الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

حتى يشترط لشيعة عليّ ولمن كان اتّبعه على أموالهم ودمائهم ، وما أصابوا في الفتنة ، فأرسل معاوية إلى قيس يقول : على طاعة من تُقاتل ، وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك؟ فأبى قيس أن يلين له ، حتى أرسل اليه معاوية بسجلّ قد ختم عليه في أسفله ، وقال : اكتب في هذا ما شئت فهو لك. فقال عمرو بن العاص لمعاوية : لا تعطه هذا وقاتله.

فقال معاوية : على رسلك فإنّا لا نخلص إلى قتلهم حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام ، فما خير العيش بعد ذلك؟! فإنّي والله لا أقاتله أبداً حتى لا أجد من قتاله بُدّا.

فلمّا بعث إليه معاوية ذلك السجل ، اشترط قيس له ولشيعة عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ، ولم يسأل في سجلّه ذلك مالاً ، وأعطاه معاوية ما سأل ، ودخل قيس ومن معه في طاعته (١).

قال أبو الفرج (٢) : فأرسل معاوية إليه يدعوه إلى البيعة ، فلمّا أرادوا إدخاله إليه ، قال إنّي حلفت أن لا ألقاه إلاّ بيني وبينه الرمح أو السيف. فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينهما ليبرَّ يمينه ، فلمّا دخل قيس ليبايع ، وقد بايع الحسن عليه‌السلام فأقبل على الحسن عليه‌السلام فقال : أفي حلٍّ أنا من بيعتك؟. فقال : «نعم». فأُلقي له كرسيٌّ ، وجلس معاوية على سرير والحسن معه ، فقال له معاوية : أتبايع يا قيس؟ قال : نعم. ووضع يده على فخذه ولم يمدّها إلى معاوية ، فجاء معاوية من سريره ، وأكبّ على قيس حتى مسح يده ، وما رفع إليه قيس يده (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٦ / ٩٤ [٥ / ١٦٤ حوادث سنة ٤١ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٦٣ [٢ / ٤٤٨ حوادث سنة ٤١ ه‍]. (المؤلف)

(٢) مقاتل الطالبيّين : ص ٧٩.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٧ [١٦ / ٤٨ كتاب ٣١]. (المؤلف)

١٦١

قال اليعقوبي في تاريخه (١) (٢ / ١٩٢) : بويع معاوية بالكوفة في ذي القعدة سنة (٤٠) وأحضر الناس لبيعته ، وكان الرجل يحضر فيقول : والله يا معاوية إنّي لأُبايعك وإنّي لكارهٌ لك. فيقول : بايع فإنَّ الله قد جعل في المكروه خيراً كثيراً ، ويأتي الآخر فيقول : أعوذ بالله من شرّ نفسك.

وأتاه قيس بن سعد بن عبادة ، فقال : بايع قيس. قال : إنّي كنت لأكرهُ مثل هذا اليوم يا معاوية. فقال له : مَه رحمك الله. فقال : لقد حرصت أن أفرّق بين روحك وجسدك قبل ذلك ، فأبى الله يا ابن أبي سفيان إلاّ ما أحبَّ. قال : فلا يُردّ أمر الله.

قال : فأقبل قيس على الناس بوجهه فقال : يا معشر الناس لقد اعتضتم الشرّ من الخير ، واستبدلتم الذلّ من العزّ ، والكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وابن عمّ رسول ربّ العالمين ، وقد وَليَكم الطليق ابن الطليق ، يسومكم الخسف ، ويسير فيكم بالعسف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم؟ أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون؟

فجثا معاوية على ركبته ، ثمّ أخذ بيده ، وقال : أقسمت عليك. ثمَّ صفق على كفّه ونادى الناس : بايعَ قيس. فقال : كذبتم والله ما بايعتُ. ولم يبايع لمعاوية أحدٌ إلاّ أُخذ عليه الأَيْمان ، فكان أوّل من استحلف على بيعته.

أخرج الحافظ عبد الرزّاق ، عن ابن عُيينة ، قال : قدم قيس بن سعد على معاوية ، فقال له معاوية : وأنت يا قيس ، تُلْجِمُ عليَّ مع من ألجم؟ أما والله لقد كنت أُحبُّ أن لا تأتيني هذا اليوم إلاّ وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع. فقال له قيس : وأنا والله قد كنت كارهاً أن أقوم في هذا المقام ، فأحيّيك بهذه التحيّة. فقال له معاوية : ولِمَ؟ وهل أنتَ إلاّ حبر من أحبار اليهود؟ فقال له قيس : وأنت يا معاوية كنت صنماً من أصنام الجاهليّة ، دخلت في الإسلام كارهاً ، وخرجت منه طائعاً ، فقال

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢١٦.

١٦٢

معاوية : اللهمّ غفراً ، مُدَّ يدك. فقال له قيس : إن شئت زدتُ وزدت. تاريخ ابن كثير (١) (٨ / ٩٩).

قيس ومعاوية في المدينة بعد الصلح بينهما :

دخل قيس بن سعد بعد وقوع الصلح في جماعة من الأنصار على معاوية ، فقال لهم معاوية : يا معشر الأنصار بِم تطلبون ما قِبلي؟ فو الله لقد كنتم قليلاً معي كثيراً عليَّ ، ولَفَلَلْتم حدِّي يوم صفِّين ، حتى رأيت المنايا تلظّى في أسنّتكم ، وهجوتموني في أسلافي بأشدّ من وقع الأسنّة ، حتى إذا أقام الله ما حاولتم ميله ، قلتم : ارعَ فينا وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. هيهات يأبى الحقين العِذْرة.

