كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ٤

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر كاشف الغطاء


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-033-5
الصفحات: ٦٨٠

سيّئاته» (١) ، وعنه عليه‌السلام : «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض» (٢).

وروى الكليني بإسناده عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيّ الجهاد أفضل؟ قال : «مَن عُقرَ جواده ، وأُهريق دمه في سبيل الله» (٣). وروى البرقي بإسناده عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيّ الأعمال أفضل؟ فقال : «الصلاة لوقتها ، وبرّ الوالدين ، والجهاد في سبيل الله تعالى» (٤).

المبحث الثالث

في بيان حُسن التكليف وقُبح قول من قبّحه ، قد حكم العقل بحُسنه ، ودلّ على رجحانه ، بل وجوبه بوجوه عديدة :

أوّلها : أنّ بديهة العقل تحكم بأنّ صاحب العظمة والجبروت ، والمُلك والملكوت ، يحسن منه إظهار عظمته وجبروته ، وملكه وملكوته ، حتّى يعلم أنّه الله ولا معبود سواه.

فإذا لم يظهر منه أمر ، ونهي ، وزجر ، ووعد ، ووعيد ، وكتاب ، وحساب ، وثواب ، وعقاب ، ضَعُفَ أمر سلطانه ، ولم يعلم علوّ شأنه ، ولم تظهر عظمته ، ولم تُعلم حكمته ، ولم يعرف غضبه ، ورحمته ، فتنقص من الصفات صفة الغضب ، والرضا ، والرحمة ، والصفح ، والنقمة.

ثانيها : أنّه يجب خلق الممكنات مختلفة الحقائق والصفات ، ولو لا اختلافها لظنّ أنّها واجبة قديمة ، وليست من الممكنات الحادثات ، ولذلك اختلفت الجمادات ،

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٤ ح ٦ ، الوسائل ١١ : ٩ أبواب جهاد العدوّ ب ١ ح ١٩.

(٢) الكافي ٥ : ٤ ح ٥ ، التهذيب ٦ : ١٢١ ح ٢٠٧ ، مشكاة الأنوار : ١٥٦ ، الوسائل ١١ : ٧ أبواب جهاد العدوّ ب ١ ح ٩ ، البحار ٩٧ : ٢٥ ح ٢٢ ، روضة الواعظين للفتال ٢ : ٣٦٢.

(٣) الكافي ٥ : ٥٤ ح ٧ ، الوسائل ١١ : ٦ أبواب جهاد العدوّ ب ١ ح ٧ ، البحار ٩٧ : ١١ ح ٢٠.

(٤) الكافي ٢ : ١٥٨ ح ٤ ، الوسائل ١١ : ١٢ أبواب جهاد العدوّ ب ١ ح ٢٨ ، البحار ١٠٠ : ١١ ح ١٧ ، المحجّة البيضاء ٣ : ٤٣٩ ، رياض الصالحين للنوري : ٣٢٢.

٣٠١

وجميع أنواع الحيوانات في الأشكال والألوان ، والهيئات والصفات.

وبذلك ظهرت قدرته على جميع المقدورات ، وعلمه بجميع المعلومات ، ولو لم تختلف أحوال المكلّفين بوجه لا يوجب الجبر ، لنقصت صفة العفو عن المذنبين ، والصفح عن الخاطئين.

وحيث حصل الاختلاف بينهم عن اختيار ، لا عن إكراه وإجبار ، وجب بمقتضى الحكمة كشف أحوالهم ، وإظهار ما يقع من أفعالهم ؛ ليصل إلى كلّ ما يستحقّه.

ويأبى العقل والعدل والحكمة مساواة العبيد في إنعام المولى من دون مزيّة لصاحب القابليّة ، وعدم الفرق بين صاحب الصفة المرضيّة وبين المتّصف بأدنى الصفات الرديّة.

فوجب بذلك الاختبار بتوجيه الأوامر والنواهي من الملك الجبّار ليتميّز الأخيار بطاعتهم عن الأشقياء الأشرار ، ويظهر المستحقّ لرضا الرحمن ودخول الجنان ، والفوز بالحور العين والولدان ؛ وينكشف حال المستحقّ لغضبِ الجبّار والدخول في عذاب النار ؛ ولئلا يقولوا : لولا أرسلتَ إلينا رسولاً يُبيّن لنا الأحكام ويعرّفنا الحلال من الحرام.

ثالثها : أنّ التكليف في نفسه من أعظم اللطف وأكبر النعم ؛ لاستدعائه حصول الشرف التامّ والمنزلة الرفيعة في أعلى مقام ، حيث إنّ صفة العبوديّة لله ، والخِدمة له ، وشرف الحضور والقيام بين يديه ، وتوجيه الخطاب في الدعاء والمناجاة من العبد إليه ، وبذلك تحصل له المرتبة العظمى والمزيّة الكبرى ، والقدر العظيم ، والفخر الجسيم.

رابعها : أنّ المبدأ الفيّاض جلّ وعلا يجب عليه بمقتضى فيضه ولُطفه وكرمه أن يفيضَ نعمَه على عباده ، ويجعلهم غرقى في بحار لطفه وكرمه.

وإذا غمرتهم النعم ، وشملهم اللطف والكرم ، ولم يصدر منهم صورة العوض ، أخذهم الخجل ، وأحاط بهم الفشل ؛ لعدم صدور المقابل ، ووجدان العبد

٣٠٢

نفسه غير قابل.

فمن أعظم نعماء الله عليه وإحسانه التامّ إليه ، أمره له بالطاعات ، وتجنّب المعاصي والتبعات ؛ ليرى نفسه أنّه قد أدّى بعض ما يقابل تلك النعم السابغات ، وإن كان كسحاب تَرِد البحر ، ثمّ تمطر عليه من مائه ، فإنّ الكلّ منه ، وكلّما كان من الحُسن صادر عنه.

خامسها : أنّ جميع ما أمر به بعد التأمّل التام ترى فيه صلاحاً للمأمور :

إمّا في إصلاح عقله أو نفسه أو بدنه ، أو أمر خارجيّ يرتبط به ، وجميع ما نهي عنه لا يخفى على صاحب الذهن الوقّاد أنّه لا يخلو من فساد ، حتّى أنّ بعض العقلاء ادّعوا أنّهم يعرفون أحكام الشرع أصولاً وفروعاً بإدراك عقولهم من تتبّع الأدلّة ، وبعض الأطباء ادّعى أنّ جميع الأغذية المحرّمة تعرف بمقتضى علم الطبّ.

وبعد بيان ذلك : كان من الواجب على الله بمقتضى لطفه بيان الأحكام لجميع المكلّفين من الرعية ، وبذلك يعلم المستحقّ للثواب من المستحقّ للمؤاخذة والعقاب.

