كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ٤

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر كاشف الغطاء


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-033-5
الصفحات: ٦٨٠

تريد؟ نريد أن نعدّ لك الفضيخ (١) لتأكله فقال : اذهبوا إلى المدينة إلى فلان ، وقولوا له : المعلّم يقول : زماني قد اقترب عندك ، اصنع الفضيخ مع تلاميذي.

وقد ذكر في الفصل السادس والأربعين من إنجيل مرقص : أنّ تلاميذه قالوا له : أين تريد أنّ تمضي ونعد لتأكل الفضيخ ، فأرسل اثنين من ثلاميذه وقال لهما : امضيا إلى المدينة فسيلقاكما إنسان حامل جَرّة ماء ، فاتبعاه إلى حيث يدخل ، قولا لربّ البيت : إنّ المعلّم يقول : أين موضع الراحة حيث أكل الفضيخ مع تلاميذي.

والمخالفة بين الأوّل وهذا من وجهين :

أحدهما : أنّ ظاهر الأوّل تعيين الشخص ، وهنا قد أبهم واقتصر على ذكر العلامة.

ثانيهما : أنّ المبعوثين هناك جماعة ، وقد صرّح بأنّهما اثنان.

وقد ذكر في الفصل الثامن والسبعين من إنجيل لوقا ، مثل ما حكيناه من إنجيل مرقص ، إلا أنّ فيه أنّه جاء يوم الفطير الّذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفضيخ ، فأرسل بطرس ويوحنّا قائلاً : امضيا ، وأعدّا لنا الفضيخ.

وقد صرّح هنا باسم المبعوثين وفيه مخالفة لما تقدّم ، حيث إنّ ظاهره أنّ إرسالهما لإعداد الفضيخ كان ابتداء منه ، وقد نصّ في الأولين أنّه كان بعد سؤال التلاميذ.

ومنها : ما في إنجيل مرقص في الفصل السابع والأربعين أنّه قال : لـ «بطوس» : الحقّ أقول لك ، إنّك اليوم في هذه الليلة ، قبل أن يصيح الديك مرّتين ، تنكرني ثلاث مرّات ، وقد ذكر بعد ذلك وقوعُ ذلك منه على النحو المذكور ، وفي الأناجيل الثلاثة الباقية أنّه لن يصيح الديك حتّى تنكرني ثلاث مرّات.

وقد ذكر في كلّ منها تفصيل الإنكار. والمخالفة بين ما في الأوّل وفي غيرها واضحة.

ثمّ إنّ بين الثلاثة الأخيرة اختلاف في تفصيل الإنكار أيضاً.

ومنها : ما في الفصل الثامن والأربعين من إنجيل مرقص : إنّ يسوع أُخذ من موضع

__________________

(١) الفضيخ : رطب يشدَخ وينتبذ. جمهرة اللغة ١ : ٦٠٧ ، وهو شراب يُتخذ من البسر المفضوخ. العين ٤ : ١٧٨.

٣٢١

يدعى جسمانيّة ، ونحوه ما في إنجيل متّى ، إلا أنّ فيه أن عيسى عليه‌السلام جاء مع تلاميذه إلى قرية تُدعى جسمانيّة ، وقال للتلاميذ : اجلسوا ههنا إلى أن أمضي وأُصلّي هناك ، إلى آخر ما ذكر ، وقد ذكر في إنجيل لوقا : أنّه أُخذ في جبل الزيتون ، وفي إنجيل يوحنّا : أنّه خرج مع تلاميذه ، إلى يمين وادي الأردن ، حيث كان بستان دخل إليه هو وتلاميذه ، وذكر أنّهم أخذوه هناك ، والمنافاة بين المذكورات ظاهرة.

ومنها : ما في الفصل الثالث والتسعين من إنجيل متّى : أنّ رؤساء الكهنة والكتبة. وكلّ المحفل كانوا يطلبون على يسوع شهادة الزور ليقتلوه ، فلم يجدوا ، فجاء شهود زور كثيرون فلم يجدوا ، أخيراً أتى شاهدا زورٍ وقالا : هذا قال : إنني أقدر أنقض هيكل الله وأبنيه في ثلاثة أيّام.

وقد ذكر في الفصل الخمسين من إنجيل مرقص : أن رؤساء الكهنة وجميع المحفل كانوا يطلبون له على يسوع شهادة ، ليقتلوه فلم يجدوا ؛ لأنّ كثيرين كانوا يشهدون عليه زوراً ، وما كانت متّفقة شهاداتهم.

فقال قوم : وشهدوا عليه زوراً ، قائلين : إننا نحن سمعناه يقول : إني أنا أحلّ هذا الهيكل الّذي صنعته الأيدي ، وفي ثلاثة أيام أُقيم آخر غير مصنوع بالأيدي. والمنافاة بين هاتين الحكايتين ظاهرة ؛ إذ هذه صريحة في كون شهود الزور عليه في ذلك جماعة ، كما أنّ الاولى صريحة في كونهما شاهدي زور.

ومنها : ما في إنجيل يوحنّا في الفصل الثامن والثلاثين إنّ يهود الّذي أسلمه أخذ جنداً وشُرَطاً من عند رؤساء الكهنة ، وجاء إلى ذلك الموضع ، وعيسى عليه‌السلام خرج وقال : من تطلبون؟ فقال : يسوع الناصري ، فقال لهم : أنا ذاك ، ثمّ سألهم أيضاً عمّن يطلبون ، فقالوا ذلك ، وأقرّ لهم أيضاً بذلك ، فمسكوه وأخذوه.

وقد ذكر في إنجيل متّى إنجيل مرقص : أنّ يهود الّذي أسلمه جعل علامة للجمع الذين أتوا معه من عند رؤساء الكهنة والمشيخة أنّ الّذي يقتله هو ، فجاء وقتله ، فوضعوا أيديهم عليه ومسكوه. والمنافاة بين الأمرين ظاهرة.

ومنها : ما في الفصل السادس والتسعين من إنجيل متّى ، من أنّهم لما أتوا به إلى

٣٢٢

مكان يسمّى جلجليّة أعطوه خلاً مخلوطاً بمرّ ، فذاقَ ، ولم يرد أنّ يشرب. وقد ذكر في الفصل الثامن والخمسين من إنجيل مرقص : أنّهم أتوا به إلى موضع الجلجليّة وأعطوه خمراً ممزوجاً بمرّ ليشرب ، أمّا هو فلم يأخذه. والمنافاة بين الحكايتين من وجهين.

