شبهة كتاب ، كالمجوس ، والصابئين ، والسامرة إن أُلحق الأخيران بأحدهم.
ولو انقلب أحدهم عن مذهبه ، ودخل في مذهب آخر من مذاهب أهل الكتاب ، ففي قبول الجزية منه إشكال.
وتكفي المُعاطاة الفعليّة في عقد الجزية ، وسائر عقود الأمان ، ويجري فيه التوكيل ، والفضول مع الإجازة ممّن له الولاية.
ولو ظنّ من أهل الكتاب ، فعقد معه الجزية ، فظهر من غيرهم من دون تدليس ، ردّ إلى مأمنه.
ولو رجعَ الكتابي إلى الوثنيّة بعد عقد الجزية ، انحلّ عقده ، ولو عفا الإمام أو رئيس المسلمين ، لم يختلّ عقد الذمّة.
والعقد قد يعمّ النفوس والأعراض والأموال ، فيعصم الجميع ، وإذا خصّ ، خصّ بما خصّ المتذمّم من غيبة أو سبّ أو أذيّة ما لم ينتهِ إلى ضرر ، ولا يقضي باحترامه وإكرامه.
وتكره بدأة الذمّي بالسلام ، وإذا بدأ هو أُجيب بـ «عليكم» فقط.
وتكره مُصافحته أيضاً ، فإن فعل فمن وراء ثياب.
ويستحبّ أن يضطرّه إلى أضيق الطرق ، وأن يُمنع من الجادّة.
وفي استحباب وضع العلامة ، ومنع ركوب الخيل ، والحكم عليه بالركوب عرضاً ، وحذف مقاديم الشعور ، وترك الكُنى والألقاب الإسلاميّة من دون شرط بحث.
ولو تذمّم في مملكة رئيس من رؤساء الحقّ أو الباطل ، جرى تذمّمه في حقّ جميع الممالك. ولو تذمّم من رئيس ، فأعطى الجزية لغيره ، لم يمضِ ذمامه.
ولو بذلَ الكتابي الجِزية ، وقامَ بشروطها ، وجبَ قبولها.
ولو تحرّر بعضُه ، قامَ بما قابلَ حصّة الحرّية من الجزية ، وأدّى المولى مُقابل الجزء الرق إن أوجبنا جزية العبد على مولاه ، وإلا لزم أداء ما قابل الجزء فقط.
ولو كان رجلان على حقو واحد ، اختبر بالإيقاظ بعد النوم ، فإن لم يتيقّظا معاً ، وظهر كونهما اثنين ، أعطيا جزيتين.
وإن تيقّظا معاً ، كانا واحداً ، وكانت عليهما جزية واحدة.
ويُصدّق مُدّعي الكتابيّة من غير بيّنة.
ولو ظهر فيما أدّاه عَيب ردّ ؛ عليه ، أو نَقصٌ ، أتمّه.
وينبغي تأدية الجزية على رؤوس الأشهاد ؛ لعزّة الإسلام.
الفصل الثاني
من أسباب الاعتصام : الإقرار بكلمة الإسلام ، فيحقن دمه مع الإقرار ، قبل الإسلام وبعده ، ويدخل في الملك هو وماله لو كان ذلك بعد الاستيلاء.
الفصل الثالث : الأمان
وإنّما يجوز أو يُستحبّ مع اعتبار المصلحة للمسلمين ، وقد يجب إذا ترتّب على تركه فساد عليهم. ويجوز للواحد والمُتعدّدين من المُشركين. ويجب لمن أراد أن يَسمَع كلام الله منهم ، ولمن كان رسولاً منهم إلى أن يرجع إلى مأمنه.
وفيه مباحث :
الأوّل : في عقده
ولا تُعتبر فيه ألفاظ مخصوصة ، ويجزي فيه جميع ما أفاد معناه من لفظ عربي أو فارسي أو تركي أو يوناني أو سرياني أو غير ذلك ، أو كتابة ، أو إشارة على نحو أيّ اللغات كانت ، والرضا بمنزلة القبول. وقد يُلحق بالإيقاعات.
ويجزي في القول «أجرتك» و «أمّنتك» و «ذمّمتك» أو «عصمتك» (١) أو «أنت في ذمّة الإسلام أو عُهدته أو حمايته أو رعايته أو ذمّة المسلمين» على نحو ما ذكر.
ويجزي مثل «لا تخف» ، و «لا تخشَ» ، و «لا تضطرب» ، و «لا تحزن» ، مع دلالة
__________________
(١) في «ح» ، «ص» : أعصمتك.
الحال على إرادته. ومع عدم الإرادة ، يأمن المُشتبه بها ، فيردّ إلى مأمنه.
ونحو «قم ، وقف ، ولا تهرب وألقِ سلاحك ، ونم من غير حرس ، ونحو ذلك» فلا دلالة فيه. ولو زعم المُشرك الدلالة ، عُذِرَ ، وردّ إلى مأمنه.
وإذا سُئِلَ المتكلّم ، فقال : قصدت التأمين ، التزم.
ولو خرج الكفّار من حصنهم مشتبهين ، ردّوا إلى مأمنهم. ولو لم يكن لاشتباههم وجه ، فلا أمان.
الثاني : في محلّه
محلّه لغير الإمام ومأذونه الخاصّ قبل الأسر. وإن كان في مضيق ، فلا أمان بعده إلا من الإمام أو مأذونه الخاصّ.
ولو أخبرَ المُسلم بالتأمين ، وكان في وقتٍ له ذلك كما قبل الأسر ، قُبلَ ولو كان فاسقاً ؛ وإن كان بعده ، لم يُقبل إلا مع البيّنة.
ولو شهدَ عدلان أو جماعة عدول بأنّهم أمّنوه ، لم تُقبل شهادتهم ؛ لأنّه فعلهم. ولو جاء المسلم بأسير ، وادّعى التأمين قبل الأسر ، لم يُقبل منه ، وإن وافقه المسلم ، وله عليه اليمين. ولو أشرفَ جيش المسلمين على الكفّار ، ولم يبلغوا حدّ الأسر ، جازَ تأمينهم.
