو بن العاص ، فلمّا رأى أنَّه مقتولٌ كشف عن عورته ، فانصرف عنه عليٌّ ـ كرّم الله وجهه.

الأشتر وعمرو بن العاص

في معترك القتال بصفِّين

إن معاوية دعا يوماً بصفّين مروان بن الحكم ، فقال : إنَّ الأشتر قد غمّني وأقلقني ، فاخرج بهذه الخيل في يحصب والكلاعيِّين ، فالقه ، فقاتل بها. فقال مروان : أُدع لها عمراً فإنَّه شعارك دون دثارك. قال : وأنت نفسي دون وريدي. قال : لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء ، أو ألحقته بي في الحرمان ، ولكنّك أعطيته ما في يدك ، ومنّيته ما في يد غيرك ، فإن غَلبتَ طاب له المقام ، وإن غُلبتَ خفَّ عليه الهرب. فقال معاوية : سيُغني الله عنك. قال : أمّا إلى اليوم فلم يغنِ.

فدعا معاوية عمراً وأمره بالخروج إلى الأشتر. فقال : أما إنّي لا أقول لك ما قال مروان. قال : فكيف تقول؟ وقد قدّمتك وأخّرته ، وأدخلتك وأخرجته. قال : أما والله إن كنتَ فعلتَ لقد قدّمتني كافياً ، وأدخلتني ناصحاً ، وقد أكثر القوم عليك في أمر مصر وإن كان لا يرضيهم إلاّ أخذها فخذها. ثمَّ قام فخرج في تلك الخيل ، فلقيه الأشتر أمام القوم وهو يقول :

يا ليت شعري كيف لي بعمرِو

ذاك الذي أوجبتُ فيه نَذري

ذاك الذي أطلبُهُ بوِتْرِي

ذاك الذي فيه شفاءُ صدري

ذاك الذي إن ألقَهُ بعُمري

تغلي به عند اللقاءِ قِدري

أجعله فيه طعام النسر

أو لا فربّي عاذري بعذري

فلما سمع عمرو هذا الرجز وعرف أنَّه الأشتر ، فشل وجبن ، واستحيا أن يرجع ، وأقبل نحو الصوت ، وقال :

٢٤٤

يا ليت شعري كيف لي بمالكِ

كم جاهلٍ خيّبتُه وحاركِ (١)

وفارسٍ قتلتُهُ وفاتكِ

ومُقدمٍ آبَ بوجهٍ حالكِ (٢)

ما زلت دهري عرضة المهالكِ

فغشيه الأشتر بالرمح فزاغ عنه عمرو فلم يصنع الرمح شيئاً ، ولوى عمرو عنان فرسه ، وجعل يده على وجهه ، وجعل يرجع راكضاً نحو عسكره ، فنادى غلامٌ من يحصب : يا عمرو عليك العفا ما هبّت الصبا!.

كتاب صفّين (٣) (ص ٢٣٣) ، شرح ابن أبي الحديد (٤) (٢ / ٢٩٥).

ينبئك صدر هذا الحديث عن نفسيّات أولئك المناضلين عن معاوية ، الدّعاة إلى إمامته ، ويعرب عن غايات تلك الفئة الباغية بنصِّ النبيِّ الأطهر ، إماماً ومأموماً في تلك الحرب الزبون ، فما ينبغي لي أن أكتب عن إمام يكون مثل عمرو بن العاص شعاره ، ومثل مروان بن الحكم نفسه؟ وما يحقُّ لك أن تعتقد في مأموم هذه محاوراته في معترك القتال مع إمامه المفترضة عليه طاعته ـ إن صحّت الأحلام ـ ومشاغبته دون الرتبة والراتب؟!

ابن عبّاس وعمرو :

حجَّ عمرو بن العاص وقام بالموسم ، فأطرى معاوية وبني أميّة وتناول بني هاشم ، ثمَّ ذكر مشاهده بصفّين ، فقال ابن عبّاس : يا عمرو إنَّك بعتَ دينك من معاوية ، فأعطيته ما في يدك ومنّاك ما في يد غيره ، فكان الذي أخذ منك فوق الذي

__________________

(١) حَرَكَ : امتنع من الحق الذي عليه. غلام حرك : خفيف ذكي. (المؤلف)

(٢) حلك : اشتد سواده ، فهو حالك وحلك. (المؤلف)

(٣) وقعة صفّين : ص ٤٤٠.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٨ / ٨٠ خطبة ١٢٤.