والكريم إذا خلى من الحكمة ، جاز له أن يبني القصور المشيّدة ، والنمارق الممهّدة ، والمأكل والمشارب الطيّبة ، ويضع فيها الكلاب والخنازير. والعاصي إذا لم يشمله عفو الله تعالى أدنى رتبة منها ، وأمّا الحكيم فيضع الأشياء في مواضعها ، ويعطي كلّ عبد من عبيده ما يستحقّه.

سادسها : أنّه باعث على ترتّب اللذّات بالخدمة ، والخطاب والمناجاة لجبّار الأرض والسماوات ، وأيّ لذّةٍ أعظم من القيام بين يدي مالك الملوك ، ومكالمته وتوجيه الخطاب إليه.

سابعها : اشتماله على لذّة الوفاء ، والإتيان بصورة الجزاء لتلك النعم التي ملأت ما بين الأرض والسماء.

٣٠٣

ثامنها : أنّه أقرب في رجاء نيل النعم ، ودفع النقم ، وتوّهم أنّ الإتيان بالقليل في مقابلة ذلك اللطف الجزيل الجليل باعث على العكس ، مردود بأنّ قدر النعمة عند المُنعَم عليه بمقدار احتياجه إليه ، إلى غير ذلك.

المبحث الرابع

أنّه لمّا علم أنّ للواجب جلّ وعلا مَطالب يُريدها من العبد ؛ لصلاح يعود إلى العبد لا إليه ؛ لأنّه تعالى غنيّ بذاته عمّا عداه ، وإلا لكان مَحتاجاً ، ولم يكن هو الله ، وعلى مناهي ، يترتّب على العبد منها الفساد ، فنهى عن فعلها المكلّفين من العباد.

فقد وجب على الله إخبارهم بما أراد وما نهى عنه لترتّب الفساد.

ولمّا كانت طُرق الأخبار بأوامره ونواهيه محصورة بأُمور ، هي هذه المذكورة ، لزم اختيار المختار منها ، وتعيين ما يصدّر انتفاع المكلّفين.

فمنها : أن يخلق الله سبحانه صوتاً في بعض الأجسام ، من هواءٍ أو ماءٍ أو شجرٍ أو حجرٍ أو مدرٍ ، وذلك لا يوافق طريق الامتحان والاختبار ، ولم يعلم أنّ ذلك من الله ، بل جوّز أن يكون من الشياطين أو من بعض الجانّ أو غيرهم من الأشرار.

ومنها : أن يُرسل بعض الملائكة أو بعض الجانّ ، وذلك أيضاً لا يوافق الامتحان ؛ مضافاً إلى أنّهم إن لم يأتوا بمعجزٍ لهم ، لم يسمع كلامهم ، وارتفع عن العباد ملامهم ؛ وإن أتوا ببعض المعاجز ، جوّز المكلّفون قدرتهم عليها من دون استنادٍ إلى الخالق ؛ لأنّهم لا يعرفون حقيقتهم ، ويحتملون قابليّتهم.

ومنها : أن يُرسل شخصاً من نوعهم ، يعرفون حقيقته ومقدار قابليّته ، ويحيلون استناد المعاجز إلى قدرته ، وبمقتضى الحكمة لا يجوز صدور المعجز عنه ، وإلا لانقطع طريق العرفان ، وما هو المحبوب أو المكروه عند الملك الديّان.

بل لا بدّ أن تظهر حاله إمّا بإظهار صفات النقص فيه ، من خفّة العقل أو زيادة الجهل ، أو بارتكابه الأفعال الرديّة الّتي يهتدي بها أدنى الجهّال فيه إلى عدم القابليّة ، أو

٣٠٤

بظهور أنّها تصوير ليست مستندة إلى قدرة البصير الخبير ، أو بادعائه دعاوي تنكرها العقول ، ولا تدخل عندهم في حيّز القبول ، إلى غير ذلك من الأسباب الدالّة على أنّه ساحر كذّاب ، ومفترٍ مرتاب.

فقد انحصر طريق معرفة تكاليف ربّ الأرض والسماء بإرسال الرسل والأنبياء.

وطريق معرفة نبوّتهم ورسالتهم بالإتيان بالمعجزات وخوارق العادات.

فالانقطاع عن النبيّ انقطاع عن العبوديّة ، وإعراض عن جميع تكاليف ربّ البريّة ، فالكفر بواحدٍ من الأنبياء كفر بخالق السماء ومُبدع الأشياء.

المبحث الخامس

أنّه قد تبيّن ممّا تقدّم أنّ طريق معرفة أوامر الله ونواهيه لا يتوصّل إليها إلا بواسطة الأنبياء ، وأنّ معرفتهم لا يتوصّل إليها إلا بشهادة الآيات والمعجزات.

فمن الواجب العيني على كلّ مكلّف أن يجدّ ويجتهد في معرفة النبيّ المبعوث لإبلاغ الأحكام ، وتمييز الحلال والحرام ؛ والمنكر له منكر لثبوت الأحكام الشرعية ، نافٍ لوجوب الطاعة والخدمة لربّ البريّة ، وهو على حدّ الكفر بالربوبيّة.

وقد دلّت المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة على أنّ النبيّ المبعوث إلينا ، والمفروض طاعته من الله علينا أعلى الأنبياء قدراً ، وأرفع الرُّسل في الملإ الأعلى ذكراً ، الّذي بَشّرت الرُّسل بظهوره ، وخلقت الأنوار كلّها بعد نوره محمّد المختار ، وأحمد صفوة الجبّار ، ذو الآيات والظاهرة والمعجزات المتكاثرة ، الّتي قصُرت عن حصرها ألسُن الحُسّاب ، وكَلّت عن سطرها أقلام الكتّاب ، كانشقاق القمر ، وتضليل الغمام ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وتكليم الموتى ، ومخاطبة البهائم ، وغرس الأشجار على الفور في القِفار ، وإثمار يابس الشجر ، وقصّة الغزالة مع (١) خِشفيها (٢) ،

__________________

(١) في «ح» : صبح ، بدل مع.

(٢) الخشف : ولد الغزال. المصباح المنير : ١٧٠.