الثالث في العاقد
يجوز عقد الإمام ونائبه الخاصّ مع الكفّار من أهل البوادي ، والبلدان ، والقُرى ، عموماً وخصوصاً ، إذا عمّته النيابة. وكذا المجتهدون ، وأُمراء العساكر ، ونوّابهم ، وحكّامهم القائمون بسياسة عساكر المسلمين ، مع عجز المجتهدين ، مع الكفّار جملة ، وأهل الصحاري والبُلدان والقُرى ، من دون تخصيص بقليلٍ وكثير ، مع مُراعاة المصلحة.
ولا يجوز لباقي الرعيّة إلا تأمين الواحد منهم ، أو الأكثر لواحدٍ من الكفّار ، أو عدد
قليل ، كالعشرة وما قاربها ، أو قافلة قليلة ، أو حصن صغير.
ولا فرق في المؤمّنين من المسلمين بعد إحراز العقل والبلوغ والاختيار بين الأحرار والعبيد ، والقويّ والضعيف ، والذليل والعزيز ، والحقير والعظيم ، والغنيّ والفقير ، والذكر والأُنثى.
ويجوز التأمين للصبيّ ، والمجنون ، والحرّ ، والعبد ، والذكر ، والأُنثى من الكفّار ، ولا يقع التأمين من الكفّار المعتصمين.
نعم يجوز لهم ولغيرهم من أقسام الكفّار أن يكونوا وكلاء من المسلمين.
ويجوز التأمين من أهل الفِرَق المُبدعة من المُسلمين ، ما لم يدخلوا في أقسام الكفّار.
ولو عقده القابل ، وأجازه القابل من دون سبقِ ردّ ، جازَ.
الرابع في أحكامه ، وهي أُمور :
أوّلها : أنّ عقد الأمان لازم ، فلا يجوز نقضه إلا مع الإخلال بشروطه. ومع الإطلاق يدخل العرض ، والأولاد ، والخدّام ، والأموال تبعاً ، ولا يدخل الأبوان ، والأرحام.
ثانيها : أنّه لو دخلَ حربيّ دار الإسلام بغير أمان ، فلا أمان على نفسه ، ولا عرضه ، ولا ماله.
ولو كان مع بعض المسلمين أو معه تجارة ، فزعم حصول الأمان بمثل ذلك ، لم يكن مؤمّناً. ويردّون إلى مأمنهم مع الاشتباه.
ثالثها : أنّه لو دخل بأمان مع ماله ، ثمّ خرج إلى دار الحرب متنزّهاً أو لغرض ، مع نيّة الرجوع ، وأبقى ماله ، كان أمناً على نفسه وماله. وإن قصدَ البقاء وترك المال ، أمن على ماله دون نفسه. وإن كان بنيّة الرجوع من دون مال ، أمن على نفسه.
ولو بقي المال الباقي على الأمان ، فأرسل في طلبه ، بعث إليه. وإذا مات في بلاد الإسلام ، وله وارث مسلم في دار الحرب أو دار الإسلام ، اختصّ به ، وإلا كان للإمام.
رابعها : أنّه إذا دخلَ المسلم أرضَ العدوّ بأمان ، فسرق أو سلب شيئاً ، وجبَ ردّه ؛ لأنّ الظاهر دخول شرط عدم خِيانتهم عليه. وكذا لو استأذن المؤمّن. أمّا لو دخل بغير أمان ، فمالهم كسائر المُباحات له.
خامسها : أنّه لو فكّ نفسه بمال يبعثه ، وإلا رجع ، فلا يبعد وجوب الوفاء إن تمكّن من المال ، وإلا فإن كان امرأة لم يجز ، وإن كان رجلاً ، فالأقوى فيه ذلك أيضاً.
سادسها : أنّه يقتصر في الأمان على متعلّقه ، فإن طلبوه للنفوس اختصّ بها ، وأُبيحت أعراضهم وأموالهم ؛ وإن خصّوا الأعراض والأموال أو الأبناء أو الإباء أو الأُمهات أو الأخوة أو الأخوات أو الأرحام ، يحمل على الاختصاص.
وإن خصّوا الذراري ، دخل الأولاد والبنات ، وما تولّد منهم. وفي الإباء تدخل الأُمّهات والأجداد. وكيف كان ، فكلّ خطاب يتبع مصطلح أهله ، فإن خاطبوا بالعربيّة ، بني على اصطلاح العرب ، وهكذا اللغات الأُخر.
سابعها : أنّه لو أمر رئيس العسكر بالرسالة ، أو أرسل رسولاً بمصالح ، وجب أن يختار مسلماً ، مؤمناً ، عدلاً ، بصيراً بالأُمور ، أميناً ؛ لا كافراً ، ولا مُبدِعاً ، ولا فاسقاً ، ولا خائناً ، ولا قليل البصيرة ، فإذا أبلغهم الأمان ، وسلّموا الحصن ، أو خرجوا منه وكانوا داخلين ، لا يجوز التعرّض لهم.
وإذا حصلت لهم شبهة بمجرّد دخوله ، فزعموا الأمن ، لم يجز التعرّض لهم ، حتّى يرجعوا إلى مأمنهم ، ويعلموا بعدم الأمان. وإذا قال الرسول : ما أمّنتهم ، وزعموا التأمين ، قدّم قولهم مع القرينة.
ثامنها : أنّ الأمان يجري على نحو ما وقع ، إن عامّاً فعامّ ، أو خاصّاً فخاصّ. فإن خصّ الشبّان أو الشيوخ أو الرجال أو النساء ، قصر الأمان على من خصّ به. ولو زعم أحدهم العموم في مقام الشبهة ، وخرج ، بُعث إلى مأمنه.
تاسعها : لو ادّعى رئيس المسلمين أو الرسول خصوص الأمان ، وادّعوا العموم ، قُدّم قول المسلمين إلا مع القرينة. ومع الشبهة يردّون إلى مأمنهم.
عاشرها : إذا أمّنوا شخصاً على شرط ، كفتح باب الحُصن ، أو الدلالة على طريق
يوصلهم إليه ، أو على أن يخرج منهم ويُعينهم ، أو يذهب إلى محلّ آخر ، وهكذا ، فإن فعل الشرط أُمّن ، وإلا فلا.
حادي عشرها : إذا أمّنوهم بشرط مالٍ أو نساءٍ أو صبيةٍ أو نحو ذلك ، وعملوا بشرطهم ، أُخذ منهم شرطهم ، ولم يَجُز التعرّض لهم.