٢٤٥

أعطاك ، وكان الذي أخذت منه دون ما أعطيته ، وكلٌّ راض بما أخذ وأعطى ، فلمّا صارت مصر في يدك تتبعك فيها بالعزل والتنقّص ، حتى لو أنَّ نفسك في يدك لألقيتها إليه ، وذكرت يومك مع أبي موسى فلا أراك فخرت إلاّ بالغدر ، ولا منّيت إلاّ بالفجور والغشِّ ، وذكرت مشاهدك بصفّين فو الله ما ثَقُلَتْ علينا وطأتُكَ ، ولقد كشفتَ فيها عورتك ، ولا نَكَتنا فيها حربك ، ولقد كنت فيها طويل اللسان ، قصير السنان ، آخر الحرب إذا أقبلت ، وأوّلها إذا أدبرت ، لك يدان : يدٌ لا تبسطها إلى خير ، ويدٌ لا تقبضها من شرّ ، ووجهان : وجهٌ مؤنسٌ ووجهٌ موحشٌ ، ولعمري إنَّ من باع دينه بدنيا غيره لحريٌّ أن يطول حزنه على ما باع واشترى ، لك بيانٌ وفيك خطل ، ولك رأيٌ وفيك نكد ، ولك قدرٌ وفيك حسد ، فأصغر عيب فيك أعظم عيب غيرك.

فقال عمرو : أما والله ما في قريش أحدٌ أثقل وطأةً عليَّ منك ، ولا لأحد من قريش قدر عندي مثل قدرك.

البيان والتبيين (١) (٢ / ٢٣٩) ، العقد الفريد (٢) (٢ / ١٣٦) ، شرح ابن أبي الحديد (٣) (١ / ١٩٦) نقلاً عن البلاذري.

ابن عبّاس وعمرو في حفلة أخرى :

روى المدائني قال : وفد عبد الله بن عبّاس على معاوية مرّة وعنده ابنه يزيد ، وزياد بن سميّة ، وعتبة بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة ابن شعبة ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن أمِّ الحكم ، فقال عمرو بن العاص : هذا والله يا أمير المؤمنين نجوم أوّل الشرِّ وأُفول آخر الخير ، وفي حسمه قطع مادّته ، فبادره بالحملة ، وانتهز منه الفرصة ، واردع بالتنكيل به غيره ، وشرِّد به من خلفه.

__________________

(١) البيان والتبيين : ٢ / ٢٠٦.

(٢) العقد الفريد : ٣ / ٢٠٤.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٤٧ خطبة ٣٥.

٢٤٦

فقال ابن عبّاس : يا ابن النابغة ضلَّ والله عقلك ، وسفه حلمك ، ونطقَ الشيطانُ على لسانك ، هلاّ تولّيت ذلك بنفسك يوم صفِّين حين دُعيت نَزالِ (١) ، وتكافح الأبطال ، وكثر الجراح ، وتقصّفت (٢) الرماح ، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولاً ، فانكفأ نحوك بالسيف حاملاً ، فلمّا رأيت الكواثر من الموت ، أعددت حيلة السلامة قبل لقائه ، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه ، فمنحته رجاء النجاة عورتك ، وكشفت له خوف بأسه سوأتك ، حَذَراً أنْ يصطلمك بسطوته ، أو يلتهمَك (٣) بحملته ثمَّ أشرتَ على معاوية كالناصح له بمبارزته ، وحسّنت له التعرّض لمكافحته ، رجاء أن تكتفى مؤونته ، وتعدم صورته ، فعلِمَ غِلَّ صدرك ، وما انحنت عليه من النفاق أضلعك ، وعرف مقرَّ سهمك في غرضِك ، فاكفف غربَ لسانك ، واقمع عوراء لفظك ، فإنَّك بين أسدٍ خادر ، وبحر زاخر ، إن تبرّزت للأسد افترسك ، وإن عُمت في البحر قمسك ـ أي : غمسك وأغرقك. شرح ابن أبي الحديد (٤) (٢ / ١٠٥) ، جمهرة الخطب (٥) (٢ / ٩٣).

عبد الله المرقال وعمرو :

كان في نفس معاوية من يوم صفِّين إحنٌ على هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص المرقال وولده عبد الله ، فلمّا استعمل معاوية زياداً على العراق كتب إليه :

أمّا بعد : فانظر عبد الله بن هاشم ، فشُدَّ يده إلى عنقه ، ثمَّ ابعث به إليَّ ، فحمله زياد من البصرة مقيَّداً مغلولاً إلى دمشق ، وقد كان زياد طرقه بالليل في منزله

__________________

(١) نَزالِ : اسم فعل بمعنى : إنزل : أي حين قال الأبطال بعضهم لبعض : انزل. (المؤلف)

(٢) تقصّفت : تكسّرت. (المؤلف)

(٣) التهم الشيء : ابتلعه بمرّة. (المؤلف)

(٤) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٢٩٨ خطبة ٨٣.

(٥) جمهرة خطب العرب : ٢ / ١٠٢ رقم ٩٥ ، ٩٦.

