ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

الغنية (١) ، المنصوص عليه فيما تقدّم في العذرة الذائبة من رواية أبي بصير (٢) المنجبر ضعفها بالعمل ، وباقي الأحكام والفروع الجارية فيها كما تقدّم ثمّة ، فراجع واستعلم.

وثانيهما : الدم القليل ، المقابل لكثيره المتقدّم ذكره والبحث عنه مفصّلا مقرونا بما يستعلم منه حال القليل أيضا.

ومجمل القول فيه على وجه الإعادة : أنّ الحكم المذكور له مشهور منقول عليه الشهرة كما عن جماعة ، بل الإجماع كما عن الغنية (٣) ، وحدّدوه : بدم الدجاجة والرعاف اليسير ، وقد تقدّم بعض الكلام فيه مع المناقشة في التحديد بما ذكر على وجه يكون ضابطا كلّيّا.

وأمّا تعيين العدد المذكور فممّا لا نصّ فيه أصلا ، والعمدة من مستنده ما تقدّم من صحيحة عليّ بن جعفر (٤) في رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر ، القائلة : « بأنّه ينزح منها دلاء يسيرة » ، وفي رجل يرعف فيها الآمرة بنزح دلاء يسيرة أيضا.

وهذه كغيرها ممّا استفاض في باب الدم من الروايات المتقدّم إلى جملة منها الإشارة غير قاضية بالعدد المذكور ، فإنّ « الدلاء » تشمل ما زاد عليها وما نقص منها ، ولا يعطيها التقييد باليسيرة في جملة منها ظهورا في ذلك.

فما قد يوجّه به من أنّ « الدلاء » وإن كان جمع كثرة إلّا أنّ تقييده هنا بلفظ « اليسيرة » الّذي يؤدّي مؤدّى القلّة قرينة على إرادة القلّة منه هنا ليس بسديد ، وما قد عرفته عن الشيخ (٥) في تقريب الاستدلال بها من « أنّ أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة فيجب أن يؤخذ به ، إذ لا دليل على ما دونه » ، فقد سمعت المناقشة فيه من جهات عديدة فراجع وتأمّل ، ألا ترى أنّ المعتبر اعترض عليه : « بأنّا لا نسلّم أنّه إذا جرّد عن الإضافة كانت حاله كذا ، فإنّه لا يعلم من قوله : « عندي دراهم » أنّه لم يخبر عن زيادة عن عشرة ، فإنّ دعوى ذلك باطلة » (٦).

وأمّا ما ذكره المنتهى في دفعه : « بأنّ الإضافة هنا وإن جرّدت لفظا ، لكنّها مقدّرة ،

__________________

(١ و ٣) غنية النزوع : ٤٩.

(٢) الوسائل ١ : ١٩١ ب ٢٠ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٤) الوسائل ١ : ١٩٣ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٨.

(٥) التهذيب ١ : ٢٤٥ ذيل الحديث ٧٠٥.

(٦) المعتبر : ١٦.

٦٨١

وإلّا للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة » ، ـ إلى أن قال ـ : « فلا بدّ من إضمار عدد تضاف إليه تقديرا ، فتحمل على « العشرة » الّتي هي أقلّ ما يصلح إضافته لهذا الجمع أخذا بالقدر المتيقّن ، وحوالة على أصالة براءة الذمّة » (١) فممّا لا محصّل له ، من أنّ تأخير البيان فرع إرادة التعيين الّذي لم ينهض عليه إلى الآن قرينة من عقل أو نقل ، فيبقى ظهور التخيير على ما هو شأن كلّ جمع منكر علّق عليه الحكم سليما عمّا يعارضه أو يصلح معارضته ، وعلى تقدير وجوب التقدير فيكون أقلّ ما يصلح إضافة إلى الجمع « عشرة » في حيّز المنع ، بل أقلّه على ما أطبق العرف واللغة عليه « ثلاثة » ، فليحمل عليه لأصالة البراءة من الزائد ، كما اعترف به غير واحد منهم صاحب المدارك (٢).

وبالجملة : لو لا الحكم مشهورا لكان سلب تعيين هذا العدد هنا ممّا لا إشكال فيه ، ولا شبهة تعتريه ، لكن مخالفة المشهور أيضا ممّا لا تخلو عن إشكال ، وإذن كان الاحتياط في طرفه ، فالمصير إليه حينئذ احتياطا ممّا لا بأس به.

المسألة الثامنة : فيما ينزح له سبع دلاء ، وهو امور :

أحدها : موت الطير ، المفسّر بالحمامة والنعامة وما بينهما في محكيّ المسالك (٣) ، وجماعة ، ومثله عن كتب العلّامة (٤) ، والموجز (٥) ، وشرحه (٦).

وعن الذكرى : « أنّ الصادق فسّره بذلك » (٧) وعن جماعة الحمامة والدجاجة وما أشبههما (٨).

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٨١.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٤.

(٣) مسالك الأفهام ١ : ١٧.

(٤) نهاية الأحكام ١ : ٢٠٨ ؛ وإرشاد الأذهان ١ : ٢٣٧ ؛ تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٥) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١٢).

(٦) كشف الالتباس ١ : ٧٨.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ٩٦ ، ولم ينسبه إلى الصادق عليه‌السلام ، بل قال : « سبع لموت الطير ـ في المشهور ـ لرواية عليّ بن أبي حمزة عن الصادق عليه‌السلام وفسّر بالحمامة والنعامة وما بينهما » ، نعم في مفتاح الكرامة ١ : ١١٤ وطهارة الشيخ ١ : ٢٣٤ كما هنا ، ومن المظنون قويّا كون السبب فيه قراءتهم قوله : « فسّر » بصيغة المعلوم ، من دون المراجعة إلى أصل الرواية.

(٨) كالمفيد في المقنعة : ٦٦ ؛ والشيخ في المبسوط ١ : ١١ ؛ وابن زهرة في غنية النزوع : ٤٩ وفيه : « أو ما ماثلهما ».

٦٨٢

وفي المنتهى : « قال ابن إدريس : (١) والسبع يجب للنعامة والحمامة وما بينهما » (٢).

ثمّ في المدارك : « أنّ القول بوجوب السبع في موت الطير للثلاثة وأتباعهم » (٣).

وفي شرح الدروس للخوانساري : « هذا هو المعروف بين الأصحاب » (٤) ، وعن الذخيرة : « أنّه مذهب الأصحاب » (٥).

وعن غير واحد ؛ هو المشهور ، وعن الغنية الإجماع عليه (٦) ، ومستنده روايات فيها صحيح ، وفيها غير صحيح ، موثّق وغيره.

