الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الله به وكفانا أمره ، وأمّا أنت فإنَّك في أيدينا نختار فيك الخصال ، ولو قتلناك ما كان علينا إثمٌ من الله ، ولا عيبٌ من الناس ، فهل تستطيع أن تردَّ علينا وتكذِّبنا؟ فإن كنت ترى لأنّا كذبنا في شيء فاردُدْهُ علينا فيما قلنا ، وإلاّ فاعلم أنَّك وأباك ظالمان.

فتكلّم الحسن بن عليّ عليهما‌السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ـ إلى أن قال لعمرو بعد جُمل ذكرت (ص ١٢٢) ـ :

«وقاتلتَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع المشاهد ، وهجوتَه وآذيتَه بمكّة ، وكِدْتَه كَيْدَك كلّه ، وكنت من أشدِّ الناس له تكذيباً وعداوةً ، ثمَّ خرجتَ تريد النجاشيَّ مع أصحابِ السفينة ، لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكّة ، فلمّا أخطأكَ ما رجوتَ ، ورجعك الله خائباً ، وأكذَبَك واشياً. جعلتَ حسدَكَ على صاحبك عمارة بن الوليد ، فوشيتَ به إلى النجاشي ، حسداً لما ارتكب من حليلته ، ففضحكَ الله وفضحَ صاحبك ، فأنت عدوُّ بني هاشم في الجاهليّة والإسلام ، ثمّ إنّك تعلم ، وكلُّ هؤلاء الرهط يعلمون : أنَّك هجوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعين بيتاً من الشعر ، فقال رسول الله : اللهمّ إنّي لا أقول الشعر ولا ينبغي لي ، اللهمّ العنه بكلِّ حرف ألف لعنة. فعليك إذن من الله ما لا يُحصى من اللعن.

وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان ، فأنت سعّرت عليه الدنيا ناراً ، ثمَّ لحقتَ بفلسطين ، فلمّا أتاك قتله قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكأتُ ـ أي : قشرت ـ قرحةً أدميتها. ثمّ حبستَ نفسك إلى معاوية ، وبعتَ دينك بدنياه ، فلسنا نلومك على بغض ، ولا نعاتبك على وُدّ ، وبالله ما نصرتَ عثمان حيّا ، ولا غضبت له مقتولاً.

ويحك يا ابن العاص ألست القائل في بني هاشم لمّا خرجت من مكّة إلى النجاشي :

تقول ابنتي أين هذا الرحيلُ

وما السيرُ منِّي بمُسْتَنكَرِ

٢٠١

فقلتُ ذَرِيني فإنّي امرؤٌ

أريد النجاشيّ في جعفرِ

لِأكْوِيَهُ عندَهُ كَيّةً

أُقيم بها نخوةَ الأصعرِ(١)

وشانئُ أحمد من بينهم

وأقْوَلُهمْ فيه بالمُنكرِ

وأجري إلى عتبةَ جاهداً

ولو كان كالذهبِ الأحمرِ

ولا أنثني عن بني هاشمٍ

وما اسطعتُ في الغَيْبِ والمحضرِ

فإن قَبِلَ العَتبَ منّي له

وإلاّ لويتُ له مِشفري»(٢)

تذكرة سبط ابن الجوزي) (٣) (ص ١٤) ، شرح ابن أبي الحديد(٤) (٢ / ١٠٣) ، جمهرة الخطب(٥) (٢ / ١٢).

بيان :

قوله عليه‌السلام : «لتأتي بجعفر وأصحابه إلى مكّة» يشير إلى هجرته الثانية إلى الحبشة وقد هاجر إليها من المسلمين نحو ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة. وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب ، ولمّا رأت قريش ذلك ، أرسلت في أثرهم عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد بهدايا إلى النجاشيِّ وبطارقته ليسلّم المسلمين ، فرجعا خائبين ، وأبى النجاشيُّ أن يَخفِر ذمّته.

قوله عليه‌السلام : «لما ارتكب من حليلته». ذلك : أنّ عمراً وعمارة ركبا البحر إلى الحبشة ، وكان عمارة جميلاً وسيماً تهواه النساء ، وكان مع عمرو بن العاص امرأته ، فلمّا صاروا في البحر ليالي أصابا من خمر معهما ، فانتشى عمارة ، فقال لامرأة عمرو : قبِّليني. فقال لها عمرو : قبِّلي ابن عمِّك. فقبّلته ، فَهَوِيَها عمارة وجعل يراودها عن

__________________

(١) الأصعر : المتكبر.

(٢) لوى الحبل : لوت الناقة بذنبها وألوت : حرّكته السفر: الشدّة والمنعة.(المؤلف)

(٣) تذكرة الخواص : ص ٢٠٠.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٦/٢٩١ خطبة ٨٣.

(٥) جمهرة خطب العرب : ٢/٢٧ رقم ١٨.

٢٠٢

نفسها ، فامتنعت منه ، ثمّ إنَّ عمراً جلس على منجاف (١) السفينة يبول ، فدفعه عمارة في البحر ، فلمّا وقع عمرو سبح حتى أخذ بمنجاف السفينة ، وضغن على عمارة في نفسه ، وعلم أنَّه كان أراد قتله ، ومضيا حتى نزلا الحبشة ، فلمّا اطمأنّا بها لم يلبث عمارة أن دبّ لامرأة النجاشيِّ فأدخلته ، فاختلف إليها ، وجعل إذا رجع من مدخله ذلك يخبر عمراً بما كان من أمره ، فيقول عمرو : لا أصدِّقك أنَّك قدرت على هذا! إنَّ شأن هذه المرأة أرفع من ذلك.