٢٤٧

بالبصرة ، فأُدخل إلى معاوية وعنده عمرو بن العاص ، فقال معاوية لعمرو بن العاص : هل تعرف هذا؟ قال : لا. قال : هذا الذي يقول أبوه يوم صفِّين :

إنّي شريتُ النفسَ لمّا اعتلاّ

وأكثر اللوم وما أقلاّ

أعورُ يبغي أهلَهُ مَحَلاّ

قد عالج الحياة حتى ملاّ

لا بدَّ أن يَفُلَّ أو يُفلاّ

أَسُلُّهمْ بذي الكعوب سلاّ

لا خير عندي في كريمٍ ولّى فقال عمرو متمثِّلاً :

وقد ينبتُ المرعى على دِمَنِ الثرى

وتبقى حزازاتُ النفوس كماهيا

وإنه لهو ، دونك يا أمير المؤمنين الضبَّ المضبَ (١) ، فاشخب أوداجه على أسباجه ـ أثباجه ـ ولا ترجعه إلى أهل العراق فإنَّهم أهل فتنة ونفاق ، وله مع ذلك هوىً يرديه وبطانةٌ تغويه ، فوالذي نفسي بيده لئن أفلت من حبائلك لَيُجَهِّزَنَّ إليك جيشاً تكثر صواهله لشرِّ يوم لك.

فقال عبد الله وهو المقيَّد : يا ابن الأبتر هلاّ كانت هذه الحماسة عندك يوم صفِّين؟ ونحن ندعوك إلى البراز ، وأنت تلوذ بشمائل الخيل كالأَمَة السوداء والنعجة القوداء ، أما إنَّه إن قتلني قتل رجلاً كريم المخبرة ، حميد المقدرة ، ليس بالحبس المنكوس ، ولا الثَلِب (٢) المركوس (٣). فقال عمرو : دع كيت وكيت ، فقد وقعت بين لحيي لهذم (٤) فَروس للأعداء ، يسعطك إسعاط (٥) الكودن (٦) الملجَم.

__________________

(١) من أضبّ يضبّ : أي صاح وتكلّم ، وغاض وحقد. (المؤلف)

(٢) الثلب : المعيب المهان. (المؤلف)

(٣) المركوس : الضعيف. (المؤلف)

(٤) اللهذم : الحادّ القاطع من السيوف والأسنّة والأنياب. (المؤلف)

(٥) الإسعاط : إدخال الدواء في الأنف. يقال : أسعطه الرمح : أي طعنه به في أنفه. (المؤلف)

(٦) الكودن : البرذون الهجين ، الفيل. الجمع كوادن. (المؤلف)

٢٤٨

قال عبد الله : أكثر إكثارك ، فإنّي أَعلَمُكَ بَطِراً في الرخاء ، جباناً في اللقاء ، عيّابة عند كفاح الأعداء ، ترى أن تقي مهجتك بأن تبدي سوأتك ، أنسيت صفِّين وأنت تدعى إلى النزال؟ فتحيد عن القتال ، خوفاً أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد ، وأسنّة حداد ، ينهبون السرح ، ويذلّون العزيز. فقال عمرو : لقد علم معاوية أنَّي شهدت تلك المواطن ، فكنت فيها كمدرة الشوك ، ولقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن تخفق أحشاؤه ، وتنقّ أمعاؤه. قال : أما والله لو لقيك أبي في ذلك المقام ، لارتعدت منه فرائصك ، ولم تسلم منه مهجتك ، ولكنَّه قاتل غيرك ، فقُتل دونك. فقال معاوية : ألا تسكت؟! لا أمَّ لك. فقال : يا ابن هند أتقول لي هذا؟ والله لئن شئت لأُعرقنَّ جبينك ، ولأُقيمنّك وبين عينيك وسمٌ يلين له خدعاك ، أبأكثر من الموت تخوّفني؟ فقال معاوية : أَوَتكفّ يا ابن أخي؟ وأمر بإطلاق عبد الله ، فقال عمرو لمعاوية :

أمرتُكَ أمراً حازماً فعصيتَني

وكان من التوفيق قتلُ ابن هاشمِ

أليس أبوهُ يا معاويةُ الذي

أعانَ عليّا يوم حزِّ الغلاصمِ (١)

فلم ينثني حتى جرت من دمائنا

بصفِّين أمثالُ البحور الخضارمِ (٢)

وهذا ابنه والمرءُ يُشبه شيخَهُ (٣)

ويوشك أن تقرع به سنَّ نادمِ

فقال عبد الله يُجيبه :

معاوِيَ إنَّ المرءَ عَمْراً أبت لهُ

ضغينةُ صدرٍ غِشُّها غير نائمِ

يرى لك قتلي يا ابن هندٍ وإنّما

يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجمِ

على أنَّهم لا يقتلُون أسيرَهم

إذا كان منهُ بيعةٌ للمسالمِ

__________________

(١) جمع غلصمة : اللحم بين الرأس والعنق. يعني : أيام الحرب. (المؤلف)

(٢) الخضرم ـ بالكسر ـ : البحر العظيم الماء. (المؤلف)

(٣) في كامل المبرّد : عيصه ، يعني : أصله. (المؤلف)

