الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

قال الحلبي في سيرته : من وقف على ما وقع بينه وبين معاوية لرأى العجب من وفور عقله.

وقال ابن كثير في البداية (١) (٨ / ٩٩) : ولاّه عليٌّ نيابةَ مصر وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص.

وكان الإمام السبط الحسن يوصي أمير عسكره عبد الله بن العبّاس وهو أمير اثني عشر ألفاً من فرسان العرب ، وقرّاء مصر ، بمشاورة قيس بن سعد والمراجعة إليه في مهامِّ الحرب مع معاوية ، والأخذ برأيه في سياسة الجيش ، كما يأتي حديثه.

وكان ثقيلاً جدّا على معاوية وأصحابه ، ولمّا قدم قيس إلى المدينة من مصر ، أخافه مروان والأسود بن أبي البختري ، فظهر قيس إلى عليٍّ عليه‌السلام فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيّظ عليهما ، ويقول : أمددتما عليّا بقيس بن سعد ورأيه ومكايدته ، فو الله لو أنَّكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ، ما كان ذلك بأغيظ إليَّ من إخراجكما قيس ابن سعد إلى عليّ. تاريخ الطبري (٢) (٦ / ٥٣).

وعالج معاوية قلوب أصحابه ، وأمّنهم من ناحية قيس ، بافتعال كتاب عليه وقراءته على أهل الشام ، كما يأتي تفصيله.

وكان قيس يرى نفسه في المكيدة والدهاء فوق الكلّ وأولى الجميع ، ويقول : لو لا أنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «المكر والخديعة في النار» لكنت من أمكر هذه الأمّة (٣) ، ويقول : لو لا الإسلام لمكرت مكراً لا تطيقه العرب (٤).

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٠٧ حوادث سنة ٥٩ ه‍.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ٩٤ حوادث سنة ٣٨ ه‍.

(٣) أُسد الغابة : ٤ / ٢١٥ [٤ / ٤٢٦ رقم ٤٣٤٨] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٠١ [٨ / ١٠٩ حوادث سنة ٥٩ ه‍]. (المؤلف)

(٤) الدرجات الرفيعة [ص ٣٣٥] ، الإصابة : ٣ / ٢٤٩ [رقم ٧١٧٧]. (المؤلف)

١٢١

فشهرته بالدهاء مع تقيّده المعروف بالدين ، وكلاءته حمى الشريعة ، والتزامه البالغ في إعمال الرأي بما يوافق رضا مولاه سبحانه ، وكفِّه نفسه عمّا يخالف ربّه ، تثبت له الأولويّة والتقدّم والبروز بين دهاة العرب ، ولا يعادله من الدهاة الخمسة المشهورين أحدٌ إلاّ عبد الله بن بُديل وذلك لاشتراكهما في المبدأ ، والتزامهما بالدين الحنيف ، والكفِّ عن الهوى ، والوقوف عند مُضلاّت الفتن.

وكلامه لمالك الأشتر ـ مالك وما مالك؟! ـ ينمّ عن غزارة عقله ، وحسن تدبيره ، واستقامة رأيه ، وقوّة إيمانه ، وهو من غُرر الكَلِم ، ودُرر الحِكَم ، رواه شيخ الطائفة في أماليه (١) (ص ٨٦) في حديث طويل فقال : قال الأشتر لعليٍّ عليه‌السلام : دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلّفون عنك. فقال له : «كفَّ عنّي».

فانصرف الأشتر وهو مغضب! ثمّ إنَّ قيس بن سعد لقي مالكاً في نفر من المهاجرين والأنصار ، فقال : يا مالك كلّما ضاق صدرك بشيء أخرجته ، وكلّما استبطأت أمراً استعجلته ، إنَّ أدب الصبر التسليم ، وأدب العجلة الأناة ، وإنَّ شرّ القول ما ضاهى العيب ، وشرّ الرأي ما ضاهى التهمة ، فإذا ابتليت فاسأل ، وإذا أُمرت فأطع ، ولا تسأل قبل البلاء ، ولا تكلّف قبل أن ينزل الأمر ، فإنَّ في أنفسنا ما في نفسك ، فلا تشقَّ على صاحبك.

ولمّا بويع أمير المؤمنين بلغه أنّ معاوية قد وقف من إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرّني على الشام وأعمالي التي ولاّنيها عثمان بايعته. فجاء المغيرة إلى أمير المؤمنين فقال له : يا أمير المؤمنين إنَّ معاوية من قد عرفت ، وقد ولاّه الشام من كان قبلك ، فولّه أنت كيما تتّسق عُرى الأمور ، ثمّ اعزله إن بدا لك.

فقال أمير المؤمنين : «أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه؟». قال : لا. قال : «لا يسألني الله عزّ وجلّ عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة

__________________

(١) أمالي الطوسي : ص ٧١٧ ح ١٥١٨.

١٢٢

سوداء أبداً ، (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٢) ، لكن أبعث إليه وأدعوه إلى ما في يدي من الحقِّ ، فإن أجاب فرجلٌ من المسلمين ، له مالهم ، وعليه ما عليهم ، وإن أبى حاكمته إلى الله». فولّى المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذاً ، فحاكمه إذاً ، وأنشأ يقول :

نصحتُ عليّا في ابن حربٍ نصيحةً

فردَّ فما منّي لهُ الدَهرَ ثانيهْ

ولم يقبلِ النصحَ الذي جئتهُ بهِ

وكانت له تلك النصيحةُ كافيهْ

وقالوا له ما أخلصَ النُّصحَ كلّهُ

فقلت له إنَّ النصيحة غاليهْ

فقام قيس بن سعد فقال : يا أمير المؤمنين إنَّ المغيرة أشار عليك بأمر لم يُرد الله به ، فقدّمَ فيه رِجلاً وأَخّر فيه أخرى ؛ فإن كان لك الغلبة تقرَّب إليك بالنصيحة ، وإن كانت لمعاوية تقرَّب إليه بالمشورة. ثمّ أنشأ يقول :

يكاد ومن أرسى ثبيراً مكانَهُ

مُغيرةُ أن يقوى عليك معاويهْ

وكنتَ بحمدِ اللهِ فينا موفَّقاً

وتلك التي أرآكها غير كافيهْ

فسبحانَ من علاّ السماء مكانَها

وأرضاً دحاها فاستقرّت كما هيهْ

فكان هو صاحب الرأي الوحيد بعين الإمام الطاهر ، تجاه تلك الآراء التعسة الفارغة عن النزعات الروحيّة ، في كلِّ مَنحسة ومَتعسة ، بين حاذف وقاذف (٣).

