الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

١٠ ـ (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

قال جلال الدين السيوطي في الدرّ المنثور (١) (٦ / ٣٩٢) : أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ). يعني أبا جهل بن هشام (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ذكر عليّا وسلمان.

ومن شعر حسّان في أمير المؤمنين :

أبا حسنٍ تَفْديكَ نفسي ومهجتي

وكلُّ بطيءٍ في الهُدى ومُسارعِ

أيذهبُ مدحي والمحبِّينَ ضائعاً

وما المدحُ في ذات الإله بضائعِ

فأنت الذي أعطيتَ إذ أنتَ راكعٌ

فدتْكَ نفوسُ القومِ يا خيرَ راكعِ

بخاتَمِك (٢) الميمونِ يا خير سيِّدٍ

ويا خيرَ شارٍ ثمَّ يا خير بائعِ

فأنزل فيك اللهُ خيرَ ولايةٍ

وبيّنها في مُحْكَماتِ الشَّرائعِ

نظم بها حديث تصدّق أمير المؤمنين عليه‌السلام بخاتمه للسائل راكعاً ونزول قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فيه كما مرّ حديثه (ص ٥٢).

ذكرها لحسّان الخطيب الخوارزمي في المناقب (٣) (ص ١٧٨) ، وشيخ الإسلام الحمّوئي في فرائده (٤) في الباب التاسع والثلاثين ، وصدر الحفّاظ الكنجيّ في الكفاية (٥) (ص ١٠٧) ، وسبط ابن الجوزي في تذكرته (٦) (ص ١٠) ، وجمال الدين الزرندي في

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٨ / ٦٢٢.

(٢) كذا بالباء ، وهو مفعول ل «أعطى» الذي يتعدّى بنفسه.

(٣) المناقب : ص ٢٦٤ ح ٢٤٦.

(٤) فرائد السمطين : ١ / ١٩٠ ح ١٥٠.

(٥) كفاية الطالب : ص ٢٢٩ باب ٦١.

(٦) تذكرة الخواص : ص ١٥.

١٠١

نظم درر السمطين (١).

ومن شعر حسّان في أمير المؤمنين :

جبريلُ نادى معلناً

والنقعُ ليس بمنجلي

والمسلمون قد أحدقوا

حول النبيَّ المرسلِ

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي

يشير بها إلى ما هتف به أمين الوحي جبرئيل عليه‌السلام يوم أُحد في عليٍّ وسيفه.

أخرج الطبري في تاريخه (٢) (٣ / ١٧) عن أبي رافع ، قال : لمّا قَتل عليُّ بن أبي طالب يوم أُحد أصحاب الألوية ، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةً من مشركي قريش ، فقال لعليٍّ : «احمل عليهم». فحمل عليهم ففرّق جمعهم ، وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي.

قال : ثمَّ أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةً من مشركي قريش ، فقال لعليّ : «احمل عليهم». فحمل عليهم ففرّق جماعتهم ، وقتل شيبة بن مالك.

فقال جبريل : يا رسول الله إنَّ هذا للمواساة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّه منّي وأنا منه». فقال جبريل : وأنا منكما.

قال : فسمعوا صوتاً :

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي

وأخرجه أحمد بن حنبل في الفضائل (٣) عن ابن عبّاس ، وابن هشام في

__________________

(١) نظم درر السمطين : ص ٨٨.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٢ / ٥١٤ حوادث سنة ٣ ه‍.

(٣) فضائل الصحابة : ٢ / ٦٥٧ رقم ١١١٩ ، وفي مناقب عليّ لأحمد بن حنبل : رقم ٢٤١ ، وفي الرياض النضرة : ٣ / ١٣٧ ، وذخائر العقبى : ص ٦٨ ، وسمط النجوم العوالي : ٢ / ٤٨٥ كلّهم عن أحمد في مناقب عليّ ، وهو إلى قوله : وأنا منكما يا رسول الله. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير في ترجمة أبي رافع : ١ / ٢٩٧ ح ٩٤١ ، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق في ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ الطبعة المحقّقة ـ : رقم ١٦٧ ، ٢١٥. (الطباطبائي)

١٠٢

سيرته (١) (٣ / ٥٢) عن ابن أبي نُجيح ، والخثعمي في الروض الأُنف (٢) (٢ / ١٤٣) ، وابن أبي الحديد في شرح النهج (٣) (١ / ٩) وقال : إنَّه المشهور المرويّ. وفي (٢ / ٢٣٦) وقال : إنَّ رسول الله قال : «هذا صوت جبرئيل» ، و (٣ / ٢٨١).

والخوارزمي في المناقب (٤) (ص ١٠٤) عن محمد بن إسحاق بن يسار ، قال : هاجت ريحٌ في ذلك اليوم ، فسُمِعَ منادٍ يقول :

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي

فإذا ندبتمْ هالكاً

فابكوا الوفيَّ أخا الوفيّ (٥)

وروى الحمّوئي نحوه في فرائده (٦) في الباب التاسع والأربعين ، وروى بإسناده من طرق شتّى عن الحافظ البيهقي إلى عليّ عليه‌السلام قال :

«أتى جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ صنماً في اليمن مُغفَّراً في حديد ، فابعث إليه فادققه ، وخذ الحديد.

قال : فدعاني وبعثني إليه ، فدققت الصنم ، وأخذت الحديد ، فجئت به إلى رسول الله ، فاستنصرت منه سيفين ، فسمّى واحداً ذا الفقار ، والآخر مِجْذَماً ، فتقلّد

__________________

(١) السيرة النبوية : ٣ / ١٠٦.