٢٤٩

وقد كان منّا يوم صفِّين نقرةٌ

عليك جناها هاشمٌ وابن هاشمِ

قضى ما انقضى منها وليس الذي مضى

ولا ما جرى إلاّ كأضغاث حالمِ

فإن تعفُ عنّي تعفُ عن ذي قرابةٍ

وإن تَرَ قَتلي تَسْتَحِلَّ محارمي

فقال معاوية :

أرى العفو عن عليا قريش وسيلةً

إلى الله في اليوم العصيب القُماطر (١)

ولست أرى قتل العداة ابن هاشم

بإدراك ثاري في لؤيٍّ وعامرِ

بل العفو عنه بعد ما بان جُرْمُهُ

وزلّت به إحدى الجدود العواثرِ

فكان أبوه يوم صفّين جمرةً

علينا فأردته رماحُ النهابر (٢)

كتاب صفّين لابن مزاحم (٣) (ص ١٨٢) ، كامل المبرّد (٤) (١ / ١٨١) ، مروج الذهب (٥) (٢ / ٥٧ ـ ٥٩) ، شرح ابن أبي الحديد (٦) (٢ / ١٧٦).

درس دين وأخلاق

لعلَّ الباحث لا يخفى عليه أنَّ كلَّ سوأة وعورة ذُكر بها المترجَم له في التاريخ الصحيح ، وما يعزى إليه وعُرِف به من المساوئ في طيّات تلكم الكلمات الصادقة المذكورة ، من الوضاعة ، والغواية ، والغدر ، والمكر ، والحيلة ، والخدعة ، والخيانة ، والفجور ، ونقض العهد ، وكذب القول ، وخلف الوعد ، وقطع الإلّ ، والحقد ، والوقاحة ، والحسد ، والرياء ، والشحّ ، والبذاء ، والسفه ، والوغادة ، والجور ،

__________________

(١) القماطر ـ بالضم ـ : الشديد. (المؤلف)

(٢) النهابر والنهابير : المهالك. والواحدة : نهبرة ، نهبور ، نهبورة. (المؤلف)

(٣) وقعة صفّين : ص ٣٤٨.

(٤) الكامل في اللغة والأدب : ١ / ٢١٩.

(٥) مروج الذهب : ٣ / ١٧ ٢٠.

(٦) شرح نهج البلاغة : ٨ / ٣٠ ٣١ خطبة ١٢٤.

٢٥٠

والظلم ، والمِراء ، والدناءة ، واللؤم ، والمَلَق ، والجلافة ، والبخل ، والطمع ، واللّدد ، وعدم الغيرة على حليلته ، إلى غير ذلك من المعاير النفسيّة وأضداد مكارم الأخلاق ، ليست هذه كلّها إلاّ من علائم النفاق ، ومن رشحات عدم الإسلام المستقرِّ ، وانتفاء الإيمان بالله وبما جاء به النبيُّ الأقدس ؛ إذ الإسلام الصحيح هو المصلح الوحيد للبشر ، ومهذِّب النفس بمكارم الأخلاق ، ومجتمع الفضائل ، وأساس كلِّ فضل وفضيلة ، وأصل كلِّ محمدة ومكرمة ، وبه يتأتّى الصلاح في النفوس مهما سرى الإيمان من عاصمة مملكة البدن ـ القلب ـ إلى سائر الأعضاء والجوارح واحتلّها واستقرّ بها.

وذلك أنَّ مثَل الإيمان في المملكة البدنيّة الجامعة لشتات آحاد الجوارح والأعضاء كمثل دستور الحكومات في الممالك الجامعة لأفراد الأشخاص ، فكما أنَّ القوانين المقرَّرة في الحكومات والدول مبثوثة في الأفراد ، وكلُّ فرد من المجتمع له تكليفٌ يخصُّ به ، وواجبٌ يحقُّ عليه أن يقوم به ، وحدٌّ محدودٌ يجب عليه رعايته ، وبصلاح الأفراد وقيام كلِّ فرد منهم بواجبه يتمُّ صلاح المجتمع ، ويحصل التقدّم والرقيُّ في الحكومات ، كذلك الإيمان في المملكة البدنيّة فإنَّه قوانين مبثوثة في الأعضاء والجوارح العاملة فيها ، ولكلّ منها بنصِّ الذكر الحكيم تكليفٌ يخصُّ به ، وحدٌّ معيَّنٌ في السنّة يجب عليه رعايته والتحفّظ به ، وأخذ كلٍّ بما وجب عليه هو إيمانه وبه يحصل صلاحه ، فواجب القلب غير فريضة اللسان ، وفريضته غير واجب الأُذن ، وواجبها غير ما كلّف به البصر ، وفرضه غير واجب اليدين وواجبهما غير تكليف الرجلين وهكذا وهكذا ، وإنَّ السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً ، وهذا البيان يُستفاد من قول النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه الحافظ ابن ماجة في سننه (١) (١ / ٣٥): «الإيمان معرفةٌ بالقلب ، وقولٌ باللسان ، وعملٌ بالأركان» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها لا إله إلاّ الله ، وأدناها

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ / ٢٥ ح ٦٥.