ومنها : ما في الفصل المائة من إنجيل متّى : أنّ في حشية السبوت صبيحة أوّل يوم من السبوت جاءت مريم المجدلية ومريم الأُخرى لينظرا القبر ، وإذا بزلزلة عظيمة قد كانت ؛ لأنّ ملاك الربّ نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب ، وجلس فوقه ، وكان منظره كالبرق ، ، ولباسه أبيض كالثلج ، فمن خوفه اضطرب الحرّاس وصاروا كالأموات. فأجاب الملاك ، وقال للنسوة : لا تخفن ؛ لأنّي قد علمت أنّكنّ تطلبن يسوع المصلوب ، ليس هو ههنا ، لأنّه قد قام ، كما قال : تعالين انظرن المكان حيث كان أيوب مطروحاً.

وقد ذكر في الفصل الرابع والخمسين من إنجيل مرقص : أنّه لمّا جاء السبت ابتاعت مريم المجدليّة ومريم أُمّ يعقوب وصالومي طيباً ليطبن ويطلبن إيّاه ، وباكرا جدّاً في أوّل يوم من السبوت ، ووافين القبر إذا طلعت الشمس قائلات بعضهن لبعض : من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ فتطلعن ونظرن إذ الحجر قد دحرج ؛ لأنّه كان عظيماً جدّاً ، ولمّا دخلن إلى القبر نظرن شاباً جالساً عن اليمين ، لابساً حلّة بيضاء ، فانذهلن ، أمّا هو فقال لهنّ : لا تذهلن ، تطلبن يسوع الناصري المصلوب وقد قام ، ليس هو ههنا.

والمنافاة بينه وبين الأوّل ظاهرة ، إلى غير ذلك من المناقضات والمخالفات الّتي يحال صدورها من خالق الأرضين والسماوات.

وثمّ إنّي أُقسم بمن تفرّد بالقدم ، وأبرز نور الوجود من ظُلمة العدم ، وجعل نبيّنا أفضل من تأخّر من الأنبياء وتقدّم ، وصيّر أُمّته في الظهور كنار على علم. أنّه لولا ثبوت نبوّة نبيّنا بإعجاز القرآن ، وبالمعجزات الّتي تكفي كلّ واحدة منها في قيام البرهان ، ونصّه على كلّ شي‌ء قديم ، لمّا ثبتت والله نبوّة موسى ولا عيسى ولا نوح ولا إبراهيم ؛ لقضاء ما في الإنجيل والتوراة من الاختلافات الظاهرات بعدم صدورهما من جبّار السماوات ، ويكونان على نفي النبوّة أدلّ من الإثبات.

٣٢٣

وأمّا المعجزات ، فلا تثبت بعد طول العهد ، وتمادي الأزمنة والأوقات ، ولاحتملنا أنّها من جملة المزخرفات الصادرة من اليهود والنصارى ، وباقي أهل الملل السالفات.

ثمّ إنّ بناء مذهبهم على التثليث ، والاتحاد ، قالوا : فإن احتسبت ثلاثة : الأب والابن وروح القدس ، فلا مانع ؛ إذ لا منافاة بين الحكم بالوحدة والتثليث ، وهذا كلام يضحك منه الجهّال ، ولا ترضاه بعدَ العقلاءِ الأطفالُ.

فإنّ هذه الدعوى لو جازت ، جازت دعوى الاتحاد مع الله لكلّ مجرّد روحاني ، وهو أولى بالادعاء من المركّب الجسماني ، وحيث جرى فيه ، فيجري ذلك في جميع الأنبياء والأوصياء ، ولو شئت لعدّيت ذلك إلى جميع الأشياء.

وصحّ للإنسان أنّ يدّعي الاتحاد مع الملائكة ، والجنّ مع إنسان ، كما اتّحد عيسى ، وكيف يرضى الجاهل فضلاً عن العاقل بصدور الأشياء المتضادّة المتعاندة من الواحد.

وكيف يعبد الإنسان نفسه ، فيصلّي ويصوم ، ويعمل الأعمال لها ، وكيف يجامع ويتلذّذ بأكل وشراب ، وينام ، ويمرض ، ويموت ويحيا ويولد مع اتّحاده بمن لا يكون منه ذلك ، ما هذا إلا كلام سخيف ، لا يرتضيه إلا ذو عقل خفيف.

وأعجب كلّ العجب من اليهود والنصارى! أما يتأمّلون ، وينظرون بما يجيبون إذا وقفوا بين يدي الله حيارى سكارى وما هم بسكارى وناداهم : يا عباد السوء ، يا قليلي الحياء ، يا قليلي الوفاء ، لِمَ لا أطعتم عبدي علّة الإيجاد وسيّد العباد محمّد المختار ، الّذي خلقت نوره قبل جميع الأنوار ، فإن لم تعرفوه فبما عرفتم نبوّة عبادي نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وغيرهم ممّن تقدّم من الأنبياء؟ فإن أجابوا بدلالة المعاجز والآيات ، جاءهم الجواب من ربّ الأرباب : إنّ معاجز عبدي محمّدٍ أدلّ من معاجز عبادي الأنبياء السابقين ، وأولى بالاتّباع ؛ لأنّها أقرب عهداً ، وتلك أبعد ، فإن كنتم تشترطون الرؤية بالعيان ، ولم تعتبروا الأخبار المروية على طول الزمان أو جوّزتم السحر ، لزمكم الكفر بجميع الأنبياء.

وإن اكتفيتم بالمعجزة ، وبما وصلكم من الأخبار ، فقلّة الزمان أدعى إلى صدقها. وإن استندتم إلى الكُتب ، فالقران أدلّ منها ، ونَقَلةُ معاجزه أكثر من نَقَلَتكم ، مع أنّ أكثر

٣٢٤

المعاجز معاجز عبدي موسى.

وقد يقول المعاند في شأنها : إنّها إنّما كانت للغضب على فرعون ، وقبطته ، ورحمةً للمظلومين من بني إسرائيل لما فعلوا بهم تلك الأفعال الشنيعة ، ولم يكن للإعجاز ، فمعاجز عبدي أصرح دلالة.

المبحث السادس

في أسباب تفاصيل التكاليف ، وبيان اللم في وضعها على أنحاء مختلفة.

اعلم أنّه قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الله تعالى إنّما أمر العباد ونهاهم لبيان ما يستحقّونه من رضا الله وسخطه ، وثوابه وعقابه ، ومراتب الثواب والعقاب ، ولا ينكشف حالهم إلا بتكليف ما يخالف هواهم ، وإلا كانوا عبيدَ هواهم ، لا عبيد مولاهم ، فجعلها على أقسام ليختبر بها جميع المكلّفين من الأنام.