٣٠٥

وخروج الماء من بين أصابعه ، وانتقال النخلة جملة ثمّ رجوعها ، وانتقالها نصفاً بعد نصفٍ إليه ، وشفاء الأرمد لما تفلَ في عينيه ، ويقظته بعد نوم عينيه ، وإخبار الذراع له بأنّه مسموم ، وانتصاره بالرعب بحيث يخافه العدوّ من مسير شهرين ، وأنّه لا يمرّ بشجرٍ ولا حجرٍ إلا سجد له ، وبَلع الأرض الحدثين من تحته ، وعدم طول قامة من حاذاه على قامته ، وأنّ إبصاره من خلفه كإبصاره من أمامه ، وإكثار اللبن في شاة أُمّ معبد ، وإشباع الجمّ الغفير من الطعام القليل ، وطيّ البعيد إذا توجّه إليه ، ونزول المطر عند استسقائه ، ودعائه على سُراقة فغاصت قوائم فرسه ، ثمّ عفا عنه فأُطلقت ، ودعائه على عامر بن الطفيل وزيد لمّا أرادا قتله ، فهلك عامر سريعاً ، وقتل زيد بصاعقة ، واتساع القدح الضيّق لدخول كفّه فيه عند وضوئه ، وانفجار الماء من بئر دارسة لوقوع ماء وضوئه فيها ، وانفجار ماءَ بئر أُخرى لا ماء فيها ، وسقي ألف وخمسمائة منه ، وعماء عيون الجيش لرميه بكفّ من تراب ، وردّ عين بعض أصحابه بعد سقوطها إلى محلّها واستقامتها فيه ، وتسبيح الطعام في يديه ، وارتعاش الحكَم بن العاص حتى مات لاستهزائه به ، وعمى الناظر إلى عورته ، وبرص امرأة خطبها من أبيها فاعتذرت كاذبة بأنّها برصاء فصارت برصاء ، وتأثير قدميه في الأرض الصلبة ، وعدم تأثيرهما في الرخوة ، وإضاءة جبينه كالقمر المنير ، وإضاءة أصابعه كالشموع ، وعدم ظهور الظلّ له إذا وقف في ظلّ الشمس أو ضوء القمر ، وعدم علوّ الطيور عليه ، وعدم وصول الذباب والبق إلى بدنه ، وظهور سبع عشرة تلمع كالشمس في بدنه ، ونبات الشعر على رؤوس الأقرعين بوضع يده عليها ، وإعطائه الجريدة لبعض أصحابه عوض سيفه ، فصارت سيفاً بإذن الله ، وإعطائه عرجوناً لشخص في ليلة مظلمة فأضاء ، ونبات الشجر في فم الغار ، وتعشيش الحمامين ، ونسج العنكبوت فيه ، ومسح ضرع شاةٍ لا لبنَ فيها فدرّت ، ودعواه النصارى إلى المباهلة فعلموا صدقه ، وأبوا ودفعوا الجزية ، وحصول المهابة له في القلوب ، مع حسن أخلاقه ، وبشاشته وتواضعه ، بحيث لم يتمكّن أحد من إمعان النظر إلى وجهه ، ولم ينظر إليه كافر أو منافق إلا ارتعش من الخوف ، وإطاعة الشمس له في التأنّي في الغروب مرّة ، وفي الطلوع اخرى ، وإطاعة الشجرة له فجاءت في

٣٠٦

الأرض وسلمت عليه ، ودعائه على بعض اجترأ عليه بأنّ الله يسلّط عليه كلباً من كلابه ، فسلّط عليه أسداً فقتله ، وبخور عرقه الشريفة أطيب في كلّ عطر ، وحدوث الطيب من ماء بئر لوقوع البصاق من فيه فيه ، وإعطائه جوامع الكلم ، وتهنئة امّه من السماء وما رأت من كراماته حين الحمل وبعد الولادة ، وإخبار الأحبار عنه قبل ولادته بسنين ، وتزلزل إيوان كسرى عند ميلاده ، حتى سقط منه أربع عشرة شرافة ، وغوص بُحيرة ساوة ، وخمود نار فارس ، ولم تخمد قبل بألف سنة ، واضطرار الأحبار والرهبان عند ولادته حتى رآه بعضهم ، ورأى خاتم النبوّة بجسمه الشريف فحذّر اليهود منه ، وقال لهم : إنّه نبيّ السيف.

وإخباره بالمغيّبات ، كإخباره عن عترته الطاهرة واحداً بعد واحداً ، وما يجري عليهم من القتل والسبي من بني أُميّة وبني العبّاس ، وإخباره عن أهل النهروان ، وإخباره عن وقعة صفّين ، وعن قتل عمّار ، وأنّه تقتله الفئة الباغية ، وأنّ آخر شرابه من الدنيا ضياح من لبن (١) وإخباره عن وقعة الجمل ، وخروج عائشة على عليّ عليه‌السلام ونباح كلاب الحوأب عليها.

وإخباره عن خلفائه الاثني عشر ، وإخباره عن دوام ملك النصارى ، وإخباره عن عليّ عليه‌السلام من أنّه يقتل بضربة في شهر رمضان على أمّ رأسه فتُخضب شيبته من الدماء ، وإخباره عمّا يجري عليه ، وعلى الزهراء بعد موته.

وإخباره بقتل الحسن بالسمّ ، وقتل الحسين في كربلاء بعد شهادة أصحابه غريباً وحيداً ، وإخباره عن ما يجري على وَلَدِه الرضا في طوس ، ودفنه فيها ، وإخباره لجابر بملاقاة الباقر ، وإخباره بموت أبي ذرّ وحيداً غريباً.

وإخباره بشهادة جعفر الطيّار ، وزيد ، وعبد الله بن رواحة في وقعة مؤتة (٢) ، وإخباره بقتل حبيب بن عدي في مكة ، وإخباره بأنّ ملك المسلمين يأخذ على أطراف الأرض ، وإخباره بالمال الّذي أخذه عمّه العباس في مكّة ، وإخباره بالظفر بخيبر.

__________________

(١) اللبن الضياح : إذا مزجته بالماء ، ويقال له : ضياح ومضيّح ووضيح. جمهرة اللغة ١ : ٥٤٩.

(٢) في «ص» : تبوك.

٣٠٧

وإخبار عن رجل من المجاهدين من أهل النار فقتل نفسه ، وإخباره بموت النجاشي حين موته فصلّى عليه بالمدينة ، وإخباره بقتل الأسود الكذّاب ليلة قتله ، وهو بصنعاء اليمن.

وإخباره بأنّ واحداً من أصحابه وكانوا مجتمعين يكون من أهل النار ، فارتدّ واحد منهم وقُتل ، وإخباره بقتل أُبي بن خلف الجمحي فقُتل.

وإخباره يوم بدر بمصارع أصحابه وتعيين مواضعها على نحو ما وقع ، وإخباره بأنّ فاطمة عليها‌السلام أسرع لحوقاً به من أهل بيته ، وإخبار نسائه بأنّ أطولهنّ يداً في الصدقات أوّل لاحقةٍ به.