فروسيّته :

إنَّ الباحث لا يقف على ايّ معجم يُذكر فيه قيس إلاّ ويجد في طيِّه جمل الثناء متواصلة على حماسته وشجاعته ، ويقرأ له دروساً وافية حول فروسيّته ، وبأسه في الحروب ، وشدّته في المواقف الهائلة ، فما عساني أن أكتب عن فارس سجّل له التاريخ

__________________

(٢) الكهف : ٥١.

(٣) مثل يضرب لمن هو بين شرّين : الحاذف بالعصا ، والقاذف بالحصى. (المؤلف)

١٢٣

أنّه كان سيّاف النبيِّ الأعظم ، وأشدّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين؟ (١)

وما عساني أن أقول في باسلٍ كان أثقل خلق الله على معاوية ، جبّن أصحابه الشجاع والجبان ، وكان أشدَّ عليه من جيش عرام ، وكتائب تحشد مائة ألف مقاتل؟ وكان يوم صفّين يقول : والله إنَّ قيساً يريد أن يفنينا غداً إن لم يحبسه عنّا حابس الفيل (٢)

تُعرب عن هذه الناحية مواقفه في العهدين : النبويِّ والعلويِّ.

أمّا مواقفه على العهد النبويِّ فتجد نبأها العظيم في صحائف بدر ، وفتح [مكة] ، وحُنين ، وأُحد ، وخيبر ، والنضير ، والأحزاب ، وهو يعدُّ مواقفه هذه كلّها في شعره ، ويقول :

إنَّنا إنَّنا الذين إذا الفتحَ

شهدنا وخيبراً وحُنينا

بعد بدرٍ وتلك قاصمةُ الظهرِ

وأُحدٍ وبالنضيرِ ثَنَيْنَا

وقال سيِّدنا صاحب الدرجات الرفيعة (٣) : إنَّه شهد مع النبيِّ المشاهد كلّها ، وكان حامل راية الأنصار مع رسول الله ، أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح الراية من أبيه سعد ودفعها إليه. وقال الخطيب في تاريخه (١ / ١٧٧) : إنّه حمل لواء رسول الله في بعض مغازيه. وفي تاريخَي الطبري (٤) وابن الأثير (٥) (٣ / ١٠٦) : إنّه كان صاحب راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من ذوي الرأي والبأس. وفي الاستيعاب (٦) : إنّه كان

__________________

(١) إرشاد القلوب للديلمي : ٢ / ٢٠١ [ص ٣٨٠]. (المؤلف)

(٢) يأتي ذكر مصادر هذه كلّها إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٣) الدرجات الرفيعة : ص ٣٣٤.

(٤) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٥٥٢ حوادث سنة ٣٦ ه‍.

(٥) الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٥٤.

(٦) الاستيعاب : ٢ / ٥٣٧ [القسم الثالث / ١٢٨٩ رقم ٢١٣٤] ، السيرة الحلبيّة : ٣ / ٩٣ [٣ / ٨٢] وهامشها سيرة زيني دحلان : ٢ / ٢٦٥ [السيرة النبويّة ٢ / ٨٧]. (المؤلف)

١٢٤

حامل راية النبيّ في فتح مكّة إذْ نزعها من أبيه ، وأرسل عليّا رضى الله عنه أن ينزع اللواء منه ويدفعه لابنه قيس ، ففعل.

وأمّا مواقفه على العهد العلويِّ : فكان يحضُّ أمير المؤمنين على قتال معاوية ، ويحثّه على محاربة مناوئيه ويقول : يا أمير المؤمنين ما على الأرض أحدٌ أحبُّ إلينا أن يقيم فينا منك ؛ لأنّك نجمنا الذي نهتدي به ، ومفزعنا الذي نصير إليه ، وإن فقدناك لَتَظلَمنَّ أرضنا وسماؤنا ، ولكن والله لو خلّيتَ معاوية للمكر ليرومَنَّ مصر ، وليُفسدَنَّ اليمن ، وليطمعنَّ في العراق ، ومعه قومٌ يمانيّون قد أُشربوا قتل عثمان ، وقد اكتفوا بالظنِّ عن العلم ، وبالشكِّ عن اليقين ، وبالهوى عن الخير ، فسر بأهل الحجاز وأهل العراق ثمّ ارمه بأمرٍ يضيق فيه خناقه ، ويقصّر له من نفسه.

فقال : «أحسنت والله يا قيس وأجملت» (١).

فأرسله عليُّ عليه‌السلام مع ولده الحسن الزكيِّ وعمّار بن ياسر إلى الكوفة ، ودعوة أهلها إلى نصرته ، فخطب الحسن عليه‌السلام هناك وعمّار ، وبعدهما قام قيس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أيّها الناس إنَّ هذا الأمر لو استقبلنا به الشورى ، لكان عليٌّ أحقَّ الناس به ، في سابقته ، وهجرته ، وعلمه ، وكان قتل مَن أبى ذلك حلالاً ، وكيف ، والحجَّة قامت على طلحة والزبير ، وقد بايعاه وخلعاه حسداً؟

فقام خطباؤهم ، وأسرعوا إلى الردِّ بالإجابة ، فقال النجاشي (٢) :

رَضِينا بِقَسْمِ اللهِ إذ كان قَسْمُنا

عليّا وأبناءَ النبيِّ محمد

وقلنا له أهلاً وسهلاً ومرحباً

نُقبّل يديهِ من هوىً وتودّدِ

__________________

(١) أمالي شيخ الطائفة : ص ٨٥ [ص ٧١٦ ح ١٥١٨]. (المؤلف)

(٢) هو قيس بن عمرو ، شاعر مخضرم ، أصله من اليمن ، انتقل إلى الحجاز واستقرّ في الكوفة ، وكانت أمّه من الحبشة فنسب إليها ، توفّي سنة (٤٠ ه‍).