ولمّا كانت أحوالهم مختلفة ، ورغباتهم متفاوتة ، جعل التكاليف مختلفة على نحو اختلافهم ، فحيث كانوا منقسمين إلى أقسام اختبر بما يوافق حالهم :

أحدها : من يكره المتاعب وهو في الراحة راغب ، متهاون متكاسل ، أحبّ الأشياء إليه راحة بدنه ، وقراره في مكانه ، فاختبره بالأمر بما يترتّب عليه تعبُ الأعضاء ، وزيادة المشقّة والعناء ، فأمره بالصلاة ، والطهارة ، والقيام على الأقدام ، وترك لذّة الاضطجاع والاستراحة بالجلوس والمنام.

ثانيها : من شغل قلبه بحبّ المال ، ولا يبالي بالنفس والولد والعيال ، فاختبره بإيجاب بذله في الزكاة والخمس والنفقات ، والوفاء ببعض أقسام النذور والعهود والكفّارات ، وغيرها من الحقوق الماليّات.

ثالثها : من همّه بطنه ، فكأنّه من الأنعام ، لا همّ له ولا عناية إلا الشراب والطعام ، وبعض الملاذّ الّتي يحرّمها الصيام ، فاختبره بالتكليف بالصيام ، ومنعه من الأكل ، والشرب ، والجماع ، ونحوها.

رابعها : من يكره الخروج من مكانه ، ومفارقة أولاده ونسوانه ، فهمّه حبّ الحضر ،

٣٢٥

وكراهة السفر ، فاختبره بالأمر بالحجّ والعمرة ، ليظهر بذلك أمره.

خامسها : من يُحبّ الحياة ، ويكره التعرّض للحرب والمبارزة والضرب ، خوفاً من الموت ، وبذلك غلب الجبن عليه ، متى سمع صيحةً طارَ قلبه ، أو سمع غوغاء الحرب والضرب ذهب لُبّه ، فاختبره بالتكليف بالجهاد ، وبيع نفسه برضا ربّ العباد.

سادسها : من غلب عليه حُبّ الرئاسة ، ووقوف الناس بين يديه ، وتقبيل يديه وقدميه ، وركوعهم له ، وخفق النعال خلفه ، وصهيل الخيل عقبه ، فاختبره بمنع التكبّر والتجبّر واحتقار عباد الله ، وأُمره بالتواضع للناس.

سابعها : من يُحبّ الملاهي ، ويرغب في اللهو ، والغناء ، واللعب بالقمار ، ودقّ الطبول ، وصوت المزامير ، والرقص ، وأنواع اللذات القبيحة ، والشهوات ، فاختبره بتحريم ذلك عليه ، ومنعه عنه.

ثامنها : من همّه رضا المخلوق عنه ، وأن يُمدح في المحافل ، وأن يعتقد الناس بديانته وينسبونه إلى التقوى والصلاح ، فاختُبِر بإيجاب الغضب عليه لله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

المبحث السابع : في بيان سبب العصيان

اعلم أنّ النفس سلطان على البدن ، وأعضاؤه رعيّة لها ، والحكيم الدليل المرشد للسلطان هو العقل ، متى أصغى السلطان إلى الدليل ، واستمع لقوله ، واسترشد بإرشاده ، صلح أمر السلطان ، وعدل في الرعية ، وأمرهم بالصلاح ، ونهاهم عن الفساد ، ويزيد في الرشاد ، ويُعين على سلوك طريق السداد إرشاد ربّ العباد.

وإن طغى السلطان على الدليل ، ولم يصغ لقوله ، ولا عملَ بإرشاده ولا دلالته ، وأخذ على غير الطريق ، ضلّ وأضلّ أتباعه ورعيّته ، وصار يأمر وينهى على غير بصيرة ، ويزيده في الضلال ، وينتقل إلى أسوإ حال ، حيث يُحسّن له طريق الهلاك ، فإنّه عدوّ محيل مزوّر قد قلب الأُمور ، وباشر الإضلال والإفساد برهةً من الدهور.

فالعين في إبصارها ، والأُذن في سماعها ، واللسان في نطقه ، واليد في بطشها ،

٣٢٦

والرّجل في مشيها ، وسائر حضور الأعضاء في باب السلطان متهيئة لخدمته ، إن أمرها بحَسَنٍ فعلَته ، أو نهاها عنه تجنّبته ، أو دعاها إلى قبيح أطاعته ، أو نهاها عنه تركته.

فإن لم يقع اختلال في السلطان ، لاختلال المُرشد أو لضعفه ، وعدم الاستماع له ، لم يقع اختلال في الرعيّة ، وإلا اختلّت.

فلا تفعل الأعضاء فعلاً إلا عن أمر السلطان ، بل في الحقيقة هي بمنزلة الآلات ، وحالها كحال الجمادات ، وتعلّق المؤاخذة بها كتعلّقه بها ، فكلّ صلاح وفساد ينتهي إليها ، ولا مؤاخذة فيه إلا عليها ، فكلّ قبيح يصدر من الإنسان مرجعه إلى النفس الأمّارة والشيطان ، وكلّ أمر من الأُمور الحسان مرجعه إلى العقل ومعونة الملك الديّان.

المبحث الثامن : في تقسيم المعاصي وجميع الذنوب والخطايا بين قسمين :

الأوّل : ما يتعلّق بالنفس ويصدر عنها من دون واسطة الجوارح ، وإن توقّفت المؤاخذة في بعضها على الإظهار ، كفساد العقيدة ، والكِبر ، والحسد ، والعُجب ، الرياء ، وبُغض أولياء الله ، وبُغض المؤمنين ، وحُبّ الدنيا المضادّة للاخرة ، وحُبّ الرئاسة ، والتفكّر في طريق الاهتداء إلى المظالم والحيلة والتزوير ، إلى غير ذلك.

الثاني : ما يتعلّق بها بواسطة الجوارح ، كالزنا ، واللواط ، والاستمناء ، والوطء في الحيض ، ونحوها ممّا يتعلّق بالفروج. والسبّ ، والشتم ، والقذف ، والكذب ، والغيبة ، والنميمة ، والهجاء ، والغناء ، ، والبهتان ممّا يتعلّق باللسان.

والنظر إلى عورات غير الأزواج ، ونحوها ، والنظر بشهوة إلى الذكور المُرد الحسان ، وإلى الأجنبيّات من النسوان ، ونحوها ممّا يتعلّق بالعينين.

واستماع الملاهي ، والغناء ، والغيبة ، ونحوها ممّا يتعلّق بالأُذنين.