فقال قيس : نطلب ما قبلك بالإسلام الكافي به الله لا بما نَمّتْ به إليك الأحزاب ، وأمّا عداوتنا لك فلو شئتَ كففتَها عنك ، وأمّا هجاؤُنا إيّاك فقول يزول باطله ويثبت حقّه ، وأمّا استقامة الأمر فعلى كُرهٍ كان منّا ، وأمّا فَلّنا حدّك يوم صفّين ، فإنّا كنّا مع رجل نرى طاعة الله طاعته ، وأمّا وصيّة رسول الله بنا فمن آمن به رعاها بعده ، وأمّا قولك : يأبى الحقين العِذرة ، فليس دون الله يد تحجزك منّا يا معاوية ، فدونك أمرك يا معاوية ، فإنّما مثلك كما قال الشاعر :

يا لكِ من قُبّرةٍ بمَعمرِ

خلا لكِ الجوّ فبيضي واصفري

فقال معاوية يموِّه : ارفعوا حوائجكم. العقد الفريد (٢) (٢ / ١٢١) ، مروج الذهب (٣) (٢ / ٦٣) ، الإمتاع والمؤانسة (٣ / ١٧٠).

بيان : قول معاوية : يأبى الحقين العِذْرة (٤) مثل سائر ، أصله : أنّ رجلاً نزل بقوم

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٠٧ حوادث سنة ٥٩ ه‍.

(٢) العقد الفريد : ٣ / ٢١٩.

(٣) مروج الذهب : ٣ / ٢٦.

(٤) مجمع الأمثال : ١ / ٦٩ رقم ١٦٠.

١٦٣

فاستسقاهم لبناً ، فاعتلّوا عليه وزعموا أن لا لبن عندهم ، وكان اللبن محقوناً في وطاب عندهم. يُضرب به للكاذب الذي يعتذر ولا عذر له ، يعني : أنّ اللبن المحقون لديكم يكذّبكم في عذركم. فما في مروج الذهب من : يأبى الحقير العذرة. وفي العقد الفريد : أبى الخبير العذر. فهو تصحيف.

قيس ومعاوية في المدينة

روى التابعيُّ الكبير أبو صادق سليم بن قيس الهلالي في كتابه (١) ، قال :

قدم معاوية حاجّا في أيّام خلافته بعد ما مات الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ، فاستقبله أهل المدينة ، فنظر فإذا الذين استقبلوه عامّهم قريش ، فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة ، فقال : ما فعلت الأنصار ، وما بالها ما تستقبلني؟ فقيل : إنَّهم محتاجون ليس لهم دواب. فقال معاوية : فأين نواضحهم؟

فقال قيس بن سعد : أفنوها يوم بدر وأُحد وما بعدهما من مشاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ضربوك وأباك على الإسلام ، حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون.

فقال معاوية : اللهم اغفر. فقال قيس : أما إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «سترون بعدي أثرة». فقال معاوية : فما أمركم به؟ قال : أمرنا أن نصبر حتى نلقاه. قال : فاصبروا حتى تَلْقوه.

ثمّ قال : يا معاوية تعيِّرنا بنواضحنا؟ والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله ، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ؛ ثمَّ دخلتَ أنت وأبوك كرهاً في الإسلام الذي ضربناكم عليه.

فقال معاوية : كأنّك تمنّ علينا بنصرتكم إيّانا ، فلله ولقريش بذلك المنّ والطول. ألستم تمنّون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول الله؟ وهو من قريش

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس : ٧٧٧ / ح ٢٦.

١٦٤

وهو ابن عمّنا ومنّا ، فلنا المنّ والطَّول أن جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا.

فقال قيس : إنَّ الله بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمةً للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافّة ، وإلى الجنّ ، والإنس ، والأحمر ، والأسود ، والأبيض ، اختاره لنبوّته ، واختصّه برسالته ، فكان أوّل من صدّقه وآمن به ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبو طالب يذبُّ عنه ويمنعه ، ويحول بين كفّار قريش وبين أن يردعوه أو يؤذوه ، وأمره أن يبلِّغ رسالة ربِّه ، فلم يزل ممنوعاً من الضيم والأذى حتى مات عمّه أبو طالب ، وأمر ابنه بموازرته ، فوازره ونصره ، وجعل نفسه دونه في كلِّ شديدة ، وكلِّ ضيق ، وكلِّ خوف ، واختصَّ الله بذلك عليّا عليه‌السلام من بين قريش ، وأكرمه من بين جميع العرب والعجم ، فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميع بني عبد المطّلب ، فيهم أبو طالب وأبو لهب ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخادمه عليّ عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجر عمِّه أبي طالب ، فقال : «أيّكم ينتدب أن يكون أخي ، ووزيري ، ووصيّي ، وخليفتي في أمّتي ، ووليّ كلِّ مؤمن بعدي؟».

فسكت القوم حتى أعادها ثلاثاً ، فقال عليٌّ عليه‌السلام : «أنا يا رسول الله صلّى الله عليك» فوضع رأسه في حجره ، وتفل في فيه ، وقال : «اللهمّ املأ جوفه علماً وفهماً وحكماً». ثمّ قال لأبي طالب : «يا أَبا طالب اسمع الآن لابنك وأطع فقد جعله الله من نبيِّه بمنزلة هارون من موسى» وآخى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين عليّ وبين نفسه. فلم يدع قيس شيئاً من مناقبه إلاّ ذكره واحتجَّ به.