ثاني عشرها : يقع الأمان على نحو ما يتعيّن به من عموم الأمكنة ، والأزمنة ، والأحوال ، وخصوصها ، وعموم المؤمّن منهم ، كجميع المُحاربين ، أو خصوص بعضٍ من أصنافهم أو آحادهم.
ثالث عشرها : إذا جاء الرسول منهم ، وعلموا أنّ غرضه التطلّع على أحوالهم ، ليخبر الكفّار بها أو خافوا منه ، جاز للمسلمين منعه عن الرجوع.
رابع عشرها : أنّه يجوز لرئيس المسلمين نقض الأمان ، مع لزوم الفساد منه ، أو فوات المصلحة ، وليس لغيره ، ولكن لا يجوز التعرّض لهم ، حتّى يبلغهم الخبر بإرسال كتاب يعرفون معناه ، ويطمئنون إلى صحّته ، أو رسول يعرفونه ، ويعتمدون على خبره ؛ وبدون ذلك لا يجوز التعرّض لهم.
ولو لحق الخبر بعضاً دون بعض ، لحق كلا حُكمه.
ويجب على رسول المسلمين التبليغ العام إن كان النقض عامّاً ، والخاصّ إن كان خاصّاً ، ويكون ذلك على رؤوس الأشهاد ، وللمسلمين البناء على هذا الظهور ، فيحكمون بنقض الأمان في حقّ من وجدوه.
خامس عشرها : أنّ الأمان وخلافه قد يكون بالتحكيم ، فإذا حاصر المسلمون حصناً ، وظهرت قدرتهم على بعض الكفّار ، وطلب الكفّار النزول على حكم حاكمٍ من المسلمين ، إماماً أو غيره ، رئيساً أو مرؤساً ، جاز للرئيس قبول ذلك.
فإذا حكم بالنفوس أو الأعراض أو الأموال ، أو المركّب من الاثنين أو الثلاثة ، أو بالعفو عنهم ، أو أخذ الجزية أو مال أو نحو ذلك ، مضى حكمه.
ولا يجوز إنزالهم على حُكم الله إلا إذا كان معلوماً.
ويجوز اتّحاد الحاكم وتعدّده ، ومع التعدّد إن اتّفقا فلا كلام ، وإن اختلفا لم يمضِ
الحكم ، حتّى يتّفقا أو يحكم غيرهما. وإن ماتَ أحدهما ، ضمّ إليه آخر ، أو جدّد التحكيم.
سادس عشرها : إنّما يتّبع حُكم الحاكم إذا لم يخالف الشرع ، ولم يتعمّد الباطل ، ولا يمضي إلا فيما فيه صلاح المسلمين ؛ ويلزم العمل بحكمه ، ولا يجوز التخلّف عنه. والظاهر عدم المانع من تسلسل الحكّام ، ما لم يلزم التعليل التعطيل ، فإذا حكم بجعل حكم آخر ، مضى حكمه.
سابع عشرها : إذا حكم الحاكم بأمر ، وأسلموا قبل فعله ، فإن كان ممّا يتعلّق بالنفوس ، انفسخ الحكم ، وإن كان متعلّقاً بالأولاد والنساء والأموال ، مضى.
ثامن عشرها : لو حكم الحاكم بما لا يجوز ، لم يمضِ حُكمه.
ثمّ إن كان مُشتبهاً أو مَعذوراً بأيّ نحو كان ، لم ينعزل ، وجاز حكمه بالموافق ؛ وإن كان غير معذور وحكم بفسقه ، انعزلَ.
تاسع عشرها : لو حَكّموا مَن يختارونه مِن عسكر المسلمين جازَ ، ثمّ ينظر فيما يختارون ، فإن كان أهلاً فبها ، وإلا نُفي من الحكومة.
العشرون : يُعتبر في الحاكم البلوغ والعقل حين الحكومة ، والحريّة ، والذكورة ، والمعرفة بطريق الحكم ولو بالتقليد ، والإسلام ، والإيمان ، والعدالة ، والنباهة ، وعدم النوم ، والغفلة ، والنسيان ، والإغماء ، والسكر ، والجبر ، والخلوّ من الخوف والاضطراب بحيث يُعتمد على قوله ، ولا مانع من جهة العمى والصمم مع إمكان التوصّل إلى معرفة المُراد.
الحادي والعشرون : لا يُعتبر في التحكيم ولا في الحكم صيغة مخصوصة ، بل يكفي فيهما ما يفيد إنشاءهما ، ويدلّ عليهما ، من لفظ عربي أو فارسي ، أو من غير لغة كائنة ما كانت. وتكفي فيهما الإشارة المُفهِمة ، والكِناية المصرّحة في وجه قوي.
ويكفي قول : «نعم» بعد قول : أحكمتموني؟ أحكمتَ عليّ؟ ونحو ذلك ، ويعتبر القول من المحكّم ، ويكفي الرضا ، ولا يُعتبر في المحكوم عليه.
الثاني والعشرون : موت الحاكم أو جنونه أو نسيانه لا يخلّ بالحكم ، ويجوز تحكيم القرآن ، وباقي الكتب السماوية ، وكتب الحديث ، وأقوال الموتى ، وآرائهم المنقولة عنهم ، أو المسطورة في كتبهم ، في وجه قويّ.
الثالث والعشرون : أنّ أمر التحكيم وقبوله موكول إلى الإمام أو نائبه الخاصّ ، وتقوى تمشيته إلى المُجتهدين ، ثمّ إلى رئيس المسلمين فيما لم يكن الباعث فيه على الخصام الجلب إلى الإسلام ، وإلا فهو إلى الإمام عليهالسلام.
الرابع والعشرون : ليس للحاكم بعد الحكم أن يرجع عن حكمه ، بل يمضي حكمه ، ولا للمحكّم الرجوع عن التحكيم ، إلا مع خشية الفساد ، ولو كان مشروطاً فيه الخيار ، جازَ فيه الرجوع.