ومنها : صحيحة أبي اسامة عن أبي عبد الله قال : « إذا وقع في البئر الطير ، والدجاجة ، والفأرة ، فانزح منها سبع دلاء » (٧).

ومنها : موثّقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر ، أو الطير؟ قال : « إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء » (٨).

ومنها : رواية عليّ بن أبي حمزة ـ المتقدّمة ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء ». قال : وسألته عن الطير ، والدجاجة ، تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء (٩) إلى آخره ».

ثمّ في المقام أخبار اخر تعارضها بظاهرهما بين دالّة على نزح دلاء ، ودالّة على دلوين وثلاث ، ودالّة على الخمس ، وقد تقدّم ذكرها في بحث السنّور ، لكنّ الخطب فيها سهل لعدم عامل بها من الأصحاب ، عدا رواية الخمس مع كونها صحيحة الّتي استظهر العمل بها في المدارك ناسبا اختياره إلى المعتبر أيضا ، حيث قال : « والأظهر الاكتفاء بالخمس

__________________

(١) السرائر ١ : ٧٧.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٨٩.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٨٤ والمراد بالثلاثة : السيّد المرتضى كما نقله عنه في منتهى المطلب ١ : ٨٧ ؛ والمفيد في المقنعة : ٦٦ ؛ والشيخ في النهاية ١ : ٢٠٨ ؛ والمبسوط ١ : ١١.

والمراد بأتباعهم : ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢٢ ، والسلّار في المراسم العلويّة : ٣٦ وابن إدريس في السرائر ١ : ٧٧.

(٤) مشارق الشموس : ٢٣١.

(٥) ذخيرة المعاد : ١٣٤ وفيه : « كذا ذكره الأصحاب ».

(٦) غنية النزوع : ٤٩.

(٧) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٤.

(٨) الوسائل ١ : ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ٢٣٦ / ٦٨١.

(٩) الوسائل ١ : ١٨٦ ب ١٨ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٨٠.

٦٨٣

كما اختاره في المعتبر (١) ، لصحيحة أبي اسامة المتقدّمة ، وعليه يحمل إطلاق لفظ « الدلاء » في صحيحتي زرارة وعليّ بن يقطين » (٢) انتهى.

والخطب في ذلك أيضا سهل لقصور عمل واحد أو اثنين عن دفع ما عرضها من الوهن بسبب إعراض الأكثر.

وثانيها : وقوع الكلب المستتبع لخروجه حيّا ، فإنّ وجوب السبع فيه ممّا ذهب إليه أكثر الأصحاب كما في شرح الدروس (٣) ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (٤) كما في المنتهى (٥) ، وعلى المشهور كما عن الذكرى (٦) ، خلافا لابن إدريس الذاهب فيه إلى نزح أربعين كما في موته (٧) ، ولصاحب المدارك (٨) الّذي يظهر منه الميل إلى الاكتفاء بمسمّى الدلاء حملا للسبع والخمس الواردين في الأخبار على الاستحباب.

ومستند المشهور صحيحة عبد الله بن المغيرة ـ كما في نسخة الاستبصار ـ وأبي مريم ـ كما عن نسخة التهذيب ـ قال : حدّثنا جعفر ، قال : كان أبو جعفر عليه‌السلام : « يقول إذا مات الكلب في البئر نزحت » ، وقال [أبو] جعفر : « إذا وقع فيها ثمّ أخرج منها حيّا نزح منها سبع دلاء » (٩).

ولمّا كان صدرها ينافي ما تقدّم في موته من نزح أربعين لظهوره في نزح الجميع فتصدّى الشيخ في الاستبصار (١٠) وغيره بحمله على صورة التغيّر ، مع جواز ابتنائه على الاستحباب كما احتمله بعضهم ، كما يحمل على أحدهما ما في خبر عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن بئر يقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير؟ قال : « تنزف كلّها » (١١)

__________________

(١) المعتبر : ١٧. (٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٥.

(٣) مشارق الشموس : ٢٣٤.

(٤) المبسوط ١ : ١١.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٩٠. (٦) ذكرى الشيعة ١ : ٩٦.

(٧) السرائر ١ : ٧٦.

(٨) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

(٩) الوسائل ١ : ١٨٢ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٧ ـ الاستبصار ١ : ٣٨ / ١٠٣ ولا يخفى أنّ لفظة (أبو) لم ترد في الأصل ، ولكنّها موجودة في نسخة صاحب الوسائل رحمه‌الله وكتب مصنّفه عليها علامة « نسخة » ، كما في ذيل الوسائل المطبوعة باهتمام مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث.

(١٠) الاستبصار ١ : ٣٨ ذيل الحديث ١٠٢.

(١١) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩ ـ الاستبصار ١ : ٣٨ / ١٠٤.

٦٨٤

بعد تنزيل الإطلاق إلى صورة الموت ، ولكن الحمل الأوّل مبنيّ على القول بنزح الجميع في صورة التغيّر وقد عرفت أنّ التحقيق خلافه ، فعلى المختار يتعيّن الحمل على الاستحباب خاصّة لو قلنا بتناول إطلاقه لصورة الوقوع والخروج حيّا ، فعليه لا معارض للصحيحة.

نعم ، في صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن البئر يقع فيها الحمامة ، والدجاجة ، أو الفأرة ، أو الكلب ، أو الهرّة؟ فقال : « يجزيك أن تنزح منها دلاء » (١) الخ.

وفي صحيحة أبي اسامة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الفأرة والسنّور والدجاجة والكلب والطير ، قال : « فإذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء » (٢) إلى آخره ، وإطلاقهما يشمل محلّ البحث أيضا ، لكنّ العلاج سهل بحمل « الدلاء » في الأوّل على السبع حملا للمطلق على المقيّد إن كان المقام من مجاريها ، وإلّا فرميه كالثاني على الشذوذ من جهة إعراض الأصحاب عنه أولى ، كما ضعّفه غير واحد ، وعن ابن إدريس أنّه طرح الصحيحة قائلا : « بأنّها ليست بشي‌ء يعتمد عليه والواجب العدول عن الرواية الضعيفة ، ونزح أربعين دلوا » (٣) ثمّ اعترض على نفسه : « بأنّك إذا لم تعمل بالرواية ، فلم لم تقل بنزح الجميع ، لأنّه ممّا لا نصّ فيه؟

فاعتذر بأنّه : إذا كان حال موته يجب له أربعون ففي الحياة بطريق أولى ، لأنّ الموت يزيد النجس نجاسة » (٤). وربّما يعتذر له : (٥) بأنّ تضعيفه الرواية مع كونها صحيحة مبنيّ على أصله المعروف من منع العمل بأخبار الآحاد ، وهو الوجه في وصفه المقام بما لا نصّ فيه ، لأنّ ما فيه نصّ غير معتبر بمنزلة ما لا نصّ فيه ، وعليه فما اعترض عليه العلّامة من قوله : « والجواب : المنع من عدم النصّ وقد ذكرنا حديث

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٢ و ٢٣٧ / ٦٩٩ و ٦٨٦ ـ الاستبصار ١ : ٣٨ و ٣٧ / ١٠٤ و ١٠١.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٤.