وقال : منهم : جعفر بن أبي طالب الطيّار في الجنّة بجناحين ، اختصّه الله بذلك من بين الناس ، ومنهم : حمزة سيِّد الشهداء ، ومنهم : فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنّة. فإذا وضعتَ من قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته وعترته الطيِّبين ، فنحن ـ والله ـ خيرٌ منكم يا معشر قريش ، وأحبّ إلى الله ورسوله وإلى أهل بيته منكم ، لقد قُبض رسول الله فاجتمعت الأنصار إلى أبي ، ثمّ قالوا : نبايع سعداً ، فجاءت قريش فخاصمونا بحجّة عليّ وأهل بيته ، وخاصمونا بحقّه وقرابته ، فما يعدو قريشاً أن

١٦٥

يكونوا ظلموا الأنصار وظلموا آل محمد ، ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حقٌّ مع عليّ بن أبي طالب وولده من بعده.

فغضب معاوية ، وقال : يا ابن سعد عمّن أخذت هذا؟ وعمّن رويته؟ وعمّن سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟

فقال قيس : سمعته وأخذته ممّن هو خير من أبي ، وأعظم عليَّ حقّا من أبي. قال : مَن؟ قال : عليُّ بن أبي طالب ، عالم هذه الأمّة ، وصدّيقها الذي أنزل الله فيه : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١) ـ فلم يدع آية نزلت في عليّ إلاّ ذكرها.

قال معاوية : فإنَّ صدّيقها أبو بكر ، وفاروقها عمر ، والذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام.

قال قيس : أحقّ هذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (٢) والذي نصبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خُمّ فقال : «من كنت مولاه أولى به من نفسه ، فعليٌّ أولى به من نفسه» وقال في غزوة تبوك : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنَّه لا نبيَّ بعدي».

كلّ ما ذكره قيس في هذه المناظرة من الآيات النازلة في أمير المؤمنين ، والأحاديث النبويّة المأثورة في فضله ، أخرجها الحفّاظ والعلماء في المسانيد والصحاح ، نذكر كُلاّ منها في محلّه إن شاء الله ، كما مرّ بعضها.

قيس في خلقته :

إنَّ للأشكال والهيئات دخلاً في مواقع الأبّهة والإكبار ، فإنَّها هي التي تملأ

__________________

(١) الرعد : ٤٣.

(٢) هود : ١٧.

١٦٦

العيون بادئ بدء ، وهي أوّل ما يقع عليه النظر من الإنسان قبل كلّ ما انحنت عليه أضالعه ، من جأشٍ رابط ، وبطولة وبسالة ، ودهاء وحزم ، ولذلك قيل : إنَّ للهيئة قسطاً من الثمن ، وهذا في الملوك والأمراء ، وذوي الشؤون الكبيرة آكد ، فإنَّ الرعيّة تتفرّس في العظيم في جثّته عِظماً في معنويّاته ، وتترسّم منه كبر نفسيّاته ، وشدّة أمره ، ونفوذ عزائمه ، وترضخ له قَبل الضئيل ، الذي يحسب أنَّه لا حول له ولا طَول ، وأَنَّه يضعف دون إدارة الشؤون طوقه وأوقه (١) ، ولذلك إنَّ الله سبحانه لمّا عرّف طالوت لبني إسرائيل مَلِكاً عرّفه بأنّه أوتي بسطة في العلم والجسم ، فبعلمه يدير شئون الشعب الدينيّة والمدنيّة ، ويكون ما أُوتي من البسطة في الجسم ، من مؤكّدات الأبَّهة والهيبة ، التي هي كقوّة تنفيذيّة. لموادِّ العلم وشؤونه.

إنَّ سيِّد الأنصار قيساً ، لمّا لم يدع الله سبحانه شيئاً من صفات الفضيلة ظاهرةً وباطنةً إلاّ وجمعه فيه ، من علم وعمل ، وهدى وورع ، وحزم ، وسَداد ، وعقل ، ورأي ودهاء ، وذكاء ، وإمارة ، وحكومة ، ورئاسة ، وسياسة ، وبسالة ، وشهامة ، وسخاء ، وكرم ، وعدل ، وصلاح ، لم يشأ أنْ يخليه عن هذه الخاصّة المُرْبية بمقام العظماء.

فقال شيخنا الديلمي في إرشاده (٢) (٢ / ٣٢٥) : إنَّه كان رجلاً طوله ثمانية عشر شبراً في عرض خمسة أشبار ، وكان أشدَّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين.

وقال أبو الفرج (٣) : كان قيس رجلاً طُوالاً ، يركب الفرس المُشرف ورجلاه تخطّان في الأرض. ومرَّ (ص ٧٧) عن المنذر بن الجارود أنَّه رآه في الزاوية على فرس أشقر ، تخطُّ رجلاه في الأرض.

__________________

(١) الأوْق : الثقل.

(٢) إرشاد القلوب : ص ٣٨٠.

(٣) مقاتل الطالبيّين : ص ٧٩.

١٦٧

وقال أبو عمرو الكشّي في رجاله (١) (ص ٧٣) : كان قيس من العشرة الذين لحقهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من العصر الأوّل ، ممّن كان طولهم عشرة أشبار بأشبار أنفسهم ، وكان قيس وأبوه سعد طولهما عشرة أشبار بأشبارهم. وعن كتاب الغارات (٢) لإبراهيم الثقفي أنَّه قال : كان قيس طُوالاً ، أطول الناس وأمدّهم قامة ، وكان سِناطاً (٣) ، أصلع شيخاً ، شجاعاً ، مجرّباً ، مناصحاً لعليّ ولولده ، ولم يزل على ذلك إلى أن مات.

عدَّ الثعالبي في ثمار القلوب (٤) (ص ٤٨٠) من الأمثال الدائرة ، والمضافات المعروفة ، والمنسوب السائر : سراويل قيس. وقال : إنَّه يُضرب مثلاً لثوب الرجل الضخم الطويل.