الفصل الرابع : فيمن اعتصموا بالإسلام
فهم على أقسام :
القسم الأوّل : الّذين أسلموا قبل توجّه الجند إليهم ، أو بعد توجّهه إليهم قبل تسلّطه عليهم ، فهذا القسم مُعتصم ، أمن على نفسه ، وماله منقولاً ، وذراريه ، وتابعيه ، وحاله كحال من تقدّم إسلامه ، لا يُطالب بشيء سوى العشر ، أو نصف العشر زكاة فيما فيه الزكاة ليصرف في مصارفها ، أو الخمس لبني هاشم ، ليصرف في مصارفهم ، إلا فيما لا يُنقل ، فإنّه فيء للمسلمين ، وتجري عليهم أحكام المسلمين.
القسم الثاني : الّذين أسلموا بعد الاستيلاء التامّ عليهم ، فهؤلاء لا ينتفعون بإسلامهم بشيء سوى درء القتل عنهم ، وإن يحكم عليهم بالرق ، استرقّوا ، وتملك أموالهم وذراريهم تبعاً لهم ، وإن لم يسترقّوا وفدوا أنفسهم ثمّ أسلموا ، كان جميع ما يتبعهم من الأموال والذراري ممّا لم يقع الاستيلاء عليه لهم ، وما استولي عليه خارجاً عنهم.
القسم الثالث : الّذين أسلموا بعد الاستيلاء على بعض ما يلحق بهم ، دون بعض ، فهنا إن حكم عليهم بالاسترقاق ، صارت جميع اللواحق ممّا استولي عليها وما
لم يستولي للمسترِقّ ، وإلا كان ما دخل في تصرّف المسلمين لهم ، وما لم يدخل له.
ويتحقّق الإسلام بقول : «أشهد أن لا إله إلا الله ، محمّد رسول الله» أو بما يُرادفها ولا يحتمل غير معناها من أيّ لُغة كانت ، وبأيّ لفظ كان. فإذا قالها حُكم بإسلامه ، ولا يسأل عن صفات ثبوتيّة ، ولا عن سلبيّة ، ولا عن دلائل التوحيد ، وشواهد الرسالة ، ولا يتجسّس عليه في أنّه مُعتقد أو مُنافق.
ويكتفى من الأخرس بإشارته ، وإضافة لوك لسانه وكتابته أولى.
والظاهر عدم الاكتفاء بقول : «نعم» ، في جواب من قال : «أتشهد أن لا إله إلا الله محمّد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟» ، أو قول : «بلى» في جواب قول : «أتشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمداً رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟».
ولا تُقبل منه لو قالها غلطاً ، أو غفلة ، أو حال نوم أو إغماء أو جنون أو دهشة تمنع عن القصد ، وتقبل مع الجبر إن كان ممن لا يقرّ على دينه ، ومن المنافق على الأقوى.
الفصل الخامس : المعتصمون بالصلح
إذا رأى الإمام أو نائبه الخاصّ أو من قام بسياسة عساكر المسلمين ضَعفاً أو وهناً فيهم ، ورأى أنّ إيقاع الصلح من الفريقين أصلح للمسلمين ، وأوثق بحفظ شريعة سيّد المرسلين ، أوقعَ الصلحَ بينهم وبين المسلمين على الوجه الأصلح على قدر ما يسعه.
فإن أمكن الاقتصار فيه على حقن دمائهم أو استباحة ذراريهم أو نسائهم أو أموالهم ، اقتصر على الممكن ، إن كلا فكلّ ، وإن بعضاً فبعض.
ومع التخيير ينتظر صلاح المسلمين بقدر الإمكان ، ويأخذ بالأقلّ فالأقلّ على حسب ما يسعه ؛ وإن لم يمكن إلا بتخصيص المال أو الذراري أو النساء أو الطائفة فيوقع الصلح على بعض دون بعض ، فعلَ.
فلو وقع الصلح مع واحد أو متعدّد قليل أو كثير ، وقع على نحو ما وقع ، ولا يقع الصلح من غير الرئيس ؛ إذ ليس حكمه حكم الأمان.
ويكفي فيه جميع ما دلّ عليه من لفظ عربيّ أو غيره ، من كِناية أو إشارة مع الدلالة
صريحاً بمقتضى ذاتها أو القرائن الداخليّة أو الخارجيّة.
ويستوي حكم الصلح بين الرئيسين من الفريقين إلى جميع أهل الفرق ، ولا يجوز أن يتولاه بعض الرعيّة كما جاز في التأمين.
ويجب أن يكون الواسطة من المسلمين مؤتمناً ، موثقاً به ، عارفاً ، بصيراً بالأُمور ، ويلزمه نشر ذلك بين الكفّار المخاصمين.
وإذا وقع الصلح على شيء ، وجب أن يكون معلوماً بين المتصالحين.
وإذا فسد الصلح لفقد بعض شرائطه ، ولم يعلم الكفّار بذلك ، ودخلوا أرض المسلمين ، كانوا آمنين حتّى يردّوهم إلى مأمنهم.
ويجوز الصلح على أخذ الأراضي منهم أو المواشي أو الأشجار أو المزارع أو غير ذلك.
الفصل السادس : المعتصمون بالعهود والايمان والنذور
ومرجعها إلى الأمان إن تعلّقت به ، والهُدنة إن تعلّقت بها ، ويزداد بها تأكيداً ، فيجتمع حينئذٍ معها ، ويتضاعف التأكيد بتكرّرها ، وتضاعفها.
ولا بدّ من الإتيان بها على الوجه الشرعي ، فلا تنعقد إلا بالله ، ولله. والمَدار على كلّ لفظ صريح في معناه ، من عربي صحيح أو مُحرّف ، أو فارسي ، أو تركي ، أو يوناني ، أو سرياني ، أو نحو ذلك.
فلا ينعقد بالقران ، ولا بباقي الكُتب المنزلة من السماء ، ولا بالأنبياء والأوصياء ، ولا بكُتب الأنبياء ، ولا بصفات الله المشتركة.
فإذا وقع بأحدها ، دخل في الأيمان المجرّد ، ويجري الأيمان على ما تعلّق به من خصوص النفوس ، أو النساء ، أو الأموال ، أو الأبناء ، أو ما يعمّ الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة ، وفي جميع المحاربين إن عمّ ، وفي البعض إن خصّ.