(٣) السرائر ١ : ٧٦.

(٤) السرائر ١ : ٧٧ نقلا بالمعنى.

(٥) المعتذر هو صاحب المعالم رحمه‌الله ـ حيث قال ـ بعد ما أورد كلام ابن إدريس ـ : « وهذه الحجّة جيّدة على أصل ابن إدريس في ترك العمل بخبر واحد » ، فقه المعالم ١ : ٢٢٧.

٦٨٥

أبي مريم » (١) ليس على ما ينبغي ، وكأنّ الأولويّة الّتي ادّعاها في الحيّ بالقياس إلى الميّت مبناها على مفهوم الموافقة من الخطاب الوارد في الميّت ، فلا يرد عليه : « أنّ هذه أحكام شرعيّة تتبع الاسم ، فلا بدّ وأن تستفاد من النصّ ، ولذا يجب في الفأرة مع تفسّخها وتقطّع أجزائها وانفصالها بالكلّيّة نزح سبع دلاء ، مع وجوب نزح الجميع في البعرة منها لعدم ورود النصّ هنا وثبوته هناك » (٢) ، فإنّ مفهوم النصّ غير خارج عن النصّ.

إلّا أن يقال : بمنع كون الحكم في الأصل مستفادا من النصّ بخصوصه ، كما يعلم ذلك بمراجعة كلام الشيخ المتقدّم في بحث الأربعين للكلب (٣) ، المصرّح بكون الأخذ به معيّنا من باب الاحتياط.

لكن يمكن دفعه ـ بعد الإغماض عن احتمال كون ابن إدريس قد بلغه في ذلك الحكم نصّ خاصّ ـ : بأنّ غاية ما هنالك كون تعيّن الأربعين متّجها من باب الحكم الظاهري ، فيجري الأولويّة أيضا بدعوى : أنّ الحيّ من الكلب أولى من ميّته بذلك الحكم الظاهري ، نعم إن كان ولا بدّ من منع دليله فيمنع من الأولويّة المدّعاة ، لابتنائها على كون النجس قابلا للتنجّس ثانيا وهو لا يسلّم إلّا بدليله ، وهو غير واضح.

ومنه : يظهر الجواب لو قرّر الاستدلال : بأنّ الكلب ميّتا أنجس منه حيّا ، مضافا إلى جواز أن يكون له حال الحياة صفة يقتضي زيادة في نجاسته وقد زالت عنه بالموت ، وكون الموت منجّسا للحيوان إنّما تسلّم فيما لم يسبقه النجاسة ، ولو سلّم كونه هنا مؤثّرا لا محالة فلعلّه من باب أنّه قد ارتفعت منه النجاسة الثابتة حال الحياة وتجدّدت نجاسة اخرى بسبب الموت على حدّ نجاسة سائر الأموات ، مع كون النجاسة المتجدّدة أخفّ من الزائلة ، واستصحاب الحالة السابقة مع تبدّل العنوان غير معقول ، إذ لا ريب أنّ الميّت ليس بكلب حقيقة ، واحتمال أن يقال : إنّ هذا العين الخارجي قد كان نجسا وهو باق ، فيبقى نجاسته بحكم الاستصحاب.

يدفعه : أنّ الأحكام الشرعيّة لا تتبع الأعيان الخارجيّة ، وإنّما تتبع عناوينها الكلّيّة ، والعنوان غير باق هنا جزما ، مع أنّ ثبوت الأولويّة إن كان من باب مفهوم الموافقة

__________________

(١ و ٢) مختلف الشيعة ١ : ٢١٩.

(٣) التهذيب ١ : ٢٣٦ ، ذيل الحديث ٦٨١ ـ الاستبصار ١ : ٣٧.

٦٨٦

ـ حسبما وجّهناها به ـ فهي أمر عرفي لا يمكن إحرازه بالاستصحاب ، لعدم كون اعتمادهم بمثل هذه الأولويّة في فهم الخطاب معلوما من بنائهم ، وإن لم يكن من هذا الباب فلا محصّل لها إلّا الظنّ العقلي بها ، فيشكل التعويل عليها حينئذ ، وممّا يكشف عن كونها من الأولويّة الظنّية ما تقدّم الإشارة إليه ـ على فرض كونه كذلك في الواقع ـ من أنّ ذلك من باب إجراء ما ثبت في الأصل من الحكم الظاهري في الفرع ، فلا يرجع في الحقيقة إلّا إلى القياس الباطل في مذهبنا.

وثالثها : بول الصبيّ الّذي لم يبلغ كما في الشرائع (١) ، هذا باعتبار المنتهى وأمّا باعتبار المبدأ فالظاهر أنّه الّذي يتغذّى بالطعام ، كما يقتضيه قرينة المقابلة بينه وبين الصبي الّذي لم يتغذّ بالطعام ، وأطلق الصبيّ في المنتهى (٢) لكن في مقابلة الصبيّ الرضيع ، وقيّده في الدروس (٣) بغير الرضيع ، وعنه في الذكرى تفسير الصبيّ بأنّه : « الذي لم يتغذّ باللبن أو اغتذى به مع غلبة غيره » (٤) ، وعن المعتبر تفسير الرضيع : « بمن لم يأكل » (٥) وقضيّة ذلك كون المعتبر في الصبيّ هنا هو الأكل مطلقا ، والاكتفاء به مطلقا محكيّ عن المشهور تارة ، وعن الأكثر اخرى ؛ وعن الأكثر اخرى ؛ وعن جماعة ثالثة ، وعن صريح المختلف (٦) ، وشرح الفاضل (٧) ، وظاهر المقنعة (٨) ، والنهاية (٩) رابعة ، وعن المسالك ـ تبعا لجامع المقاصد (١٠) في تفسير محلّ البحث ـ : « أنّه الفطيم » « والمراد به من زاد سنّه على الحولين » (١١) ، مع تفسيرهما الرضيع بمن كان في الحولين ، وعن ابن إدريس (١٢) تفسير الرضيع هنا بمن كان له دون الحولين ، سواء أكل أو لا ، وسواء فطم أو لا.