وكان قيصر بعث إلى معاوية بعلج من علوج الروم ، طويل جسيم ، معجباً بكمال خِلقَته ، وامتداد قامته ، فعلم معاوية أَنَّه ليس لمطاولته ومقاومته إلاّ قيس بن سعد بن عبادة ، فإنَّه كان أجسم الناس وأطولهم. فقال له يوماً وعنده العلج : إذا أتيتَ رَحْلَكَ فابعث إليَّ بسراويلك. فعلم قيس مُراده ، فنزعها ورمى بها إلى العلج والناس ينظرون ، فلبِسها العِلج فطالت إلى صدره ، فعجب الناس ، وأطرق الرومي مغلوباً ، ولِيمَ قيس على ما فعل بحضرة معاوية ، فأنشد يقول :

أردتُ لكيما يعلمَ الناسُ أنَّها

سراويلُ قيسٍ والوفودُ شهودُ

وأن لا يقولوا غابَ قيسٌ وهذه

سراويلُ عادٍ قد نَمتْهُ ثمودُ

وإنّي من القوم اليمانينَ سيِّدٌ

وما الناسُ إلاّ سيِّدٌ ومسودُ

وبزَّ جميعَ الناس أصلي ومنصبي

وجسمٌ به أعلو الرجالَ مديدُ

__________________

(١) رجال الكشّي : ١ / ٣٢٧ رقم ١٧٧.

(٢) الغارات : ص ١٣٩.

(٣) السناط : الذي لا لحية له ، وقيل : هو الذي لا شعر في وجهه البتّة.

(٤) ثمار القلوب : ص ٦٠١ رقم ٩٩٩.

١٦٨

ورواها ابن كثير في البداية والنهاية (١) (٨ / ١٠٣) بتغيير فيها ، ثمّ قال : وفي رواية : إنَّ ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه ، يزعم أنّ أحدهما أقوى الروم والآخر أطول الروم ، فانظر هل في قومك من يفوقهما في قوّةهذا وطول هذا؟ فإن كان في قومك من يفوقهما ، بعثت إليكَ من الأسارى كذا وكذا ، ومن التحف كذا وكذا ، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول منهما ، فهادنّي ثلاث سنين.

فلمّا حضروا عند معاوية قال : من لهذا القويِّ؟ فقالوا : ما له إلاّ أحد رجلين : إمّا محمد بن الحنفيّة أو عبد الله بن الزبير ، فجيء بمحمد بن الحنفيّة ـ وهو ابن عليّ بن أبي طالب ـ فلمّا اجتمع الناس عند معاوية ، قال له معاوية : أتعلم فيمَ أرسلتُ إليك؟ قال : لا. فذكر له أمر الروميِّ ، وشدّة بأسه.

فقال للروميِّ : إمّا أن تجلسَ لي أو أجلسَ لك ، وتناولني يدك أو أُناولك يدي ، فأيّنا قدر على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه ، وإلاّ فقد غُلب. فقال له : ما ذا تريد ، تجلس أو أجلس؟ فقال له الروميُّ : بل اجلس أنت.

فجلس محمد بن الحنفيّة وأعطى الروميّ يده ، فاجتهد الروميّ بكلّ ما يقدر عليه من القوّة أنْ يزيله من مكانه ، أو يحرِّكه ليقيمه ، فلم يقدر على ذلك ولا وجد إليه سبيلاً ، فغُلب الروميُّ عند ذلك ، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنَّه قد غُلب.

ثمَّ قام محمد بن الحنفيّة ، فقال للروميِّ : اجلس لي. فجلس وأعطى محمداً يده ، فما أمهله أن أقامه سريعاً ، ورفعه في الهواء ثمّ ألقاه على الأرض ، فَسُرَّ بذلك معاوية سروراً عظيماً ، ونهض قيس بن سعد فتنحّى عن الناس ، ثمّ خلع سراويله وأعطاها لذلك الروميّ الطويل ، فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخطُّ بالأرض ، فاعترف الروميُّ بالغَلَب ، وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية.

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٠٩ حوادث سنة ٥٩ ه‍.

١٦٩

يستفيد القارئ من أمثال هذه الموارد من التاريخ ، أنَّ أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم ، كانوا هم المرجع لحلِّ المشكلات من كلِّ الوجوه ، كما أنّ مولاهم أمير المؤمنين عليه‌السلام كان هو المرجع الفذّ فيها لدى الصدر الأوّل.

وفاته :

قال الواقدي ، وخليفة بن خيّاط (١) ، والخطيب البغدادي في تاريخه (١ / ١٧٩) وابن كثير في تاريخه (٢) (٨ / ١٠٢) وغيرهم بكثير : إنّه تُوفّي بالمدينة في آخر خلافة معاوية. فإن عُدّت سنة وفاة معاوية من سنيّ خلافته ، فالمترجَم له تُوفّي في سنة ستِّين ، وإلاّ ففي تسع وخمسين ، ولعلَّ هذا منشأ تردُّد ابن عبد البرّ في الاستيعاب (٣) ، وابن الأثير في أُسد الغابة (٤) ، في تاريخ وفاته بين السنتين ، ففي الأوّل : إنَّه توفّي سنة ستِّين ، وقيل تسع وخمسين في آخر خلافة معاوية. وفي الثاني بالعكس ، وذكر ابن الجوزي (٥) سنة (٥٩) وتبعه ابن كثير في تاريخه ، وهناك قول لابن حبّان (٦) متروكٌ ، قال : إنَّه هرب من معاوية ومات سنة (٨٥) في خلافة عبد الملك. ذكره ابن حجر في الإصابة (٣ / ٢٤٩) ، واستصوب قول خليفة ومن وافقه.

بيت قيس :

كان في العصور المتقادمة آل قيس من أشرف بيوتات الأنصار ، وما زال مُنْبَثَقَ أنوار العلم والمجد في أدواره ، بين زعيم ، وحافظ ، وعالم ، ومحدِّث ، ومشفوع بالصلاح

__________________

(١) كتاب الطبقات : ص ١٦٧ رقم ٦٠٤.