(٢) الروض الأُنف : ٦ / ٤٧.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٩ المقدمة ، ١٣ / ٢٩٣ خطبة ٢٣٨ ، ١٤ / ٢٥١.

(٤) المناقب : ص ١٧٣ ح ٢٠٨.

(٥) يعني حمزة سيّد الشهداء ، قتيل ذلك اليوم سلام الله عليه. (المؤلف)

(٦) فرائد السمطين : ١ / ٢٥٢ ح ١٩٤ باب ٤٨.

١٠٣

رسول الله ذا الفقار ، وأعطاني مِجْذَماً ، ثمَّ أعطاني بعد ذا الفقار ، ورآني رسول الله وأنا أقاتل دونه يوم أُحد ، فقال :

لا سيفَ إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي»

وفي تذكرة سبط ابن الجوزي (٧) (ص ١٦) : ذكر أحمد في الفضائل أيضاً أنَّهم سمعوا تكبيراً من السماء في ذلك اليوم يوم خيبر وقائلاً يقول :

لا سيف إلاّ ذو الفقارِ

ولا فتى إلاّ علي

فاستأذن حسّان بن ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشد شعراً ، فأذن له ، فقال :

جبريلُ نادى مُعلناً

والنقعُ ليس بمنجلي

إلى آخر الأبيات المذكورة.

ثمّ قال ما ملخّصه يقال : إنَّ الواقعة كانت يوم أُحد ، كما رواه أحمد بن حنبل عن ابن عبّاس ، وقيل : إنَّ ذلك كان يوم بدر ، والأصحّ أنّه كان في يوم خيبر ، فلم يطعن فيه أحدٌ من العلماء. انتهى.

قال الأميني : إنَّ الأحاديث تؤذننا بتعدّد الواقعة ، وأنَّ المنادي يوم أُحد كان جبريل كما مرَّ ، والمنادي يوم بدر ملَك يقال له رضوان. قد أجمع أئمّة الحديث على نقله ، كما قال الكنجي ، وأخرجه في كفايته (٨) (ص ١٤٤) من طريق أبي الغنائم ، وابن الجوزي ، والسلفي ، وابن الجواليقي ، وابن أبي الوفاء البغدادي ، وابن الوليد ، وابن أبي الفهم ، والمفتي عبد الكريم الموصلي ، ومحمد بن القاسم العدل ، والحافظ محمد بن محمود ، وابن أبي البدر ، والفقيه عبد الغني بن أحمد ، وصدقة بن الحسين ، ويوسف

__________________

(٧) تذكرة الخواص : ص ٢٦. وراجع فيه كلام مؤلفه بتفصيله.

(٨) كفاية الطالب : ص ٢٧٧ ـ ٢٨٠ باب ٦٩. وأخرجه فيه بعدّة طرق أخرى منها عن البيهقي عن النيسابوري في المناقب.

١٠٤

ابن شروان المقري ، والصاحب أبي المعالي الدوامي ، وابن بطّة ، وشيخ الشيوخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف ، وعليّ بن محمد المقري ، وابن بكروس ، والحافظ [عليّ] بن المعالي ، وأبي عبد الله محمد بن عمر ، بأسانيدهم عن سعد بن طريف الحنظلي ، عن أبي جعفر محمد بن عليّ ـ الإمام الباقر ـ قال : «نادى ملَك من السماء يوم بدر يقال له رضوان :

لا سيف إلاَّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي»

ثمّ قال : قلت : أجمع أئمّة الحديث على نقل هذا الجزء كابراً عن كابر ، رزقناه عالياً بحمد الله عن الجمّ الغفير كما سقناه ، ورواه الحاكم مرفوعاً ، وأخرجه عنه البيهقي في مناقبه ، أخبرنا بذلك الحافظ ابن النجّار ، أخبرنا المؤيَّد الطوسي ـ إلى آخر السند ـ عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله يوم بدر : «هذا رضوان ملك من ملائكة الله ينادي :

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي»

وأخرجه محبّ الدين الطبري باللفظ المذكور في رياضه (١) (٢ / ١٩٠) ، وذخائر العقبى (ص ٧٤) ، والخوارزمي في المناقب (٢) (ص ١٠١) حديث جابر ، وفي كتاب صفّين لنصر بن مزاحم (٣) (ص ٢٥٧) وفي طبع مصر (ص ٥٤٦) عن جابر بن نُمير ـ الصحيح عُمير ـ الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول كثيراً :

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي

ومن شعر حسّان :

__________________

(١) الرياض النضرة : ٣ / ١٣٧.

(٢) المناقب : ص ١٦٧ ح ٢٠٠.

(٣) وقعة صفّين : ص ٤٧٨.

١٠٥

وإنْ مريمٌ أحصنت فرجها

وجاءت بعيسى كبدر الدجى

فقد أحصنت فاطمٌ بعدها

وجاءت بسبطَي نبيِّ الهدى (١)

يشير إلى ما صحَّ عن النبيِّ الطاهر في بضعته الصدّيقة فاطمة :

«إنَّ فاطمة أحصنت فرجها ، فحرّم الله ذريّتها على النار».