ولا مستند لشي‌ء من هذه التفاسير ، مع ما فيها من الاختلاف الفاحش ، ولم يرد في نصوص الباب إلّا لفظا « الصبي » و « الفطيم » ، و « الصبيّ » على ما في المصباح المنير : الصغير (١٣).

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٩٤.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ١٠١ نقلا بالمعنى.

(٥) المعتبر : ١٧. (٦) مختلف الشيعة ١ : ٢٠٥.

(٧) كشف اللثام ١ : ٣٤٠. (٨) المقنعة : ٦٧.

(٩) النهاية ١ : ٢٠٨. (١٠) جامع المقاصد ١ : ١٤٣.

(١١) مسالك الأفهام ١ : ١٩. (١٢) السرائر ١ : ٧٨.

(١٣) المصباح المنير ؛ مادّة « الصبيّ » : ٣٣٢.

٦٨٧

ومثله في المجمع (١) ، وعن الصحاح : الغلام (٢) ، وعن القاموس : من لم يفطم بعد. وأمّا « الفطيم » ففي المصباح : فطمت المرضع الرضيع فطما من باب ضرب ، فصلته عن الرضاع فهي (فاطمة) ، والصغير (فطيم) (٣).

وفي المجمع : « الفطيم كـ « كريم » ، هو الّذي انتهت مدّة رضاعه ، يقال : فطمت الرضيع من باب ضرب ، فصلته عن الرضاع » (٤).

وكيف كان فإيجاب السبع للصبيّ المقيّد بأحد ما ذكر هو المشهور كما عن جماعة ، وعن المحقّق البهبهاني في شرح المفاتيح : «أنّ الأصحاب أفتوا بالسبع» (٥) ، وعن الغنية (٦) ، والسرائر (٧) الإجماع عليه ، وفي شرح الدروس : «هذا مختار الشيخين (٨) وجماعة ، والصدوق في المقنع (٩) والفقيه (١٠) أوجب ثلاثة دلاء ، واختاره المرتضى رحمه‌الله» (١١) (١٢) انتهى.

ومخالفة الصدوق والسيّد محكيّة في كلام جماعة (١٣) ، ومستند المشهور رواية منصور بن حازم المرويّة ـ عن التهذيب في باب تطهير المياه ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ينزح منها سبع دلاء إذا بال فيها الصبيّ ، أو وقعت فيها فأرة ، أو نحوها » (١٤).

ولعلّ القول المذكور مع ما يأتي من القول بنزح دلو واحد للصبيّ الرضيع الغير المغتذي بالطعام جمع بين هذه الرواية وما تقدّم في بحث بول الرجل من رواية عليّ بن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن بول الصبيّ الفطيم يقع في البئر؟ فقال : « دلو واحد » (١٥) على ما أخذ مستندا لهذا القول بناء على حمل « الفطيم » على المشارف للفطام كما قيل ، ولو لا ذلك لبطل التقييد بما عرفت ، لتناول إطلاق « الصبيّ » لغير مورد القيد أيضا ، ولذا صار السلّار (١٦) ـ على ما حكي عنه ـ إلى إطلاق القول بوجوب السبع

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « صبا » ١ : ٢٦٠. (٢) الصحاح ؛ مادّة « صبا » ٦ : ٢٣٩٨.

(٣) المصباح المنير ؛ مادّة « فطم » : ٤٤٧.

(٤) مجمع البحرين ؛ مادّة « فطم » ٦ : ١٣١.

(٥) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (المخطوط) الورقة : ٥٢٨ ـ.

(٦) غنية النزوع : ٤٩. (٧) السرائر ١ : ٧٨.

(٨) النهاية ١ : ٢٠٨ ، والمقنعة : ٦٧. (٩) المقنع : ٣٠. (١٠) الفقيه ١ : ١٧.

(١١) ذكره في المصباح وحكاه عنه المحقّق في المعتبر : ١٧.

(١٢) مشارق الشموس : ٢٣٦. (١٣) منهم صاحب المعالم رحمه‌الله في فقه المعالم ١ : ٢٢٦ ـ ٢٢٥.

(١٤ و ١٥) الوسائل ١ : ١٨١ ب ١٦ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٣ / ٧٠١ و ٧٠٠.

(١٦) المراسم العلويّة : ٣٦.

٦٨٨

في بول الصبيّ عملا بالرواية.

وأمّا ما سمعت عن الصدوق والسيّد فعن المعتبر : « لم نعثر له على نصّ » (١) ، وقد يقال : مستنده ما روى في الفقه الرضوي : « من أنّ بول الصبيّ إذا أكل الطعام استقى منها له ثلاث أدلؤ ، وإن كان رضيعا استقى منها دلوا واحدا » (٢).

وهاهنا قول آخر حكاه بعضهم عن ابن حمزة (٣) من أنّه أوجب السبع في بول الصبيّ وأطلق ، ثمّ أوجب الثلاث في بوله إذا أكل الطعام ثلاثة أيّام ، ثمّ أوجب واحدة في بوله إذا لم يطعم ، ولعلّه جمع بين روايات المقادير الثلاث كما قيل ، وإن كان فيه بعض الخصوصيّات الخارجة عن الروايات كلّها ، كتعيّن ثلاثة أيّام لما وجب له الثلاث ، وهاهنا رواية اخرى تقدّم ذكرها في بحث الخمر دالّة على وجوب نزح الجميع ، وهي صحيحة معاوية بن عمّار في البئر يبول فيها الصبيّ ، ويجد فيها البول أو الخمر؟ قال : « ينزح الماء كلّه » (٤) وهي ـ مع سقوط اعتبارها بالنسبة إلى هذا الجزء بإعراض الأصحاب عنه وإن كانت صحيحة لذاتها ـ مؤوّلة إلى صورة التغيّر ، وإن كان بعيدا بملاحظة مساوقاته كما لا يخفى.

ثمّ إطلاق الأخبار وعلمائنا الأخيار يتناول ولد الكافر عدا الشهيد المحكيّ عنه في البيان (٥) التقييد بابن المسلم ، ولعلّه أخذ بقضيّة الانصراف ولا يخلو عن وجه ، وإن كان الأقرب الأوّل ، نعم لا يلحق به الصبيّة من جهة عدم النصّ كما عن بعض المحقّقين.