ويُشارك هذا القسم قسم المؤمنين ؛ لرجوعه إليه في أنّه يقع من الإمام ، ونائبه الخاصّ والعام ، ومن كلّ من دخل في الإسلام من العاقلين البالغين ، من غير فرقٍ بين
الأحرار والعبيد ، والذكور والإناث ، والأغنياء والفقراء ، والأعزّاء والأذلاء ، بالنسبة إلى العدد القليل ، كالعشرة فما دون ، والحصن الصغير.
ولا يجوز في غير ذلك إلا للإمام أو نائبه الخاصّ ، إن كان في مقام الجلب إلى الإسلام. وإن كان للدفع عن النفوس والذراري والأموال ، فإليهما أو إلى المنصوب العام ، ثمّ إلى المتولّي لعساكر الإسلام ، بعد عدم بَسط الكلمة للإمام أو نائبه الخاصّ أو العام. ولو حكم متولّي العسكر بإبطال الأمان مع ما كان ، كانت عليه معصيتان.
الفصل السابع : في المهادنة
وهي البناء بينهم على ترك الحرب ، والجِدال ، والمُبارزة ، والنِّزال إلى مدّة معلومة ، على نحو ما يقع التراضي بينهم ، وهي جائزة ، وقد تجب.
ولا يُعتبر فيها صيغة مخصوصة ، بل يجوز بكلّ ما يُفيد إنشاءها من لفظ عربي ، أو غيره ، وإشارة.
ولا تقع إلا بين العدد الكثير من الجانبين ، وليس لغير الإمام أو نائبه الخاصّ أو العامّ أو الأُمراء والحكّام مع عدم قيام من تقدّم المُهادنة ؛ لأنّ سائر الرعيّة لا يرجع إليهم أمر الحروب.
ولو وقعت مشروطة بعوض قلّ أو كثر أو بدخول من كان من أحد الفريقين إلى محالّ الفريق الأخر ، أو ما يكون في مكان مخصوص ، أو محلّ مخصوص ، أو بسائر الشروط الشرعيّة ، أُتبع الشرط.
وتشترط فيها موافقة مصلحة المسلمين ؛ فلو كان في المسلمين قوّة ، ولا صلاحَ لهم فيها ، لم يَجُز عقدها.
ولا يجوز عقدها أكثر من سنة ، مع قوّة المسلمين ، ويقوى جوازها أربعة أشهر ، ومع ضعفهم لا يجوز أكثر من عشر سنين في قول قويّ.
والقول بجواز ذلك لصلاح المسلمين لضعفهم أقوى ، ويجوز الإذن من الإمام ومن قام مقامه ، لمن أراد الدخول إلى بلاد المسلمين ، لرسالة أو تجارة أو مَصالح أُخر.
ولا يجوز نقض الهُدنة بعد عَقدها ، إلا إذا حصلَ فساد على المسلمين. وبعد النقض لا يجوز التعرّض لهم حتّى يردّوهم إلى مأمنهم.
الفصل الثامن : في الأحكام المشتركة بين أقسام الاعتصام
وهي أُمور :
أحدها : أنّها إن وقعت عامّة مصرّحاً فيها بالعموم ، كأن يُذمّم أو يُؤمّن أو يُعاهد أو يصالح أو يهادن على النفوس ، والنساء ، والذراري في كلّ زمان ومكان ، وفي جميع الأحوال والأوضاع ، ولجميع الفرقة المحاربة ، أُخذ بعمومها.
وإنّ خصّ بقسم من تلك الأقسام ، أو ببعض خاصّ من الطائفة ، عمل على المخصوص. وإن أطلق ، دخلت النساء ، والذراري ، والأموال ، ولو كانت في مواضع أُخر.
وأمّا الأرحام من الإباء ، والأُمّهات ، وغيرهم ، والأولاد البالغين في طائفة لم يتعلّق بها العقد ، فلا يدخل في الإطلاق ، والمرجع إلى المتفاهم عرفاً.
ثانيها : أنّها لا تضادّ فيها ، فيمكن الجمع بين الاثنين ، والثلاثة ، والأربعة ، والخمسة ؛ فإذا انحلّ واحد ، بقي الأخر.
ثالثها : أنّها لا تحتاج إلى صيغ خاصّة ، ويكفي كلّما دلّ على إنشائها من لفظ عربيّ أو غير عربي ، أو إشارة ، أو كناية. ويجري فيها الفضولي ، فيصحّ بالإجازة.
رابعها : أنّ العام منها والمُطلق يقتضي رفع الأذيّة عن الكفّار بقول ، أو فعل ضربٍ ، أو شتمٍ أو إهانة مواجهة ؛ ولا يقتضي رفع غيبتهم ، وسبّهم ، والطعن فيهم على الوجه الشرعي ، مع الغيبة.
وتجوز مُناظرتهم ، وإظهار معايبهم ، وذكر ما في كُتبهم المحرّفة ، لردّهم إلى الحقّ ، بل لمجرّد قيام الحجّة عليهم.
وأمّا المقيّد والمشروط ، فيتبع قيده ، وشرطه.
خامسها : أنّه إذا شرطَ عليهم مال أو عمل أو شرط آخر ، أو شرط لهم مع صلاح
المسلمين ، صحّ الشرط ، ولزم اتّباعه.
سادسها : أنّ كلّ مَن ظهرت منهُ خيانة للمُسلمين ، بأن كانَ عيناً جاسوساً للكفّار يُوصل إليهم الأخبار ، أو يسعى بفتنتهم ، ليفرّق كلمتهم ، ويوهن قولهم ، انحلّ عقده.
سابعها : لو بانَ فساد العقد ، وقد كان بعض الكفّار ظنّوا صحّته مدّة ، فدخلوا أرض المسلمين ، لم يُتعرّض لهم ، وردّوا إلى مأمنهم.
ثامنها : أنّ الشرط الفاسد يُفسد العقد ، ومن الشروط الفاسدة ردّ النساء المُسلمات إلى الكفّار ، وردّ المسلمين إليهم ، إذا لم يكن لهم طائفة تمنعهم ، إذا أرادوا حملهم على الكفر.
ومنها : إظهار المناكير من المعاصي الكبار ، كالزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والسحر ، وضرب النواقيس ، ونحوها.
تاسعها : لو جاءت معهم امرأة ، فأسلمت ، لم تردّ.
فإن جاء زوجها فأسلم قبل انقضاء العدّة أو علمت ذلك كذلك ، فهي له ؛ وإلا فلا. ولو علمت التقدّم قبل الانقضاء بعد الانقضاء ولم تزوّج ، فكذلك ؛ وبعد التزويج فيه وجهان.