والضرب للمظلومين ، وقتلهم ، وأخذ المال الحرام ونحوه ممّا يتعلّق باليدين.

وأكل الحرام وشربه وابتلاعه ، وأكل النجس ، ونحوها ممّا يتعلّق بالبطن. ومثله ويجري في باقي الجوارح.

وكلّ من القسمين ينقسم إلى قسمين : معاصي صغار وكبار.

٣٢٧

والصغار مع الإصرار بالعزم أو كثرة التكرار ترجع إلى الكبار.

والمراد : ما تُعدّ كبيرة في نظر الشرع ، حتّى يقال : ذنب عظيم ، وإثم كبير ، ويُعرَف ذلك من ممارسة الشرع ، كما أنّ معصية العبد للمولى منها ما يستعظمها الناس ويقولون : عصى مولاه معصيةً عظيمةً كبيرةً ، ومنها ما يسمّونها صغيرة. ويجري مثل ذلك في الطاعات.

ولا تُخَصّ الكبائرُ بعدد مخصوص ، من سبع أو تسع أو اثنتا عشرة أو سبعين ، أو كونها إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبعين ، ولا بجهات مخصوصة ، كالتوعّد عليها بالنار ، أو الوجود في القرآن ، أو الثبوت بدليل قاطع ، ولا بجهة عامّة ، بمعنى أنّ كلّ معصية إذا نظرت إلى من عصيت كبيرة ، ولا بمعنى أنّ الصغيرة تختصّ بالحدّ الأسفل ، والكبيرة بالحدّ الأعلى ، وما بينهما تُوصف بالكبر بالنسبة إلى ما تحت ، وبالصغر بالنسبة إلى ما فوق.

ويؤيّد ما نقول : أنّ الكِبَر والصّغَر قد يكون باختلاف الجهات ، فغصبُ مال اليتيم ، والمؤمن ، والعالم ، والإمام ، والجائع ، والعطشان المشرفين على الموت كبيرة ، وإن قلّ ، وأهون منها ما ضادّها ، وليس كذلك مال الكافر ، وإن اعتصم بالجزية أو غيرها من أسباب العصمة ، وهكذا أكثر المعاصي.

ثمّ الصغائر مختلفة في مقدار الصّغَر ، وكذا الكبائر ، فقد تكبر حتّى تنتهي إلى ترتّب الكفر الإسلامي ، أو الكفر الإيماني ، فأكبر الكبائر فساد العقيدة ، حتّى تبعث على سائر المرجوحات من المكروهات وغيرها ، فمنها صغائر ، ومنها كبائر ، على نحو ما عرفت في المحظورات.

المبحث التاسع : في تقسيم الواجبات

وهي كالمستحبّات ، ومنها صغائر تختلف مراتبها ، ومنها كبائر كذلك ، فإنّها قد تعظم ، حتّى تبلغ مرتبة يبعث تركها إلى الكفر ، والكبر والصغر فيها على نحوهما في المعاصي.

٣٢٨

فالواجب المترتّب على ترك العقاب العظيم كبيرة ، وخلافه صغيرة ، ويعرف ذلك بممارسة الشرع ، ويظهر ذلك بملاحظة ما أوجبه السادات على عبيدهم ، فإنّ بعضاً منه يَسهُل أمره ، وبعضاً يعظم وزره ، ويشتدّ بسببه الغضب ، وتعظم المؤاخذة ، ومراتبه عديدة.

وترك الواجب الكبير معصية كبيرة ، كما أنّ ترك المعصية الكبيرة واجب كبير.

وليس المدار في كبر الواجب وصغره على الوجود في القرآن ، أو الثبوت بدليل قاطع ، أو التوعّد على تركه بالنار ، ونحو ذلك.

وأكبر المعاصي ما أدّى فعله إلى الكفر ، وأكبر الواجبات ما أدّى تركه إلى ذلك.

ومن الواجبات العظام الّتي لا شي‌ء أعظم منها بعد الإيمان ، والإسلام : الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والخمس ، والحجّ ، والجهاد في سبيل الله.

وبالكفر الإسلامي تستباح الدماء ، وتُسبى الأطفال والنساء ، وأخذ الأموال إلا فيما يستثني لبعض العوارض كما سيجي‌ء

المبحث العاشر : في أقسام الكفر

وهو أقسام : كفر الإنكار ، وكفر الشكّ في غير محلّ النظر ، وكفر الجحود ، وكفر النفاق بالنسبة إلى الواجب تعالى أو نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المعاد ، وكفر الشرك ، وكفر النّصب ، وكفر الهتك بالقول أو الفعل كالتحقير والإهانة بقول ، أو تغوّط في الكعبة ، أو على القرآن ، ونحو ذلك وكفر النعمة ، وكفر إنكار الضروري ، وتجري تلك الأقسام بتمامها في الكفر الإيماني المتعلّق بالنبيّ وعترته.

ثمّ الكفر بأقسامه إسلاميّاً كان أو إيمانيّاً ينقسم إلى قسمين : أصلي ، وارتدادي فطري تعلّق بمن علق في بطن امّه وأحد أبويه مسلم في الإسلامي ، ومؤمن في الإيماني ، ولا عبرة بحال انفصال النطفة من الأصلاب والترائب ، ولا بحال حلولها في الرحم قبل الانعقاد ، ولا بما بعد الانعقاد قبل التولّد أو بعد الميلاد.

ويجري حكم الفطرية في ولد الزنا على إشكال.

٣٢٩

المبحث الحادي عشر : في أحكام الكفر على الإجمال

أمّا الإيماني الأصلي منه والارتدادي الفطري والملّي ، فلا ينقل في الدنيا بحسب الدم والعرض والمال عن أحكام الإسلام ، ما لم ينكر ضرورياً من ضروريّات الدين ، يستلزم إنكاره إنكار نبوّة سيّد المرسلين.

وأمّا الكفر الإسلامي ، فلا يخلو من أقسام :

أحدها : الارتدادي وهو بجميع أقسامه بين قسمين : فطري وملّي.

أما المرتدّ الفطري ؛ فإن كان ذكراً بالغاً عاقلاً معلوم الذكورية ، لا خنثى مشكلاً ولا ممسوحاً فحكمه القتل ؛ ويتولّى قتله الإمام ، ومن قام مقامه والظاهر جوازه لكلّ أحد مع عدم التقيّة من حينه ، من دون استتابة.

وتعتدّ نساؤه عدّة الوفاة ، وتتزوّج بعد انقضاء العدّة وإن بقي حيّاً ، وتُقسّم مواريثه بين ورثته بعد قضاء ديونه وإنفاذ وصاياه ، ولو في العبادة على إشكال.