فلمّا أكثر عليه عمارة بما كان يخبره ، ورأى عمرو من حاله وهيئته ومبيته عندها ، حتى يأتي إليه من السحر ما عرف به ذلك ، قال له : إن كنت صادقاً فقل لها : فلتدهنك بدهن النجاشيِّ الذي لا يَدّهِنُ به غيره ، فإنّي أعرفه ، وآتني بشيء منه حتى أصدِّقك. قال : أفعل. فسألها ذلك ، فدهنته منه ، وأعطته شيئاً في قارورة. فقال عمرو : أشهد أنَّك قد صدقت ، لقد أصبت شيئاً ما أصاب أحدٌ من العرب مثله قطُّ : امرأة الملك! ما سمعنا بمثل هذا. ثمَّ سكت عنه حتى اطمأن ، ودخل على النجاشي فأعلمه شأن عمارة ، وقدّم إليه الدهن. فلمّا أثبت أمره ، دعا بعمارة ، ودعا نسوة أُخر ، فجرّدوه من ثيابه ، ثمّ أمرهنَّ ينفخن في إحليله ، ثمّ خلّى سبيله ، فخرج هارباً.

عيون الأخبار لابن قتيبة (١ / ٣٧) ، الأغاني (٢) (٩ / ٥٦) ، شرح النهج لابن أبي الحديد (٣) (٢ / ١٠٧) ، قصص العرب (٤) (١ / ٨٩) (٥).

__________________

(١) منجاف السفينة : سكانها الذي تعدل به (المولف)

(٢) الأغاني : ٩ / ٦٩.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٣٠٤ خطبة ٨٣.

(٤) قصص العرب : ١ / ٩٨ رقم ٣٥.

(٥) وهناك رواية أخرى رواها الرواة بإيجاز واختصار وحذفوا منها الكثير ، رواها ابن سعد بإسناده في كتاب الطبقات في ترجمة الإمام الحسن ٧ برقم ١٣٦ وهي :

لمّا بايع الحسن بن علي ٧ معاوية ، قال له عمرو بن العاص وأبو الأعور السلمي ـ عمرو بن

٢٠٣

١٠ ـ

كتاب ابن عبّاس إلى عمرو

كتب ابن عبّاس مجيباً عمرو بن العاص :

أمّا بعد : فإنّي لا أعلم رجلاً من العرب أقلَّ حياءً منك ، إنّه مال بك معاوية إلى الهوى ، وبعته دينك بالثمن اليسير ، ثمّ خبطَتَ بالناس في عَشْوةٍ طمعاً في الملك ، فلمّا لم ترَ شيئاً ، أعظمتَ الدنيا إعظام أهل الذنوب ، وأظهرتَ فيها نزاهة أهل الورع ، لا تريد بذلك إلاّ تمهيد الحرب وكسر أهل الدين ، فإن كنتَ تريد اللهَ بذلك فدعْ مصر ، وارجع إلى بيتك ، فإنَّ هذه الحرب ليس فيها معاوية كعليّ ، بدأها عليٌّ بالحقِّ ، وانتهى فيها إلى العُذرِ ، وبدأها معاوية بالبغي ، وانتهى فيها إلى السرَف ، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام ، بايع أهل العراق عليّا وهو خيرٌ منهم ، وبايع أهل الشام معاوية وهم خيرٌ منه ، ولستُ أنا وأنت فيها بسواء ، أردتُ الله ، وأردتَ أنت مصر ، وقد عرفت الشيء الذي باعدك منِّي ، وأعرفُ الشيء الذي قرّبك من معاوية ، فإن تُرد

__________________

سفيان ـ : لو أمرت الحسن فصعد المنبر فتكلّم عيي عن المنطق! فيزهد فيه الناس.

فقال معاوية : لا تفعلوا ، فو الله لقد رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلّم يمصّ لسانه وشفتيه ، ولن يعيا لسان مصّه النبيّ صلي الله عليه وسلّم أو شفتان ، فأبوا على معاوية ... فقالا : لو دعوته فاستنطقته. فقال : مهلاً ، فأتوا فدعوه فأجابهم ، فأقبل عليه عمرو بن العاص فقال له الحسن : أمّا أنت فقد اختلف فيك رجلان : رجل من قريش ، وجزّار أهل المدينة ، فادّعياك فلا أدري أيّهما أبوك!.

وأقبل عليه أبو الأعور السلمي ـ عمرو بن سفيان ـ فقال له الحسن : ألم يلعن رسول الله صلي الله عليه وسلّم رعلاً وذكوان وعمرو بن سفيان؟!

ثم أقبل معاوية يعين القوم! فقال الحسن ٧ : أما علمت أنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلّم لعن قائد الأحزاب وسائقهم وكان أحدهما أبو سفيان ، والأخر أبو الأعور السلمي؟

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير في ترجمة الإمام الحسن ٧ : ٣ / ٧٢ ح ٢٦٩٩ بأوجز ممّا مرّ ، ورواه في ح ٢٦٩٨ بلفظ آخر. ورواه : ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة أبي الأعور السلمي. ورواه الذهبي في تاريخ الإسلام ترجمة الإمام الحسن ٧ : ٤ / ٣٩ ، مجمع الزوائد : ١ / ١١٣ و ٩ / ١٧٨. (الطباطبائي)

٢٠٤

شرّا لا نسبقك به ، وإن تُرد خيراً لا تسبقنا إليه.

ثمّ دعا الفضل بن عبّاس فقال له : يا ابن أمّ أجب عمراً ، فقال الفضل :

يا عمرو حسبُكَ من خدعٍ ووسواسٍ

فاذهبْ فليس لداءِ الجهل من آسِ (١)

إلاّ تواتر طعنٍ في نحورِكُمُ

يُشجي النفوسَ ويشفي نخوةَ الراسِ

هذا الدواءُ الذي يشفي جماعتَكمْ

حتى تطيعوا عليّا وابن عبّاسِ

أمّا عليٌّ فإنَّ الله فضّلَهُ

بفضلِ ذي شرفٍ عالٍ على الناسِ

إن تعقِلوا الحربَ نعقْلها مخيّسةً (٢)

أو تبعثوها فإنّا غيرُ أنكاسِ

قد كان منّا ومنكم في عجاجتِها

ما لا يُردّ وكلٌّ عُرضةُ الباسِ

قتلى العراقِ بقتلى الشامِ ذاهبةٌ

هذا بهذا وما بالحقِّ من باسِ

لا بارك اللهُ في مصرٍ لقد جلبتْ

شرّا وحظُّك منها حسوةُ الكاسِ (٣)

يا عمرو إنَّكَ عارٍ من مغانمِها

والراقصاتِ ومن يوم الجزا كاسي

الإمامة والسياسة (٤) (١ / ٩٥) ، كتاب صفّين (٥)) (ص ٢١٩) ، شرح ابن أبي الحديد (٦) (٢ / ٢٨٨).