ورابعها : موت الفأرة ، لكن في الشرائع (٦) ، والدروس (٧) ، وغيرهما (٨) تقييدها بالتفسّخ أو الانتفاخ ، والّذي ورد في الأخبار من حيث الوصف « التفسّخ » كما في بعضها ، و « الانسلاخ » في البعض الآخر ، ولم نقف على ما ذكر فيه « الانتفاخ » ، فلذا أورد في المدارك على معتبريه : « بأنّه لا وجه لإلحاق الانتفاخ بالتفسّخ ، لعدم الدليل

__________________

(١) المعتبر : ١٧ وفيه : « فنحن نطالبهم بلفظ الرضيع أين نقل وكيف قدّر لبوله دلو واحد ».

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٤ مع اختلاف يسير في العبارة ـ الفقيه ١ : ١٣ / ٢٢.

(٣) الوسيلة : ٧٠.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٦.

(٥) البيان : ١٠٠.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٨) كمنتهى المطلب ١ : ٩٠ ـ المبسوط ١ : ١٢ ـ غنية النزوع : ٤٩.

٦٨٩

عليه » (١). وفيه عن المصنّف « أنّه حكى عن بعض المتأخّرين أنّه جعل حدّ التفسّخ الانتفاخ » (٢).

ولا يخفى بعده من العرف واللغة وتصريح غير واحد من الأصحاب حيث فسّروا « التفسّخ » بتفرّق الأجزاء.

نعم عن الدلائل (٣) وظاهر الكفاية (٤) دعوى الشهرة فيهما معا ، بل عن الغنية الإجماع عليهما معا (٥) ، وعن المسالك (٦) ، والروضة (٧) ، التصريح بالشهرة في الثاني خاصّة ، لكن يعارض الجميع ما عن شرح المفاتيح (٨) ، وكشف الالتباس (٩) ، من الشهرة في الأوّل ، بل عن كشف الرموز نفي الخلاف عنه (١٠).

وكيف كان فمستند هذا القول روايات منها ما هي مطلقة ، ومنها ما هي مقيّدة ، ومنها ما هي مجملة أو مطلقة أيضا ، ولكن أعمّ من المطلقة الاولى.

فمن المطلقات موثّقة سماعة ـ المتقدّمة ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر ، أو الطير؟ قال : « إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء » إلى آخره (١١).

ومنها : رواية عليّ بن أبي حمزة ـ المتقدّمة أيضا ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء » (١٢).

ومن المقيّدات ؛ رواية أبي عيينة ـ المرويّة في التهذيب ـ قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ فقال : « إذا اخرجت فلا بأس ، وإن تفسّخت فسبع دلاء » (١٣).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٨٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٦ ، وقوله : « وفيه عن المصنّف الخ » يعني : وفي المدارك عن المصنّف في المعتبر ».

(٣) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١١٥.

(٤) كفاية الأحكام : ١٠. (٥) غنية النزوع : ٤٩.

(٦) مسالك الأفهام ١ : ١٧. (٧) الروضة البهيّة ١ : ٤١.

(٨) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٧.

(٩) كشف الالتباس ١ : ٧٩.

(١٠) كشف الرموز ١ : ٥٤.

(١١) الوسائل ١ : ١٨٦ ب ١٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ وفيه « سألته » بدل « سألت » و « أدركته » بدل « أدرك ».

(١٢) الوسائل ١ : ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٨٠.

(١٣) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ وفيه : « خرجت » بدل « اخرجت » ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٣.

٦٩٠

ومنها : رواية أبي سعيد المكاري ـ المرويّة في التهذيبين ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا وقعت الفأرة في البئر فتسلّخت فانزح منها سبع دلاء » (١) ، ولا بأس بما فيهما من الضعف بعد ملاحظة قضيّة الانجبار بالشهرة ، وبذلك تنهضان لتقييد الروايتين المطلقتين وما في معناهما ، وإن كان فيهما ما هو موثّق ، ولا ضير في اختلاف القيدين الواردين فيهما من حيث إنّ « الانسلاخ » يغاير « التفسّخ » ، لابتناء العمل بهما معا على كفاية أحد الأمرين في انعقاد الحكم ، فليحمل الإطلاق في غيرهما على ما يتحقّق معه أحد الأمرين ، وممّن صرّح بكفاية أحد الأمرين المحقّق في النافع (٢) ـ على ما حكي عنه ـ وإن لم نجده فيه.

وأمّا الصنف الثالث من الروايات ، فمنها : صحيحة الفضلاء الثلاث زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وبريد بن معاوية العجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي جعفر عليهما‌السلام في البئر يقع فيها الدابّة ، والفأرة ، والكلب ، والطير فيموت؟ قال : « يخرج ، ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ اشرب [منه] وتوضّأ » (٣) ، وصحيحة أبي العبّاس الفضل البقباق ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : في البئر يقع فيها الفأرة أو الدابّة ، أو الكلب ، أو الطير فيموت؟ ، قال : « يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ يشرب منه ويتوضّأ » (٤).

وهاتان الروايتان وما في معناهما قابلة لأن تحمل على ما تقدّم لإجمالهما أو إطلاقهما ، ولك أن تحملهما على صحيحة معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر؟ قال : « ينزح منها ثلاث دلاء » (٥) تقليلا للتقييد بناء على حمل الصحيحة على ما يتحقّق معه أحد الأمرين ، لا بحيث رجع مفاده إلى اعتبار الفأرة بشرط لا ، فإنّ ذلك أيضا نوع من التقييد ، بل بمعنى حملها على الماهيّة المطلقة خرج عنها بعض أفرادها بالدليل ، فيقال : إنّ هذه الماهيّة من حكمها أن ينزح لها ثلاث

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٧ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٣٩ / ٦٩١ ـ الاستبصار ١ : ٣٩ / ١١٠.

(٢) لم نجده أيضا في النافع ، لاحظ المختصر النافع : ٤٣ ، حيث قال : « وللفأرة إن تفسّخت ـ سبع ـ وإلّا فثلاث الخ ».

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ١٨٣ و ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٥ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٣٦ و ٢٣٧ / ٦٨٢ و ٦٨٥ ـ الاستبصار ١ : ٣٦ و ٣٧ / ٩٩ و ١٠٠.

(٥) الوسائل ١ : ١٨٧ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٨٨.

٦٩١

دلاء إلّا الفرد المتفسّخ أو المتسلّخ منها لوجوب السبع له ، غير أنّ اللازم من ذلك التفصيل في الفأرة بين المتفسّخ أو المتسلّخ وغيرهما ، كما ذهب إليه الشيخ وصرّح في الاستبصار وغيره (١) ، حيث جمع بين الصحيحة المذكورة وموثّقة سماعة ، ورواية ابن أبي حمزة المتقدّمتين بحملهما على صورة التفسّخ ، واستشهد له برواية أبي سعيد المكاري المتقدّمة ، والظاهر أنّه لا ضير فيه لوجود عامل حينئذ بالصحيحة المذكورة وإن لم يعرف عن المشهور ما عدا حكم المقيّد.