(٢) البداية والنهاية : ٨ / ١١٠ حوادث سنة ٥٩ ه‍.

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٩٠ رقم ٢١٣٤.

(٤) أُسد الغابة : ٤ / ٤٢٦ رقم ٤٣٤٨.

(٥) المنتظم : ٥ / ٣١٨ رقم ٣٩٩.

(٦) الثقات : ٣ / ٣٣٩.

١٧٠

والقداسة ، منهم : أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عمّار بن يحيى بن العبّاس بن عبد الرحمن بن سالم بن قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري. ترجم له السمعاني في الأنساب (١) وقال : من أشرف بيت في الأنصار ، ومن أوحد مشايخ نيسابور في الثروة ، والعدالة ، والورع ، والقبول ، والإتقان في الرواية ، وأكثرهم طلباً للحديث ، والفهم والمعرفة ، سمع بنيسابور محمد بن رافع ، وإسحاق بن منصور ، وعبد الرحمن بن بشير بن الحكم. وبالعراق عمر بن شبّه النميريّ ، والحسن بن محمد ابن الصباح ، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي ، وأحمد بن سنان القطّان. وبالحجاز بحر بن نصر الخولاني. وبالريّ أبا زرعة ، ومحمد بن مسلم بن واره.

روى عنه أبو إسحاق إبراهيم بن عبدوس ، ومحمد بن شريك الأسفراييني ، وأبو أحمد إسماعيل بن يحيى بن زكريّا ، مات في جمادى الآخرة سنة (٣١٧) بنيسابور.

ومنهم : أبو بكر محمد بن أبي نصر أحمد بن العبّاس بن الحسن بن جبلة بن غالب بن جابر بن نوفل بن عِياض بن يحيى بن قيس بن سعد الأنصاري ، الشهير بالعياضي ـ بكسر العين ـ ذكره السمعاني في الأنساب (٢) ، وقال : من أهل سمرقند ، كان فقيهاً جليلاً ، من رؤساء البلدة ، والمنظور إليهم ، روى عن أبي عليّ محمد بن محمد بن الحرث الحافظ السمرقندي ، لقيه أبو سعد الإدريسي (٣) ولم يكتب عنه شيئاً (٤).

ومنهم : أبو أحمد بن أبي نصر العياضي أخو أبي بكر العياضي المذكور.

__________________

(١) الأنساب : ٢ / ٣٦٠.

(٢) الأنساب : ٤ / ٢٦٧.

(٣) أبو سعد عبد الرحمن بن محمد الاسترابادي ، نزيل سمرقند والمتوفّى بها في سلخ ذي الحجّة سنة (٤٠٥). (المؤلف)

(٤) وذكره وأخاه محيي الدين بن أبي الوفاء في الجواهر المُضيّة : ص ١٣ [٣ / ٣٦ رقم ١١٦٩]. (المؤلف)

١٧١

ومنهم : ابن المطَريّ أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى بن عسّاس بن يوسف بن بدر بن عثمان الأنصاري الخزرجي العبادي ، المدني.

قال أبو المعالي السلامي في المختار كما في منتخبه (ص ٧٢) : إنَّه من ولد قيس ابن سعد بن عبادة. كان حافظ وقته ، حسن الأخلاق ، كثير العبادة ، جميل العِشرة مع العلماء وروّاد العلم ، ارتحل في سماع الحديث إلى الشام ومصر والعراق ، ورأى في حياته كوارث ، نُهبت داره سنة (٧٤٢) وحُبس مدّة ثمّ أُطْلِقَ ، له كتاب الإعلام في من دخل المدينة من الأعلام ، سمع الحديث بالمدينة المشرَّفة من أبي حفص عمر بن أحمد السوداني ، وبالقاهرة من أبي الحسن عليّ بن عمر الواني ، ويوسف بن عمر الختني ، ويوسف بن محمد الدبابيسي ، وبالإسكندريّة من عبد الرحمن بن مخلوف بن جماعة ، وبدمشق من أحمد بن أبي طالب بن الشحنة ، والقاسم بن عساكر ، وأبي نصر ابن الشيرازي ، وببغداد من محمد بن عبد المحسن الدواليبي. توفِّي بالمدينة المشرَّفة في ربيع الأوّل سنة (٧٦٥) (١).

ومنهم : أبو العبّاس أحمد بن محمد بن عبد المعطي بن أحمد بن عبد المعطي بن مكّي بن طرد بن حسين بن مخلوف بن أبي الفوارس بن سيف الإسلام (٢) بن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، المكّي المالكيّ النحوي ، المولود سنة (٧٠٩) والمتوفّى في المحرّم سنة (٨٠٨) (٣) ، ترجم له السيوطي في بغية الوعاة (٤) (ص ١٦١).

(الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٥)

__________________

(١) أخذناها من منتخب المختار : ص ٧٢ ، الدرر الكامنة : ٢ / ٢٨٤ [رقم ٢٢٠١]. (المؤلف)

(٢) أحسب هنا سقطاً في النسب كما لا يخفى. (المؤلف)

(٣) في الدرر الكامنة : ١ / ٢٧٧ رقم ٧٠٩ : أنَّه توفّي سنة (٧٨٨ ه‍) وقد جاوز السبعين.

(٤) بغية الوعاة : ١ / ٣٧٢ رقم ٧٢٨.

(٥) النمل : ٥٩.