وهناك أبياتٌ تُعزى إلى حَبر الأمّة ابن عبّاس في كتاب صفِّين لابن مزاحم (٧) (ص ٣٠٠) ذكر فيها عمراً بكلِّ قول شائن.

__________________

(١) أسا أسواً ، وأسا الجرح : داواه. (المؤلف)

(٢) خيّس : ذلّل. يقال : خيّس الجمل : راضه وذلّله بالركوب. (المؤلف)

(٣) الحسوة ، المرّة من حسا : الجرعة الواحدة ، الجمع : حسوات. (المؤلف)

(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٩.

(٥) وقعة صفّين : ص ٤١٢.

(٦) شرح نهج البلاغة : ٨ / ٦٤ خطبة ١٢٤.

(٧) وقعة صفّين : ص ٥٥٠.

٢٠٥

١١ ـ

ابن عبّاس وعمرو

حجَّ عمرو بن العاص ، فمرَّ بعبد الله بن عبّاس فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له ، وموقعه من قلوبهم ، فقال له : يا ابن عبّاس ما لَكَ إذا رأيتَني ولّيتني قصَرة (١) ، كأنّ بين عينيك دَبَرة (٢) وإذا كنت في ملأ من الناس كنتَ الهَوهاة (٣) الهُمَزَة (٤).

فقال ابن عبّاس : لأنّك من اللئام الفجرة ، وقريشٌ من الكرام البررة ، لا ينطقون بباطلٍ جهلوه ، ولا يكتمون حقّا علموه ، وهم أعظم الناس أحلاماً ، وأرفع الناس أعلاماً ، دخلتَ في قريش ولست منها ، فأنت الساقطُ بين فراشين ، لا في بني هاشم رحلُكَ ، ولا في بني عبدِ شمس راحلتُك ، فأنت الأثيم الزنيمُ ، الضالُّ المضلُّ ، حملك معاوية على رقاب الناس ، فأنت تسطو بحلمه ، وتسمو بكرمه. فقال عمرو : أما والله إنّي لمسرورٌ بك فهل ينفعني عندك؟ قال ابن عبّاس : حيث مال الحقُّ مِلْنا ، وحيث سلك قصدنا. العقد الفريد (٥) (٢ / ١٣٦)

١٢ ـ

ابن عبّاس وعمرو

حضر عبد الله بن جعفر مجلس معاوية وفيه عبد الله بن عبّاس وعمرو بن العاص ، فقال عمرو : قد جاءكم رجلٌ كثيرُ الخلوات بالتمنّي ، والطرَبات بالتغنّي ، محبٌ

__________________

(١) القصَر والقصَرة ـ بفتح الصاد ـ : الكسل. (المؤلف).

(٢) الدَبَرة ـ بفتح المهملة والموحّدة ـ : قرحة الدابّة تحدث من الرحل ونحوه ، والجمع دَبَرٌ وأدْبار. (المؤلف).

(٣) الهوهاة : ضعيف القلب ، الأحمق. (المؤلف).

(٤) همز الشيطان الإنسان : همس في قلبه وسواساً. (المؤلف).

(٥) العقد الفريد : ٣ / ٢٠٣.

٢٠٦

للقيان ، كثيرٌ مزاحه ، شديدٌ طماحه ، صدودٌ عن الشبان (١) ، ظاهر الطيش ، رخيّ العيش ، أخّاذٌ بالسلف ، منفاق بالسرف.

فقال ابن عبّاس : كذبت والله أنت ، وليس كما ذكرت ، ولكنّه : لله ذَكورٌ ، ولنعمائه شكورٌ ، وعن الخنا زجورٌ ، جوادٌ كريمٌ ، سيِّدٌ حليمٌ ، إذا رمى أصاب ، وإذا سُئل أجاب ، غير حَصِرٍ ولا هيّاب ، ولا عيّابة مغتاب ، حلَّ من قريش في كريم النصاب ، كالهِزَبْر الضرغام ، الجريء المقدام ، في الحسب القَمقام ، ليس بدعيٍّ ولا دنيء ، لا كمن اختصم فيه من قريش شرارُها ، فغلبَ عليه جزّارُها ، فأصبح ألأمَها حسباً ، وأدناها منصباً ، ينوء منها بالذليل ، ويأوي منها إلى القليل ، مُذَبذَبٌ بين الحيَّين ، كالساقط بين المهدين ، لا المضطرُّ فيهم عرفوه ، ولا الظاعن عنهم فقدوه ، فليت شعري بأيِّ قَدْرٍ تتعرّض للرجال؟ وبأيِّ حسَب تَعْتَدُّ به تبارز عند النضال؟ أبنفسِك؟ وأنت الوغد اللئيم ، والنكِدُ الذميم ، والوضيعُ الزنيم ، أم بمن تُنمى إليهم؟ وهم أهلُ السفه والطيش ، والدناءة في قريش ، لا بشرفٍ في الجاهليّة شُهروا ، ولا بقديمٍ في الإسلام ذُكروا ، جعلتَ تتكلّمُ بغيرِ لسانِكَ ، وتنطِقُ بالزورِ في غير أقرانِك ، والله لَكانَ أبينَ للفضلِ ، وأبعدَ للعدوانِ أن ينزلَكَ معاويةُ منزلةَ البعيدِ السحيقِ ، فإنّه طالما سلسَ داؤك ، وطمحَ بك رجاؤك إلى الغاية القصوى التي لم يخضرَّ فيها رعيُك ، ولم يورِق فيها غصنُكَ.

فقال عبد الله بن جعفر : أقسمتُ عليك لمّا أمسكت ، فإنّك عنّي ناضلتَ ، ولي فاوضت. فقال ابن عبّاس : دعني والعبدَ ، فإنّه قد يهدرُ خالياً إذ لا يجدُ مرامياً ، وقد أُتيح له ضيغمٌ شرس ، للأقرانِ مفترس ، وللأرواح مختلس. فقال عمرو بن العاص : دعني يا أمير المؤمنين أنتصف منه ، فو الله ما تركَ شيئاً. قال ابن عبّاس : دعه فلا يبقي المبقي إلاّ على نفسه ، فو الله إنَّ قلبي لشديد ، وإنَّ جوابي لعتيد ، وبالله الثقة ، وإنِّي لَكَما

__________________

(١) كذا في المحاسن والأضداد ، وفي المحاسن والمساوئ : السِّنان.