أخرجه الحاكم في المستدرك (٢) (٣ / ١٥٢) وقال : هذا حديثٌ صحيح الإسناد. والخطيب في تاريخه (٣ / ٥٤) ، ومحبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى (ص ٤٨) عن تمّام في فوائده (٣) ، وصدر الحفّاظ الكنجيّ الشافعيّ في الكفاية (٤) (ص ٢٢٢) بإسناده عن حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله : «إنَّ فاطمة أحصنت فرجهافحرَّمها الله وذريّتها على النار».

وفي (ص ٢٢٣) بسند آخر عن ابن مسعود بلفظ حذيفة. والسيوطي في إحياء الميت (ص ٢٥٧) عن ابن مسعود من طريق البزّار وأبي يعلى والعقيلي والطبراني (٥) وابن شاهين ، وأخرجه في جمع الجوامع (٦) من طريق البزّار (٧) والعقيلي والطبراني والحاكم بلفظ حذيفة اليماني.

وذكر المتّقي الهندي فى إكماله في كنز العمّال (٨) (٦ / ٢١٩) من طريق الطبراني بلفظ : «إنَّ فاطمة أحصنت فرجها ، وإنَّ الله أدخلها بإحصان فرجها وذريّتها الجنّة».

__________________

(١) ذكره ابن شهرآشوب السرَوي في المناقب : ٤ / ٢٤ [٣ / ٤٠٩]. (المؤلف)

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٦٥ ح ٤٧٢٦.

(٣) الروض البسّام بترتيب وتخريج فوائد تمّام : ٤ / ٣١٥ ح ١٤٩٢ ـ ١٤٩٤.

(٤) كفاية الطالب : ص ٣٦٦ ، ٣٦٧ باب ٦٩.

(٥) المعجم الكبير : ٢٢ / ٤٠٦ ح ١٠١٨.

(٦) جامع الأحاديث : ٣ / ١١٦ ح ٧٦.

(٧) مسند البزّار (البحر الزخّار) : ٥ / ٢٢٣ ح ١٨٢٩.

(٨) كنز العمّال : ١٢ / ١١١ ح ٣٤٢٣٩.

١٠٦

وابن حجر في الصواعق (١) من طريق تمّام والبزّار والطبراني وأبي نعيم باللفظ المذكور ، وقال : وفي رواية : «فحرّمها الله وذريّتها على النار». ورواه في (ص ١١٢) من طريق البزّار وأبي يعلى والطبراني والحاكم باللفظ الثاني. وذكره الشبلنجي في نور الأبصار (٢) (ص ٤٥) باللفظين.

الشاعر

أبو الوليد حسّان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ ابن عمرو بن مالك بن النجّار ـ تيم الله ـ بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة العنقاء ـ سُمّي به لطول عنقه ـ ابن عمرو بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف ابن امرئ القيس البطريق ابن ثعلبة البهلول ابن مازن بن الأزد بن الغوث ابن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان (٣).

بيت حسّان أحد بيوتات الشعر ، عريق في الأدب ونظم القريض ، قال المرزباني في معجم الشعراء (٤) (ص ٣٦٦) : قال دعبل والمبرّد : اعرق الناس كانوا في الشعر آل حسّان ، فمنهم يُعدّون ستّة في نسق كلّهم شاعر ، سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت بن المنذر بن حرام. انتهى.

وولده عبد الرحمن المذكور شاعر ، قليل الحديث ، تُوفّي (١٠٤) ، وفيه وفي والده حسّان ، قال شاعر :

فَمَنْ لِلقوافي بعد حسّان وابنِهِ

ومن للمثاني بعد زيد بن ثابتِ

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ١٦٠ ، ١٨٨.

(٢) نور الأبصار : ص ٩٦.

(٣) كذا سرده أبو الفرج في الأغاني : ٤ / ٣ [٤ / ١٤١]. (المؤلف)

(٤) معجم الشعراء : ص ٢٦٩.

١٠٧

وأمّا المترجم نفسه فعن أبي عبيدة : أنَّ العرب قد اجتمعت على أنَّ حسّان أشعر أهل المدن ، وأنَّه فضل الشعراء بثلاث : كان شاعر الأنصار ، وشاعر النبيِّ في أيّامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشاعر اليمن كلّها في الإسلام. قال له النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بقي من لسانك؟» فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف ارنبته ثمَّ قال : والله إنّي لو وضعته على صخر لفلقه ، أو على شعر لحلقه ، وما يسرُّني به مقول من معد (١). وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضع له منبراً في مسجده الشريف يقوم عليه قائماً ، ويفاخر عن رسول الله ، ويقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّ الله يؤيِّد حسّان بروح القدس ، ما نافحَ أو فاخر عن رسول الله» (٢).

كانت الحالة على هذا في عهد النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمّا توفّي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ عمر على حسّان وهو ينشد في المسجد فانتهره (٣) ، فقال : أفي مسجد رسول الله تنشد؟ فقال : كنت أُنشد وفيه من هو خيرٌ منك. ثمَّ التفت إلى أبي هريرة ، فقال : سمعتَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «أجب عنّي ، اللهمَّ أيِّده بروح القدس»؟ قال : نعم.

قال أبو عبد الله الآبيُّ المالكيُّ في شرح صحيح مسلم (ص ٣١٧) : وهذا يدلُّ على أنَّ عمر رضى الله عنه كان يكره إنشاد الشعر في المسجد ، وكان قد بنى رحبةً خارجه وقال : من أراد أن يلغط أو ينشد شعراً ، فليخرج إلى هذه الرحبة.