وإخباره عن الأنبياء السابقين ، وعمّا في الكتب المنزلة عليهم من ربّ العالمين ، مع أنّه كان يتيماً لم يُودع عند المعلّمين ، وأميّاً لا يعرف كتب العربيّة ، فضلاً عن كتب المتقدّمين.

وإخباره عن أُمّته بأنّها تنتهي فرقها إلى ثلاثة وسبعين ، وإخباره عن صحيفةٍ كتبت ودُفنت في الكعبة ، وإخباره عن مقدار دولة بني أُميّة ، وإخباره بِعُقد السحر الملقاة في البئر ، وإخباره عن بعض أسرار نسائه.

وإخباره بعدم إيمان كفّار بأعيانهم ، وإخباره عمّن رجع عن جيش أُسامة ، وإخباره عن موت شخص نجا من خارج فجاء وكشف عنه ، فرؤيت أفعى في ثيابه ، فسأله هل تصدّقت؟ فقال : نعم ، فقال : «دفعت عنك الصدقة» إلى غير ذلك.

ثم ما صدر من الخلفاء الراشدين ، والتابعين ، وتابعي التابعين ، والأقطاب ، والأبدال ، والأوتاد ، والعلماء من المسلمين من كرامات ومواعظ ، وخطب ، ومناجاة ، ودعوات مشتملة على بليغ المقامات ، وفصيح العبارات بحيث لا يمكن صدوره إلا بفيض من باسط الأرضين ، ورافع السماوات جميعه راجع إليه ، وعائد في الحقيقة عليه ، وهو ممّا لا يطاق سطره بكتاب ، ولا حصره بحساب.

وفي جمعه لمكارم الأخلاق الّتي قامَ عليها من الجميع الاتّفاق ، مع أنّه تربّى يتيماً من الأُمّ والأب ، بين أعرابٍ لم يذوقوا طعم الكمال والأدب ، قد تداولهم الإسلام مدّة

٣٠٨

تزيد على ألف ومائتين من الأعوام ، فلم يعدلوا عمّا كانوا ، بل لم يزالوا يتزايدون على الجفاء والغلظة آناً بعد آنٍ.

فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أسخى الناس ، لا يبيت عنده دينار ولا درهم ، وإن فضل ولم يجد من يعطيه وجاءه الليل لم يأوِ إلى منزله حتّى يفرغ منه ، وما سأله أحد شيئاً إلا أعطاه ، وكلّ من سأل منه شيئاً على الإسلام أعطاه.

وأنّ رجلاً سأله فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال : أسلموا ، فإن محمّداً يُعطي عطاءَ من لا يخشى العاقبة.

وكان أشجع الناس : فعن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «كنّا نلوذ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر ، ، وكان أقرب الناس إلى العدوّ» ، وعنه عليه‌السلام : أنّه قال : «إذا حمي البأس ، وبقي القوم ، اتّقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يكن أحد أقرب إلى العدوّ منه» وكان أكثر الناس تواضعاً ، فإنّه كان يخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويجيب الدعوة ، ويعود المرضى ، ويشيّع الجنائز ، ويزور المؤمنين ، ولا يترفّع على عبيده وخدمه ، ويطعمهم ممّا يأكل ، ويركبهم خلفه.

ويركب الفرس مرّة ، والبغلة مرّة ، والحمار كذلك ، ويمشي مرّة ، ويجلس حيث ينتهي به المجلس ، ويبدأ مَن لقاه بالسلام ، ومن قام معه لحاجة لم يتحرك حتّى ينصرف ، وإذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة ، ثمّ أخذ بيده فشابكه ، ثمّ سدّد قبضه عليها.

وكان أكثر جلوسه بأن ينصب ساقيه جميعاً ويمسك بيديه عليهما ، ولم يُعرف مجلسه من أصحابه ، وكان أكثر جلوسه مستقبل القبلة.

وكان قبل النبوّة يرعى الغنم ، وكان يأكل أكل العبد ، ويشدّ حجر المجاعة على بطنه ، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلّي إلا

خفّف صلاته وأقبلَ عليه ، وقال له : هل لك حاجة؟ فإذا فرغ من حاجته ، عادَ إلى صلاته.

وكان لا يقوم ولا يقعد إلا بذكر الله ، وكان يُتعب نفسه بالصيام ، وكذا بالصلاة ، حتّى وَرَمَت قدماه.

٣٠٩

وكان وصولاً للأرحام ، قاطعاً لهم إذا حرفوا عن طاعة الملك العلام ، رحيماً بالفقراء ، شفيقاً على الضعفاء ، عطوفاً على الجار ، ولا زال يوصي به حتّى خِيف أن يفرض له سهماً بالميراث.

لا يقاس صلوات الله عليه بأحدٍ من ممّن كان قبله ، ولا بأحدٍ ممّن يكون بعده ، ففي النظر إلى أخلاقه الكريمة وأحواله المستقيمة كفاية لمن نظر ، وحجّة واضحة لمن استبصر ، ككثرة ، الحلم وسعة الخلق ، وتواضع النفس ، والعفو عن المسيئين ، ورحمة الفقراء ، وإعانة الضعفاء ، وتحمّل المشاقّ في رضا الملك الحق ، وجمع مكارم الأخلاق ، وزهد الدنيا مع إقبالها عليه ، وصدوره عنها مع توجّهها إليه ، وله من السماحة النصيب الأكبر ، ومن الشجاعة الحظّ الأوفر.

وكان يطوي نهاره من الجوع ويشدّ حجر المجاعة على بطنه ، ويجيب الدعوة ، وكان بين الناس كأحدهم ، حَسَن السلوك مع الغني والفقير ، والعظيم والحقير ، حتّى أنّ بعض اليهود رجع إلى الإسلام بمجرّد ما رأى من حُسن سيرته.

وكان له نور يضيئ في الليلة المظلمة ، ورائحة تفوق على رائحة المسك والأذفر ، وله محاسن تفوق على محاسن كلّ البشر ، مع خروجه من طوائف الأعراب الّذين لا يعرفون طرائق الاداب.

ولا زال الشرع يندبهم ، والوعّاظ تعظهم ، والخُطباء تخطبهم ، ممّا يزيد على ألف ومائتين وعشرين من السنين ، فما تغيّروا عن أحوالهم ، ولا تركوا القبيح من أقوالهم وأفعالهم.

وكفى بكتاب الله معجزاً مدى الدهر ، حيث أقرّت له العرب العرباء ، وأذعنت له جميع الفصحاء والبلغاء ، وخيّروا بين السيف ومعارضته ، فاختاروا السيف ؛ لعجزهم عن الإتيان بمثل بعض آياته.