وإن لم يكن دخل بها ، خرجت من يده حين إسلامها. وإن دفع إليها مهراً ولم يرجع ، أخذه ؛ وإن رجع ، فلا شيء له ؛ وإن أخذه ، فرجع في العدّة ، ردّه إليها. وإن لم يدفع شيئاً سمّى أولا فلا شيء له. وإن اختلفوا في الدفع أو الردّ ، حُكم بالعدم في المقامين.
عاشرها : لو تعرّضهم أحد من المسلمين أو المعتصمين أو غيرهم في أرض المسلمين ، وجبَ الذبُ عنهم ، وفي غيرها لا يجب إلا مع الشرط.
حادي عشرها : لو بدّل أحدهم دينه ، ولم يخلّ بالعقد ، أُقرّ على ما كان عليه على الأقوى ، ولو أخلّ ، كما إذا كان من أهل الكتاب ، فخرج عن أهل الكتاب ، لم يقرّ على ذلك ، وعادَ حربياً.
ثاني عشرها : لو نقضَ رئيسهم العقد ، أو اجتمعوا ظاهراً على نقضه ، انتقض بالنسبة إلى الجميع. ولو نقضه غيره ، اختصّ بالناقض. ولو انفصل أحد عن الرئيس أو
قومه ، ودخل دار الإسلام أراد إمضاء العقد في حقّه أُمضي في حقّه ولحق كل حكمه.
ثالث عشرها : إذا نقض عقدهم ، لظهور خيانتهم أو لغير ذلك ، ردّوا إلى مأمنهم ، وأُجري عليهم بعد ذلك حُكم الحربيّين.
رابع عشرها : إذا أغارَ قوم من أهل الحرب أو غيرهم ، فأخذوا غنيمتهم منهم ، فاستخلصها المسلمون ، فالأقوى وجوب الردّ عليهم ، إلا أن يشترطوا أنّ ذلك ليس عليهم.
خامس عشرها : إذا حصلت مُرافعة بينهم وبين المسلمين ، أو فيما بينهم ، مع وحدة النوع وتعدّده ، ورجعوا إلى الإمام أو المنصوب الخاصّ أو العامّ ، تخيّر بين الحكم بينهم ، وبين الردّ إلى مَذاهبهم. وإذا امتنع أحد الخصمين ، ورجع الأخر إلى حكّام المسلمين وقضاتهم ، طلبوه للحضور.
سادس عشرها : تجوز المعاملة معهم ببيع ، وشراء ، وإجارة ، وجعالة ، ومزارعة ، ومضاربة ، وتكره الأمانة عندهم من أيّ الأمانات كانت.
سابع عشرها : تجوز الضيافة عندهم ، وشُرب مائهم ، وقهوتهم ، وأكل طعامهم حبّا ، وطبخاً ، إن جاؤا به مع احتمال عدم الإصابة برطوبة ، كأن يأتوا به في ظرف ، وقام احتمال أنّهم عملوه ، ولم يصيبوه ، وأنّ العامل كان مسلماً.
وما تتوقّف إباحته على التذكية ، يحكم بأنّه ميتة ، إلا مع حجّة شرعية تدلّ على الخلاف.
ولو باعَ أحدهم الأخر خمراً أو خنزيراً وأعطى المسلم الثمن أو أحاله به ، جاز.
ثامن عشرها : لا يجوز تمليك المملوك المسلم وإن كان من الفِرَق المُبدعة ، وكذا المنتسب بالإسلام ، كالمُرتدّ والغاصب منهم ، ولا رهنه عندهم ، مع بقائه في يدهم. ولو كان قد ملكَه مُسلماً ثمّ كفر ، بِيعَ عليه قهراً.
تاسع عشرها : لا يجوز تمليك المَصاحف ، وكُتب الأخبار ، والدعوات ، والخُطَب ، والمواعظ لهم.
ولو ملكها مسلماً ، نقلت عن ملكه إلى غيره قهراً.
العشرون : تجوز الصدقة المندوبة عليهم ، ولا سيّما الأرحام منهم ، والقرابات ،
خصوصاً الأبوين ، ما لم يكن في ذلك تقوية على المسلمين.
الحادي والعشرون : تجري أحكامهم ، ويمضي نكاحهم ، وطلاقهم ، وعتقهم ، ووقفهم ، وجميع ما كان منهم على وفق مذهبهم ، وتجوز لنا معاملتهم على وفق مذهبهم وطريقتهم الّتي هم عليها.
الثاني والعشرون : أنّهم نَجِسُوا العين ذمّيهم وغيره كالكلب ، والخنزير ؛ وذبائحهم حرام.
الثالث والعشرون : تحرم مُناكحتهم مع المسلمين ، فلا يجوز لمسلم أن يكون زوجاً لبعض نسائهم ابتداء في العقد الدائم كتابيّاً ، بل ولا غيره ، وكذا في الاستدامة ، والمتعة ، وملك اليمين لغير الكتابيّة ؛ وأمّا في الكتابيّة فلا مانع.
الرابع والعشرون : أنّهم لا يُغسّلون ، ولا يُحنّطون ، ولا يُكفّنون ، ولا يُصلّى عليهم ، ولا يُدفنون ، إلا لخوف تأذّي المسلمين من رائحتهم. وهذه التسعة الأخيرة مُشتركة بين الكتابي وغيره ، والمُعتصم وغيره.
الخامس والعشرون : أنّ المسلمين يعينونهم على الكفّار إذا دهموهم ؛ لتشبّثهم بالإسلام ، وترتّب قوّة الإسلام ؛ وإذا قامت الحرب فيما بينهم ، أعانوهم.
السادس والعشرون : لو أخذ منهم مسلم مالاً ، ردّه عليهم ، ولا تردّ النساء ، ولا الذراري بعد الإسلام أو وصفه.
السابع والعشرون : أنّه ينحلّ العاصم من جزية وغيرها بإخلالهم بأُمور المسلمين ، بأن يكونوا جواسيس للمُشركين ، أو مخذلين للمسلمين ، أو موقعي الفتنة بينهم ، ونحو ذلك ممّا يقتضي وهن الإسلام.