١٢٥

فمرنا بما ترضى نُجِبْكَ إلى الرضا

بصُمِّ العوالي والصفيحِ المهنَّدِ (١)

وتسويدِ من سوّدتَ غيرَ مدافعٍ

وإن كان من سوّدتَ غيرَ مسوَّدِ

فإن نلتَ ما تهوى فذاك نريدُهُ

وإن تَخْطَ ما تهوى فغير تعمّدِ

وقال قيس بن سعد حين أجاب أهل الكوفة :

جزى الله أهلَ الكوفةِ اليوم نصرةً

أجابوا ولم يأبَوا بخذلانِ من خذلْ

وقالوا عليٌّ خيرُ حافٍ وناعلٍ

رضينا به من ناقضي العهد من بدلْ

هما أبرزا زوج النبيِّ تعمّداً

يسوق بها الحادي المنيخ على جملْ

فما هكذا كانت وَصاةُ نبيِّكمْ

وما هكذا الإنصافُ أعظمْ بذا المَثَلْ

فهل بعد هذا من مقالٍ لقائلٍ

ألا قبّحَ اللهُ الأماني والعللْ

هذا لفظ شيخ الطائفة في أمالي ولده (٢) (ص ٨٧ و ٩٤) ، ورواه شيخنا المفيد في النصرة لسيِّد العترة (٣) ، ونسب الأبيات الداليّة إلى قيس بن سعد بتغيير وزيادة ، وهذا لفظه :

فلمّا قدم الحسن عليه‌السلام وعمّار وقيس الكوفة ، مستنفرين لأهلها ـ إلى أن قال ـ : ثمّ قام قيس بن سعد رحمه‌الله فقال : أيّها الناس إنَّ هذا الأمر لو استقبلنا فيه شورى لكان أمير المؤمنين أحقَّ الناس به ، لمكانه من رسول الله ، وكان قتال من أبى ذلك حلالاً ، فكيف في الحجّة على طلحة والزبير؟ وقد بايعاه طوعاً ثمّ خلعاه حسداً وبغياً ، وقد جاءكم عليٌّ في المهاجرين والأنصار ، ثمَّ أنشأ يقول :

رَضِينا بِقَسْمِ اللهِ إذ كان قَسْمُنا

عليّا وأبناءَ النبيِّ محمد

__________________

(١) صمّ الرجل بحجر : ضربه به. السيف المصمم : الماضي. العوالي جمع العالية : ما يلي السنان من القناة. ويطلق على الرمح. الصفيح جمع الصفيحة : السيف العريض. (المؤلف)

(٢) أمالي الطوسي : ص ٧١٩ ٧٢٠ ح ١٥١٨.

(٣) النصرة في حرب البصرة (كتاب الجَمل) : ص ١٣٣.

١٢٦

وقلنا لهم أهلاً وسهلاً ومرحباً

نمدُّ يدينا من هوىً وتودُّدِ

فما للزبيرِ الناقضِ العهدِ حرمةٌ

ولا لأخيه طلحةَ اليوم من يدِ

أتاكم سليلُ المصطفى ووصيُّهُ

وأنتم بحمدِ اللهِ عارٍ من الهَدِّ (١)

فمن قائم يُرجى بخيل إلى الوغى

وصُمِّ العوالي والصفيحِ المُهنَّدِ

يسوِّد من أدناه غيرَ مدافعٍ

وإن كان ما نقضيه غيرَ مسوَّدِ

فإن يأتِ ما نهوى فذاك نريدُهُ

وإن يخطَ ما نهوى فغير تعمّدِ

وكان يسير في تلك المواقف بكلِّ عظمة وجلال بهيئة فخمة ، ترهب القلوب ، وترعب الفوارس ، وترعد الفرائص.

قال المنذر بن الجارود يصف مواكب المجاهدين مع أمير المؤمنين وقد رآهم في الزاوية (٢) : ثمَّ مرَّ بنا فارسٌ على فرس أشقر ، عليه ثياب بيض ، وقلنسوة بيضاء ، وعمامة صفراء ، متنكِّبٌ قوساً ، متقلّدٌ سيفاً ، تخطُّ رجلاه في الأرض ، في ألف من الناس ، الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض ، معه راية صفراء ، قلت : مَن هذا؟ قيل : هذا قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار وأبنائهم ، وغيرهم من قحطان. مروج الذهب (٣) (٢ / ٨).

ولمّا أراد أمير المؤمنين المسير إلى أهل الشام ، دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

«أمّا بعد : فإنّكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحقِّ ؛ مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدوِّنا وعدوِّكم ، فأشيروا علينا برأيكم».

فقام قيس بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : يا أمير المؤمنين

__________________

(١) الهدِّ : الضعيف والجبان. (المؤلف)

(٢) موضع قرب البصرة ، وقرية بين واسط والبصرة على شاطئ دجلة. (المؤلف)

(٣) مروج الذهب : ٢ / ٣٧٧.

١٢٧

انكمش (١) بنا إلى عدوِّنا ، ولا تُعَرِّج (٢) ، فو الله لجهادهم أحبُّ إليّ من جهاد الترك والروم لادّهانهم في دين الله ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المهاجرين والأنصار ، والتابعين بالإحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه ، أو ضربوه ، أو حرموه ، أو سيّروه ، وفيؤنا لهم في أنفسهم حلالٌ ، ونحن لهم فيما يزعمون قطينٌ. قال : يعني رقيق. كتاب صفّين (٣) (ص ٥٠).