٢٠٧

قال نابغة بني ذبيان :

وقِدماً قد قَرَعْتُ وقارعوني

فما نَزَرَ الكلامُ ولا شَجاني

يصدُّ الشاعرُ العرّافُ عنّي

صدودَ البِكر عن قرمٍ هِجانِ

هذا الحديث : أخرجه الجاحظ في المحاسن والأضداد (١) (ص ١٠١) ، والبيهقي في المحاسن والمساوئ (٢) (١ / ٦٨).

وقد مرَّ (ص ١٢٥) عن ابن عساكر (٣) لعبد الله بن أبي سفيان نحوه ، وفي بعض ألفاظه تصحيفٌ يُصحّح بهذا.

١٣ ـ

معاوية وعمرو

لمّا علم معاوية أنَّ الأمر لا يتمّ له إن لم يبايعه عمرو ، فقال له : يا عمرو اتّبعني. قال : لما ذا ، للآخرة؟ فو الله ما معك آخرة ، أم للدنيا؟ فو الله لا كان حتى أكون شريكك فيها. قال : فأنت شريكي فيها. قال : فاكتب لي مصر وكورَها. فكتب له مصر وكورَها ، وكتب في آخر الكتاب : وعلى عمرو السمع والطاعة. قال عمرو : واكتب : إنَّ السمع والطاعة لا ينقصانِ من شرطِه شيئاً. قال معاوية : لا ينظرُ الناس إلى هذا. قال عمرو : حتى تكتب. قال : فكتب ، وو الله ما يجد بُدّا من كتابتها.

ودخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلّم عمراً في مصر ، وعمرو يقول له : إنّما أبايعك بها ديني. فقال عتبة : ائتمن الرجل بدينه ، فإنّه صاحبٌ من أصحاب محمد. وكتب عمرو إلى معاوية :

__________________

(١) المحاسن والأضداد : ص ٨٧.

(٢) المحاسن والمساوئ : ص ٩٠.

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٩ / ٣٦٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ٢٣٩.

٢٠٨

معاويَ لا أُعطيكَ ديني ولم أنَلْ

به منك دنياً فانظرَنْ كيف تصنعُ

ومَا الدينُ والدنيا سواءٌ وإنّني

لآخذُ ما تُعطي ورأسي مُقَنَّعُ

فإن تُعطني مصراً فأربحُ صفقةٍ

أخَذْتَ بها شيخاً يَضُرُّ وينفُعُ

العقد الفريد (١) (٢ / ٢٩١)

١٤ ـ

معاوية وعمرو

بصورة مفصّلة :

كتب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى معاوية بن أبي سفيان يدعوه إلى بيعته ، فاستشار معاوية أخاه عتبة بن أبي سفيان ، فقال له : استعن بعمرو بن العاص ، فإنّه من قد علمتَ في دهائهِ ورأيهِ ، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته ، وهو لأمرِكَ أشدُّ اعتزالاً ، إلاّ أن تُثْمِنَ له بدينه فسيبيعك ، فإنّه صاحب دنيا. فكتب إليه معاوية وهو بالسبع من فلسطين :

أمّا بعدُ : فإنّه قد كان من أمر عليٍّ وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة (٢) أهل البصرة ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة عليّ ، وقد حبستُ نفسي عليك حتى تأتيني ، أقبِلْ أُذاكِرْك أمراً.

فلمّا قرأ الكتاب ، استشار ابنيه عبد الله ومحمداً ، فقال لهما : ما تريان؟ فقال عبد الله : أرى أنَّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قُبض وهو عنك راضٍ ، والخليفتان من بعده ، وقُتل عثمان وأنت عنه غائبٌ ، فَقرَّ في منزلك فلستَ مجعولاً خليفة ، ولا تريد أن تكون حاشيةً لمعاوية على دنياً قليلة أوشك أن تهلك فتشقى فيها.

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١٤٤.

(٢) الرافضة : كلّ جند تركوا قائدهم. (المؤلف)

٢٠٩

وقال محمد : أرى أنَّك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وإنْ تَصَرّمَ هذا الأمر وأنت فيه خاملٌ تصاغر أمرك ، فالحق بجماعة أهل الشام فكن يداً من أيديها ، واطلب بدم عثمان ، فإنّك قد استنمت فيه إلى بني أميّة.

فقال عمرو : أمّا أنت يا عبد الله ، فأمَرتَني بما هو خيرٌ لي في ديني ، وأمّا أنت يا محمد فأمرتني بما هو خيرٌ لي في دنياي ، وأنا ناظرٌ فيه. فلمّا جنّه الليل رفع صوته وأهله ينظرون إليه :

تطاولَ ليلي للهمومِ الطوارقِ

وخوفِ التي تجلو وجوهَ العوائقِ

وإنَّ ابنَ هندٍ سائلي أنْ أزورَهُ

وتلك التي فيها بناتُ البوائقِ

أتاه جريرٌ من عليٍّ بخُطّةٍ

أمرّت عليه العيش ذات مضائقِ

فإن نالَ منّي ما يُؤمّلُ ردّهُ

وإن لم يَنَلْهُ ذَلَّ ذُلَّ المطابِقِ (١)

فو الله ما أدري وما كنتُ هكذا

أكونُ ومهما قادني فهو سائقي

أُخادعُهُ إنَّ الخداعَ دنيّةٌ

أم اعطيهِ من نفسي نصيحةَ وامقِ

أم اقعُدُ في بيتي وفي ذاكَ راحةٌ

لشيخٍ يخافُ الموتَ في كلِّ شارقِ

وقد قال عبدُ الله قولاً تعلّقتْ

به النفسُ إن لم تقتطعني عوائقي

وخالفَهُ فيهِ أخوه محمد

وإنّي لَصَلْبُ العود عند الحقائقِ

فقال عبد الله : رحل الشيخ. وفي لفظ اليعقوبي : بال الشيخ على عقبيه وباع دينه بدنياه.