قد شهدت بنبوّته الكُتب المنزلة من السماء ، وكُتب الرُّسل والأنبياء :

منها : ما في التوراة وهو حجّة على اليهود والنصارى في سفر دباريم

٣١٠

الفصل الثامن عشر في السورة الخامسة منه ، وهي : «نابي ميقر يخاما حيخا كاموني ياقيم لخا أدوناي ألوهخا الأوتشماعون كخل أشرشا تلتا ميعيم أدوناي الوهيخا لجورب بيوم هفّاهال لأمور لو أوسف لشموعاات قول أدوناي الاي الوهاي وائت هااش هكدّولاه هازوت لوارّءه عود ولواموت ويؤمرادوناى هيطيبوا شرد برّو نابي اقيم لهم ميقرّب أحيهم كاموخا ونانتي دباري بفيو ودبّر إليهم إت كلّ اشراصونووها ياه هاأيش أشرلوا يشمع ال دباراى اشر يدبّر باشمي أيوحى أدرش معيمو».

ومعناه : أنّ نبيّاً من شيعتك ومن إخوتك يقيمه لك الربّ إلهك ، فاسمع منه ، كما سألت الربّ إلهك في حوريب بعد يوم الاجتماع ، حين قلت : لا أعود أسمع صوت الربّ إلهي ، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضاً لكيلا أموت.

فقال الربّ لي : حسن جميع ما قالوا ، وسوف أُقيم لهم نبيّاً مثلك من بين إخوتهم ، وأجعل كلامي في فمه ، ويكلّمهم بكلّ شي‌ءٍ أمره به ، ومن لم يطع كلامه الّذي يتكلّم به باسمي أكون أنا المنتقم منه (١).

ومحل الشاهد منها : أنّ الله خاطب بني إسرائيل بأنّه يخرج لهم نبيّاً من بينهم من إخوتهم ، وليس لبني إسرائيل إخوة من الطوائف ادّعى أحد منهم النبوّة سوى بني إسماعيل.

وقد أطلق الإخوة في التوراة على الأعمام في قوله لبني عيسى : «ووتاعير والمفتي اجنحم بني إسرائيل» وعلى الأجانب في قوله «ويشلح موشه ملقا خيم مقّارش آل ملخ أدوم كه أمر أجنجا يسرائيل».

ثمّ إنّه قد اتّفق اليهود على أنّه لا يخرج نبيّ من بني إسرائيل صاحب كتاب وشريعة من بعد موسى ، وقد قال في الآية : «كاموخا» يعني مثلك ، وحكاية عن موسى «كموني» يعني مثلي ، مع أنّ المسألة تقضي بأنّه ليس من بني إسرائيل ؛ لأنّ في

__________________

(١) عهد عتيق : ٣٠٣ سفر تثنية باب ١٨.

٣١١

آخر التوراة قبل تمامه بسطرين : «ولو قام نابي عود بيسرائيل كموشه» ومعناه : أنه لا يكون نبيّ من بني إسرائيل مثل موسى ، وهو أبين شاهد على النبيّ الموعود ليس من بني إسرائيل ، فليس إلا من بني إسماعيل ؛ إذ لا نبيّ مانعاً ومنّا ومنهم بعد موسى من غير بني إسرائيل وبني إسماعيل.

ومنها : ما في التوراة أيضاً ، في أوّل لااراش هيريخا ، آخر لااراشان هوياوليم ، من قوله : «يومرادوناى مسيّني بأوّذَرحَ مساعير لُوهُوء فيغامها وفاران».

ومعناه : أنّ النور الإلهي أشرقَ من طور سيناء جبل موسى ، وظهر في ساعير جبل عيسى ، وأضاء ووضح غاية الوضوح في جبل فاران ، وهو جبل مكّة.

ومنها : ما في لااراش لخلخا من التوراة ، من قوله : «وليُشماعيل شمعتيخنا هِنّه بّرخي اتو وهفريتى اتووهر بتيني أتوا بمادماد ستينم عَسَر فسِتيام يوليد ونثاتو لكرى كادول».

ومعناه : أنّ الله وعد أن يجعل من ذريّة إسماعيل اثنا عشر شريفاً ، ويجعل لهم عشائر وقبائل و «بمادماد» يوافق اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنها : ما في الإنجيل ، ففي الفصل الثالث والثلاثين من إنجيل يوحنا : «إن كنتم تحبّونني احفظوا وصاياي ، وأنا أسأل الأب فيعطيكم فارقليطا آخر ، ليثبت معكم إلى الأبد».

وفي الفصل الرابع والثلاثين : والفارقليط روح القدس الّذي يرسله الأب باسمي ، وهو يعلّمكم كلّ شي‌ء ، وهو يذكّركم كل ما قلت لكم» ثمّ ذكر بعد الإشارة إلى مضيّه إلى الأب ورجوعه ، وأنّه ينبغي أن يفرح أصحابه بذلك : «لست أتكلّم معكم أيضاً كثيراً ؛ لأنّ رئيس هذا العالم يأتي ، وليس له فيّ شي‌ء ، ولكن ليعلم العالم أنّي أُحبّ الأب ، وكما أوصاني الأب كذلك أفعل».

وفي الفصل الخامس والثلاثين منه : «فأمّا أن جاء الفارقليط الذي أُرسله أنا إليكم من عند الأب ، روح الحقّ الّذي من الأب ، وهو يشهد لأجلي» ثمّ ذكر بعد ذكر انطلاقه إلى من أرسله : «وخاطري لأجله من الكتابة على قلب أصحابه ، لكنّي أقول الحقّ : إنّه

٣١٢

خير لكم أن أنطلق لأبي ، إن لم أنطلق ، لم يأتكم الفارقليط ، فإذا انطلقت أرسله إليكم ، وإذا جاء ذلك ، وهو يوبّخ العالم على الخطيئة ، وعلى البرّ ، وعلى الحكم ، أمّا على الخطيئة فلأنّهم لم يؤمنوا بي. وأمّا على البرّ ؛ لأني منطلق إلى أبي ، ولستم ترونني أيضاً. وأمّا على الحكم ، فإنّ رئيس هذا العالم قد يدين ، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ، ولكنّكم لستم تطيقون حمله الان ، فإذا جاء روح الحقّ ذلك ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنّه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلّم بكلّ ما يسمع ، ويخبركم بما سيأتي ، ذلك يمجّدني ؛ لأنّه يأخذ ممّا لي ، ويخبركم جميع ما هو للأب ، فهو لي ، من أجل هذا قلت : إنّ ممّا هو لي يأخذ ويخبركم» إلى غير ذلك من الآيات ، تركنا التعرّض لها خوف الطول ولزوم الملال.