كلُّ ذلك على خلاف ما كان عليه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي وقته أفحمه حسّان بما ذكر من قوله ، لكن لا رأي لمن لا يُطاع ، وقبل حسّان نهاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن فكرته هذه ،

__________________

(١) البيان والتبيين للجاحظ : ١ / ٦٨ و ١٥٠ [١ / ٧٣ و ١٥٣]. (المؤلف)

(٢) مستدرك الحاكم : ٣ / ٢٨٧ [٣ / ٥٥٥ ح ٦٠٥٨] بإسناد صحّحه هو والذهبي. (المؤلف)

(٣) كذا في لفظ ابن عبد البرّ في الاستيعاب [القسم الأول / ٣٤٥ رقم ٥٠٧] ، وابن عساكر في تاريخه : ٤ / ١٢٦ [٤ / ٣٥٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢٩٠] ، وفي لفظ مسلم في الصحيح : ٢ / ٣٨٤ [٥ / ٨٦ ح ١٥١ كتاب فضائل الصحابة] : فلحظ إليه. وفي لفظ لأحمد في مسنده : ٥ / ٢٢٢ [٦ / ٢٩٢ ح ٢١٤٣١] فقال : مه. (المؤلف)

١٠٨

وفهّمه بما هناك من الغاية الدينيّة المتوخّاة حين تعرّض لعبد الله بن رواحة ، لمّا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطوف البيت على بعير ، وعبد الله آخذٌ بغرزه وهو يقول :

خلّوا بني الكفّارِ عن سبيلهِ

خلّوا فكلُّ الخير مع رسولهِ

نحن ضربناكمْ على تنزيلهِ

ضرباً يُزيلُ الهامَ عن مقيلهِ

ويُذهلُ الخليلَ عن خليلهِ

يا ربِّ إني مؤمنٌ بقيلهِ

فقال له عمر : أو هاهنا يا ابن رواحة أيضاً؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أو ما تعلمن ، أولا تسمع ما قال؟!».

وفي رواية أبي يعلى أنَّ النبيَّ قال : «خلِّ عنه يا عمر ، فو الذي نفسي بيده لكلامه أشدُّ عليهم من وقع النبل» (١).

وكان حسّان من المعروفين بالجبن ، ذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (٢) (٢ / ٦) وقال : كان من أجبن الناس. وعدّه الوطواط في غرر الخصائص (٣) (ص ٣٥٥) من الجبناء وقال : ذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف (٤) : أنّه لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً قطُّ. قالت صفيّة بنت عبد المطّلب عمّة رسول الله : كان معنا حسّان في حصن فارغ يوم الخندق مع النساء والصبيان ، فمرَّ بنا في الحصن رجلٌ يهوديّ ، فجعل يطوف بالحصن ـ وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ، وليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنّا ، ورسول الله والمسلمون في نحور عدوِّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا إن أتانا آتٍ. قالت : فقلت : يا حسّان أنا والله لا آمن أن يدلَّ علينا هذا اليهوديُّ أصحابه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد شغل عنّا ، فانزل إليه واقتله. قال : يغفر الله لكِ (يا بنت عبد المطّلب) ما أنا بصاحب شجاعة.

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٩١ [٩ / ٢٠٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٥٤]. (المؤلف)

(٢) أُسد الغابة : ٢ / ٧ رقم ١١٥٣.

(٣) غرر الخصائص : ص ٣٥٨.

(٤) المعارف : ص ٣١٢.

١٠٩

قالت : فلمّا قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً ، اعتجرت (١) ، ثمَّ أخذت عموداً ونزلت إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ، ثمّ رجعت إلى الحصن ، وقلت : يا حسّان انزل إليه واسلبه ، فإنَّه لم يمنعني من سلبه إلاّ أنَّه رجل.

فقال : مالي بسلبه من حاجة (يا بنت عبد المطّلب) (٢) ، وكأن حسّان اقتدى في فعله بهذا الشاعر في قوله :

باتت تشجّعني هندٌ وما علمتْ

أنَّ الشجاعةَ مقرونٌ بها العَطَبُ

لا والذي منعَ الأبصارَ رؤيتَهُ

ما يشتهي الموتَ عندي من له إربُ

للحربِ قومٌ أضلَّ اللهُ سعيهمُ

إذا دعتهمْ إلى نيرانها وثبوا

ولستُ منهمْ ولا أبغي فعالَهُمُ

لا القتلُ يعجبني منهمْ ولا السلَبُ

قال الأميني : هذا ما نقله الوطواط عن المعارف لابن قتيبة ، لكن أسفي على مطابع مصر وعلى يد الطبع الأمينة فيها ، فإنّها تحرِّف الكلم عن مواضعها ، فأسقطت هذه القصّة عن المعارف كما حرّفت عنه غيرها.

ولد المترجَم قبل مولد النبيِّ القدسيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثمان سنين ، وعاش عند الجمهور مائة وعشرين سنة ، وقال ابن الأثير : لم يختلفوا في عمره. وفي المستدرك (٣) (٣ / ٤٨٦) ، وأُسد الغابة (٤) (٢ / ٧) : أربعة تناسلوا من صلب واحد ، عاش

__________________

(١) أي لبست المعجر. وفي سيرة ابن هشام : احتجزت. يقال : احتجزت المرأة أي شدّت وسطها. (المؤلف)

(٢) وإلى هنا ذكره ابن هشام في سيرته : ٣ / ٢٤٦ [٣ / ٢٣٩] ، وابن عساكر في تاريخه : ٤ / ١٤٠ [٤ / ٣٨٤ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٣٠٣] ، وابن الاثير في أُسد الغابة : ٢ / ٦ [٢ / ٧ رقم ١١٥٣] ، والعبّاسي في المعاهد : ١ / ٧٤ [١ / ٢١٤ رقم ٣٩] ، والجمل التي جعلناها بين القوسين من لفظ ابن هشام. (المؤلف)

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥٥٤ ح ٦٠٥٧.