فلمّا أصبح دعا عمرو غلامه وردان وكان داهياً مارداً ، فقال : ارحل يا وردان ، ثمّ قال : حطَّ يا وردان ، ثمّ قال : ارحل يا وردان ، حطَّ يا وردان!

فقال له وردان : خلطت أبا عبد الله! أما إنّك إن شئتَ أنبأتك بما في نفسك. قال :

__________________

(١) المطابقة : المشي في القيد.

٢١٠

هات ويحك ، قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلتَ : عليٌّ معه الآخرة في غير دنيا ، وفي الآخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض من الآخرة ، فأنت واقفٌ بينهما.

قال : فإنّك والله ما أخطأت ، فما ترى يا وردان؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم ، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك. قال : الآن لمّا شهدت العرب مسيري إلى معاوية ، فارتحل وهو يقول :

يا قاتلَ اللهُ ورداناً وفطنَتهُ

أبدى لَعَمْرُكَ ما في النفسِ وردانُ

لمّا تعرّضتِ الدنيا عرضتُ لها

بحرص نفسي وفي الأطباع إدهانُ

نفسٌ تَعِفُّ وأخرى الحرصُ يقلبُها (١)

والمرء يأكلُ تِبناً وهو غَرثانُ (٢)

أمّا عليٌّ فدينٌ ليس يَشرَكُهُ

دنيا وذاك له دنياً وسلطانُ

فاخترتُ من طمعي دنياً على بصرٍ

وما معي بالذي أختار برهانُ

إنّي لأعرفُ ما فيها وأُبصرُهُ

وفيَّ أيضاً لما أهواهُ ألوانُ

لكنَّ نفسي تُحبُ العيشَ في شَرَفٍ

وليس يرضى بذُلِّ العيش إنسانُ

عمروٌ لعمرُ أبيه غيرُ مُشتبهٍ

والمرءُ يعطسُ والوَسنان وسنانُ

فسار حتى قدم على معاوية ، وعرف حاجة معاوية إليه ، فباعده من نفسه ، وكايد كلُّ واحد منهما صاحبه.

فلمّا دخل عليه قال : يا أبا عبد الله طَرَقَتْنا في ليلتنا هذه ثلاثة أخبار ليس فيها وِرْدٌ ولا صدرٌ. قال : وما ذاك؟ قال : ذاك أنّ محمد بن أبي حذيفة قد كسر سجن مصر ، فخرج هو وأصحابه ، وهو من آفات هذا الدين. ومنها أنّ قيصر زحف بجماعة الروم إليَّ ليتغلّب على الشام. ومنها : أنّ عليّا نزل الكوفة متهيِّئاً للمسير إلينا.

__________________

(١) في شرح ابن أبي الحديد [٢ / ٦٣ خطبة ٢٦] : يغلبها. (المؤلف)

(٢) غرث غرثاً : جاع. فهو غرثان. والجمع غرثى وغراث وغراثى. (المؤلف)

٢١١

قال : ليس كلّ ما ذكرت عظيماً ، أمّا ابن أبي حذيفة ، فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه ، أن تبعث إليه خيلاً تقتله أو تأتيك به ، وإن فاتك لا يضرُّك.

وأمّا قيصر : فاهدِ له من وصفاء (١) الروم ووصائفها ، وآنية الذهب والفضّة ، وسله الموادعة ، فإنّه إليها سريع.

وأمّا عليٌّ : فلا والله يا معاوية! ما تسوّي العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء ، إنَّ له في الحرب لَحَظّا ما هو لأحد من قريش ، وإنّه لصاحب ما هو فيه إلاّ أن تظلمه.

وفي رواية أخرى : قال معاوية : يا أبا عبد الله إنّي أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربّه ، وقتل الخليفة ، وأظهر الفتنة ، وفرّق الجماعة ، وقطع الرحم.

قال عمرو : إلى مَن؟ قال : إلى جهاد عليّ.

فقال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعليٌّ بعِكمي (٢) بعير ، ما لَكَ هجرتُه ، ولا سابقته ، ولا صحبته ، ولا جهاده ، ولا فقهه ، ولا علمه ، والله إنَّ له مع ذلك حدّا وحدوداً ، وحظّا وحظوةً ، وبلاءً من الله حسناً ، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه؟ وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر. قال : حكمك. قال : مصر طعمة. فتلكّأ عليه (٣).

وفي حديث ، قال له معاوية : إنّي أكره لك أن يتحدّث العرب عنك ، إنّك إنّما دخلتَ في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال : دعني عنك (٤). قال معاوية : إنّي لو شئت أن أُمنّيك وأخدعك لفعلتُ. قال عمرو : لا لعمر الله ما مثلي يُخدع ، لأنا أكيس من ذلك.

__________________

(١) الوصيف : الغلام دون المراهق ، الجمع وصفاء ، مؤنّثه : الوصيفة ، والجمع وصائف. (المؤلف)

(٢) العكم ـ بالكسر ـ : العدل ـ بالكسر. (المؤلف)

(٣) تلكّأ عن الأمر : أبطأ وتوقّف. (المؤلف)

(٤) مرّ تحليل هذه الكلمة : ص ١٢٦. (المؤلف)

٢١٢

قال له معاوية : أُدنُ منّي برأسك أُسارّك. قال : فدنا منه عمرو يسارّه ، فعضّ معاوية أُذنه ، وقال : هذه خدعة ، هل ترى في البيت أحداً غيري وغيرك؟ فأنشأ عمرو يقول :

معاويَ لا أُعطيك ديني ولم أنَلْ

بذلك دنيا فانظُرَنْ كيف تصنعُ

فإن تُعطني مصراً فأرْبِحْ بصفقةٍ

أخذتَ بها شيخاً يضُرُّ وينفُعُ (١)

وما الدينُ والدنيا سواءٌ وإنّني

لآخذ ما تُعطي ورأسي مقنَّعُ

ولكنَّني أُغضي الجفون وإنّني

لأخدَعُ نفسي والمخادِع يُخدَعُ

وأُعطيك أمراً فيه للمُلك قوّةٌ

وإنّي به إن زلّتِ النعلُ أصرعُ

وتمنعني مصراً وليست برغبةٍ (٢)

وإنّي بذا الممنوعِ قِدماً لَمُولَعُ

قال : أبا عبد الله ، ألم تعلم أنّ مصر مثل العراق؟ قال : بلى. ولكنّها إنّما تكون لي إذا كانت لك ، وإنّما تكون لك إذا غلبتَ عليّا على العراق ، وقد كان أهلها بعثوا بطاعتهم إلى عليٍّ.