ثمّ الّذي يظهر بعد إمعان النظر ، والتأمّل فيما بلَغَنا من السيَر ، وآيات نفي الحرج ، وأخبار نفي الضرر أنّ العقود الأربعة : «من عقد الذمّة وضرب الجزية وتقريرها ، وعقد الأمان ، وعقد العهد حيث نجعله عقداً مُستقلا ، وعقد الصلح ، وما يذكر فيها من الشروط ، ويجري فيها من الأحكام» إن صدَرَت من المُسلمين ومن الكفّار في رفع اليد عن جبرهم وإقامة الحرب معهم من جهة الإسلام ، فتلك لا يتولاها سوى الإمام أو نائبه
الخاصّ ؛ إذ ليس لأحدٍ سواه جمع العساكر ، والجنود ، والحرب مع الكفّار لجلبهم إلى الإسلام ، فتكون العقود المشتملة على التأمين منه ؛ إذ لا يمكن صدور الحرب إلا عنه.
وإن صدَرَت لحقنِ الدماء ، وحفظ النساء والذراري والأموال ، فذلك لا يختصّ بالإمام ، وإلا لفسد النظام ، وربّما أدّى الحال إلى اضمحلال كلمة الإسلام.
فالضرورة الإلجائيّة قاضية بجواز صدور تلك العقود بعد غيبة الإمام أو حضوره قبل بسط كلمته من المنصوب العامّ ، كبعض أهل الحقّ من المُجتهدين ، رضي الله تعالى عنهم.
فإن ظهرَ عجزهم ، وجبَ عليهم الإذن لرئيس الجُند والعساكر في إيقاع هذه العقود مع الكفّار ، مع اجتماع شروطها ؛ فإن لم
يأذنوا في ذلك ، ولا قاموا بالأمر ، خرجوا عن طاعة صاحب الأمر.
ويجب حينئذٍ على مَن كانَ له لياقة القيام بهذه الأُمور وسياسة عساكر المُسلمين القيام بذلك.
ويصرف حاصله في تجهيز عساكر المُسلمين ، فإن زاد شيء رجّعه إلى المُجتهدين ليقسّموه في فقراء المسلمين.
الفصل التاسع : في تفصيل أحكام عقد الذمّة
وقد مرّت الإشارة إليها إجمالاً ، وفيه مباحث :
أحدها : في نفس العقد
لا يُشترط فيه صيغة مخصوصة ، بل يكفي مُطلق إنشاء لفظ عربيّ ، وغيره ، من كناية ، وإشارة ، وقبول المدفوع إليه ، وجميع ما دلّ على إعطاء الكافر أماناً إمّا على نفسه أو عرضه أو ذراريه ، وماله قدراً من المال يفرضه عليه رئيس المُسلمين.
وفي جواز تخصيص الأمان ببعض الأشياء المذكورة عدا النفس دون بعض مع الشرط ، فإن أطلق أو عمّم عمّ ، وإن خصّ خصّ ، وجه قوي.
ثانيها : في العاقد
وهو الإمام أو نائبه الخاصّ ، دون النائب العامّ ، ورؤساء أهل الإسلام ، لو كان دفع الجزية منهم لارتفاع الجبر لهم على الإسلام ؛ لأنّ الجهاد في ذلك مخصوص بالإمام أو نائبه الخاصّ.
وأمّا ما كان قبوله لدفع فسادٍ عن المسلمين ، حتّى لا يُعينوا عليهم الحربيّين ، أو حتّى تقلّ جموعهم ، وتنكسر شوكتهم ، أو لأجل مصلحة غُزاة المسلمين وفقرائهم إلى غير ذلك ، فيجوز من المنصوب العامّ ، والرؤساء والحكّام ، حيث لا يقوم بها المنصوب العامّ.
وإذا عقد المسلمون معهم ، لزمهم الوفاء بعقدهم ، ما لم يخرقوا الذمّة بارتكاب بعض ما ينقضها من الأعمال.
ثالثها : في المعقود له
لا يصحّ عقد الذمّة إلا مع أهل الكتاب ، كاليهود والنصارى ؛ أو من له شِبه كتاب ، كالمجوس والسامرة والصابئة إن دخلوا في أحد الأقسام الثلاثة جرى عليهم حكمهم ، وإلا فلا ، كما قيل : إنّهم يعتقدون أنّ الكواكب السيّارة إلهه (١).
ومن رجع عن مذهب من مذاهب أهل الكتاب إلى مذهب آخر ، استمرّ على عقده على الأقوى.
ويدخل في العقد على الأقوى أهل الصوامع ، والرهبان ، والمعقّدون (٢) ، والسفهاء ، والمفلسون إن باشرها الأولياء ، وإلا باشروها بأنفسهم ، ويدخل الفقير ، ويُنظر إلى ميسرة.
ولا يدخل العبد إلا أن يعتق ، ولا الصبيّ إلا أن يبلغ ، ولا المرأة ولا الممسوح
__________________
(١) تفسير التبيان ٣ : ٥٩٢ ، المصباح المنير : ٣٣٢.
(٢) كذا ، ويحتمل كونه تصحيف : المعمّدون ، وعمّد الولد غسله بماء المعموديّة ، والمعموديّة أوّل أسرار الدين المسيحي وباب النصرانيّة ، وهي غسل الصبي وغيره بالماء باسم الأب والابن وروح القدس. المنجد : ٥٢٩ «عمد».
ولا الخُنثى إلا بالتبع ، ولا المَعتوه وهو الواسطة بين العاقل والمجنون ولا المجنون المطبق ، ولا الأدواري في بعض أقسامه ، وهي أربعة : (من يعتوره الجنون) (١) غير مُتتابع ، وهذا يُلحق بالمُطبق. ومن يعتوره قليلاً من التتابع ، والظاهر أنّه كسابقه. ومن يعتوره كثيراً من غير تتابع ، ويقوى فيه أنّ المدار على الأكثر. ومن (٢) يعتوره كثيراً من التتابع ، ويقوى فيه التوزيع ، وطريق الاحتياط غير خفي.
وإذا ارتفع الصغر وحصل البلوغ ، أو الجنون فحصل العقل ، ضُربت عليهم. وإن ضَربَت امرأة أو غيرها ممّن لا جزية عليه على نفسها جزية ، فلا تلزم بشيء.