(٤) أُسد الغابة : ٢ / ٧ رقم ١١٥٣.

١١٠

كلٌّ منهم مائة وعشرين سنة ، وهم : حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام.

يُكنّى بأبي الوليد ، وأبي المضرب ، وأبي حسام ، وأبي عبد الرحمن ، والأوّل أشهر ، وكان يقال له : الحسام. وذلك لكثرة دفاعه عن حامية الإسلام المقدَّس بشعره.

وروى الحاكم (١) عن مصعب [بن عبد الله الزبيري] (٢) أنَّه قال : عاش حسّان ستّين في الجاهليّة وستّين في الإسلام ، وذهب بصره وتُوفّيَ على قول سنة (٥٥) (٣) أعمى البصر والبصيرة ، كما نصَّ عليه الصحابيُّ الكبير سيِّد الخزرج قيس بن سعد بن عبادة ، لمّا عزله أمير المؤمنين عليه‌السلام من ولاية مصر ، ورجع إلى المدينة ، فإنَّه حينما قدمها جاءه حسّان شامتاً به ، وكان عثمانيّا بعد ما كان علويّا ، فقال له : نزعك عليُّ بن أبي طالب وقد قتلت عثمان ، فبقي عليك الإثم ولم يحسن لك الشكر. فزجره قيسٌ ، وقال : يا أعمى القلب وأعمى البصر ، والله لو لا أن أُلقي بين رهطي ورهطك حرباً لضربت عنقك ، ثمَّ أخرجه من عنده (٤).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥٥٣ ح ٦٠٥٤.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من المستدرك.

(٣) هذا أحد القولين في المستدرك : وقد كثر الخلاف في وفاته ، وصحّح ابن كثير في تاريخه [٨ / ٥١] : سنة (٥٤). (المؤلف)

(٤) تاريخ الطبري : ٥ / ٢٣١ [٤ / ٥٥٥ حوادث سنة ٣٦ ه‍] ، شرح النهج لابن أبي الحديد : ٢ / ٢٥ [٦ / ٦٤ خطبة ٦٦]. (المؤلف)

١١١
١١٢

٣ ـ

قيس الأنصاري

قلتُ لمّا بغى العدوُّ علينا

حسبُنا ربُّنا ونِعْمَ الوكيلُ

حسبُنا ربُّنا الذي فتحَ البص

رةَ بالأمسِ والحديثُ طويلُ

ويقول فيها :

وعليٌّ إمامنا وإمامٌ

لسوانا أتى به التنزيلُ

يومَ قال النبيُّ من كنتُ مولا

هُ فهذا مولاهُ خطبٌ جليلُ

إنَّ ما قاله النبيُّ على الأمّةِ

حتمٌ ما فيه قالٌ وقيلُ

ما يتبع الشعر

هذه الأبيات أنشدها الصحابيُّ العظيم سيِّد الخزرج قيس بن سعد بن عبادة بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام بصفّين ، رواها شيخنا المفيد معلّمُ الأمّة المتوفّى (٤١٣) في الفصول المختارة (١) (٢ / ٨٧) ، وقال بعد ذكرها : إنَّ هذه الأشعار مع تضمّنها الاعتراف بإمامة أمير المؤمنين ، فهي دلائل على ثبوت سلف الشيعة وإبطال عناد المعتزلة في إنكارهم ذلك.

وذكرها في رسالته في معنى المولى (٢) ، وقال فيها : قصيدة قيس التي لا يشكُ

__________________

(١) الفصول المختارة : ص ٢٣٦.

(٢) رسالة في معنى المولى ، المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد : ٨ / ٢٠.

١١٣

أحدٌ من أهل النقل فيها ، والعلم بها من قوله كالعلم بنصرته لأمير المؤمنين وحربه أهل البصرة وصفّين معه ، وهي التي أوّلها :

قلتُ لمّا بغى العدوُّ علينا

حسبُنا ربُّنا ونعمَ الوكيلُ

فشهد هكذا شهادةً قطعيّةً بإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من جهة خبر يوم الغدير ، صرّح بأنَّ القول فيه يوجب رئاسته على الكلِّ ، وإمامته عليهم.

ورواها سيِّدنا الشريف الرضيُّ المتوفّى (٤٠٦) في خصائص الأئمّة (١) ، وقال : اتّفق حملة الأخبار على نقل شعر قيس وهو ينشده بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رجوعهم من البصرة ، في قصيدته التي أوّلها :

قلتُ لمّا بغى العدوُّ علينا

حسبُنا ربُّنا ونعمَ الوكيلُ

وهذان الشاعران ـ قيس وحسّان ـ صحابيّان ، شهدا بالإمامة لأمير المؤمنين ، شهادة من حضر المشهد ، وعرف المصدر والمورد.