وإن كان امرأة أو خنثى مشكلاً أو ممسوحاً ، حُبِسَ ، وضيّق عليه في مَطعمه ، بحرمانه من الطعام الطيّب ، وتمكينه من الجشب ؛ ومَشربه ، بحرمانه من الماء البارد في الصيف والمعتدل في الشتاء ، وتمكينه من الماء الساخن في الجملة في الصيف ، والبارد الشديد في الشتاء.

وفي اللباس والوساد والفراش والمكان ، وعدم وضع من تُسرّ بصحبته معها ، حتّى تتوب أو تموت.

فإن تابت وعادت ، عمل معها ذلك العمل ، فإن تابت ثالثة وعادت ، قُتِلت ، ولا يُقسّم ميراثها إلا بعد القتلَ.

وأمّا الملّي ؛ فيستوي فيه الذكرُ والأُنثى ، والممسوح والخنثى المشكل ، فإن كانا عاقلين بالغين استتيبا ، فإن تابا وعادا ثانياً استتيبا كذلك ، فإن عادا ثالثة قتلا.

ولا فرق في المرأة والخنثى المشكل والممسوح بين الفطري منها والملّي إلا في

٣٣٠

الحبس ، والتضييق في الطعام والشراب.

ولا يجوز أخذ مال المرتدّ بقسميه ، ولا سبي نسائه وأولاده ، وإن انعقدوا حال الردّة ، أو كان جمع المال كذلك ، بل يرجع إلى الوارث أو الإمام.

ثانيها : بالكفر الأصلي وهو قسمان :

أحدهما : المتشبّث بالإسلام من المنافقين الّذين يظهر في بعض الأحيان نفاقهم ، والناصبيين ، والسابّين ، والهاتكين ، والخوارج ، والغلاة ، ومُنكري ضروريّ الدين ، مع تشبّثهم بالإسلام.

فيجوز قتلهم لكفرهم ، ولا يجوز سبي نسائهم ، وأطفالهم ، وأخذ أموالهم ، بل ترجع إلى ورّاثهم كحال المرتدين.

القسم الثاني : من لا تشبّث له بالإسلام ، وهم على قسمين : معتصمين ، ومستباحين الدماء أو العِرض أو المال ، فينحصر البحث في قسمين :

الأوّل : المعتصمين ، وهم أقسام :

أحدها : باذل الجزية للإمام ، أو منصوبة الخاصّ أو العامّ ، أو الرئيس المُطاع من أهل الإسلام ، من أهل الذمّة ؛ (١) أو من غيرهم. ثانيها : المؤمّنون ، ثالثها : المعاهدون ، رابعها : المصالحون ، خامسها : النازلون على الحكم ، سادسها : المرضى والعاجزون ، وسيجي‌ء الكلام فيها مفصّلاً. وأمّا المستباحون فسيجي‌ء الكلام فيهم أيضاً إن شاء الله.

المبحث الثاني عشر : في بيان ما يحتاج إلى رئيس مُطاع وعسكر وأشياع وأتباع وما لا يحتاج إلى ذلك.

اعلم أنّ الحرب الجائز ، والقتل ، والضرب على قسمين :

أحدهما : ما لا يحتاج إلى رئيس ماهر يجمع الجنود والعساكر ، بل هو دفاع

__________________

(١) بدل الذمّة في «ح» : المدينة.

٣٣١

محض ، كالدفاع عن النفس والمال والعِرض ، وهذا القسم لا يدخل في اسم الجهاد.

ولا يختصّ به جليل ولا ذليل ، ولا عظيم ، ولا حقير ، ولا رئيس صاحب تدبير ، ولا نساء ، ولا ذكور ، ولا شخص مجرّب الأُمور.

ثانيهما : ما يحتاج إلى رئيس مُطاع ، له أشياع وأتباع ، ورأي سديد ، وبأس شديد ، قابل للسياسة ، وأهل للرفعة والرياسة ، له معرفة بمحاربة الرؤساء ، وقابليّة لمخاصمة الكفّار والفجّار والأشقياء ، إذا أمر انقادوا لأمره ، وإذا نهى وزجر انتهوا لزجره.

وهذا القسم يستدعي حصول الإذن من الواحد الأحد ؛ إذ الأصل الله سلطان لأحدٍ على أحد ، ، فإنّ الخلق متساوون في العبوديّة ، ووجوب الانقياد لربّ البريّة.

ولا ملك ولا ملكوت إلا لصاحب الكبرياء والعزّة والجبروت ، وكلّ من تسمّى ممّن عداه بالملكيّة ، فليس المراد بملكيّته الملكيّة الحقيقة ، بل يُراد بها الملكيّة الصوريّة على وجه العارية ، فلا وجه لإصدار النواهي والأوامر إلا من منصوب من المالك القاهر.

ثمّ هذا القسم وهو الداخل في اسم الجهاد ينقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما لا يتضمّن دفاعاً عن بيضة الإسلام ، ولا عن النفوس ولا الأعراض والحطام المتّصفة عند الشرع بصفة الاحترام.

وإنّما الغرض من جمع الجنود ، ونصب الرايات والأعلام هداية الكفّار ، وقهرهم على الإقرار بكلمة الإسلام بعد الإنكار ، وهذا منصب الإمام أو المنصوب الخاصّ منه ، دون المنصوب العام.

الثاني : ما يتضمّن دفاعاً عن بيضة الإسلام ، وقد أرادوا كسرها واستيلاء كلمة الكفر وقوّتها وضعف كلمة الإسلام ؛ أو عن الدخول إلى أرض المسلمين والتصرّف فيها وبما فيها ؛ أو عن عرضهم أو بلدانهم بعد الدخول فيها ، ويُراد إخراجهم منها ؛ أو عن فرقة من المسلمين التقت مع فرقة منهم ، وكانت لهم قوّة عليها ، أو عن فرقة من المسلمين من أهل الحقّ بغت عليها فرقة من أهل الباطل ، ولم يمكن دفع ذلك إلا بتهيئة الجنود وجمع العساكر.

ففي ذلك وإن وُجد إمام حاضر وجب عليه ، ولم يجز التعرّض لهذا المنصب إلّا

٣٣٢

عن إذنه لمنصوب خاصّ لخصوص الجهاد ، أو مع مناصب أُخر من قضاء أو إفتاء أو إمامة ، أو نحو ذلك ، ووجب على الناس المكلّفين طاعته وسماع قوله.

وإذا لم يدخل الجهاد في مناصبه ، لم يجز له التعرّض له.