قال صعصعة بن صوحان : لمّا عقد عليّ بن أبي طالب الألوية لأجل حرب صفّين ، أخرج لواء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يُرَ ذلك اللواء منذُ قبض رسول الله ، فعقده عليٌّ ، ودعا قيس بن سعد بن عبادة فدفعه إليه ، واجتمعت الأنصار وأهل بدر ، فلمّا نظروا إلى لواء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكوا ، فأنشأ قيس بن سعد يقول :

هذا اللواءُ الذي كنّا نَحُفُّ بهِ

مع النبيِّ وجبريلٌ لنا مددُ

ما ضرَّ من كانتِ الأنصارُ عيبتَهُ

أن لا يكونَ له من غيرِهم أحدُ

قومٌ إذا حاربوا طالتْ أكفُّهمُ

بالمشرفيّةِ حتى يُفتحَ البلدُ

ابن عساكر في تاريخه (٤) (٣ / ٢٤٥) ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب (٥) (٢ / ٥٣٩) ، وابن الأثير في أُسد الغابة (٦) (٤ / ٢١٦) ، والخوارزمي في المناقب (٧) (ص ١٢٢) (٨).

ولمّا تعاظمت الأمور على معاوية دعا عمرو بن العاص ، وبُسر بن أرطاة ،

__________________

(١) انكمش الرجل : أسرع. (المؤلف)

(٢) من عرّج : وقف ولبث. (المؤلف)

(٣) وقعة صفّين : ص ٩٣.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٣ / ٣٤٦.

(٥) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٩٢ رقم ٢١٣٤.

(٦) أُسد الغابة : ٤ / ٤٢٦ رقم ٤٣٤٨.

(٧) المناقب : ص ١٩٥ ح ٢٣٥.

(٨) ذكر الأبيات له شيخنا المفيد في يوم الجمل [النصرة في حرب البصرة (كتاب الجَمل) : ص ١٨٣] ، وهو في غير محلّه. (المؤلف)

١٢٨

وعبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فقال لهم : إنَّه قد غمّني رجال من أصحاب عليٍّ منهم : سعيد بن قيس في همدان ، والأشتر في قومه ، والمرقال ـ هاشم بن عتبة ـ ، وعديّ بن حاتم ، وقيس بن سعد في الأنصار ، وقد وقتكم يمانيّتكم بأنفسها ، حتى لقد استحييتُ لكم وأنتم عُددتم من قريش ، وقد أردت أن يعلم الناس أنَّكم أهل غنى ، وقد عبّأت لكلِّ رجل منهم رجلاً منكم ، فاجعلوا ذلك إليَّ. فقالوا : ذلك إليك : قال : فأنا أكفيكم سعيد بن قيس وقومه غداً. وأنت يا عمرو لأعور بني زهرة ـ المرقال ـ ، وأنت يا بُسر لقيس بن سعد ، وأنت يا عبيد الله للأشتر النخعي ، وأنت يا عبد الرحمن بن خالد لأعور طيّ ـ يعني عديّ بن حاتم ـ. ثمَّ ليردّ كلّ رجل منكم عن حماة الخيل ، فجعلها نوائب في خمسة أيّام ، لكلِّ رجل منهم يوماً.

وإنَّ بُسر بن أرطاة غدا في اليوم الثالث في حماة الخيل ، فلقي قيس بن سعد في كماة الأنصار ، فاشتدّت الحرب بينهما ، وبرز قيس كأنَّه فنيق (١) مقرم (٢) وهو يقول :

أنا ابن سعد زانه عُباده

والخزرجيّون رجالٌ ساده

ليس فراري بالوغى بِعاده

إنَّ الفرار للفتى قلاده

يا ربِّ أنت لقِّني الشهادة (٣)

والقتل خيرٌ من عِناق غاده

حتى متى تُثنى ليَ الوساده

فطعن خيل بُسر ، وبرز له بعد مليٍّ وهو يقول :

أنا ابن أرطاة عظيم القدرِ

مراود في غالب بن فهرِ

ليس الفرار من طباع بُسرِ

إن يرجع اليوم بغير وترِ

__________________

(١) فنيق ـ كشريف ـ : الفحل المكرم لا يؤذى ولا يركب لكرامته. (المؤلف)

(٢) أقرم الفحل : ترك عن الركوب والعمل للفِحْلة. (المؤلف)

(٣) في مناقب ابن شهرآشوب [٣ / ٢٠٣] : يا ذا الجلال لقّني الشهادة. (المؤلف)

١٢٩

وقد قضيت في عدوّي نذري

يا ليت شعري ما بقي من عمري

وجعل يطعن بُسر قيساً ، فيضربه قيس بالسيف فيردّه على عقبيه ، ورجع القوم جميعاً ولقيس الفضل. كتاب صفّين (١) (ص ٢٢٦).

وروى نصر في كتابه (٢) (ص ٢٢٧ ـ ٢٤٠) : إنَّ معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ، ومسلمة بن مخلَّد الأنصاري ولم يكن معه من الأنصار غيرهما ، فقال : يا هذان لقد غمّني ما لقيت من الأوس والخزرج ، صاروا واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال ، حتى والله جبّنوا أصحابي : الشجاع والجبان ، وحتى والله ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلاّ قالوا : قتلته الأنصار ، أما والله لألقينّهم بحدّي وحديدي ، ولأُعَبِّئنَّ لكل فارس منهم فارساً ينشب (٣) في حلقه ، ثمّ لَأَرْمِيَنّهم بأعدادهم من قريش رجالاً لم يغذُهم التمر والطُفيشل (٤). يقولون : نحن الأنصار ، قد والله آووا ونصروا ولكن أفسدوا حقّهم بباطلهم!

فغضب النعمان ، فقال : يا معاوية لا تلومنَّ الأنصار بسرعتهم في الحرب ، فإنَّهم كذلك كانوا في الجاهليّة ، فأمّا دعاؤهم إلى النزال فقد رأيتهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا لقاؤك إيّاهم في أعدادهم من قريش ، فقد علمتَ ما لَقِيَتْ قريش منهم ، فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفاً ، فافعل ، وأمّا التمر والطُفيشل : فإنَّ التمر كان لنا فلمّا أن ذقتموه شاركتمونا فيه ، وأمّا الطُفيشل : فكان لليهود فلمّا أكلناه غلبناهم عليه كما غلبت قريشٌ على سَخينة (٥) ثمَّ تكلّم مسلمة بن مخلد ـ إلى أن قال :

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٤٢٨.