(٢) وبهذا اللفظ يروى عن أمير المؤمنين كما في نهج البلاغة [ص ٥٠٨ حكمة ٢٢٧]. (المؤلف)

٢٥١

إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» (١).

ومن هنا يقبل الإيمان ضعفاً وقوّةً ، وزيادةً ونقصاً ، ويتّصف الإنسان في آن واحد بطرفي السلب والإيجاب باعتبارين ، فيثبت له الإيمان من جهة وينفى عنه بأخرى ، ومن هنا يعلم معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمنٌ» (٢).

فلا يتأتّى صلاح المملكة البدنيَّة إلاّ بالسلم العامّ وقيام جميع أجزائها بواجبها ، وامتثال كلِّ فرد منها فيما فُرض عليه ، ولا يكمل الإيمان إلاّ بتحقّق شُعَبه.

وكما أنَّ انتفاء الإيمان عن كلِّ عضو وجارحة مكلّفة يكشف عن ضعف إيمان القلب وتضعضع حكومة الإسلام فيه ، اذ هو أميرالبدن ولا ترد الجوارح ولا تصدر إلاّ عن رأيه وأمره ، كذلك الصفات النفسيّة ؛ فإنَّ منها ما هو الكاشف عن قوّة الإيمان القلبي وضعفه كما ورد في النبويّ الشريف ، فيما أخرجه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (٣) (٣ / ١٧١): «إنَّ المرء لَيَكون مؤمناً وإنَّ في خلقه شيئاً فيُنقص ذلك من إيمانه».

ومنها ما يلازم النفاق ولا يفارقه ولا يجتمع مع شيء من الإيمان وإن صلّى صاحبه وصام ، وبه عُرِّف المنافق في القرآن العزيز.

__________________

(١) أخرجه البخاري [صحيح البخاري : ١ / ١٢ ح ٩ وفيه : الإيمان بضع وستون] ، مسلم [صحيح مسلم : ١ / ٩٢ ح ٥٧ كتاب الإيمان] ، أبو داود [سنن أبي داود : ٤ / ٢١٩ ح ٤٦٧٦] ، الترمذي [سنن الترمذي : ٥ / ١٢ ح ٢٦١٤] ، النسائي [السنن الكبرى ٦ / ٥٣٢ ح ١١٧٣٦] ، ابن ماجة [سنن ابن ماجة : ١ / ٢٢ ح ٥٧]. (المؤلف)

(٢) أخرجه مسلم [صحيح مسلم ١ / ١٠٨ ح ١٠٠ كتاب الإيمان] وغيره. (المؤلف)

(٣) الترغيب والترهيب : ٣ / ٤١١ ح ٣٦.

٢٥٢

فإليك ما ورد عن النبيِّ الأقدس في كثير من الصفات المذكورة المعزوّة إلى المترجَم له ، حتى تكون على بصيرة من الأمر ، فلا يغرّنّك تقلّب الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد.

١ ـ «آية المنافق ثلاثٌ : إذا حدّث كذب. وإذا وعد أخلف. وإذا ائتُمن خان».

أخرجه : البخاري ومسلم ، وفي رواية مسلم : «وإن صام وصلّى وزعم أنَّه مسلم» (١).

٢ ـ «أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلةٌ منهنَّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتُمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر».

أخرجه : البخاري ، ومسلم ، أبو داود ، الترمذي ، النسائي (٢).

٣ ـ «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له».

أخرجه : أحمد ، البزّار ، الطبراني ، ابن حبّان ، أبو يعلى ، البيهقي (٣).

٤ ـ «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه». متّفق عليه.

٥ ـ «الكذب مجانبٌ للإيمان». ابن عديّ ، والبيهقي (٤).

٦ ـ «المكر والخديعة في النار». الديلمي (٥) ، القضاعي.

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٢١ ح ٣٣ ، صحيح مسلم : ١ / ١١١ ح ١٠٧ كتاب الإيمان.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٢١ ح ٣٤ ، صحيح مسلم : ١ / ١١٠ ح ١٠٦ كتاب الإيمان ، سنن أبي داود : ٤ / ٢٢١ ح ٤٦٨٨ ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٠ ح ٢٦٣٢ ، السنن الكبرى للنسائي : ٦ / ٥٣٥ ح ١١٧٥١.

(٣) مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ٥٩٤ ح ١١٩٧٥ ، المعجم الكبير : ١٠ / ٢٢٧ ح ١٠٥٥٣ ، صحيح ابن حبّان : ١ / ٤٢٢ ح ١٩٤ ، مسند أبي يعلى : ٥ / ٢٤٧ ح ٢٨٦٣ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٦ / ٢٨٨.

(٤) الكامل في ضعفاء الرجال : ١ / ٢٩ ، شعب الإيمان : ٤ / ٢٠٦ ح ٤٨٠٤.