وبما ذكرنا من وجود عامل بالصحيحة يظهر العذر في عدم الحمل على سائر الروايات الواردة في الباب المتضمّنة للخمس أو غيرها ، لعدم وجود عامل بها صريحا ، وبذلك يعلم أنّ أمثال هذه الروايات لا تنهض معارضة لما تقدّم ، وهي رواية أبي اسامة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام :«فيكفيك خمس دلاء»(٢) ورواية عمّار الساباطي المذيّلة لقوله عليه‌السلام : « تنزف كلها » (٣).

وفي المسألة قولان آخران ، أحدهما : ما عن المقنع : « وإن وقع فأرة فانزح منها دلوا واحدا ، وأكثر ما روي في الفأرة إذا تفسّخت سبع دلاء » (٤) ومثله عن الفقيه ، ومستندهما على الدلو الواحد مع عدم التفسّخ غير واضح كما اعترف به غير واحد ، وربّما احتمل كونه إلحاقا بالعصفور ولا يخفى ضعفه.

وثانيهما : ما يظهر عن صاحب المدارك (٥) من العمل بالسبع مع التفسّخ ، والخمس بدونه ، استنادا إلى صحيحة أبي اسامة القائلة بأنّه : « إذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء » بعد ما استقرب الاكتفاء بالثلاث مطلقا ولا موافق له في ذلك.

وفي لحوق الجرذ بالفأرة في الحكم وجهان ، من اندراجه فيها اسما كما يشهد به كلام جماعة من أئمّة اللغة ، ففي المصباح المنير : « قال ابن الأنباري والأزهري هو الذكر من الفأر ، وقال بعضهم هو الضخم من الفيران ، ويكون في الفلوات ولا يألف البيوت » (٦) ، وعن الصحاح (٧) والقاموس (٨) : الجرذ ضرب من الفأر.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٩.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ و ٨.

(٤) المقنع : ٣٢ ـ ٣١.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٨٦.

(٦) المصباح المنير ؛ مادّة « الجرذ » : ٩٦.

(٧) الصحاح ؛ مادّة « جرذ » ٢ : ٥٦١.

(٨) القاموس المحيط ؛ مادّة « الجرذ » ١ : ٦٦١.

٦٩٢

وفي المجمع : « هو الذكر من الفيران ويكون في الفلوات ، وهو أعظم من اليربوع أكدر في ذنبه سواد ، وعن الجاحظ الفرق بين الجرذ والفأر كالفرق بين الجواميس والبقر والبخاتي والعراب » (١) ، ومن التأمّل في انصراف الإطلاق إلى ما يتناوله ، وهذا هو الأحوط ، فيلحق بغير المنصوص.

وخامسها : اغتسال الجنب في البئر مطلقا ، كما في الشرائع (٢) ، والنافع (٣) ، والمنتهى (٤) ، والدروس (٥) ، كما عن المعتبر (٦) ، والقواعد (٧) ، والإرشاد (٨) ، والبيان (٩) ، واللمعة (١٠) ، وقيل : بل جميع كتب العلّامة ، وفي صريح الخوانساري في شرحه للدروس (١١) ، كما عن شرح المفاتيح للعلّامة البهبهاني (١٢) ، وظاهر الكفاية : « أنّه المشهور » (١٣).

أو ارتماسه فيها كما عن نهاية الشيخ (١٤) ، ومقنعة المفيد (١٥) ، بل كتب الشيخين (١٦) ، والسلّار (١٧) ، وبني حمزة (١٨) ، والبرّاج (١٩) ، وسعيد (٢٠) ، وإدريس (٢١) ، وغيرهم بل عن ابن إدريس الإجماع عليه (٢٢).

وهل مرادهم به ما يحصل بعنوان الاغتسال؟ أو مطلق الارتماس ولو لغير الاغتسال؟ وجهان : أظهرهما الأوّل ، وإن لم يصرّحوا به لظهور كلامهم ـ ولا سيّما استدلالهم برواية أبي بصير المشتملة على الاغتسال ـ فيه ، وتنقيح المسألة يستدعي تقديم نقل ما ورد في هذا الباب من السنّة وهي عدّة روايات :

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « وإن وقع فيها جنب فانزح منها سبع دلاء » (٢٣).

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « جرذ » ٣ : ١٧٩. (٢) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٣) المختصر النافع : ٤٣. (٤) منتهى المطلب ١ : ٨٩.

(٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٦) المعتبر : ١٧. (٧) قواعد الأحكام ١ : ١٨٧.

(٨) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٧. (٩) البيان : ١٠٠.

(١٠) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٤١. (١١) مشارق الشموس : ٢٣١.

(١٢) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٧.

(١٣) كفاية الأحكام : ١٠. (١٤) النهاية ١ : ٢٠٨.

(١٥) المقنعة : ٦٧. (١٦) وهما الشيخ الطوسي في النهاية ١ : ٢٠٨ ؛ والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٧.

(١٧) المراسم العلويّة : ٣٦. (١٨) الوسيلة : ٧٠.

(١٩) المهذّب ١ : ٢٢. (٢٠) الجامع للشرائع : ١٩.

(٢١ و ٢٢) السرائر ١ : ٧٩.

(٢٣) الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٤٢٠ / ٦٩٤.

٦٩٣

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء » (١).

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن سقط في البئر دابّة صغيرة ، أو نزل فيها جنب ، فانزح منها سبع دلاء » (٢).

ومنها : رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يدخل في البئر فيغتسل منها؟ قال : « ينزح منها سبع دلاء » (٣).

ومنها : صحيحة ابن أبي يعفور ، وعنبسة بن مصعب ، ـ المتقدّمة في بحث انفعال البئر ـ : « إذا أتيت البئر وأنت جنب ولم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به ، فتيمّم بالصعيد ، فإنّ ربّ الماء وربّ الصعيد واحد ، ولا تقع في البئر ، فتفسد على القوم ماءهم » (٤).

والداعي إلى ذكر هذا الأخير هنا بعض الأغراض المتعلّقة بالباب وإن لم يكن متضمّنا للتقدير بالسبع.

فاعلم أنّه لا كلام لهم في النزح بالسبع هنا ، حيث لا منكر له ولا قائل بالزيادة عليه ، كما أنّه لا خلاف لهم في أنّ الجنابة لها مدخليّة في ذلك الحكم.