وإذا لم يحضر الإمام ، بأن كان غائباً أو كان حاضراً ولم يُتمكّن من استئذانه ، وجب على المُجتهدين القيام بهذا الأمر.

ويجب تقديم الأفضل أو مأذونه في هذا المقام ، ولا يجوز التعرّض في ذلك لغيرهم ، وتجب طاعة الناس لهم ، ومن خالفهم فقد خالف إمامهم.

فإن لم يكونوا أو كانوا ولا يمكن الأخذ عنهم ولا الرجوع إليهم ، أو كانوا من الوسواسيين الذين لا يأخذون بظاهر شريعة سيّد المرسلين ، وجب على كلّ بصير صاحب رأي وتدبير ، عالم بطريقة السياسة ، عارف بدقائق الرئاسة ، صاحب إدراك وفهم وثبات وجزم وحزم أن يقوم بأحمالها ، ويتكلّف بحمل أثقالها ، وجوباً كفائياً مع مقدار القابلين ، فلو تركوا ذلك عُوقبوا أجمعين.

ومع تعيّن القابليّة ، وجب عليه عيناً مقاتلة الفرقة الشنيعة والأُروسية ، وغيرهم من الفرق العادية البغيّة.

وتجب على الناس إعانته ومساعدته إن احتاجهم ونصرته ، ومن خالفه ، فقد خالف العلماء الأعلام ، ومن خالف العلماء الأعلام ، فقد خالف والله الإمام ، ومن خالف الإمام ، فقد خالف رسول الله سيّد الأنام ، ومن خالف سيّد الأنام فقد خالف الملك العلام.

ولمّا كان الاستئذان من المُجتهدين أوفَق بالاحتياط ، وأقرب إلى رضا ربّ العالمين ، وأقرب إلى الرقيّة ، والتذلّل والخضوع لربّ البريّة ، فقد أذنتُ إن كنت من أهل الاجتهاد ، ومن القابلين للنيابة عن سادات الزمان للسلطان ابن السلطان ، والخاقان ابن الخاقان ، المحروس بعين عناية الملك المنّان ، «فتحعلي شاه» أدام الله ظلاله على رؤوس الأنام ، في أخذ ما يتوقّف عليه تدبير العساكر والجنود ، وردّ أهل الكفر والطغيان والجحود ، من خراج أرض مفتوحة بغلبة الإسلام ، وما يجري وأمانة. ، كما

٣٣٣

سيجي‌ء ، وزكاة متعلّقة بالنقدين ، أو الشعير أو الحنطة من الطعام ، أو التمر أو الزبيب ، أو الأنواع الثلاثة من الأنعام.

فإن ضاقت عن الوفاء ، ولم يكن عنده ما يدفع به هؤلاء الأشقياء ، جاز له التعرّض لأهل الحدود بالأخذ من أموالهم ، إذا توقّف عليه الدفع عن أعراضهم ودمائهم ، فإن لم يفِ ، أخذَ من البعيد بقدر ما يدفع به العدوّ المريد.

ويجب على من اتّصف بالإسلام ، وعزم على طاعة النبيّ والإمام عليهما‌السلام أن يمتثلوا أمر السلطان ، ولا يخالفوه في جهاد أعداء الرحمن ، ويتّبعوا أمر من نصبه عليهم ، وجعله دافعاً عمّا يصل من البلاء إليهم ، ومن خالفه في ذلك فقد خالف الله ، واستحق الغضب من الله.

والفرق بين وجوب طاعة خليفة النبيّ عليه‌السلام ، ووجوب طاعة السلطان الذابّ عن المسلمين والإسلام ؛ أنّ وجوب طاعة الخليفة بمقتضى الذات ، لا باعتبار الأغراض والجهات ، وطاعة السلطان إنّما وجبت بالعرض ، لتوقّف تحصيل الغرض ، فوجوب طاعة السلطان كوجوب تهيئة الأسلحة وجمع الأعوان ، من باب وجوب المقدّمات الموقوف عليها الإتيان بالواجبات.

وينبغي لسلطاننا خلّد الله ملكه أن يوصي محلّ الاعتماد ، ومن جعله منصوباً لدفع أهل الفساد بتقوى الله ، وطاعته ، والقيام على قدم في عبادته ، وأن يقسّم بالسويّة ، ويعدل في الرعيّة ، ويساوي بين المسلمين ، من غير فرق بين القريب والغريب ، والعدوّ والصديق ، والخادم وغيره ، والتابع وغيره ، ويكون لهم كالأب الرؤوف ، والأخ العطوف.

وأن يعتمد على الله ، ويرجع الأُمور إليه ، ولا يكون له تعويل إلا عليه ، وأ لا يخالف قول المنوب عنه في كل أمر يطلبه ، تبعاً لطلب الله منه.

ولا يسند النصر إلى نفسه يقول : ذلك من سيفي ورمحي وحربي وضربي ، بل يقول : ذلك من خالقي وبارئي ومدبّري ومصوّري وربّي ، وأن لا يتّخذ بطانة إلا من كان ذا ديانة وأمانة.

٣٣٤

وأن لا يودع شيئاً من الأسرار إلا عند من يخاف من بَطشَ الملِك الجبّار ، فإنّ من لا يخاف الله لا يؤمن إذا غاب ، وفي الحضور من الخوف يحافظ على الاداب ، وكيف يُرجى ممّن لا يشكر نعمة أصل الوجود بطاعة الملك المعبود أن يشكر النعم الصوريّة ، مع أنّ مرجعها إلى ربّ البريّة؟! وأن يُقيم شعائر الإسلام ، ويجعل مؤذّنين وأئمّة جماعة في عسكر الإسلام ، وينصب واعظاً عارفاً بالفارسيّة والتركيّة ، يُبيّن لهم نقص الدنيا الدنيّة ، ويرغّبهم في طلب الفوز بالسعادة الأبديّة ، ويُسهّل عليهم أمر حلول المنيّة ، ببيان أنّ الموت لا بدّ منه ، ولا مفرّ عنه ، وأنّ موت الشهادة فيه السعادة ، وأنّ الميّت شهيد حيّ عند ربّه ، معفوّ عن إثمه وذنبه ، ويأمرهم بالصلاة والصيام ، والمحافظة على الطاعة والانقياد للملك العلام ، وعلى أوقات الصلاة والاجتماع إلى الإمام ، ويضع معلّمين يعلّمونهم قراءة الصلاة ، والشكيّات والسهويّات ، وسائر العبادات ، ويعلّمهم المحلّلات والمحرّمات ، حتّى يدخلوا في حزب الله.