أمّا ما في الكتب باقي الأنبياء فكثير ، نذكر قليلاً منه :

منه : ما في كتاب يشيعنا : «وهايه لهم دبارادوناى كي صاولا صاوصا لا صاولا قاوقالا قاوزعير يتام زعير شام كي بلعفى شافه ويلاشُون أحرث بدّبرال هاعام هازه أشرامر الوهيم ذوت همّنوحة هينحو لعايف وزوت هما ركعية ولو ايوُ شمسوعاً وهيه ولهمّ ديارادوناى صاولا صاوصاولا صا وقاولاقا وفاولا قاوزعير شام زعير شام لعن يلخِوا وكِشلوُا حَوُر ونشير ونُوقشِوو تلخادر».

ومحلّ الشاهد : أنّ الّذي يظهر من هذا الكلام وصف النبيّ المبعوث أنّ شريعته وصيّة بعد وصية ، وكيلة بعد كيلة ، بعضها في مكان ، وبعضها في مكان آخر ، لا كشريعة موسى يؤتى بها جملة.

ومنه : ما في كتاب يشيعيا أيضاً : «إشميعا أتخم شيرو ولادوناى شير وخاداش تهلا تومِقِصّةِ ها اومى يُوردي ها يام وملأوا ايم وليثيبهم ليسا ومَدِبار وعارو حَصَريم تشبت قادار يارانو ويشبنى سلَع مَلئوش هاديمِ يِصِوحو ياسِمُوا لادَوناي كابور وتهلا بوّياايم يكيدّوا» ويظهر من هذه الكلمات : الإخبار عن شريعة تسبّح تسبيحاً جديداً ليس كتسبيح الأُمّة السالفة ، ويذكرون الله ذكراً كذلك ، ويصيحون بالذكر على الجبال ، والظاهر أنّ

٣١٣

المقصود به أذان المسلمين.

ومنه ما في كتاب يشيعان أيضاً : صنّ عابدي أتماخ بوبحيرى راضاتا نفشي ناثاتي روُحيَ علا ومشباط لَكُرّيمَ يوصى لو يصيعق لو يشارلو يُشمع يا حوص قُولَو فاته راصوص لو يسكور وفمشتاه كها لو يكبّته لا مت يوصى مشباط لو يكهه ولو يارفص عديا سيم بأرض مشباط لتورته ايمَ يبحلو» ويظهر من هذه الكلمات وصف النبيّ المبعوث بأنّه المصطفى المختار مُظهر الشريعة ، ومُقيمها في الأرض ، لا يقع منه السكر.

ومنه ما في كتاب نحمان ، وهو قبل نبيّنا بأربع وثلاثين سنة ، وزعم اليهود أنّه خرج من بطن امّه نبيّاً.

وقصّته أنّ أباه «لانلاهاس» كان عبداً صالحاً ، وزوجته «راحيم» أُمّ نحمان بقيت لا تلد مدّة مديدة ، فالتمست «راحيل» زوجها «لانلاهاس» أن يدعو الله لها بالحمل ، فحملت بنحمان ، فحين وضعته وخرج إلى الدنيا أخبر بأُمور أخافت الناس ، فوضع يده «لانلاهاس» على فمه فانقطع كلامه اثنا عشر سنة.

فلم تزل أُمّه تبكي وتقول : دعوت لي فأعطاني الله ولداً أخرس ، فأدعو الله يُطلق لسانه ، فقال لها «لانلاهاس» : أخاف أن يخبر بمثل أخباره السابقة ، فقالت : أدعو الله أن يُطلقه ويحول بينه وبين الكلام المخيف.

فدعا الله ، فأطلق ، فذكر أخباراً ووضع كتاباً مرتّباً على حروف الهجاء ، مشتملاً على أخبار عن الحوادث المستقبلة ، وحتّى ربّما فهم منه قصّة كربلاء ، وقتل سيّد الشهداء ، وقتل الشهداء ، والسبي ، ونحوها ، واشتمل على ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخفاه اليهود ، حتّى أظهره الله.

ومنه : «ايتا أُمّتا من عزج برياثا عابدا هدمتا تأييد ابن أماتا» ومعناه : الإخبار عن امّة تزعزع البرايا العابدة للأحجار ، بعد إبراء الأمة ، ولا يكون ذلك إلا من نبيّنا وهو ابن هاجر.

ومنه : «يشيرن أَبَيا ومِسحا مييا لايَهَوَلةِ اذكاذُ يَصح ملكا محمد كايا أعابايا ويَطمغ

٣١٤

هُويا ويهي كليليا نحراكدت مطاول أتوت قِص مطامِتعبد فطأطأ وهو احسف طينا ذا ملكا».

وفي جملة «من خزف الطين» وكناية عن العرب ؛ لأنّهم كانوا يسمّونهم خزف الطين ، لأنّه سريع الانكسار ، إلى غير ذلك.

وفي كتاب دانيال ما يفيد ذلك : كطيف طافه بخت‌نصر ، وله قصّة طويلة مذكورة في كتابه ، لا تناسب هذا الكتاب المختصر ، ففسّره دانيال ، وطيف رآه دانيال فيه الحيوانات.

وأصرح من ذلك في الدلالة قوله : «ويُرمى الاي عِرب بيقُور القِيم وشملشماوث وتضّدِق قدّوش» فإنّ ظاهرة لا زال يمرّ اللّيل والنهار إلى ألفين ، وثلاثمائة سنة ، فيظهر القدّوس ، والظاهر أنّ المراد بالقدّوس الإسلام ؛ لأنّ ما بين ولادة إسماعيل وظهور الإسلام ألفين وثلاثمائة سنة.

ثمّ لا يخفى على من تتبّع الآثار ، واطلع على صحيح الأخبار أنّه جرت عادة الجبّار والفاعل والمختار على أنّ كلّ من ادّعى النبوّة كاذباً أفسد الله أمره ، وحطّ بين الناس قدره ، ولم يكن لدعواه دوام ، ولم يخف حالُه على العلماء والعوام ، وشريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تزل تزداد نوراً ، وتنجلي بين الورى بدوّاً ظهوراً.

ثمّ العجب كلّ العجب من قوم يعترفون بنبوّة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء السابقين ، وينكرون سيّد الأوّلين والآخرين ، فإنّهم إن ادّعوا عدم حجيّة المعجزات ، لزمهم إنكار جميع النبوّات ، فتنتفي الوسائط في إثبات الشرائع بيننا وبين ربّ السماوات.

وإن ادّعوا نفي المعجزات عن نبيّنا ، فما بالهم لا ينفون المُعجزات بالنسبة إلى أنبيائهم مع تقدّم عهدهم وزيادة بعدهم؟ فإنّ إنكار التواتر بالنسبة إلى من بَعد عهده وطالت سلسلته أقرب من إنكاره بالنسبة إلى القريب.