نعم ، لهم كلام من جهات اخر.

الجهة الاولى : في أنّ المقتضي للنزح هل هو وقوع الجنب في البئر وإن لم يغتسل ، المعبّر عنه بمطلق مباشرته جنبا؟ أو اغتساله منها ولو ترتيبا ، أو ارتماسه ولو لغير الغسل؟ كما يقتضيه إطلاق حكاية القول به ، احتمالات بل أقوال :

أوّلها : منسوب إلى صريح المحكيّ عن جماعة ، كما هو صريح صاحب المدارك (٥) وظاهر الخوانساري (٦).

وثانيها : ما صار إليه جماعة ، ولعلّه المشهور بين المتأخّرين ، وقد عرفت نقل الشهرة عليه.

وثالثها : ما عرفته عن جماعة من المتقدّمين.

__________________

(١ و ٣) الوسائل ١ : ١٩٥ ب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ح ٢ و ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٣ و ٧٠٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٥ ـ الاستبصار ١ : ٣٤ / ٩٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٧ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٦٥ / ٩ ـ التهذيب ١ : ١٤٩ / ٤٢٦.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٨٨.

(٦) مشارق الشموس : ٢٣٢.

٦٩٤

حجّة القول الأوّل : إطلاق الصحاح من الأخبار المذكورة عدا الأخير الّذي هو ساكت عن أصل الحكم ، وعدم صلوح غيرها مستندا للحكم وإن تضمّن التعليق بالاغتسال في وجه.

حجّة القول الثاني ، وجوه :

الأوّل : تعليق الحكم على الاغتسال في رواية أبي بصير فيحمل عليها غيرها حملا للمطلق على المقيّد.

وأورد عليه تارة : بضعف سند الرواية بعبد الله بن بحر ، واشتراك أبي بصير كما في المدارك (١).

ويردّه : أنّه مع انجباره بالشهرة غير قادح ، إلّا أن يمنع الشهرة أو استناد المشهور إلى تلك الرواية.

واخرى : بعدم خروج الرواية منافية للأخبار المطلقة من حيث إنّ التقييد الوارد فيها إنّما هو من كلام السائل ، وجوابه عليه‌السلام عن ذلك المقيّد لا يقتضي نفي الحكم عمّا عداه.

وثالثة : بمنع المنافاة أيضا المقتضية لوجوب الحمل ، لجواز وجوب السبع لكلّ من الوقوع والاغتسال معا.

وتوضيحه : أنّه ليس المقيّد هنا نظير قولك : « أعتق رقبة مؤمنة » في مقابلة قولك : « أعتق رقبة » ليكون مفاد الأوّل بحسب المنطوق الوجوب التعييني المنافي للوجوب التخييري المستفاد من الثاني.

والمفروض عدم حجّيّة مفهوم القيد ليكون مفاده انتفاء الحكم عند انتفاء القيد المعلّق عليه المنافي لمنطوق المطلق ، وقضيّة الجمع بين المطلق والمقيّد في العمل مع إمكانه كفاية كلّ من الأمرين في انعقاد الحكم ، أو القول بأنّ المقتضي للحكم إنّما هو مطلق المباشرة ، والتعليق على الاغتسال لكونه من أفرادها أو مستلزما لها ، وهذا في غاية الجودة.

وممّن أغرب في هذا المقام المحقّق الخوانساري في شرح الدروس حيث تعرّض لهذا الإيراد ، ثمّ اعترض على نفسه بقوله :

« فإن قلت : ليس المراد أنّه ممّا يجب فيه حمل المطلق على المقيّد حتّى يشترط المنافاة ، بل أنّ التقييد بالاغتسال قرينة على أنّ المراد في الروايات الاخر من الوقوع

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٨٨.

٦٩٥

والنزول والدخول الاغتسال ، مع أنّ له ظهورا في الجملة أيضا بحسب العرف ، سيّما مع تأييده بالأصل ».

فدفعه بقوله : « قلت : هذا لا يصلح قرينة أيضا ، لأنّ التقييد بالاغتسال ليس في كلامه عليه‌السلام بل السائل إنّما سأل عن الاغتسال وأجاب عليه‌السلام بنزح السبع ، فيجوز أن يكون أمره عليه‌السلام بالنزح فيه لأنّه من أحد أفراد الوقوع وهو ظاهر ، مع أنّ الرواية غير نقيّ السند ، وما ذكرته من ظهور الدلالة بحسب العرف ممنوع ، والتأييد بالأصل لا وجه له بعد ورود الروايات الصحيحة بخلافه » (١) انتهى.

وفيه : أنّ منع التنافي على مدّعي الحمل في معنى منع صلاحية التقييد قرينة على كون المراد بالأفعال المذكورة خصوص الاغتسال ، فلا يسوغ إبداء هذا الاحتمال لمن يسلّم المنع المذكور ، ضرورة أنّ قرينة المجاز عبارة عمّا يعاند ظهوره لظهور اللفظ في معناه الحقيقي بحسب إرادة المتكلّم مع كونه أقوى من ظهور اللفظ في نظر العرف والعادة ، ولا نعني من التنافي في مسألة وجوب حمل المطلق على المقيّد إلّا ما يكون من هذا الباب ، فلا فرق بين الاحتمالين في اشتراط المنافاة ، غاية الأمر حصول الفرق بينهما بلزوم التجوّز في الألفاظ المذكورة على الاحتمال الثاني ، لابتنائه على فرض كون المستعمل فيه الاغتسال بقيد الخصوصيّة الّذي هو فرد من كلّ واحد من تلك الأفعال ، بخلافه على احتمال الحمل الّذي هو أوّل الاحتمالين ، بناء على ما تقرّر في محلّه من أنّه لرجوعه إلى إطلاق الكلّي على الفرد ـ من حيث انطباقه لا من حيث الخصوصيّة ـ لا يستلزم تجوّزا في اللفظ.

والثاني : أنّه لو لا الحمل على الاغتسال لم يكن للنزح وجه ، إذ المفروض خلوّ بدنه عن النجاسة العينيّة من منيّ أو غيره ، أمّا غير المنيّ فواضح ، وأمّا هو فلأنّ المني ممّا يجب له نزح الجميع فلا معنى لإيجاب السبع منه ، وقضيّة ذلك عدم كونه لأجل النجاسة ، فتعيّن أن يكون لزوال الطهوريّة الحاصلة من الاغتسال ، فظهر الاشتراط به وهو المطلوب.

وفيه أوّلا : منع انحصار سبب النزح في عروض النجاسة أو زوال الطهوريّة ، لجواز كونه للتعبّد المحض ، أو لرفع القذارة الوهميّة الّتي تتنفّر عنها الطباع ونحو ذلك.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٣٢.