قال : فدخل عتبة بن أبي سفيان ، فقال لمعاوية : أما ترضى أن تشتري عَمْراً بمصر إن هي صفت لك؟ ليتك لا تُغْلَبُ على الشام. فقال معاوية : يا عتبة بت عندنا الليلة.

فلمّا جُنَّ على عتبة الليل ، رفع صوته ليُسمع معاوية ، وقال :

أيّها المانع سيفاً لم يُهزّ

وإنّما مِلْتَ على خزٍّ قزّ

إنّما أنت خروفٌ ماثلٌ

بين ضَرْعَينِ وصوفٍ لم يُجزْ

أعطِ عَمْراً إنَّ عَمْراً تاركٌ

دينَهُ اليوم لدنياً لم تُحَزْ

__________________

(١) البيتان يوجدان في عيون الأخبار لابن قتيبة : ١ / ١٨١. (المؤلف)

(٢) الرغبة ـ بكسر المهملة وفتحها ـ : العطاء الكثير. (المؤلف)

٢١٣

يا لك الخيرُ فَخُذْ من دَرّهِ

شَخْبَهُ الأولى وأبعِدْ ما غرزْ (١)

واسحبِ الذيْلَ وبادر فُوقَها (٢)

وانتهزها إنَّ عمراً يُنتهز (٣)

أعطه مصراً وزده مثلها

إنّما مصرُ لِمنْ عَزَّ فَبَزّ (٤)

واتْركِ الحِرْصَ عليها ضَلّةً

واشبُبِ النارَ لمقرور يَكزّ (٥)

إنَّ مصراً لعليٍّ أو لنا

يُغلَبُ اليومَ عليها من عَجَز

فلمّا سمع معاوية قول عتبة ، أرسل إلى عمرو فأعطاه مصر ، فقال له عمرو : لي الله عليك بذلك شاهدٌ؟. قال له معاوية : نعم لك الله عليَّ بذلك ، لئن فتح الله علينا الكوفة. قال عمرو : واللهُ على ما نقُولُ وكيل.

فخرج عمرو من عنده ، فقال له ابناه : ما صنعت؟ قال : أعطانا مصر. قالا : وما مصر في ملك العرب. قال : لا أشبع الله بطونكما إن لم يشبعكما مصر.

وكتب معاوية على أن لا ينقُضَ شرطٌ طاعةً. وكتب عمرو على أن لا ينقض طاعةٌ شرطاً. فكايد كلُّ واحد منهما صاحبه.

كتاب صفّين لابن مزاحم (ص ٢٠ ـ ٢٤) ، كامل المبرّد (١ / ٢٢١) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٣٦ ـ ١٣٨) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ١٦١ ـ ١٦٣) ، رغبة الآمل من كتاب الكامل (٣ / ١٠٨) ، قصص العرب (٢ / ٣٦٢) (٦).

__________________

(١) الشخب : ما يخرج من تحت يد الحالب. الشخبة : الدفعة منه ، الجمع شخاب. غرز الغنم : ترك حلبها لتسمن. (المؤلف)

(٢) الفُوق : الطريق الأول.

(٣) يقال : جاء يسحب ذيله : أي يمشي متبختراً. انتهز : ابتدر واغتنم. (المؤلف)

(٤) بزّه : غلبه. بزّ الشيء منه : أخذه بجفاء وقهر. (المؤلف)

(٥) الكزاز : داء يأخذ من شدة البرد وتعتري منه رعدة.

(٦) وقعة صفّين : ص ٣٤ ـ ٤٠ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٦١ ـ ٦٧ خطبة ٢٦ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٨٤ ـ ١٨٦ ، رغبة الآمل من كتاب الكامل : مج ٢ / ج ٣ / ٢١٠ ، قصص العرب : ٢ / ٣٦٨ رقم ١٤٩.

٢١٤

١٥ ـ

عمّار بن ياسر وعمرو

اجتمع عمّار بن ياسر مع عمرو بن العاص في المعسكر يوم صفّين ، فنزل عمّار والذين معه فاحتبوا بحمائل سيوفهم ، فتشهّد عمرو بن العاص ـ يعني قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ـ. فقال عمّار : اسكت فقد تركتها في حياة محمد ومن بعده ، ونحن أحقُّ بها منك ، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقّنا باطلك ، وإن شئت كانت خطبة ، فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك ، وتكفرك قبل القيام ، وتشهد بها على نفسك ، ولا تستطيع أن تكذِّبني.

قال عمرو : يا أبا اليقظان ، ليس لهذا جئت ، إنّما جئت لأنّي رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم ، أُذكرك الله إلاّ كففتَ سلاحهم ، وحقنت دماءهم ، وحرّضتَ على ذلك ، فعلامَ تقاتلنا؟! أولسنا نعبد إلهاً واحداً؟ ونصلّي قبلتكم؟ وندعو دعوتكم؟ ونقرأ كتابكم؟ ونؤمن برسولكم؟

قال عمّار : الحمد لله الذي أخرجها من فيك ، إنّها لي ولأصحابي : القبلة ، والدين ، وعبادة الرحمن ، والنبيّ ، والكتاب ، من دونك ودون أصحابك ، الحمد للهِ الذي قرّرك لنا بذلك دونك ودون أصحابك ، وجعلك ضالاّ مضلاّ ، لا تعلم هادٍ أنت أم ضالّ ، وجعلك أعمى ، وسأخبرك على ما قاتلتك عليه أنت وأصحابك ؛ أمرني رسول الله أن أقاتل الناكثين ، وقد فعلتُ ، وأمرني أن أقاتل القاسطين ، فأنتم هم ، وأمّا المارقون ، فما أدري أدركهم أم لا؟

أيّها الأبتر ألستَ تعلم أنّ رسول الله قال لعليّ : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه؟!» وأنا مولى الله ورسوله وعليّ من بعده ، وليس لك مولى.