(٥) الفردوس : ٤ / ٢١٧ ح ٦٦٥٨.

٢٥٣

٧ ـ «المؤمن ليس بحقود». الغزالي ، ابن الديبع (١).

٨ ـ «لا إيمان لمن لا حياء له». ابن حبّان ، ابن الديبع (٢).

٩ ـ «الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبرُ العسل». الديلمي ، ابن الديبع (٣).

١٠ ـ «الغيرة من الإيمان والبذاء من النفاق». الديلمي ، القضاعي ، ابن الديبع (٤)

١١ ـ «اليسير من الرياء شركٌ ، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة». ابن ماجة ، الحاكم ، البيهقي (٥).

١٢ ـ «من أرضى سلطاناً بما يسخط به ربّه خرج من دين الله». الحاكم (٦).

١٣ ـ «الحياء من الإيمان».

البخاري ، مسلم ، أبو داود ، الترمذي ، النسائي ، ابن ماجة (٧).

١٤ ـ «سبابُ المسلم فسوق ، وقتاله كفر».

البخاري ، مسلم ، الترمذي ، النسائي ، ابن ماجة (٨).

١٥ ـ «لا يجتمع في جوفِ عبدٍ الإيمان والحسد». ابن حبّان ، البيهقي (٩).

__________________

(١) إحياء علوم الدين : ٣ / ١٧٣ ، تمييز الطيب من الخبيث : ص ١٩٨ ح ١٥١٠.

(٢) تمييز الطيّب من الخبيث : ص ٢٠٩ ح ١٥٨٦.

(٣) تمييز الطيّب من الخبيث : ص ٧٩ ح ٥٢٨.

(٤) الفردوس : ٣ / ١١٧ ح ٤٣٢٦ ، تمييز الطيّب من الخبيث : ص ١٢٧ ح ٩١٢.

(٥) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٢١ ح ٣٩٨٩ ، المستدرك على الصحيحين : ١ / ٤٤ ح ٤ ، شعب الإيمان : ٥ / ٣٢٨ ح ٦٨١٢.

(٦) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ١١٦ ح ٧٠٧١.

(٧) صحيح البخاري : ١ / ١٧ ح ٢٤ ، صحيح مسلم : ١ / ٩٣ ح ٥٩ كتاب الإيمان ، سنن أبي داود : ٤ / ٢١٩ ح ٤٦٧٦ ، سنن الترمذي : ٤ / ٣٢١ ح ٢٠٠٩ ، السنن الكبرى للنسائي : ٦ / ٥٣٧ ح ١١٧٦٤ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٠٠ ح ٤١٨٤.

(٨) صحيح البخاري : ١ / ٢٧ ح ٤٨ ، صحيح مسلم : ١ / ١١٤ ح ١١٦ كتاب الإيمان ، السنن الكبرى للنسائي : ٢ / ٣١٣ ح ٣٥٧٠ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧ ح ٦٩.

(٩) صحيح ابن حبان : ١٠ / ٤٦٦ ح ٤٦٠٦ ، شعب الإيمان : ٥ / ٢٦٧ ح ٦٦٠٩.

٢٥٤

١٦ ـ «الشحُّ والعجزُ والبذاءُ من النفاق». الطبراني ، أبو الشيخ (١).

١٧ ـ «لا يجتمع شحٌّ وإيمانٌ في قلب عبدٍ أبداً». النسائي ، ابن حبّان ، الحاكم (٢)

١٨ ـ «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن : البخلُ ، وسوءُ الخلق». البخاري ، الترمذي وغيرهما (٣).

١٩ ـ «المؤمن غرٌّ كريم ، والفاجر خبٌ (٤) لئيم». أبو داود ، الترمذي ، أحمد (٥)

٢٠ ـ «إنَّ الرجل لا يكون مؤمناً حتى يكون قلبُهُ مع لسانه سواءً ، ويكون لسانهُ مع قلبه سواء ، ولا يخالف قوله عمله». الأصبهاني (٦).

٢١ ـ «الحياء والإيمان قُرناء جميعاً ، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر». الحاكم ، الطبراني (٧).

٢٢ ـ «إنَّ الله إذا أراد أن يُهلك عبداً نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلاّ مقيتاً ممقتاً نُزعت منه الأمانة ، فإذا نُزعت منه الأمانة لم تلقهُ إلاّ خائناً مخوناً ، فإذا لم تلقهُ إلاّ خائناً مخوناً نُزعت منه الرحمة ، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقهُ إلاّ رجيماً مُلعناً ، فإذا لم تلقه إلاّ رجيماً مُلعناً نُزعت منه ربقة الإسلام» ابن ماجة ، والمنذري (٨).

__________________

(١) المعجم الكبير : ١٩ / ٣٠ ح ٦٣.

(٢) السنن الكبرى : ٣ / ١٠ ح ٤٣١٩ ، صحيح ابن حبّان : ٨ / ٤٣ ح ٣٢٥١ ، المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٨٢ ح ٢٣٩٥.