(٢) وقعة صفّين : ص ٤٤٥ ـ ٤٥٠.

(٣) نشب الشيء في الشيء : علق فيه. (المؤلف)

(٤) كسُمَيدَع : نوع من المرق. (المؤلف)

(٥) طعام يتّخذ من دقيق وسَمن ، كانت قريش تكثر من أكلها ، فعُيّرت بها وسمّيت : قريش السخينة. (المؤلف)

١٣٠

وانتهى الكلام إلى الأنصار ، فجمع قيس بن سعد الأنصاري الأنصار ، ثمّ قام خطيباً فيهم فقال : إنَّ معاوية قد قال ما بلغكم وأجاب عنكم صاحبكم ، فلعمري لئن غظتم معاوية اليوم لقد غظتموه بالأمس ، وإن وَتَرْتموه في الإسلام لقد وَتَرْتموه في الشرك ، وما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين الذي أنتم عليه ، فجدّوا اليوم جدّا تنسونه به ما كان أمس ، وجدّوا غداً جدّا تنسونه به ما كان اليوم ، وأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبرئيل وعن يساره ميكائيل ، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب ، وأمّا التمر فإنّا لم نغرسه ولكن غَلَبنا عليه من غرسه ، وأمّا الطُفيشل فلو كان طعامنا لَسُمّينا به كما سُمّيت قريش : السخينة. ثمّ قال قيس بن سعد في ذلك :

يا ابن هندٍ دعِ التوثّبَ في الحر

بِ إذا نحنُ في البلادِ نأينا (١)

نحن من قد رأيتَ فادنُ إذا

شئتَ بمن شئتَ في العَجاجِ إلينا

إن برَزْنا بالجمعِ نلقَكَ في الجم

عِ وإن شئتَ محضةً أسْرَيْنَا

فالْقَنا في اللفيفِ نَلْقَكَ في الخز

رجِ تدعو في حربنا أبَوَينا

أيَّ هذين ما أردتَ فَخُذْهُ

ليس منّا وليس منك الهُوينا

ثمَّ لا يُنزعُ العجاجةُ حتى

تنجلي حربُنا لنا أو علينا

ليتَ ما تطلبُ الغَداةَ أتانا

أنعمَ الله بالشهادةِ عَيْنا

إنَّنا إنَّنا الذينَ إذا الفت

حَ شَهِدْنا وخيبراً وحُنينا

بعد بدرٍ وتلك قاصمةُ الظّهرِ

وأُحدٍ وبالنضيرِ ثنينا

يومَ الاحزابِ فيه قد علم النا

سُ شُفينا من قبلكمْ واشتفينا

فلمّا بلغ معاوية شعره ، دعا عمرو بن العاص ، فقال : ما ترى في شتم الأنصار؟ قال : أرى أن توعد ولا تشتم ، ما عسى أن تقول لهم؟ إذا أردت ذمّهم ، ذُمّ

__________________

(١) ذكر ابن أبي الحديد في شرحه : ٢ / ٢٩٧ [٨ / ٨٦ خطبة ١٢٤] ستّة من هذه الأبيات ، مع اختلاف فيها. (المؤلف)

١٣١

أبدانهم ولا تذمَّ أحسابهم.

قال معاوية : إنَّ خطيب الأنصار قيس بن سعد يقوم كلَّ يوم خطيباً وهو والله يريد أن يفنينا غداً إن لم يحبسه عنّا حابس الفيل ، فما الرأي؟ قال : الرأي التوكّل والصبر.

فأرسل معاوية إلى رجال من الأنصار فعاتبهم ، منهم : عقبة بن عمرو ، وأبو مسعود ، والبراء بن عازب ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وخزيمة بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وعمرو بن عمرو ، والحجّاج بن غُزيّة. وكانوا هؤلاء يُلقون في تلك الحرب ، فبعث معاوية بقوله : لتأتوا قيس بن سعد. فمشوا بأجمعهم إلى قيس ، فقالوا : إنَّ معاوية لا يريد شتمنا فكُفَّ عن شتمه. فقال : إنَّ مثلي لا يَشْتُمْ ، ولكنّي لا أكفُّ عن حربه حتى ألقى الله.

وتحرّكت الخيل غُدوةً ، فظنَّ قيس بن سعد أنَّ فيها معاوية ، فحمل على رجل يشبهه فقنّعه بالسيف ، فإذا غير معاوية ، وحمل الثانية على آخر يشبهه أيضاً فضربه ، ثمَّ انصرف وهو يقول :

قولوا لهذا الشاتمي معاويه

إنْ كلُّ ما أوعدتَ ريحٌ هاويه

خوّفتنا أكْلُبَ قومٍ عاويه

إليَّ يا ابن الخاطئين الماضيه

تُرقِلُ إرقالَ العجوزِ الخاويه (١)

في أثَرِ الساري ليالي الشاتيه

فقال معاوية : يا أهل الشام ، إذا لقيتم هذا الرجل فأَخبروه بمساويه.

(فلمّا تحاجز الفريقان شتمه معاوية شتماً قبيحاً وشتم الأنصار) (٢) ، فغضب النعمانُ ومَسلمة على معاوية ، فأرضاهما بعد ما همّا أن ينصرفا إلى قومهما.

__________________

(١) أرقل : أسرع. الخاوية : الساقطة. (المؤلف)

(٢) هذه الجملة من لفظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد [٨ / ٨٧ خطبة ١٢٤]. (المؤلف)

١٣٢

ثمَّ إنَّ معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله السلم ، فخرج النعمان حتى وقف بين الصفَّين فقال : يا قيس أنا النعمان بن بشير. فقال قيس : هيه يا ابن بشير ، فما حاجتك؟

فقال النعمان : يا قيس إنَّه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه ، ألستم معشر الأنصار تعلمون أنَّكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار؟ وقتلتم أنصاره يوم الجمل؟ وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفِّين؟ فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليّا لكان واحدة بواحدة ، ولكنَّكم خذلتم حقّا ونصرتم باطلاً ، ثمَّ لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أَعلمتم في الحرب ، ودعوتم إلى البراز ، ثمَّ لم ينزل بعليٍّ أمرٌ (١) قط إلاّ هوّنتم عليه المصيبة ، ووعدتموه الظفر ، وقد أخذت الحرب منّا ومنكم ما قد رأيتم ، فاتّقوا الله في البقيّة.