قال له عمرو : لِمَ تشتمني يا أبا اليقظان! ولست أشتمك؟ قال عمّار : وبِمَ

٢١٥

تشتمني؟ أتستطيع أن تقول : إنّي عصيت الله ورسوله يوماً قطّ. قال له عمرو : إنَّ فيك لمسبّاتٍ سوى ذلك. قال عمّار : إنَّ الكريم مَن أكرمه الله ، كنتُ وضيعاً فرفعني الله ، ومملوكاً فأعتقني الله ، وضعيفاً فقوّاني الله ، وفقيراً فأغناني الله. قال له عمرو : فما ترى في قتل عثمان؟ قال : فتح لكم باب كلِّ سوء. قال عمرو : فعليٌّ قتله. قال عمّار : بل الله ربُّ عليّ قتله (١).

وروى نصر في كتابه (٢) (ص ١٦٥) في حديث : فلمّا دنا عمّار بن ياسر رحمه‌الله بصفّين من عمرو بن العاص ، قال : يا عمرو بعتَ دينك بمصر ، تبّا لك ، وطالما بغيتَ الإسلام عوجاً.

ورواه سبط ابن الجوزي في تذكرته (٣) (ص ٥٣) وزاد : والله ما قصدُك وقصدُ عدوِّ الله ابن عدوِّ الله بالتعلّل بدم عثمان إلاّ الدنيا.

١٦ ـ

أبو نوح الحميري وعمرو

أتى أبو نوح الحميري الكلاعي يوم صفين مع ذي الكلاع إلى عمرو بن العاص ، وهو عند معاوية وحوله الناس ، وعبد الله بن عمر (٤) يحرِّض الناس على الحرب ، فلمّا وقفا على القوم ، قال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق ، يخبرك عن عمّار بن ياسر ، لا يكذبك؟ قال عمرو : ومَن هو؟ قال ذو الكلاع : ابن عمّي هذا ، وهو من أهل الكوفة. فقال عمرو : إنّي لأرى عليك

__________________

(١) كتاب صفّين لنصر بن مزاحم : ص ١٧٦ [ص ٣٣٧] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٣٧٣ [٨ / ٢١ خطبة ١٢٤]. (المؤلف)

(٢) وقعة صفّين : ص ٣٢٠.

(٣) تذكرة الخواص : ص ٩٢.

(٤) كذا في شرح النهج ، وفي كتاب صفّين : عبد الله بن عمرو ، وهو الصحيح ؛ لأنّ عبد الله بن عمر لم يشهد صفِّين.

٢١٦

سيما أبي تراب. قال أبو نوح : عليَّ سيما محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون.

كتاب صفِّين (١) (ص ١٧٤) ، شرح النهج لابن أبي الحديد (٢).

١٧ ـ

أبو الأسود الدؤلي وعمرو

قدم أبو الأسود (٣) الدؤلي على معاوية بعد مقتل عليّ رضى الله عنه ، وقد استقامت لمعاوية البلاد ، فأدنى مجلسه ، وأعظم جائزته ، فحسده عمرو بن العاص ، فقدم على معاوية ، فاستأذن عليه في غير وقت الإذن ، فأذن له ، فقال له معاوية : يا أبا عبد الله ما أعجلك قبل وقت الإذن؟ فقال : يا أمير المؤمنين أتيتك لأمر قد أوجعني وأرّقني وغاظني ، وهو من بعد ذلك نصيحةٌ لأمير المؤمنين. قال : وما ذاك يا عمرو. قال : يا أمير المؤمنين إنَّ أبا الأسود رجلٌ مفوّهٌ ، له عقلٌ وأدبٌ ، من مثله للكلام يُذكر؟ وقد أذاع بمصرك من الذكر لعليّ والبغض لعدوِّه ، وقد خشيت عليك أن يُترى (٤) في ذلك حتى يُؤخذ بعنقك ، وقد رأيت أن ترسل إليه ، وترهبه ، وترعبه ، وتَسبره ، وتَخبره ، فإنّك من مسألته على إحدى خِبرتين ، إمّا أن يبدي لك صفحته فتعرف مقالته ، وإمّا أن يستقبلك فيقول ما ليس من رأيه ، فيحتمل ذلك عنه فيكون لك في ذلك عاقبة صلاح إن شاء الله تعالى. فقال له معاوية : إنّي امرؤٌ ـ والله ـ لقلّما تركت رأياً لرأي امرئٍ قطُّ إلاّ كنت فيه بين أن أرى ما أكره وبين بين ، ولكن إن أرسلتُ إليه فسألته فخرج من مساءلتي بأمرٍ لا أجد عليه مقدما ، ويملئوني غيظاً لمعرفتي بما يريد ، وإنَّ الأمر فيه أن يُقبل ما أبدى من لفظه ، فليس لنا أن نشرح عن صدره وندع ما وراء

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٣٣٤.

(٢) شرح نهج البلاغة : ٨ / ١٨ خطبة ١٢٤.

(٣) ظالم بن عمرو التابعي الكبير المتوفّى سنة (٦٩) وهو ابن خمس وثمانين سنة. (المؤلف)

(٤) ترى ترياً في الأمر : تراخى فيه. (المؤلف)

٢١٧

ذلك يذهب جانباً. فقال عمرو : أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفّين ، وقد عرفت رأيي ، ولست أرى خلافي وما آلوك خيراً ، فأرسل إليه ، ولا تفرش مهاد العجز فتتّخذه وطيئاً.

فأرسل معاوية إلى أبي الأسود ، فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثاً ، فرحّب به معاوية وقال : يا أبا الأسود خلوتُ أنا وعمرو فتناجزنا (١) في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقين. قال : سل يا أمير المؤمنين عمّا بدا لك.

فقال : يا أبا الأسود أيّهم كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : أشدّهم حبّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقاهم له بنفسه.

فنظر معاوية إلى عمرو وحرّك رأسه ، ثمّ تمادى في مسألته ، فقال : يا أبا الأسود فأيّهم كان أفضلهم عندك؟ قال : أتقاهم لربِّه وأشدُّهم خوفاً لدينه.