١٧٢

ـ ٤ ـ

عمرو بن العاص

المتوفّى سنة (٤٣)

معاويةُ الحالَ لا تجهلِ

وعن سُبُلِ الحَقِّ لا تعدِلِ

نسيتَ احتياليَ في جِلّقٍ (١)

على أهلِها يوم لُبْسِ الحُلِي

وقد أقبلوا زُمَراً يُهْرَعونَ

مهاليعَ كالبقرِ الجُفَّلِ (٢)

وقولي لهم إنَّ فرضَ الصلاةِ

بغيرِ وجودِكَ لمْ تُقبلِ

فَوَلَّوا ولم يعبئوا بالصلاةِ

ورمت النفار الى القَسْطَلِ (٣)

ولَمّا عصيتَ إمام الهدى

وفي جيشِهِ كلُّ مُستفحلِ

أَبالْبَقر البُكْمِ أهلِ الشآمِ

لأهلِ التقى والحجا أَبتلي؟

فقلت نعم قم فإنّي أرى

قتالَ المُفضَّل بالأفضلِ

فبي حاربوا سيِّدَ الأوصياءِ

بقولي دمٌ طُلَّ مِن نعثلِ (٤)

وكدتُ لهمْ أنْ أقاموا الرماحَ

عليها المصاحفُ في القَسْطَلِ

وعلّمتُهمْ كشفَ سوآتِهم

لردِّ الغَضَنفَرَةِ المُقبلِ

فَقامَ البغاةُ على حيدرٍ

وكفّوا عن المِشعَلِ المصطلي

__________________

(١) جِلّق : دمشق.

(٢) أهرع : أسرع. الهلع : الجزع. الجفل : النفر والشرد. (المؤلف)

(٣) القسطل : الغبار الساطع.

(٤) طلّ الدم : هدر أو لم يثأر له ، فهو طليل ، ومطلول ، ومطل. (المؤلف)

١٧٣

نسيتَ محاورةَ الأشعريِ

ونحنُ على دَوْمَةِ الجَنْدَلِ

ألينُ فيطمعُ في جانبي

وسهميَ قد خاضَ في المَقْتَلِ

خلعتُ الخلافةَ من حيدرٍ

كخَلعِ النعالِ من الأرجلِ

وألبستُها فيك بعد الإياس

كَلُبس الخواتيمِ بالأنمُلِ

ورقّيتُكَ المنبرَ المُشْمَخِرَّ

بلا حدِّ سيفٍ ولا مُنصِلِ

ولو لم تكن أنت من أهلِهِ

وربِّ المقام ولم تَكْمُلِ

وسيّرتُ جيشَ نفاقِ العراقِ

كَسَيْرِ الجَنوبِ مع الشمأَلِ

وسيّرتُ ذِكرَك في الخافقينِ

كَسَيرِ الحَميرِ مع المحملِ

وجهلُكَ بي يا ابنَ آكلةِ ال

كبودِ لأَعظَمُ ما أبتلي

فلو لا موازرتي لم تُطَعْ

ولولا وجوديَ لمْ تُقبَلِ

ولولايَ كنتَ كَمِثْلِ النساءِ

تعافُ الخروجَ من المنزلِ

نصرناك من جَهْلِنا يا ابن هندٍ

على النبإ الأعظمِ الأفضلِ

وحيث رفعناك فوقَ الرؤوسِ

نَزَلْنا إلى أسفلِ الأسفَلِ

وكمْ قد سَمِعْنا من المصطفى

وَصايا مُخصّصةً في علي

وفي يومِ خُمٍّ رقى منبراً

يُبلّغُ والركبُ لم يرحلِ (١)

وفي كفِّهِ كفُّهُ معلناً

يُنادي بأمرِ العزيزِ العلي

ألستُ بكم منكمُ في النفوسِ

بأولى فقالوا بلى فافعلِ

فَأَنْحَلهُ إمرَةَ المؤمنينَ

من اللهِ مُستخلف المُنحِلِ

وقال فمن كنتُ مولىً لَهُ

فهذا له اليومَ نعمَ الولي

فوالِ مُواليهِ يا ذا الجلا

لِ وعادِ مُعادي أخي المُرْسَلِ

ولا تَنْقضُوا العهدَ من عِترتي

فقاطِعُهُمْ بيَ لم يُوصِلِ

فَبخْبَخَ شيخُكَ لَمّا رأى

عُرى عَقْدِ حيدر لم تُحْلَلِ

__________________

(١) في بعض النسخ : وبلّغ والصحب لم تَرحل. (المؤلف)

١٧٤

فقالَ وليُّكُم فاحفظوهُ

فَمَدْخَلُهُ فيكمُ مَدْخَلي

وإنّا وما كان من فعلِنا

لفي النارِ في الدرَكِ الأسفلِ

وما دَمُ عثمانَ مُنْجٍ لنا

من اللهِ في الموقفِ الُمخجِلِ

وإنَّ عليّا غداً خصمُنا

ويعتزُّ باللهِ والمرُسَلِ (١)

يُحاسبُنا عن أمورٍ جَرَتْ

ونحنُ عن الحقِّ في مَعْزلِ

فما عُذْرُنا يومَ كشفِ الغطا

لكَ الويلُ منه غداً ثمّ لي

ألا يا ابن هندٍ أبِعتَ الجِنانَ

بعهدٍ عهدتَ ولم تُوفِ لي

وأخسرتَ أُخراك كيما تنالَ

يَسيرَ الحُطامِ من الأجزلِ

وأصبحتَ بالناسِ حتى استقام

لك الملكُ من ملِكٍ محولِ

وكنتَ كمُقتنصٍ في الشراكِ (٢)

تذودُ الظِّماءَ عن المنهلِ

كأنَّكَ أُنسِيتَ ليلَ الهريرِ

بصفِّينَ مَعْ هولِها المُهْولِ

وقد بتَّ تذرقُ ذَرقَ النعامِ

حذاراً من البطل المُقبلِ

وحين أزاحَ جيوشَ الضلالِ

وافاك كالأسد المُبسلِ

وقد ضاق منكَ عليكَ الخناقُ

وصارَ بكَ الرحبُ كالفلفلِ (٣)