الباب الثاني : في بيان أقسام الحروب

الحرب على ثلاثة أقسام : دفاع صِرف ، وجهاد مُتضمّن للدفاع ، وجهاد صِرف :

القسم الأوّل : الدفاع الصرف

وحكمه : أنّه إن كان دفاعاً صِرفاً ، كالدفاع عن النفس أو العرض أو المال ، جازَ في مقام الجواز ، ووجبَ في مقام الوجوب مُدافعة العدوّ ، مُسلماً كان أو مؤمناً ، عالماً بالموضوع أو جاهلاً ؛ لعدم علمه بإسلام الدافع وإيمانه ، عالماً بالحكم أو جاهلاً ، عامداً أو مخطئاً ، قريباً أو بعيداً ، ولداً أو أُمّا أو أباً ، على إشكال في الأخير ، بل في سابقيه بالنسبة إلى الأخير من المدفوع عنه.

ولكن المدفوع إن كان مُسلماً أو مؤمناً ، قدّم وعظه ونصحه بالكلام الليّن ، ثمّ الكلام الخشن إن وسع المقام ، ورجا نفع الكلام.

٣٣٥

ثمّ إن أدبر ، وكان مأيوساً من عوده ، أو صار جريحاً قد أمن من شرّه ، فلا يجوز أن يتبعه ليصل إليه ، أو يكرّر الضرب له ليجهز عليه ، وأما الكافر فقد هتك بتجرّيه على المسلم حُرمته ، ورفع به عصمته ، وأبطل عهده وأمانه ، وخرق ذمّته.

القسم الثاني : الجهاد المتضمّن للدفاع

من الأقسام المشتملة على مُلاقاة الأبطال من أهل الطغيان ، والضلال ، وعلى إقامة الحرب ، والمبارزة المشتملة على القتل والضرب ، في الدفع عن بيضة الإسلام ، أو النفوس أو الأعراض أو الأموال الّتي حكم الله عليها بالاحترام.

ففي هذه الأقسام يقاتلون ، ويقتلُون فرداً فرداً ، وهتكت عصمتهم ، ولم ينفعهم أمانهم ، وعهدهم ، وجزيتهم.

ووجب على المكلّفين الحاضر والغائب من جميع المسلمين من غير فرقٍ بين أهل المذاهب أن يشدّوا الرحال ، ويتجهّزوا للحرب والقتال ، ويرخصوا في ذلك النفوس والأموال ، إن وجدوا بأهل الحدود ذلّة ، أو رأوا بالمسلمين قلّة.

وعلى حضرة السلطان أو منصوبة كائناً من كان أن يجدّ في الطلب ، ويجمع الناس من عجم وعرب ، ويجبرهم على القتال ، والمبارزة مع الأعداء والنزال.

وعليهم أن يُقبلوا عليه ، ويتسابقوا من سائر الجوانب إليه ، وينادوا بأعلى النداء قائلين له : أرواحنا لروحك الفداء ؛ ليشتدّ عزمه ، ويقوى على محاربة الأعداء جزمه.

فإنّ الجنود ، والعساكر وإن كانت ذات عدد متكاثر بمنزلة الفسطاط إذا سقط عمودها هدمت.

وكما يجب طاعة الرئيس الكبير ، كذلك يجب طاعة من نصبه على عدد قليل أو كثير ، فيما يتعلّق بالسياسة والتدبير ، وعليهم إرشاده إذا زاغ عن الصواب ، وسلك طريق الغيّ والشكّ والارتياب.

وعليه أن يجمع شملهم ، ويسمع قولهم ، ويستشيرهم في الأُمور ، ويتبسّم في وجوههم ، ويظهر لهم الفرح والسرور.

٣٣٦

الباب الثالث : في بيان الشروط

قد تقدّم بيان أقسام الجهاد ، وذكرنا أنّها تقع على وجوه خمسة : هي ما يكون لحفظ بيضة الإسلام إذا أراد الكفّار الهجوم عليها.

وما يكون لدفعهم عن بُلدان المسلمين ، وقُراهم ، وأراضيهم ، وإخراجهم منها بعد سلطانهم عليها.

وما يكون لدفع الملاعين عن التسلّط على دماء المسلمين ، وهتك أعراضهم على نحو ما مرّ.

وما يكون لدفعهم عن طائفة من المسلمين التقت مع طائفة من الكفّار ، فخيف من استيلائها عليهم.

وما يكون لأجل الدعوة إلى الإسلام ، وإقرارهم بشريعة خير الأنام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتُشترط في القسم الأخير نيّة التقرّب إلى الله تعالى ، دون باقي الأقسام ، مع احتمال اشتراطها في الأقسام الأربعة الباقية ، لا سيّما الأوّل والرابع ، ولو قيل : بأنّ قصد القربة إنّما تتوقّف عليه زيادة الثواب ، لم يكن بعيداً.

ثمّ الحرب الراجح بأقسامه له شروط ، تشبه شروط الصلاة ، فمثل الطوب ، والتفنك ، والسيف ، والرمح ، والسهم ، ونحوها بمنزلة الطهارة المائيّة من الوضوء والغسل ، لا يجوز العدول إلى غيرها إلا مع الاضطرار. ويستحبّ فيها أن تكون سالمة من صفات النقص ، وكلّما زادت في الكمال زاد فضلها وأجرها ، كما في الماء.

والعصا والحجارة ونحوها بمنزلة الطهارة الاضطرارية الترابيّة ، يحرم استعمالها مع وجود ما هو بمنزلة الطهارة المائيّة.

ودابّة الركوب ومكان الحرب بمنزلة مكان المصلّي ، فإنّ الصلاة لا تصحّ في مكان لا يستقرّ فيه صاحبه ، ولا زال يضطرب ، فلا يجوز في مذهب أهل الرأي ركوب دابّة رديئة ، أو الجلوس في مكان منخفض ، والعدوّ في مرتفع ، وهكذا.

٣٣٧

وكذا في اللباس ؛ فلباس المصلّي من القطن والكتان ، ولباس الحرب من الحديد.

وكذا في الاستقبال ؛ فإنّه لا يجوز في الصلاة صَرف الوجه عن القبلة ، كما لا يجوز صَرف الوجه عن العدوّ ، ويجب استقباله.

وكذا تستحبّ الصلاة جماعة ، وكلّما كثرت الجماعة ، وزادت الصفوف كان أفضل ؛ كذلك الحال في الحرب ، فإنّ زيادة صفوف الحرب تبعث على زيادة الأجر.

وكذا يكره استقبال الحديد والنار في الصلاة ، كذلك يُكره الحرب حال استقبال الريح.