فاغتاظ معاوية على عمرو ، ثمّ قال : يا أبا الأسود فأيّهم كان أعلم؟ قال : أقولهم للصواب وأفصلهم للخطاب. قال : يا أبا الأسود فأيّهم كان أشجع؟ قال : أعظمهم بلاءً ، وأحسنهم عناءً وأصبرهم على اللقاء. قال : فأيّهم كان أوثق عنده؟ قال : من أوصى إليه فيما بعده. قال : فأيّهم كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم صديقاً؟ قال : أوّلهم به تصديقاً.

فأقبل معاوية على عمرو ، وقال : لا جزاك الله خيراً ، هل تستطيع أن تردَّ ممّا قال شيئاً؟

فقال أبو الأسود : إنّي قد عرفت من أين أُتيت ، فهل تأذن لي فيه؟. فقال : نعم ؛ فقل ما بدا لك. فقال : يا أمير المؤمنين إنَّ هذا الذي ترى هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيات من الشعر ، فقال رسول صلى الله عليه وسلم : «اللهمّ إنّي لا أحسن أن أقول الشعر ، فالعن عمراً بكلِ

__________________

(١) ناجزه : خاصمه. والمناجزة في الحرب : المبارزة. (المؤلف)

٢١٨

بيت لعنة» أفتراه بعد هذا نائلاً فلاحاً؟ أو مدركاً رباحاً؟ وايم الله إنَّ امرءاً لم يُعرف إلاّ بسهم أُجيل عليه فجال ، لحقيقٌ أن يكون كليل اللسان ، ضعيف الجنان ، مستشعراً للاستكانة ، مقارناً للذلِّ والمهانة ، غير ولوج فيما بين الرجال ، ولا ناظر في تسطير المقال ، إن قالت الرجال أصغى ، وإن قامت الكرام أقعى (١) ، متعيّصٌ لدينه لعظيم دينه (٢) ، غير ناظر في أُبّهة الكرام ولا منازع لهم ، ثمّ لم يزل في دجّة ظلماء مع قلّة حياء ، يعامل الناس بالمكر والخداع ، والمكر والخداع في النار.

فقال عمرو : يا أخا بني الدؤل ، والله إنَّك لأنت الذليل القليل ، ولولا ما تمتُّ به من حسب كنانة ، لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الحديّة (٣) ، غير أنَّك بهم تطول ، وبهم تصول ، فلقد استطبت مع هذا لساناً قوّالاً ، سيصير عليك وبالاً ، وايم الله إنّك لأعدى الناس لأمير المؤمنين قديماً وحديثاً ، وما كنت قطُّ بأشدّ عداوةً له منك الساعة ، وإنّك لتوالي عدوّه ، وتعادي وليّه ، وتبغيه الغوائل ، ولئن أطاعني ليقطعنّ عنه لسانك ، وليخرجنَّ من رأسك شيطانك ، فأنت العدوُّ المطرق له إطراق الأُفعوان (٤) في أصل الشجرة.

فتكلّم معاوية فقال : يا أبا الأسود أغرقت في النزع ولم تدع رجعة لصلحك. وقال لعمرو : فلم تغرق كما أغرقت ، ولم تبلغ ما بلغت ، غير أنَّه كان منه الابتداء والاعتداء ، والباغي أظلم ، والثالث أحلم ، فانصرِفا عن هذا القول إلى غيره ، وقوما غير مطرودين ، فقام عمرو وهو يقول :

لعمري لقد أعيا القرون التي مضت

لغشٍّ ثوى بين الفؤاد كمينِ

__________________

(١) أقعى الكلب : جلس على استه. (المؤلف)

(٢) كذا في المصدر ، وفي مختصر تاريخ دمشق : مبصبِص بذَنَبه لعظيم ذنبه.

(٣) الأجدل : الصقر. والحدأة ـ بكسر الحاء ـ : طائر من الجوارح. والعامّة تسمّيه الحديّة. (المؤلف)

(٤) الأُفعوان ـ بضمّ الأوّل ـ : ذكر الأفعى. (المؤلف)

٢١٩

وقام أبو الأسود وهو يقول :

ألا إنَّ عمراً رامَ ليثَ خفيّةٍ (١)

وكيف ينالُ الذئبُ ليثَ عرينِ

تاريخ ابن عساكر (٢) (٧ / ١٠٤ ـ ١٠٦)

١٨ ـ

حديث أبي جعفر وزيد

قال أبو جعفر وزيد بن الحسن : طلب معاوية إلى عمرو بن العاص يوم صفِّين أن يسوّي صفوف أهل الشام ، فقال له عمرو : على أنَّ لي حكمي إن قتل الله ابن أبي طالب ، واستوسقت لك البلاد؟ فقال : أليس حكمك في مصر؟ قال : وهل مصر تكون عوضاً عن الجنّة؟ وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذاب النار الذي لا يفتّر عنهم وهم فيه مبلسون؟ فقال معاوية : إنَّ لك حكمك أبا عبد الله إن قتل ابن أبي طالب ، رويداً لا يسمع أهل الشام كلامك. فقال لهم عمرو : يا معشر أهل الشام سوّوا صفوفكم ، أعيروا ربّكم جماجمكم ، واستعينوا بالله إلهكم ، وجاهدوا عدوَّ الله وعدوّكم ، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم (وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٣). كتاب صفِّين لابن مزاحم (٤) (ص ١٢٣) ، شرح ابن أبي الحديد (٥).

هذه أكبر كلمة تدلُّ على ضئولة الرجل في دينه ، لأنَّها تنمُّ عن عرفانه بحقِّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ومغبّة أمر من ناواه ، ومع ذلك فهو يحرِّض الناس على قتاله ، ويموِّه عليهم ، وهي تردُّ قول من يبرِّر عمله باجتهاده أو بعدله.

__________________

(١) الخفيّة : الغيضة الملتفّة. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٨ / ٦٠٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٢٢١.

(٣) الأعراف : ١٢٨.

(٤) وقعة صفّين : ص ٢٣٧.

(٥) شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٨٩ خطبة ٦٥.

٢٢٠