وقولك يا عمرو أين المفَرُّ

من الفارسِ القَسْوَرِ المُسبلِ

عسى حيلةٌ منك عن ثنيِهِ

فإنَّ فؤاديَ في عسعلِ

وشاطرتني كلَّ ما يستقيمُ

من المُلْكِ دهرَكَ لم يكملِ

فقمتُ على عَجْلَتي رافعاً

وأكشِفُ عن سوأتي أَذْيُلِي

فستّرَ عن وجهِهِ وانثنى

حياءً وروعُكَ لم يعقلِ

وأنتَ لخوفِكَ من بأسِهِ

هناك مُلئت من الأفكلِ (٤)

__________________

(١) في رواية الخطيب التبريزي : سيحتجّ بالله والمرسل. (المؤلف)

(٢) اقتنص الطير أو الظبي : اصطاده. (المؤلف)

(٣) الفلفل : القرب بين الخطوات. (المؤلف)

(٤) الأفكل : الرعدة من الخوف. (المؤلف)

١٧٥

ولَمّا ملكتَ حُماة الأنامِ

ونالتْ عصاك يدَ الأوّلِ

منحتَ لِغيريَ وزنَ الجبالِ

ولم تُعْطِني زِنةَ الخردلِ

وأَنْحَلْتَ مصراً لعبد الملك (١)

وأنت عن الغيِّ لم تَعدِلِ

وإن كنتَ تطمعُ فيها فقدْ

تخلّى القَطا من يَدِ الأجدلِ

وإن لم تسامحْ إلى ردِّها

فإنّي لحَوبِكمُ مُصطلي

بِخَيْلٍ جيادٍ وشُمِّ الأُنوفِ

وبالمُرهَفات وبالذبّلِ

وأكشفُ عنك حجابَ الغرورِ

وأوقظُ نائمةَ الأثكلِ

فإنَّك من إمرةِ المؤمنينَ

ودعوى الخلافةِ في مَعْزلِ

ومالك فيها ولا ذرّةٌ

ولا لِجدُودك بالأوّل

فإن كانَ بينكما نِسْبةٌ

فأينَ الحُسامُ من المِنجلِ

وأين الحصى من نجوم السما

وأين معاويةٌ من علي

فإن كنتَ فيها بلغتَ المُنى

ففي عُنقي عَلَقُ الجلجلِ (٢)

ما يتبعُ الشعر

هذه القصيدة المسمّاة بالجلجليّة ، كتبها عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان ، في جواب كتابه إليه يطلب خراج مصر ويعاتبه على امتناعه عنه ، توجد منها نسختان في مجموعتين في المكتبة الخديويّة بمصر ، كما في فهرستها المطبوع سنة (١٣٠٧) (٤ / ٣١٤). وروى جملةً منها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (٣) (٢ / ٥٢٢) ، وقال : رأيتها بخطّ أبي زكريّا يحيى (٤) بن عليّ الخطيب التبريزيّ : المتوفّى (٥٠٢).

__________________

(١) عبد الملك بن مروان والد الخلفاء الأمويين. (المؤلف)

(٢) مثل يضرب [لِمن يُشهر نفسه ويخاطر بها بين القوم] ، راجع مجمع الأمثال للميداني : ص ١٩٥ [٣ / ٢٠٩ رقم ٣٦٩٤]. (المؤلف)

(٣) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٥٦ خطبة ١٧٨.

(٤) أحد أئمة اللغة والنحو ، قال ابن ناصر : كان ثقة في النقل وله المصنّفات الكثيرة. كذا ترجم له ابن كثير في تاريخه : ١٢ / ١٧١ [١٢ / ٢١١ حوادث سنة ٥٠٢ ه‍]. (المؤلف)

١٧٦

وقال الإسحاقي في لطائف أخبار الدول (١) (ص ٤١) : كتب معاوية إلى عمرو بن العاص : أنَّه قد تردّد كتابي إليك بطلب خراج مصر ، وأنت تمتنع وتدافع ولم تسيِّره ، فسيِّره إليَّ قولاً واحداً ، وطلباً جازماً ، والسلام.

فكتب إليه عمرو بن العاص جواباً ، وهي القصيدة الجلجليّة المشهورة التي أوّلها :

معاويةُ الفضلَ لا تنسَ لي

وعن نهجِ الحقِّ لا تَعْدِلِ

نَسِيتَ احتياليَ في جِلِّقٍ

على أهلِها يومَ لُبْس الحُلي

وقد أقبلوا زُمَرَاً يُهْرَعون

ويأتون كالبَقَر المُهّلِ

ومنها أيضاً :

ولولايَ كنتَ كمثِلِ النساءِ

تَعافُ الخروجَ من المنزلِ

نسيتَ مُحاورةَ الأشعريِ

ونحنُ على دَومةِ الجَندلِ

وأَلْعَقْتُهُ عَسَلاً بارداً

وأمزجتُ ذلكَ بالحنظلِ (٢)

ألينُ فيطمعُ في جانبي

وسهميَ قَدْ غابَ في المِفْصلِ

وأخلعتُها منهُ عن خُدعةٍ

كَخَلْع النَعالِ من الأرجلِ

وألبستُها فيك لمّا عَجزْتَ

كَلُبس الخواتيمِ في الأَنْمُلِ

ومنها أيضاً :

ولم تكُ واللهِ من أهلِها

وربِّ المقامِ ولم تَكمُلِ

وسيّرتُ ذِكْرَكَ في الخافقينِ

كَسَيْرِ الجنوبِ مع الشمألِ

نصرناكَ من جهلِنا يا ابن هندٍ

على البطلِ الأعظمِ الأفضلِ

__________________

(١) لطائف أخبار الدول : ص ٦١.