وأخرجها العَلَم الحجّة الشيخ عبيد الله السدابادي في المقنع (٢) ـ الموجود عندنا ـ فقال : قالوا : ومن الدليل على أنّ أمير المؤمنين هو الإمام المنصوص عليه ، قول قيس ابن سعد بن عبادة ، وهذا من خيار الصحابة يشهد له بالإمامة ، وأنَّه منصوصٌ عليه ، وأنَّه خولف ، وقال الكميت بن زيد يصدِّق قول قيس بن سعد وحسّان بن ثابت ... ورواها العلاّمة الكراجكي المتوفّى (٤٤٩) في كنز الفوائد (٣) (ص ٢٣٤) فقال : إنَّه ممّا حُفظ عن قيس بن سعد بن عبادة ، وإنَّه كان يقوله بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام بصفّين ومعه الراية.

__________________

(١) خصائص الأئمّة : ص ٤٢ ، خصائص أمير المؤمنين : ص ٧.

(٢) المقنع في الإمامة : ص ١٣٣ ـ ١٣٦.

(٣) كنز الفوائد : ٢ / ٩٨.

١١٤

وأخرجها أبو المظفَّر سبط ابن الجوزي الحنفيُّ المتوفّى (٦٥٤) في التذكرة (١) (ص ٢٠) فقال : إنَّ قيساً أنشدها بين يدي عليٍّ بصفّين.

ورواها (٢) سيِّدنا هبة الله الموسوي في المجموع الرائق ـ الموجود عندنا ـ والمفسِّر الكبير الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره (٢ / ١٩٣) ، وشيخ السرَويّ الآتي شيخنا الشهيد الفتّال في روضة الواعظين (ص ٩٠) ، وسيِّدنا القاضي نور الله المرعشيّ الشهيد (١٠١٩) في مجالس المؤمنين (ص ١٠١) ، والعلاّمة المجلسي المتوفّى (١١١١) في البحار (٩ / ٢٤٥) ، والسيِّد عليّ خان المتوفّى (١١٢٠) في الدرجات الرفيعة ـ الموجود عندنا ـ في ذكر وقعة صفّين ، وشيخنا صاحب الحدائق البحراني المتوفّى (١١٨٦) في كشكوله (٢ / ٣١٨). وجمع آخر من متأخِّري أعلام الطائفة.

الشاعر

أبو القاسم ـ وقيل : أبو الفضل (٣) ـ قيس بن سعد بن عبادة بن دليم (٤) بن حارثة بن أبي حزيمة ـ بالحاء المهملة المفتوحة ـ (٥) بن ثعلبة بن ظريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر (٦) بن حارثة بن ثعلبة. إلى آخر النسب المذكور (ص ٦٢).

أمّه فكيهة بنت عبيد بن دليم بن حارثة.

__________________

(١) تذكرة الخواص : ص ٣٣.

(٢) المجموع الرائق : ص ٢١٧ ، تفسير أبي الفتوح الرازي : ٤ / ٢٧٩ ، روضة الواعظين : ص ١٠٣ ، مجالس المؤمنين : ١ / ٢٣٨ ، بحار الأنوار : ٣٧ / ١٥٠ ، الدرجات الرفيعة : ص ٣٤٥.

(٣) وقيل : أبو عبد الله. وقيل : أبو عبد الملك. (المؤلف)

(٤) في تهذيب التهذيب [٨ / ٣٥٣ رقم ٧٠٢] : دليهم. (المؤلف)

(٥) وقيل : حارثة بن خزيم بن أبي خُزيمة ـ بالمعجمة المضمومة ـ تاريخ الخطيب : ١ / ١٧٧ [رقم ١٧]. (المؤلف)

(٦) هنا يتّحد المترجم مع حسّان في النسب. (المؤلف)

١١٥

هو ذلك الصحابيّ العظيم ، كان يُعدُّ من أشراف العرب ، وأُمرائها ، ودهاتها ، وفرسانها ، وأجوادها ، وخطبائها ، وزهّادها ، وفضلائها ، ومن عمد الدين ، وأركان المذهب.

أمّا شرفه :

فكان هو سيِّد الخزرج وابن سادتها ، وقد حاز بيته الشرف والمجد جاهليّةً وإسلاماً ، قال سليم بن قيس الهلالي في كتابه (١) : إنَّ قيس بن سعد كان سيِّد الأنصار وابن سيِّدها.

وفي كامل المبرّد (٢) (١ / ٣٠٩) : كان شجاعاً جواداً سيِّداً. وقال أبو عمرو الكشّي في رجاله (٣) (ص ٧٣) : لم يزل قيس سيِّداً في الجاهليّة والإسلام ، وأبوه وجدُّه وجدُّ جدِّه لم يزل فيهم الشرف ، وكان سعد يُجير فيُجار وذلك له لسؤدده ، ولم يزل هو وأبوه أصحاب إطعام في الجاهليّة والإسلام ، وقيس ابنه بعده على مثل ذلك.

وفي الاستيعاب (٤) (٢ / ٥٣٨) : كان قيس شريف قومه غير مدافع هو وأبوه وجدُّه. وفي أُسد الغابة (٥) (٤ / ٢١٥) : كان شريف قومه غير مدافع ، ومن بيت سيادتهم. وقال ابن كثير في تاريخه (٦) (٨ / ٩٩) : كان سيِّداً مطاعاً ، كريماً ، ممدّحاً ، شجاعاً.

وقال المترجَم له في أبيات له :

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس : ص ٢ / ٧٧٨ ح ٢٦.

(٢) الكامل في اللغة والأدب : ١ / ٤١٩.

(٣) رجال الكشّي : ١ / ٣٢٧ رقم ١٧٧.