فضحك قيس ثمَّ قال : ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذه المقالة ، إنَّه لا ينصح أخاه من غشَّ نفسه ، وأنت والله الغاشُّ الضالُّ المضلُّ.

أمّا ذكرك عثمان ، فإن كانت الأخبار تكفيك فخذ منّي واحدة ، قتل عثمان من لستَ خيراً منه ، وخذله من هو خير منك. أمّا أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث. وأمّا معاوية فو الله لو اجتمعت عليه العرب لقاتلته الأنصار.

وأمّا قولك : إنّا لسنا كالناس ، فنحن في هذه الحرب كما كنّا مع رسول الله ، نتّقي السيوف بوجوهنا والرماح بنحورنا ، حتى جاء الحقُّ وظهر أمر الله وهم كارهون ، ولكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلاّ طليقاً أو أعرابيّا أو يمانيّا مستدرجاً بغرور؟ انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسانٍ الذين رضي الله عنهم؟ ثمّ انظر هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك؟ ولستما والله ببدريَّينِ ولا أُحديَّينِ ولا

__________________

(١) في شرح النهج [٨ / ٨٨ خطبة ١٢٤] : خطب. (المؤلف)

١٣٣

لكما سابقةٌ في الإسلام ، ولا آيةٌ في القرآن؟ (١) ولعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك. ثمَّ قال قيس في ذلك :

والراقصاتِ بكلِّ أشعثَ أَغْبَرٍ

خُوصِ العيونِ تحثُّها الركبانُ

ما ابنُ المخلّدِ ناسياً أسيافَنا

عمّن نحاربُه ولا النعمانُ

تركا العيانَ وفي العيانِ كفايةٌ

لو كان ينفعُ صاحبيه عيانُ

ثمَّ إنَّ علياً عليه‌السلام دعا قيس بن سعد فأثنى عليه خيراً وسوّده على الأنصار (٢).

وخرج قيس في النهروان إلى الخوارج ، فقال لهم : عباد الله ، أخرجوا إلينا طَلِبَتَنا منكم ، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه ، وعودوا بنا إلى قتال عدوِّنا وعدوِّكم ، فإنَّكم ركبتم عظيماً من الأمر ، تشهدون علينا بالشرك ، والشرك ظلمٌ عظيم ، تسفكون دماء المسلمين ، وتعدّونهم مشركين.

فقال له عبد الله بن شجرة السلَمي : إنَّ الحقَّ قد أضاء لنا ؛ فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر. فقال قيس : ما نعلمه فينا غير صاحبنا فهل تعلمونه فيكم؟. قالوا : لا. قال : نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها ، فإنّي لا أرى الفتنة إلاّ وقد غلبتْ عليكم (٣)

أمّا موقفه بعد العهدين فكان مع الإمام السبط المجتبى ـ سلام الله عليه ـ ، ولمّا وجّه عسكره إلى قتال أهل الشام دعا عليه‌السلام عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب ، فقال له :

«يا ابن عمّ إنّي باعث إليك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرّاء مضر ،

__________________

(١) وإلى هنا رواه ابن قتيبة أيضاً في الإمامة والسياسة : ١ / ٩٤ [١ / ٩٧ ـ ٩٨]. (المؤلف)

(٢) إلى هنا تنتهي رواية نصر بن مزاحم في كتاب صفّين [ص ٤٤٩]. (المؤلف)

(٣) تاريخ الطبري : ٦ / ٤٧ [٥ / ٨٣ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٣٧ [٢ / ٤٠٤ حوادث سنة ٣٧ ه‍]. (المؤلف)

١٣٤

الرجل منهم يريد الكتيبة ، فَسِرْ بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسطْ لهم وجهك ، وافرِشْ لهم جناحك ، وأَدْنِهِمْ في مجلسك ؛ فإنَّهم بقيّة ثقات أمير المؤمنين ، وسِر بهم على شطِّ الفرات حتى تقطع بهم الفرات حتى تسير بمسكن (٤) ، ثمّ امض حتى تستقبل بهم معاوية ، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك ، فإنِّي على أثرك وشيكاً ، وليكن خبرك عندي كلَّ يوم ، وشاور هذين ـ يعني : قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك ، فإن فعل فقاتله ، وإن أُصبتَ فقيس بن سعد ، وإن أُصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس فسار عبيد الله ...».

فأمّا معاوية فإنَّه وافى حتى نزل قرية يقال لها : الحيوضة ـ بمسكن ـ وأقبل عبيد الله بن عبّاس حتى نزل بإزائه ، فلمّا كان من غدٍ وجّه معاوية بخيل إلى عبيد الله في من معه ، فضربهم حتى ردّهم إلى معسكرهم ، فلمّا كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن عبّاس أنّ الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلّم الأمر إليَّ ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً ، وإلاّ دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجِّل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر.

فأقبل عبيد الله إليه ليلاً فدخل عسكر معاوية ، فوفى له بما وعده ، وأصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج حتى أصبحوا ، فطلبوه فلم يجدوه ، فصلّى بهم قيس ابن سعد بن عبادة ، ثمّ خطبهم فثبّتهم ، وذكر عبيد الله فنال منه ، ثمّ أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدوّ ، فأجابوه بالطاعة وقالوا له : انهض بنا إلى عدوّنا على اسم الله.

فنزل فنهض بهم ، وخرج إليه بُسر بن أرطاة ، فصاح إلى أهل العراق : ويحكم هذا أميركم عندنا قد بايع ، وإمامكم الحسن قد صالح ، فعلامَ تقتلون أنفسكم؟!