(٢) في رواية الخطيب التبريزي : [ ] فألمظه عسلاً بارداً [ ] وأخبئ من تحته حنظلي [ ] (المؤلف)

١٧٧

وكنتَ ولم تَرَها في المنامِ

فزُفّتْ إليكَ ولا مهر لي

وحيثُ تَركنا أعالي النفوسِ

نَزَلْنا إلى أسفلِ الأرجلِ

وكم قد سَمِعْنا من المصطفى

وصايا مُخَصَّصَةً في علي

ومنها أيضاً :

وإن كانَ بينكما نِسبةٌ

فأين الحسامُ من المِنجلِ

وأين الثريّا وأين الثرى

وأين معاويةٌ من علي

فلمّا سمع معاوية هذه الأبيات ، لم يتعرّض له بعد ذلك. انتهى.

وذكر الشيخ محمد الأزهري في شرح مغني اللبيب (١ / ٨٢) هذه الأبيات برمّتها حرفيّا ، نقلاً عن تاريخ الإسحاقي (١) ، غير أنَّه حذف قوله :

وحيث تركنا أعالي النفوس

نزلنا إلى أسفل الأرجلِ

وذكر منها ثلاثة عشر بيتاً ابن شهرآشوب في المناقب (٢) (٣ / ١٠٦).

وأخذ منها السيِّد الجزائري في الأنوار النعمانيّة (٣) (ص ٤٣) عشرين بيتاً.

وذكرها برمّتها الزنوزي في الروضة الثانية من رياض الجنّة وقال : هذه القصيدة تسمّى بالجلجليّة لما في آخرها : وفي عنقي عَلَقُ الجلجلِ.

وخمّسها بطولها الشاعر المُفْلِق الشيخ عبّاس الزيوري البغدادي ، وقفت عليه في ديوانه المخطوط المصحَّح بقلمه ، ويوجد التخميس في إحدى نسختي المكتبة الخديويّة بمصر.

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (٤)

__________________

(١) لطائف أخبار الدول : ص ٦١.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢١٦.

(٣) الأنوار النعمانية : ١ / ١٢١.

(٤) آل عمران : ١٦٧.

١٧٨

مهمّات مصادر ترجمة

عمرو بن العاص

صحيح البخاري.

صحيح مسلم [١ / ١٥٤ ح ١٩٢ كتاب الإيمان].

سنن أبي داود.

سنن الترمذي.

سنن النسائي.

كتاب سُليم بن قيس [ص ٢١٦ ، ٢١٨ ٢١٩].

السيرة النبويّة لابن هشام [٣ / ٢٨٩].

عيون الأخبار لابن قتيبة [١ / ٣٧ ، ٢ / ١٦٩ ، ٣ / ٢٨٤].

المعارف لابن قتيبة [ص ٢٨٥].

الإمامة والسياسة لابن قتيبة [١ / ٩٥].

المحاسن والأضداد للجاحظ [ص ٧٩].

البيان والتبيين للجاحظ [٢ / ٢٠٦].

الأنساب لأبي عبيدة.

أنساب الأشراف للبلاذري [٢ / ٢٨٢ ٢٩٠].

بلاغات النساء لابن أبي طاهر طيفور [ص ٤٣].

الكامل للمبرّد [١ / ٢١٩ ٢٢١].

المثالب للكلبي.

تاريخ اليعقوبي [٢ / ٢٩].

الإمتاع والمؤانسة لأبي حيّان [٣ / ١٨١ ، ١٨٣].

الأغاني لأبي الفرج [٩ / ٦٩].

الطبقات لابن سعد [٤ / ٢٥٤].

١٧٩

العقد الفريد لابن عبد ربّه [١ / ٢٢٥].

مروج الذهب للمسعودي [٢ / ٣٧١].

المستدرك للحاكم النيسابوري [٣ / ٥١٢ ح ٥٩٠٤].

المحاسن والمساوئ للبيهقي [ص ٥٢ ٥٤].

الاستيعاب لابن عبد البرّ [القسم الثالث / ١١٨٤ رقم ١٩٣١].

تاريخ الطبري [٤ / ٥٥٨ حوادث سنة ٣٦ ه‍].

تاريخ دمشق لابن عساكر [١٣ / ٤٩٣ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١ / ٢٣٢].

ربيع الأبرار للزمخشري [١ / ٦٩٠ ، ٢ / ١٩ ، ٣ / ٥٤٨].

الخصائص للوطواط [ص ٣٣١].

التفسير الكبير للفخر الرازي [٣٢ / ١٣٢].

الترغيب والترهيب للمنذري [٢ / ١٦٣ ح ٤ كتاب الحج].

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد [٦ / ٢٨١ خطبة ٨٣].

الكامل لابن الأثير [٢ / ٣٥٨ حوادث سنة ٣٦ ه‍].

البداية والنهاية لابن كثير [٨ / ٢٨ حوادث سنة ٤٣ ه‍].

تمييز الطيِّب من الخبيث لابن الديبع.

تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي [ص ٢٠١].

ثمرات الأوراق لابن حجّة [ص ٦٢].

السيرة النبويّة للحلبي [٢ / ٢٠١].

تاريخ روض المناظر لابن شحنة [١ / ٢٢٩].

نور الأبصار للشبلنجي [ص ١٩٢].

جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت [٢ / ٢٥ رقم ١٨].

جمهرة رسائل العرب لأحمد زكي صفوت [١ / ٣٨٨].

دائرة المعارف لفريد وجدي [٦ / ٧٤١].

١٨٠