(٤) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٨٩ رقم ٢١٣٤.

(٥) أُسد الغابة : ٤ / ٤٢٥ رقم ٤٣٤٨.

(٦) البداية والنهاية : ٨ / ١٠٧ حوادث سنة ٥٩ ه‍.

١١٦

وإنّي من القومِ اليمانينَ سيِّدٌ

وما الناسُ إلاّ سيِّدٌ ومَسُودُ

وَبزَّ جميعَ الناسِ أصلي ومنصبي

وجسمٌ به أعلو الرجالَ مديدُ

وكان والده أحد النقباء الاثني عشر الذين ضمنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام قومهم. والنقيب : الضمين. راجع تاريخ ابن عساكر (١) (١ / ٨٦).

وأمّا إمارته :

ففي العهد النبويِّ كان من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير ، يلي ما يلي من أموره (٢). وكان حامل راية الأنصار مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الغزوات ، واستعمله على الصدقة ، وكان من ذوي الرأي من الناس (٣) ، وبعده ولاّه أمير المؤمنين عليه‌السلام مصر ، وكان أميرها الطاهر.

كان قيس من شيعة عليٍّ عليه‌السلام ومناصحيه ، بعثه عليٌّ أميراً على مصر في صفر (سنة ٣٦) ، وقال له : «سر إلى مصر فقد ولَّيتُكَها ، واخرج إلى ظاهر المدينة ، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك ، حتى تأتي مصر ومعك جند ، فإنَّ ذلك أرعب لعدوِّك ، وأعزُّ لوليِّك ، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن ، واشدد على المريب ، وارفق بالعامّة والخاصّة ، فإنَّ الرفق يُمْنٌ».

فقال قيس : رحمك الله يا أمير المؤمنين ، قد فهمتُ ما ذكرتَ ، فأمّا الجند فإنّي أدَعُهُ لك ، فإذا احتجتَ إليهم كانوا قريباً منك ، وإن أردتَ بعثتهم إلى وجه من

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٧ / ١١٢ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٢٣٦ ، ٢٣٨.

(٢) صحيح الترمذي : ٢ / ٣١٧ [٥ / ٦٤٨ ح ٣٨٥٠] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٥ ، مصابيح البغوي : ٢ / ٥١ [٣ / ١٣ ح ٢٧٨٣] ، الاستيعاب : ٢ / ٥٣٨ [القسم الثالث / ١٢٨٩ رقم ٢١٣٤] ، أُسد الغابة : ٤ / ٢١٥ [٤ / ٤٢٥ رقم ٤٣٤٨] ، الإصابة : ٥ / ٣٥٤ [٣ / ٢٤٩ رقم ٧١٧٧] ، تهذيب التهذيب : ٦ / ٣٩٤ [٨ / ٣٥٣ رقم ٧٠٢] ، مجمع الزوائد : ٩ / ٣٤٥. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن عساكر [١٤ / ٤٥٢ ، ٤٥٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٢١ / ١٠٢] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٩٩ [٨ / ١٠٧ حوادث سنة ٥٩ ه‍]. (المؤلف)

١١٧

وجوهك كان لك عدّة ، ولكنّي أسير إلى مصر بنفسي وأهل بيتي ، وأمّا ما أوصيتني به من الرفق والإحسان ، فالله تعالى هو المستعان على ذلك.

فخرج قيس في سبعة نفر من أهله ، حتى دخل مصر مستهل ربيع الأوّل ، فصعد المنبر فجلس عليه خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : الحمد للهِ الذي جاء بالحقِّ ، وأمات الباطل ، وكبت الظالمين. أيّها الناس ، إنّا بايعنا خير من نعلم بعد نبيِّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنّة رسوله ، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم.

فقام الناس فبايعوا واستقامت مصر وأعمالها لقيس ، وبعث عليها عمّاله ، إلاّ أنَّ قريةً منها يقال لها : خربتا (١) قد أعظم أهلها قتل عثمان ، وبها رجل من بني كنانة يقال له : يزيد بن الحارث ، فبعث إلى قيس : إنّا لا نأتيك ، فابعث عمّالك ، فالأرض أرضك ، ولكن أقرّنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس.

ووثب محمد بن مسلمة بن مخلّد بن صامت الأنصاري ، فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه ، فأرسل إليه قيس : ويحك أعليَّ تثب؟ والله ما أحبُّ أنَّ لي ملك الشام ومصر وأنَّي قتلتك! فَاحْقِنْ دَمَكَ. فأرسل إليه مسلمة : إنّي كافٌّ عنك ما دمت أنت والي مصر. وكان قيس له حزمٌ ورأيٌ (٢).

خرج أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الجمل وقيس على مصر ، ورجع من البصرة إلى الكوفة وهو بمكانه ، ووليها أربعة أشهر وخمسة أيّام ، دخلها كما مرَّ في مستهلِّ ربيع الأوّل ، وصرف منها لخمس خلون من رجب ، كما في الخطط للمقريزي (٣) ، فما في

__________________

(١) بفتح الخاء وكسرها وكسر الراء المهملة ثمّ الموحَّدة الساكنة. (المؤلف)

(٢) تاريخ الطبري : ٥ / ٢٢٧ [٤ / ٥٤٩ ٥٥٠ حوادث سنة ٣٦ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٠٦ [٢ / ٣٥٤ حوادث سنة ٣٦ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٣ [٦ / ٥٩ خطبة ٦٧] نقلاً عن كتاب الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي [ص ١٢٧ ـ ١٣٠]. (المؤلف)

(٣) الخطط والآثار : ٢ / ٣٣٦.