وتجويز السحر على المعاجز جارٍ في المقامين ، على أنّ السحر في أيّام موسى كان أكثر

٣١٥

شيوعاً ، وأشهر وقوعاً ؛ والعرب ليسوا من أهل الفكر ، ولا لهم قابليّة بالنسبة إلى السحر.

وإن زعموا ثبوت نبوّة الأنبياء السابقين بوجود الكُتب المنزلة من ربّ العالمين ، فالقران أولى بالاعتبار في الدلالة على نبوّة النبيّ المختار ؛ فإنّه أعظم من كلّ معجزة وبرهان ، وقد اعترف بالعجز عن مباراته أعاظم الأحبار والرهبان.

وأمّا باقي الكتب المنزلة فأعظمها وأكبرها منزلة التوراة والإنجيل ، ولا يمكن أن يجعلا في مقام البرهان ؛ لأنّهما مغيّران ومحرّفان ، وفيهما ما لا يليق إسناده إلى الملك الديّان.

أمّا التوراة فلوجوه كثيرة :

أحدها : ما يقتضي نفي الاعتماد على التوراة لوجوه :

أحدها : قصّة هارون ، وقد ذكرت في ثلاثة مواضع :

أحدها : أنّ هارون أمر بصنع العجل ، وأمر بني إسرائيل بالحجّ له في پراش كي يتار.

ثانيها : إقرار هارون بصنعه.

ثالثها : أنّ الله غضب على هارون من جهة صنع العجل ، وأراد أن يهلكه وهم لا يشكّون في نبوّة هارون ، وإذا جوّزوا على الأنبياء أمر الناس بعبادة من ليس أهلاً للعبادة لبعض المصالح ، كخوف تفرّق بني إسرائيل ، جاز أنّ الأنبياء كاذبون في كلّ ما يدّعون لبعض المصالح.

فأيّ مانع من أن تكون التوراة ليس بمعجزة ؛ لأنّه إنّما اشتمل على قصص وتواريخ من قوله : «بوشيت بارا الوهيم» وهو أوّل التوراة ، إلى أخره وهو «ويمت موسى» أن يكون مكذوباً.

وكذا الإنجيل لا إعجاز فيه ، فيجوز أنّ موسى وعيسى صنعاهما ، وأسنداهما إلى الله لبعض المصالح ؛ إذ لا فرق بين المصالح المستمرّة والمنقطعة ، بل المستمرّة أولى ، فيلزم من صحّة توراتهم عدم إمكان إثبات نبوّة موسى وعيسى.

٣١٦

ثانيها : إسناد الأنبياء إلى فعل القبائح :

منها : أنّ لوطاً وطأ بنتيه لما خرج من «صوعر» خوفاً من الخسف ، وقعد في مغارة جبل مع بنتيه ، فزعمت البنتان أنّ الخسف عمّ الخلق ، فلم يبقَ إنسان ، فرأت الكبيرة أن تسقي أباها خمراً ليجامعها ، فبات معها وجامعها ، ثمّ أشارت الكبيرة بذلك على الصغيرة ففعلت كأُختها ، ثمّ حملتا ووضعتا ولدين ، أحدهما «مواب» والثاني «بنعمى» ، وكان زوجاهما باقيين في «صوعر» وأخذهما الخسف مع أهلها ، وعُمر أبيهما حينئذٍ مائة سنة.

ومنها : أنّ يعقوب جمع بين الأُختين «لثا» ، و «راحيل» بنتي خاله «لابان» بعد ما هربَ من أخيه «عليار» ، ولها في التوراة قصّة طويلة.

ومنها : أنّ «شخيم بن حامور» زنى بـ «دنيا» بنت يعقوب.

ومنها : «أن يهودا» جامع زوجة ابنه لما مات ، وخرجت وجلست له في الطريق مزينة ، فجامعها وولدت ، ولها في التوراة قصّة لطيفة.

ومنها : أنّ «روبين بن يعقوب» جامع سرية ابنه «بلها».

ومنها : أنّ هارون» و «مريم» قالا في حقّ موسى : إنّ الله كلّمه كما كلّمنا ، ونسبوا إليه عملاً مع امرأة حبشية ، فصارت مريم برصاء ، فدعا لها موسى فعوفيت. ونحو ذلك كثير.

ثالثها : ما يُنافي تنزيه الله تعالى وهي عديدة :

منها : أنّ الله تراءى جالساً على باب الخيمة.

ومنها : أنّ الله ندم على خلق بني آدم بعد ما رأى من المعاصي.

ومنها : أنّ آدم وحوّاء سمعا صوت الربّ ماشياً في الفردوس عند مهبّ الهواء بعد الظهر ، فاستترا من وجه الربّ في وسط الشجر ، فقال لآدم : أين أنت؟ فقال : سمعت صوتك واختفيت لأنّي عريان.

٣١٧

ومنها : أنّ الربّ نزل ليرى البناء الّذي بناه بنو آدم.

ومنها : أنّ الله تراءى لموسى في العليقة ، ورأى أنّ الله جاء لينظر ، فغطّى وجهه لخوفه أن ينظر إلى نحو الله.

ومنها : سجود يعقوب لأخيه «عليار» سبع دفعات ، وقال له : إنّي رأيت وجهك كوجه الله ، فارضَ عنّي.

ومنها : أنّه قال الربّ لموسى : إنّي جعلتك إلهاً لفرعون ، وجعلت هارون نبياً لك.

ومنها : أنّه لا يعير أحد منكم ، فإنّ الربّ جاء ليضرب المضربين ، إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى ، مضافاً إلى أنّ التوراة قد اختلف فيها اليهود :

فمنهم : من أنكر السفر الخامس «سفر هدباريم» ، وأنّ التوراة على ما ذكره اليهود ، وقد ذهب من أيديهم لما أجلاهم بخت‌نصر إلى الشرق ، وبقوا في أطراف بابل سبعين سنة ، وكتبوه جديداً أخذاً من نقل من حفظه.

ثمّ إنّهم معترفون بأنّ المعظم من أحكامهم الّتي كتبوها في «مشنى» لم تكن مرسومة في الكتب المنزلة ، ولا في كتب الأنبياء ، وإنّما كانت مودعة من موسى في قلب يوشع ، ثمّ أودعها في قلوب العلماء ، وبهذا المضمون أية في التوراة.