__________________

(٤) بفتح الميم ثمّ السكون ثمّ الكسر : موضع قريب من أوانا ناحية الدجيل ، بينه وبين بغداد عدّة فراسخ من جهة تكريت. (المؤلف)

١٣٥

فقال لهم قيس بن سعد : اختاروا إحدى اثنتين : إمّا القتال مع غير إمام ، وإمّا أن تبايعوا بيعة ضلال. فقالوا : بل نقاتل بلا إمام ، فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردّوهم إلى مصافّهم ، فكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنِّيه ، فكتب إليه قيس : لا والله لا تلقاني أبداً إلاّ بيني وبينك الرمح.

شرح بن أبي الحديد (١) (٤ / ١٤).

قال اليعقوبي في تاريخه (٢) (٢ / ١٩١) : إنَّه وجّه الحسن عليه‌السلام بعبيد الله بن العبّاس في اثني عشر ألفاً لقتال معاوية ، ومعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر قيس ورأيه ، فسار إلى ناحية الجزيرة ، وأقبل معاوية لمّا انتهى إليه الخبر بقتل عليّ ، فسار إلى الموصل بعد قتل عليّ بثمانية عشر يوماً ، والتقى العسكران ، فوجّه معاوية إلى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه ، فأرسل إليه بالمال وقال : تخدعني عن ديني؟

فيقال : إنّه أرسل إلى عبيد الله بن عبّاس وجعل له ألف ألف درهم ، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه ، وأقام قيس على محاربته ، وكان معاوية يدسّ إلى عسكر الحسن من يتحدّث أنّ قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ، ووجّه إلى عسكر قيس من يتحدّث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه.

وفي الاستيعاب (٣) (٢ / ٢٢٥) عن عروة قال : كان قيس مع الحسن بن عليٍّ على مقدِّمته ، ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رءوسهم بعد ما مات عليٌّ وتبايعوا على الموت ، فلمّا دخل الحسن في بيعة معاوية أبى قيس أن يدخل ، وقال لأصحابه : ما شئتم ، إن شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منّا ، وإن شئتم أخذت لكم أماناً؟

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ٤٢ ـ ٤٣ كتاب ٣١.

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٤.

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٩١ رقم ٢١٣٤.

١٣٦

فقالوا : خُذ لنا أماناً! فأخذ لهم إنَّ لهم كذا وكذا ، وأن لا يعاقَبوا بشيء ، وأنَّه رجلٌ منهم ، ولم يأخذ لنفسه خاصّة شيئاً. ثمَّ ارتحل نحو المدينة ومضى بأصحابه.

حديث جوده :

لا يسعنا بسط المقال في أخبار قيس من هذه الناحية لكثرتها ، غير أنَّا نورد لك شيئاً من ذلك الكثير الطيّب ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق (١) ، وكانت هذه الخلّة من هذا البيت على عنق الدهر ـ أي قديماً ـ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الجود من شيمة أهل ذلك البيت» (٢).

باع قيس مالاً من معاوية بتسعين ألفاً ، فأمر منادياً فنادى في المدينة : من أراد القرض فليأت منزل سعد ، فأقرض أربعين أو خمسين وأجاز الباقي ، وكتب على من أقرَّ له صكّا ، فمرض مرضاً قلَّ عُوّاده ، فقال لزوجته قُريبة بنت أبي قحافة ـ أخت أبي بكر ـ : يا قُريبة لِم تَرين قلَّ عُوَّادي؟ قالت : للّذي لك عليهم من الدين. فأرسل إلى كلِّ رجل بصكّه المكتوب عليه ، فوهبه مالَهُ عليهم (٣).

قال جابر : خرجنا في بعثٍ كان عليهم قيس بن سعد ، ونحرَ لهم تسع ركائب ، فلمّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له من أمر قيس ، فقال : «إنّ الجودَ من شيمة أهل ذلك البيت».

ولمّا ارتحل من العراق نحو المدينة ومضى بأصحابه ، جعل ينحر لهم كلَّ يوم جزوراً حتى بلغ (٤).

__________________

(١) مثل يضرب : أي حسبك بالقليل من الكثير [مجمع الأمثال : ١ / ٣٤٨ رقم ١٠٣٥]. (المؤلف)

(٢) الإصابة : ٤ / ٢٥٤ [٣ / ٢٤٩ رقم ٧١٧٧]. (المؤلف)

(٣) تاريخ الخطيب البغدادي : ١ / ١٧٧ [رقم ١٧] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٦٩ [٨ / ١٠٨ حوادث سنة ٥٩ ه‍]. (المؤلف)

(٤) الاستيعاب : ٢ / ٥٢٥ [القسم الثالث / ١٢٩٠ رقم ٢١٣٤] ، تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٩٨ [٨ / ٣٥٤ رقم ٧٠٢]. (المؤلف)

١٣٧

روى عبد الله بن المبارك عن جويرية قال : كتب معاوية إلى مروان : أن اشتر دار كثير بن الصلت منه فأبى عليه ، فكتب معاوية إلى مروان : أن خذه بالمال الذي عليه ، فإن جاء به وإلاّ بع عليه داره. فأرسل إليه مروان فأخبره. قال : إنّي أؤجِّلك ثلاثاً ، فإن جئت بالمال وإلاّ بعت عليك دارك.

قال : فجمعها إلاّ ثلاثين ألفاً. فقال : مَن لي بها؟ ثمَّ ذكر قيس بن سعد ، فأتاه فطلبها منه فأقرضه ، فجاء بها إلى مروان ، فلمّا رآه قد جاء بها ردّها إليه وردَّ عليه داره ، فردَّ كثير الثلاثين ألفاً على قيس ، فأبى أن يقبلها (١).

روى المبرّد في كامله (٢) (١ / ٣٠٩) : أنَّ عجوزاً شكت إلى قيس أن ليس في بيتها جرذ. فقال : ما أحسن ما سألت! أمّا والله لأُكثرنَّ جرذان بيتك. فملأ بيتها طعاماً وودكاً وإداماً ، وقال ابن عبد البرّ (٣) : هذه القصّة مشهورة صحيحة.