١١٨

الاستيعاب (١) وغيره : أنَّه شهد الجمل الواقع في جمادى الآخرة سنة (٣٦) في غير محلّه. نعم ؛ يظهر من التاريخ شهوده (٢) في مقدِّمات الجمل.

وولاّه عليٌّ أمير المؤمنين آذربيجان كما في تاريخ اليعقوبي (٣) (٢ / ١٧٨) ، وكتب إليه وهو عليها :

أمّا بعد : فأقبل على خراجك بالحقّ ، وأحسن إلى جندك بالإنصاف ، وعلّم من قِبلك ممّا علّمك الله ، ثمَّ إنَّ عبد الله بن شبيل الأحمسي سألني الكتاب إليك فيه بوصايتك به خيراً ، فقد رأيته وادعاً متواضعاً ، فألن حجابك ، وافتح بابك ، واعمد إلى الحقِّ ، فإنَّ من وافق الحقَّ ما يحبو أسرّه ، (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٤).

قال غياث : وَلمّا أجمع عليٌّ على القتال لمعاوية ، كتب أيضاً إلى قيس :

«أمّا بعد : فاستعمل عبد الله بن شبيل الأحمسي خليفةً لك وأقبل إليّ ؛ فإنَّ المسلمين قد أجمع ملَؤهم وانقادت جماعتهم ، فعجِّل الإقبال ، فأنا سأحضرَنّ إلى المحلّين عند غرّة الهلال إن شاء الله ، وما تأخّري إلاّ لك ، قضى الله لنا ولك بالإحسان في أمرنا كلِّه».

وروى الطبري في تاريخه (٥) (٦ / ٩١) ، وابن كثير في تاريخه (٦) (٨ / ١٤) عن الزهري ، أنَّه قال : جعل عليٌّ عليه‌السلام قيس بن سعد على مقدِّمته من أهل العراق إلى قِبل آذربيجان وعلى أرضها ، وشرطة الخميس التي ابتدعتها العرب وكانوا أربعين ألفاً

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٩٠ رقم ٢١٣٤.

(٢) الظاهر أنَّه قدس‌سره ضمّن (شهد) معنى (حضر) فعدّاه ب (في).

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٠٢.

(٤) سورة ص : ٢٦.

(٥) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٥٨ حوادث سنة ٤٠ ه‍.

(٦) البداية والنهاية : ٨ / ١٦ حوادث سنة ٤٠ ه‍.

١١٩

بايعوا عليّا عليه‌السلام على الموت ، ولم يزل قيس يُداري ذلك البعث حتى قُتل عليٌّ عليه‌السلام واستخلف أهل العراق الحسن بن عليّ عليهما‌السلام على الخلافة.

حديث دهائه :

يجد القارئ شواهد قويَّة على ذلك من مواقفه العظيمة في المغازي ، ونظراته العميقة في الحروب ، وآرائه المتَّبعة في مهمّات القضايا ، وأفكاره العالية في إمارته ، وإعظام الإمام أمير المؤمنين محلّه من الدهاء ، وإكباره رأيه في حكومته ، فإنَّه لَمّا قدم قيس من ولاية مصر على عليٍّ ، وأخبره الخبر الجاري بينه وبين رجال مصر ومعاوية ، علم أنَّه كان يقاسي أموراً عظاماً من المكايدة ، فعظم محلّ قيس عنده ، وأطاعه في الأمر كلّه. تاريخ الطبري (١) (٥ / ٢٣١).

فعندها تجد سيِّد الخزرج قيساً في الطبقة العليا من أصحاب الرأي ، ومن مقدِّمي رجالات النُّهى والحجا ، وتشاهد هناك آيات عقله المطبوع والمكتسب ، وتعدُّه أعظم دهاة العرب حين ثارت الفتن ، وسعرت نار الحرب ، إن لم نقل : أعظم دهاة العالم ، ونرى له التقدُّم في الفضيلة على الخمسة (٢) الذين عدّوه منهم ، وأولاهم بالعقليّة الناضجة ، وتجد دون محلّه الشامخ ما في الاستيعاب (٣) (٢ / ٥٣٨) وغيره (٤) من أنَّه أحد الفضلاء الجلّة من دهاة العرب ، من أهل الرأي والمكيدة في الحرب ، مع النجدة والسخاء والشجاعة.

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٥٥٥ حوادث سنة ٣٦ ه‍.

(٢) هم : معاوية ، عمرو بن العاص ، قيس بن سعد ، المغيرة بن شعبة ، عبد الله بن بُديل. راجع تاريخ الطبري : ٦ / ٩٤ [٥ / ١٦٤ حوادث سنة ٤١ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٤٣ [٢ / ٤٤٨ حوادث سنة ٤١ ه‍] ، أُسد الغابة : ٤ / ٢١٥ [٤ / ٤٢٥ رقم ٤٣٤٨]. (المؤلف)

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٨٩ رقم ٢١٣٤.

(٤) أُسد الغابة : ٤ / ٢١٥ [٤ / ٤٢٥ رقم ٤٣٤٨] ، الإصابة : ٣ / ٢٤٩ [رقم ٧١٧٧] ، تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٩٥ [٨ / ٣٥٤ رقم ٧٠٢] ، السيرة الحلبيّة : ٣ / ٩٣ [٣ / ٨٢]. (المؤلف)

١٢٠