ويُشترط رضا المعقود لهم ، بل لو عُقد عليهم قهراً لم يصحّ ، وتتبع النساء والأولاد الصغار في الجزية ، وإذا بلغوا وضعت عليهم الجزية. ولا يدخل الإباء والأُمّهات علوا أو سفلوا وباقي الأقارب إلا مع الشرط.
والاثنان على حقو واحد إن كانا واحداً فلا كلام ، وإن كانا اثنين ، فاعتصام أحدهما يَستدعي اعتصام الأخر ، فيما يتعلّق بالبدن ؛ حذراً من السراية ، ويتمشّى ذلك في جميع أسباب الاعتصام.
وإذا ماتَ مَن عليه الجزية بعد الحول ، أُخذت من تركته ؛ وإن ماتَ في الأثناء ، أُخذ منه على النسبة. وإن أسلم في الحول أو بعده ، لم يؤخذ منه شيء.
وتنبغي كتابة أسماء أهل الجزية ، وأوصافهم وأنسابهم الرافعة للاشتباه ، وضبط أتباعهم ، ولواحقهم.
رابعها : في المعقود به
ينبغي لمتولّي الأمر عن إذن صاحب الأمر أن يسأل ويفحص عن أحوال من يُريد إيقاع الذمّة معهم ؛ ليفرّق بين الغني والفقير والمتوسّط ، ويكون على بصيرة من الأمر.
ثمّ المضروب لا يكون إلا من المال في هذا المقام ، دون باقي جهات الاعتصام ،
__________________
(١) بدل ما بين القوسين في النسخ : يريقون الجنون هو.
(٢) في «ح» ، «ص» : ممن ، بدل ومن.
فلا يجوز عقد الذمّة على أطفال وعيال ، وإن جازَ في باقي طرق الأمان.
ويجوز ضربها على الرؤوس ، والأراضي ، والأشجار ، والبهائم ، والمركّب من الاثنين ، والثلاثة ، والأربعة ، ويجوز أن يكون من النقد ، والجنس ، والمركّب منهما.
ووظيفتها : التأدية في كلّ سنة مرّة ، ويقوى جواز الأقلّ والأكثر مع الشرط.
وتقديرها إلى رئيس المسلمين الداخلين في أرضه ، ولا يلزم الأخذ بخصوص ما وقع من أمير المؤمنين عليهالسلام من أنّ على الفقير اثنا عشر درهماً إسلاميّاً ، وعلى المتوسّط ضعفه أربعة وعشرون ، وعلى الغني ضعفه ثمانية وأربعون ؛. (١)
ويجوز اشتراط ضيافة المسلمين أو غيرهم من رُسل الحربيّين ، ويكتفى بها جزية وحدها أو مع الانضمام إلى غيرها ، أو تجعل شرطاً خارجاً. ولا يجب الخروج عن دورهم ، بل حالهم كحال المسلمين ، والظاهر أنّه لا بأس بأن يشترط عليهم ذلك.
ويشترط وضع المساكن والبيوت ونحو ذلك ، وإذا جُعلت الإضافة جزية أُخذ على الغني غير ما يؤخذ على غيره.
ولو اجتمعت جزية سنتين أو أكثر لم تتداخل.
خامسها : فيما يلزم لهم بعد عقد الذمّة على الإطلاق ،
وهو أُمور :
منها : عِصمة نفوسهم ، وأعراضهم ، ونسائهم ، وذراريهم ، وأموالهم إلا ما شرط خروجه من المال ، ولا يجوز سبّهم ، وشتمهم ، وضربهم ، وتخويفهم ، وأذيّتهم مُشافهةً ؛ ومع الغيبة لا بأس بشتمهم ، وسبّهم ، وغيبتهم.
ومنها : عدم منعهم عن كنائسهم ، وعباداتهم ، وشرب الخمور ، وأكل الخنازير ، ونكاح المحارم ، وضرب الناقوس ، واستعمال الغناء والملاهي ، ونحو ذلك مع التستّر في ذلك.
__________________
(١) المقنعة : ٢٧٢ ، الوسائل ١١ : ١١٦ أبواب جهاد العدوّ ب ٦٨ ح ٨.
ولو قتل ممّن يستحل الخنزير خنزيراً ، أو أراق خمراً مع تستّرهم ، ضمن قيمته عندهم ، ولا شيء مع التظاهر. ولو غصبهم وجب ردّه.
ولو ترافعوا إلينا ، وجب الحكم عليهم ، أو ردّهم إلى أهل ملّتهم ، ليحكموا عليهم بمقتضى شرعهم.
ويجب دفع المسلمين والكفّار عنهم إذا كانت محالّهم مع المسلمين ، وكذا مع بُعدها على إشكال ، ويلزم مع الشرط. وشرط عدم الذبّ عنهم لا يقع صحيحاً على إشكال.
ومنها : تمكينهم من الخروج إلى الأسواق ، والدخول في المعاملات مع المسلمين ، وحُرمة خيانتهم ، وأكل أموالهم ، وحُرمة إهانتهم ، فيما عدا المستثنى ، ويحرم إكرامهم بوجه يترتّب عليه أذيّة المسلمين ، وسقوط محلّهم.
سادسها : فيما يلزم عليهم
وهو أقسام :
أحدها : ما لا تنعقد بدونه الذمّة ، ومع الإخلال بواحد منها تختلّ الذمّة ، وهو أُمور :
أحدها : عقد الجزية لرئيس المسلمين ولو كان من غير أهل الحقّ إذا فقد الرئيس من أهل الحقّ على أنّها جزية ، قد حفظوا أنفسهم بها من استرقاق ، واستباحة الأعراض ، والذراري ، والأموال.
ثانيها : تسليمها بيد الرئيس المطاع أو نائبه ، فلو سلّموها بيد بعض الجُند أو الرعيّة لم تكن جزية.
ثالثها : التزام أحكام المسلمين ، ودخولهم تحت الرقية لهم.
رابعها : ترك قتال المسلمين.
خامسها : عدم إظهار سبّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو الأئمّة عليهمالسلام ، أو إعلان سائر المُنكرات في دار الإسلام ، كإرجال الخنازير جهاراً لأجل الأكل في دار الإسلام ، والتظاهر بشرب الخمر ، ونكاح المحرّمات.