في كامل المبرّد (١ / ٣٠٩) : إنَّه توفّي أبوه عن حمل لم يعلم به ، فلمّا وُلد وقد كان سعد رضى الله عنه قسم ماله في حين خروجه من المدينة بين أولاده ، فكلّم أبو بكر وعمر في ذلك قيساً ، وسألاه أن ينقض ما صنع سعد من تلك القسمة. فقال : نصيبي للمولود ولا أُغيّر ما صنع أبي ولا أنقضه. وذكره ابن عبد البرّ في الاستيعاب (٤) (٢ / ٥٢٥) وقال : صحيحٌ من رواية الثقات.

ومن مشهور أخبار قيس : أنَّه كان له مال كثير ديوناً على الناس ، فمرض واستبطأ عوّاده ، فقيل له : إنّهم يستحيون من أجل دَينك. فقال : أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من العيادة. فأمر منادياً ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو في حلٍّ ، فأتاه

__________________

(١) الاستيعاب : ٢ / ٥٢٥ [القسم الثالث / ١٢٩٢ رقم ٢١٣٤]. الإصابة : ٥ / ٢٥٤ [٣ / ٢٤٩ رقم ٧١٧٧]. (المؤلف)

(٢) الكامل في اللغة والأدب : ١ / ٤١٩.

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٩١ رقم ٢١٣٤.

(٤) المصدر السابق.

١٣٨

الناس حتى هدموا درجةً كانوا يصعدون عليها إليه ، وفي لفظ : فما أمسى حتى كُسِرت عتبة بابه من كثرة العوّاد (١).

كان قيس في سريّة فيها أبو بكر وعمر ، فكان يستدين ويطعم الناس ، فقال أبو بكر وعمر : إن تركنا هذا الفتى أهلك مال أبيه ، فمشيا في الناس ، فلمّا سمع سعد قام خلف النبيِّ ، فقال : من يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخطّاب يبخِّلان عليَّ ابني. أسد الغابة (٢) (٤ / ٢١٥).

وفي لفظ : كان قيس مع أبي بكر وعمر في سفر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان ينفق عليهما وعلى غيرهما ويفضل ، فقال له أبو بكر : إنّ هذا لا يقوم به مال أبيك فأمسك يدك ، فلمّا قدموا من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر : أردت أن تبخِّل ابني ؛ إنّا لقوم لا نستطيع البخل (٣).

حكى ابن كثير في تاريخه (٤) (٨ / ٩٩) : أنَّه كانت لقيس صحفة يُدار بها حيث دار ، وكان ينادي له منادٍ : هلمّوا إلى اللحم والثريد. وكان أبوه وجدّه من قبله يفعلان كفعله.

قال الهيثم بن عدي : اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم ، فقال أحدهم : عبد الله بن جعفر. وقال الآخر : قيس بن سعد. وقال الآخر : عُرابة الأوسي. فتمارَوا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة ، فقال لهم رجل : فليذهب كلُّ رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنَّه أكرم من غيره ، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان.

__________________

(١) ربيع الأبرار للزمخشري [٤ / ٩١] ، الاستيعاب : ٢ / ٥٢٦ [القسم الثالث / ١٢٩٣ رقم ٢١٣٤] ، البداية والنهاية : ٨ / ١٠٠ [٨ / ١٠٨ حوادث سنة ٥٩ ه‍]. (المؤلف)

(٢) أسد الغابة : ٤ / ٤٢٥ رقم ٤٣٤٨.

(٣) الدرجات الرفيعة [ص ٣٣٥] ، نقلاً عن كتاب الغارات لإبراهيم بن سعيد الثقفي [ص ١٣٩]. (المؤلف)

(٤) البداية والنهاية : ٨ / ١٠٨ حوادث سنة ٥٩ ه‍.

١٣٩

فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه ، فوجده قد وضع رجله في الغَرْز (١) ليذهب إلى ضيعة له ، فقال له : يا ابن عمّ رسول الله ابن سبيل ومنقطَعٌ به. قال : فأخرج رجله من الغَرْز ، وقال : ضع رجلك واستوِ عليها ، فهي لك بما عليها ، وخذ ما في الحقيبة (٢) ولا تُخْدَعَنَّ في السيف فإنَّه من سيوف عليٍّ. فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة ، وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار ومطارف من خزّ وغير ذلك ، وأجلُّ ذلك سيف عليّ بن أبي طالب.

ومضى صاحب قيس إليه فوجده نائماً ، فقالت له الجارية : ما حاجتك إليه؟ قال : ابن سبيل ومنقطَعٌ به. قالت : فحاجتك أيسر من إيقاظه ، هذا كيسٌ فيه سبعمائة دينار ، ما في دار قيس مالٌ غيره اليوم ، واذهب إلى مولانا في معاطن الإبل فخذ لك ناقةً وعبداً ، واذهب راشداً. فلمّا استيقظ قيس من نومه أخبرته الجارية بما صنعت ، فأعتقها شكراً على صنيعها ذلك ، وقال : هلاّ أيقظتني حتى أُعطيه ما يكفيه أبداً ، فلعلّ الذي أعطيتِه لا يقع منه موقع حاجته.

وذهب صاحب عُرابة الأوسي إليه ، فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكّأ على عبدين له ـ وكان قد كُفَّ بصره ـ فقال له : يا عُرابة ، فقال : قل. فقال : ابن سبيل ومنقطَعٌ به. قال : فخلّى عن العبدين ثمّ صفّق بيديه ، باليمنى على اليسرى ، ثمّ قال : أوّه أوّه ، والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عُرابة شيئاً ، ولكن خذ هذين العبدين. قال : ما كنت لأفعل. فقال : إن لم تأخذهما فهما حرّان ، فإن شئت فاعتق ، وإن شئت فخذ. وأقبل يلتمس الحائط بيده ، قال : فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه.

قال فحكم الناس على أنَّ ابن جعفر قد جاد بمال عظيم ، وأنّ ذلك ليس

__________________

(١) الغرز ـ بالفتح ثمّ السكون ـ : ركاب من جلد. (المؤلف)

(٢) الحقيبة ـ بفتح المهملة ـ : ما يحمل على الفرس خلف الراكب. (المؤلف)

١٤٠