ومن الغريب أنّ الصلاة الّتي تسمّى عندهم «تفلوت» لا مأخذَ لها من التوراة ، وادّعوا أنّ مأخذها من هذه الآية وهي : «شمع يسرائيل أَدوناي الُوهنوا دوناي آحاد» ومعناه : اسمع يا إسرائيل ، ربّي معبودي واحد ؛ لأنّ الصلاة عندهم ثلاثة : تفلات شحريت ، وتفلات منحه ، وتفلات عربييت ، فالشين الاولى ، والميم الثانية ، والعين الثالثة ، واستفادة هذا الأمر العظيم من اللغز عجيب.

وأعجب منه خلوّ التوراة من ذكر الجنّة ، وكذا المعاد إلا بالإشارة ، وجميع التهديدات فيه بالطاعون والقتل والنهب ونحوها من مضارّ الدنيا ، فلا يبقى عليه اعتماد من وجوه عديدة.

وأمّا الإنجيل فلا إعجاز فيه :

وكلامه منثور نثراً جارٍ على مذاق الإشراقيين والمتصوّفين ، قليل الأحكام

٣١٨

والكلام ، وهو عبارة عن أربعة أناجيل : إنجيل متّى ، وإنجيل لوقا ، وإنجيل مرقص ، وإنجيل يوحنا ، وفيها اختلاف عظيم ، وأخبار متضادّة ، كما لا يخفى على من تتبع فيها ، ولنشر إلى جملة منها :

منها : الاختلاف في نسب المسيح على ما ذكر في الفصل الأوّل من إنجيل متّى ، والفصل العاشر من إنجيل لوقا ، فإنّ نسب يوسف الّذي يدعى أباً للمسيح ينتهي إلى إبراهيم عليه‌السلام بتوسط تسعة وثلاثين من الإباء على ما في إنجيل متّى ، وبتوسط ثلاثة وخمسين على ما في إنجيل لوقا ، وفي الأسامي أيضاً اختلاف.

ومنها : ما في الفصل الرابع من إنجيل متّى : من أنّ يوسف أخذ عيسى وأُمّه ليلاً وهرب إلى مصر ، وكان هناك إلى وفات «هيرودس» على نحو ما أمرته الملائكة في المنام ، فلمّا مات «هيرودس» ظهرت الملائكة في «المنام» ليوسف وأمروه بأخذ الصبي وأُمّه إلى أرض إسرائيل ، وأخبروه بموت الّذين كانوا يطلبون نفس الصبي.

فأخذ الصبي وأُمّه وأتى بهما إلى أرض إسرائيل ، فلمّا سمع أنّ «حلادوس» قد ملك على اليهوديّة بدل «هيرودس» أبيه خافَ أن يذهب هناك ، فذهب إلى نواحي الجبل (١) ، وسكن في مدينة تُدعى ناصرة.

ثمّ ذكر بعد ذلك بلا فصل في الفصل الخامس : أنّ تلك الأيّام جاء يوحنّا المعمّدان يكرر في بريّة اليهوديّة ، وكان يبشّر بمجي‌ء عيسى عليه‌السلام ، إلى أن قال : حينئذٍ أتى يسوع من الجليل إلى الأردن ، إلى يوحنّا ليعتمد منه ، فكان يمنعه يوحنّا قائلاً : أنا المحتاج ، أنا أعتمد منك.

ثمّ ذكر بعد أن اعتمد يسوع ، انفتحت له السماوات ، ورأى روح الله ، ثمّ ذكر رسالته ودعوته ، ، وقد ذكر في الفصل الثاني والأربعين منه : أنّ «هيرودس» سمع خبر يسوع فقال لغلمانه : هذا يوحنّا المعمّدان ، هو قام من الأموات ، فمن أجل هذه القوات تعمل به ، وأراد بذلك العجائب الّتي كانت تظهر من عيسى عليه‌السلام.

__________________

(١) في نسخة : الجليل.

٣١٩

ثمّ ذكر أنّ «هيرودس» كان قد قتل يوحنّا لعلّة مذكورة هناك وغيرها من الأباطيل ، ففيه مخالفة لما ذكر في الفصل الرابع من جهتين :

أحدهما : أنّ ما في الفصل الرابع قد دلّ على أنّ ظهور عيسى بالدعوة في أرض اليهوديّة ، وإظهاره الخوارق إنّما كانت بعد وفات «هيرودس» وما هنا قد دلّ على أنّ «هيرودس» قد كان حيّاً بعد وقوع ذلك واشتهاره.

وثانيهما : أنّ ما هنا قد دلّ على أن يوحنّا قد قتله «هيرودس» بمدّة قبل وفاته ، فكيف يمكن ملاقاة عيسى إيّاه بعد رجوعه من مصر إلى أرض اليهوديّة ، وقد نصّ هناك على أن رجوعه من مصر كان بعد موت هيرودس وقيام ابنه مقامه.

وقد ذكر أيضاً في الفصل الثالث والثلاثين من إنجيل لوقا : أنّ «هيرودس» سمع بجميع ما كان يجري من عيسى فكان يرتاب ؛ لأنّ بعضاً كانوا يقولون : إنّ يوحنّا قام من الأموات ، وبعض أنّ «إيليا» ظهر ، وآخرون أنّ نبيّاً من الأوّلين قام ، فقال هيرودس : أنا قطعت رأس يوحنّا ، وفيه قبل ذلك ذكر دعوته عليه‌السلام في أراضي اليهوديّة ، مثل «كفرناحوم» وغيرها ، والمنافاة بينه وبين ما ذكره ظاهرة.

وأفحش من ذلك في المنافاة : ما في الفصل الثاني والثمانين من إنجيل لوقا : أنّه لمّا أتى رؤساء الكهنة والكتبة ليسوع بعد ما أسلمه إليهم يهود الاسخرويوطي إلى «بيلاطس» أرسله إلى «هيرودس» ، لمّا علم أنّه من الجليل ، وكان «هيرودس» شائقاً إلى رؤيته لمّا كان سمع منه أشياء كثيرة.

ثمّ ذكر أنّ «هيرودس» احتقره مع جنده واستهزءوا به ، ثمّ ذكر أنّه أرسله «هيرودس» إلى «بيلاطوس» وصار «هيرودس» و «بيلاطوس» أصدقاء في ذلك اليوم ، وكانوا قبل ذلك أعداء.

ثمّ ذكر في الفصل الذي بعده حكاية أمر «بيلاطوس» بصلبه ، لإصرار الكهنة والكتبة عليه في ذلك ، فكم من التنافي بين ذلك وما ذكر أوّلاً من موت هيرودس قبل إتيان يوسف بعيسى إلى أرض اليهوديّة على حسب ما نقلناه.

ومنها : ما في الفصل السابع والثمانين من إنجيل متّى : أنّ التلاميذ قالوا ليسوع أين

٣٢٠