وهكذا ينبغي للمصلّي أن لا يكون متكاسلاً ، ولا متناعساً ، بل ينبغي أن يكون متوجّهاً لصلاته متحذّراً من الشيطان ، كذلك في الحرب ينبغي أنّ يكون على حذر من العدوان ، غير متهاونٍ ، ولا متكاسلٍ ، ولا متثاقلٍ.

ثانيها : وهو مشترك بين الجميع : البلوغ ، والعقل ، والقابليّة للنفع ، وعدم تقوّي العدوّ بحضوره ، بزعم أنّه من أوليائهم ، وعدم تضرّر المُسلمين بوجوده معهم تضرّراً يفسخ اعتبار نفعه. ولو حصلَ بكثرة السواد دفع ضرر فيما عدا القسم الأخير من الأقسام الأربعة السابقة عليه وجبَ على الوليّ إحضارهم.

ثالثها : وهو خاصّ بالأخير ، ويشترك معه ما سبقه إن لم يترتّب دفع ضرر ، وهو : الحريّة ؛ والسلامة من العمى ، والإقعاد ، والمرض ، وبلوغ حدّ الهمّ ، والفقر الباعث على العجز عن مسيره ، ونفقته ، ونفقة عياله ، ولم يبلغ حدّ التعذّر ، وأمّا ما بلغ حدّ التعذّر فيشترك فيه الجميع.

رابعها : عدم منع أحد الوالدين ، وعدم حلول الدَّين مع القدرة على وفائه ، ومُنافاة الخروج إلى الجهاد ، ولم يكن مُتعيناً ، وذلك خاصّ بالأخير.

خامسها : عدم وجود من تقوم به الكفاية ، ويحصل به الغرض ؛ لكثرة الكفّار ، وقلّة المسلمين.

سادسها : الذكورة ، فلا يجب على من علم خروجه عن حقيقتها ، أو شكّ فيه كالخنثى المُشكل ، والممسوح ، وهذا مخصوص بالأخير أو القسمين الأوّلين.

٣٣٨

سابعها : عدم المعارضة لشي‌ء من الواجبات الفوريّة ، من حجّ إسلام ، أو حجّ نيابة يجب السعي إليها فوراً ، ولا يجامع الخروج إلى الجهاد ، وكذا ما كان مُستأجراً عليه من الأعمال ، وهذا مخصوص بالأخير ما لم يتعيّن.

ثامنها : أن لا يتوقّف على تخلّفه تهيئة الزاد والأسباب الّتي تتوقّف عليها استقامة عساكر المسلمين ، كالات الحرب والخيام المحتاج إليها ونحوها ، ولو أمكن من غيره ، لم يتعيّن إلا بتعيين رئيس العسكر.

الباب الرابع : في تفصيل أسباب الاعتصام

وفيه فصول :

الفصل الأوّل :

بذل الجزية للإمام ، أو نائبه الخاصّ أو العامّ ، أو رئيس المسلمين مع غيبة الإمام عليه‌السلام ، قبل الأمر ، باختيارٍ منه ، وانخفاض وتذلّل ؛ مُشترياً لنفسه من القَتل ، ولعرضه وماله على نحو ما شرط ، شراء المُكاتَب نفسه من مولاه ، لا بوجه هدية أو ترفّع.

بمقدار ما يطلب منه أمير المؤمنين ، من جنس أو نقد موزّعاً على الرؤوس ، أو الأراضي أو الشجر أو الحيوان ، أو ما تركّب منها على إشكال ، فيما عدا القسمين الأوّلين ، وما يتركّب منهما ، والأحوط أن لا ينقصها عن مقدار دينار.

ويستوي الغني والفقير ، والرشيد والسفيه. وإن كان مُعسراً ، انتظر إلى ميسرة.

ولا جزية على الأطفال ، والنساء ، والمجانين ، والخناثى المشكلة ، والممسوحين ؛ لإلحاقهما بالنساء.

ويقوى في العبد الأخذ من مولاه.

وفي الهمّ ، والمُقعد ، والراهب ، وأهل الصوامع ، والمجنون أدوارياً إشكال.

ويجوز أخذها من ثمن المحرّمات والمحلّلات في مذهبهم ، من ثمن الخمر ،

٣٣٩

والخنزير ، والصليب ، ومهر بنات الإخوان ، والأخوات ، والأُمهات عند من أحلّها ، ولو بالإحالة على المشتري.

ويُشترط في لزومها الانقياد لقضاء الشرع وحُكمه ، وعدم التجاهر بالمحرّمات في شريعة الإسلام ، كأكل لحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحرّمات ، ومعاونة الكفّار ، وإيواء عينهم ، وكشف الأسرار لهم بالرسل والمكاتبات ، وترغيبهم إلى قتل المسلمين ، والتسلّط على أعراضهم ، وأموالهم.

ويمنعون عن بناء كنيسة أو بيعة ، وضرب ناقوس ، وإعلاء جدار على بناء مسلم من أهل الحقّ أو الباطل ، ومساواته له ، ما لم يكن بناء المسلم في الأرض على نحو السرداب ، أو كان مبناه على مرتَفع من الأرض. وإن خرجَ المُسلِم على العادة في الهبوط ، فلا بأس ، على إشكال.

ولو احتاج إلى تعلية داره ، وبَذَلَ للمسلم ما يرفع به بناءه ، لم يجب القبول. ولا مانع من زيادة حُسنه وسِعته على دار المُسلم.

وفي تسرية الحكم إلى خاناتهم ، ومدارسهم ، وبيعهم ، وكنائسهم ، وأوقافهم الخاصّة دون العامّة الّتي تعمّ المسلمين وجه.

ويمنعون عن جميع ما يُؤخذ عليهم تركه ، من تحسين الدور زيادة على المسلمين ، وركوب السرج والخيل ، ولبس لباس فاخر من خز أو سمور أو شال ، ووضع العلامة كشعر في الوجه ، متّصلاً بشعر الرأس ، أو رقعة يخالف لونها لون الثوب ، أو إزار مخصوص فوق الثياب للنساء ، أو شي‌ء على الرأس لا تضعه نساء المسلمين على رؤوسهم ، ونحو ذلك.

ولو تذمّم من إمام أو منصوبة الخاصّ أو العامّ ، ثمّ تربّص بعض المسلمين ، فقبض المال ، أجزأ في ثبوت الذمّة.

ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة المسلمين وإيوائهم ، ويشترط دوابا وخيلاً لركوبهم. ولا تختصّ الضيافة بثلاثة أيام.

وقبول الجزية مخصوص بما كان من أهل الكتاب ، كاليهود ، والنصارى ، ومن لهم

٣٤٠