(٣) سنن الترمذي : ٤ / ٣٠٢ ح ١٩٦٢.

(٤) الخبّ : الخداع. (المؤلف)

(٥) سنن أبي داود : ٤ / ٢٥١ ح ٤٧٩٠ ، سنن الترمذي : ٤ / ٣٠٣ ح ١٩٦٤ ، مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ١٠٣ ح ٨٨٧٤.

(٦) الترغيب والترهيب : ٣ / ٢٣٦ ح ٩ ، نقلاً عن الاصبهاني.

(٧) المستدرك على الصحيحين : ١ / ٧٣ ح ٥٨ ، المعجم الصغير : ١ / ٢٢٣ وفيه بلفظ : الحياء والإيمان مقرونان لا يفترقان إلاّ جميعاً.

(٨) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٤٧ ح ٤٠٥٤ ، الترغيب والترهيب : ٣ / ٤٠٠ ح ١٤.

٢٥٥

وفاته :

توفّي ليلة الفطر سنة (٤٣) على ما هو الأصح عند المؤرِّخين ، وقيل غير ذلك ، وعاش نحو تسعين سنة ، وقال العجلي عاش تسعاً وتسعين سنة. قال اليعقوبي في تاريخه (١) (٢ / ١٩٨) : لمّا حضرت عمراً الوفاة قال لابنه : لودَّ أبوك أنَّه كان مات في غزاة ذات السلاسل ؛ إنّي قد دخلت في أمور لا أدري ما حجّتي عند الله فيها. ثمَّ نظر إلى ماله فرأى كثرته ، فقال : يا ليته كان بعراً ، يا ليتني متُّ قبل هذا اليوم بثلاثين سنة ، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني ، آثرت دنياي وتركت آخرتي ، عَمِي عليَّ رشدي حتى حضرني أجلي ، كأنّي بمعاوية قد حوى مالي وأساء فيكم خلافتي.

قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب (٢) (٢ / ٤٣٦) : دخل ابن عبّاس على عمرو بن العاص في مرضه فسلّم عليه ، وقال : كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال : أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلاً ، وأفسدت من ديني كثيراً ، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت ، والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفُزت ، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت ، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت ، فصرت كالمنخنق بين السماء والأرض ، لا أرقى بيدين ولا أهبط برجلين ، فعظني بعظة أنتفع بها يا ابن أخي.

فقال له ابن عبّاس : هيهات يا أبا عبد الله صار ابن أخيك أخاك ، ولا تشاء أن تبكي إلاّ بكيت ، كيف يؤمن برحيل من هو مقيمٌ؟ فقال عمرو : وعلى حينها (٣) حين ابن بضع وثمانين سنة تقنطني من رحمة ربّي؟ اللهمَّ إنَّ ابن عبّاس يقنطني من رحمتك ، فخذ منّي حتى ترضى. قال ابن عبّاس : هيهات يا أبا عبد الله أخذت جديداً وتعطي خَلقَاً! فقال عمرو : مالي ولك يا ابن عبّاس؟ ما أرسلت كلمة إلاّ أرسلت نقيضها.

قال عبد الرحمن بن شماسة : لمّا حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى ، فقال له

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٢٢.

(٢) الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٨٩ رقم ١٩٣١.

(٣) يعني حين الوفاة. (المؤلف)

٢٥٦

ابنه عبد الله : لِمَ تبكي أجزعاً من الموت؟ قال : لا والله ولكن لما بعده. فقال له : قد كنت على خير. فجعل يُذَكّرُه صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه الشام ، فقال له عمرو : تركت أفضل من ذلك : شهادة أن لا إله إلاّ الله. إنّي كنت على ثلاثة أطباق ليس منها طبقٌ إلاّ عرفت نفسي فيه ، كنت أوّل شيء كافراً فكنت أشدَّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو متُّ يومئذ وجبت لي النار. فلمّا بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشدَّ الناس حياءً منه فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً منه ، فلو متُّ يومئذ قال الناس : هنيئاً لعمرو أسلم وكان على خير ، ومات على خير أحواله ، فترجى له الجنّة. ثمَّ بُليت بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدري أعليَّ أم لي؟! فإذا متُّ فلا تبكينَّ عليَّ باكيةٌ ، ولا يتبعني مادح ولا نار ، وشدّوا عليّ إزاري فإنّي مخاصم ، وشنّوا عليَّ التراب [شنّا] (١) ، فإنَّ جنبي الأيمن ليس بأحقّ بالتراب من جنبي الأيسر.

فائدة :

يوجد اسم والد المترجَم له في كثير من كلمات الأصحاب العاصي بالياء ، وكذا ورد في شعر أمير المؤمنين :

لأُوردنَّ العاصيَ ابن العاصي

سبعين ألفاً عاقدي النواصي

وفي رجز الأشتر :

ويحك يا ابن العاصي

تنحَّ في القواصي

ويُذكر بالياء في كتب غير واحد من الحفّاظ ، وقال الحافظ النووي في تهذيب الأسماء واللغات (٢) (٢ / ٣٠) : وعليه الجمهور وهو الفصيح عند أهل العربيّة. ثمَّ قال : ويقع في كثير من كتب الحديث والفقه أو أكثرها بحذف الياء وهي لغة ، وقد قُري في السبع نحوه كالكبير المتعال ، والداع.

__________________

(١) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٢) تهذيب الأسماء واللغات : ٢ / ٣٠ رقم ١٨.

٢٥٧
٢٥٨

٥ ـ

محمد الحميري

بحقِّ محمدٍ قولوا بحقٍ

فإنَّ الإفك من شِيَم اللئامِ

أبعدَ محمدٍ بأبي وأمّي

رسول الله ذي الشرف التهامي

أليس عليٌّ أفضلَ خلقِ ربِّي

وأشرفَ عند تحصيل الأنامِ

ولايتُهُ هي الإيمانُ حقّا

فذَرْني من أباطيلِ الكلامِ

وطاعةُ ربِّنا فيها وفيها

شفاءٌ للقلوبِ مِن السقامِ

عليٌّ إمامُنا بأبي وأمّي

أبو الحسنِ المطهَّرُ من حرامِ

إمامُ هدىً أتاهُ الله عِلماً

به عُرِفَ الحلالُ من الحرامِ

ولو أنَّي قَتلْتُ النفسَ حُبّا

له ما كان فيها من أثامِ

يحِلُّ النارَ قومٌ أبغضوهُ

وإن صلّوا وصاموا ألفَ عامِ

ولا والله لا تزكو صلاةٌ

بغير ولايةِ العدلِ الإمامِ

أميرَ المؤمنين بك اعتمادي

وبالغُرِّ الميامينِ اعتصامي

فهذا القولُ لي دينٌ وهذا

إلى لقياكَ يا ربّي كلامي

برئت من الذي عادى عليّا

وحاربه من اولادِ الطغامِ

تناسوا نصبَهُ في يوم خمٍ

من الباري ومن خير الأنامِ

برغم الأنفِ من يشنأ كلامي

عليٌّ فضلُهُ كالبحر طامي

وأَبرأُ من أُناسٍ أخّروهُ

وكان هو المقدَّمَ بالمقامِ

٢٥٩

عليٌّ هزّم الأبطالَ لمّا

رأوا في كفِّهِ بَرْقَ الحُسامِ

ما يتبع الشعر

هذه القصيدة رواها شيخ الإسلام الحمّوئي في الباب الثامن والستّين من فرائد السمطين (١) ، بإسناده عن الحافظ الكبير أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عليّ بن أحمد بن محمد بن إبراهيم النطنزي ، مصنِّف كتاب الخصائص العلويّة على سائر البريّة ، قال : أنبأنا أبو الفضل جعفر بن عبد الواحد بن محمد بن محمود الثقفي بقراءتي عليه ، قال : أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم ، قال : أنبأنا أبو الشيخ ، قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن معدان ، حدّثنا محمد بن زكريّا ، حدّثنا عبد الله بن الضحّاك ، حدّثنا هشام بن محمد ، عن أبيه ، قال :

اجتمع الطرمّاح الطائي ، وهشام المرادي ، ومحمد بن عبد الله الحميري عند معاوية بن أبي سفيان ، فأخرج بدرةً فوضعها بين يديه ، وقال : يا معشر شعراء العرب قولوا قولكم في عليِّ بن أبي طالب ، ولا تقولوا إلاّ الحقَّ ، وأنا نفيٌّ من صخر بن حرب إن أعطيت هذه البدرة إلاّ من قال الحقَّ في عليّ.

فقام الطرمّاح وتكلّم في عليّ ووقع فيه ، فقال له معاوية : اجلس فقد عرف الله نيّتك ، ورأى مكانك. ثمّ قام هشام المرادي فقال أيضاً ووقع فيه ، فقال له معاوية : اجلس مع صاحبك فقد عرف الله مكانكما. فقال عمرو بن العاص لمحمد بن عبد الله الحميري وكان خاصّا به : تكلّم ولا تقل إلاّ الحقَّ ، ثمَّ قال : يا معاوية قد آليتَ أن لا تعطي هذه البدرةَ إلاّ من قال الحقَّ في عليّ. قال : نعم ، أنا نفيٌّ من صخر بن حرب إن أعطيتُها منهم إلاّ من قال الحقَّ في عليّ. فقام محمد بن عبد الله فتكلّم ثمّ قال : بحقّ محمد قولوا بحقّ ... القصيدة.

فقال معاوية : أنت أصدقهم قولاً ، فخذ هذه البدرة.

__________________

(١) فرائد السمطين : ١ / ٣٧٥ ح ٣٠٥.

٢٦٠