٦٩٦

وثانيا : منع اقتضاء مباشرة البدن للمني عدم لحوق الحكم بنزح السبع به ، والقول بنزح الجميع في المنيّ ليس إلّا من جهة دخوله في عنوان ما لا نصّ فيه ، والروايات المذكورة على تقدير استفادة كون ذلك الحكم لأجل مباشرة البدن للمنيّ بملاحظة الحمل على الغالب ـ على ما قيل من أنّ الغالب عدم انفكاك بدن الجنب عن نجاسة المنيّ ـ تصلح نصّا بالقياس إليه ، فتخرج به عن العنوان المذكور ، ومعه لا مانع لإيجاب السبع له.

وقد يجاب أيضا : بمنع انحصار الأسباب المقتضية للتنجيس في الامور المعهودة في مظانّها ، لجواز كون بدن الجنب أيضا ممّا اعتبره الشارع منجسا للماء كسائر الأسباب المنجّسة له.

وفيه : من البعد ما لا يخفى ، بل ينبغي القطع الضروري بفساده ، كيف ولو صحّ ذلك لاطّرد الحكم بالتنجيس ، فكان القليل من الراكد أولى بالتنجّس من جهته ، ووجب تنجّس ما يلاقيه برطوبة من الأجسام الطاهرة لأنّ هذا هو معنى النجس ، وكونه نجسا بالقياس إلى شي‌ء دون آخر ممّا لم يعهد له نظير في الشريعة.

والثالث : أنّ الأخبار وإن كان أكثرها مطلقة لكن إطلاقها ينصرف إلى صورة الاغتسال ، بل لو ادّعي انصرافها بحكم غلبة الوجود إلى الارتماس لم يكن بعيدا ، كما هو ظاهر لفظ « الوقوع » في رواية الحلبي ، وهذا لو تمّ لكان في غاية المتانة ، وبه يدفع ما تقدّم من احتجاج أهل القول الأوّل بإطلاق تلك الأخبار ، ويرتفع الحاجة إلى أن يقال في اشتراط الاغتسال بأنّ العمل بإطلاق الأخبار ليس مشتهرا بين الأصحاب ، ويورث ذلك شبهة عظيمة في تعيين معناها فيندرج المقام في ما يكتفى فيه بالقدر المتيقّن أو المظنون.

لكن دعوى الانصراف غير خالية عن الإشكال ، لعدم إمكان العلم به إلّا بعد العثور بمنشئه وهو الغلبة وجودا أو إطلاقا ولا سبيل لنا إلى ذلك ، كيف لا ولم يعهد عندنا فيما نعلم دخول الجنب أو نزوله في البئر فضلا عن كون الغالب فيه الاغتسال ، فإحراز الغلبة إن كان ولا بدّ منه لا يتأتّى حينئذ إلّا بملاحظة حال زمن الصدور أو بلد الخطاب ، وهو أيضا كما ترى غير متيسّر.

نعم ، لو كان مورد الروايات الاغتسال في البئر أو بماء البئر ونحو ذلك لكان ثبوت الانصراف إلى الارتماس كما ادّعاه المستدلّ في آخر كلامه بلا إشكال ؛ لا من جهة

٦٩٧

غلبة الوجود حتّى يتوجّه ما أشرنا إليه من عدم العلم بالوجود ؛ بل لأنّ ذلك من مقتضى الهيئة التركيبيّة العارضة لخصوص هذه المفردات بحسب العرف كما يشهد به الوجدان السليم ، لكن مفروض المقام ليس من هذا الباب.

فإن قلت : المركّب قد يتبادر منه بنفس معناه التركيبي معنى مفرد كما في قولك : « دخلت الحمام » و « اشتريت الثوب » ونحوه المتبادر منه التنظيف واللبس ، فلم لا يجوز أن يكون القضيّة الواردة في الأخبار المطلقة من هذا الباب؟

قلت : فهم المعنى الخارج عن أجزاء القضيّة لا بدّ له من مقتض ، وهو إمّا غلبة وجود أو إطلاق قد عرفت عدم ثبوتها هنا ، أو لزوم عرفي كما في المثال المذكور ونظائره ، حيث إنّ المعنى الخارج المتبادر الّذي هو التنظيف أو اللبس إنّما يتبادر من جهة كونه في العرف والعادة غاية ، وبملاحظة أنّ وضع الحمّام للتنظيف ووضع الثوب للبس ، وهذا المعنى فيما نحن فيه أيضا منتف ، لعدم كون وضع البئر لاغتسال الجنب فيها حتّى يكون الاغتسال متبادرا من قضيّة قوله عليه‌السلام : « فإن وقع فيها جنب » أو « إذا دخل الجنب البئر » ونحوه نظير تبادر الغايات من القضايا العرفيّة.

نعم ، ربّما يمكن استفادة ذلك من هذه التراكيب بملاحظة خارج آخر ، وهو ما في صحيحة ابن أبي يعفور من قوله عليه‌السلام : « ولا تقع في البئر » الظاهر أو الصريح في الاغتسال أو كونه للاغتسال ، فإنّ ظاهر هذا الكلام بقرينة كونه في سياق الاغتسال يدلّ على كونه بالنسبة إلى هذا المعنى اصطلاحا معهودا لديهم ، وحينئذ يترتّب عليه الانصراف إلى الارتماس.

وبذلك يظهر صدق مقالة قدماء الأصحاب في اعتبار الارتماس ، ويتعيّن كون مرادهم به ما يحصل معه الاغتسال ، وإن كان قد يناقش في ذلك بأنّ هذا الظهور ـ لو سلّم ـ لا ينافي ظهور رواية أبي بصير في الترتيب ، فيجمع بينهما على تقدير اعتبار السند والدلالة بكون كلّ من الفردين سببا للحكم ، لا بحمل المطلق على المقيّد كما توهّم ، وهذا الظهور كما ترى ممّا لا يعرف له مستند إلّا باعتبار لفظة « من » المذكورة فيها على خلاف لفظة « في » الظاهرة في الارتماس.

ويزيّفه : أنّ لفظة « من » هنا ابتدائيّة نشويّة نظير ما في قولك : « فهمت منه » و « علمت

٦٩٨

منه » و « أردت من اللفظ كذا وكذا » فيكون للأعمّ من الترتيب ومقابله.

الجهة الثانية : في أنّ النزح الواجب على تقدير كونه للاغتسال ارتماسا هل هو لنجاسة ماء البئر بسببه ، أو لزوال الطهوريّة عنه (١) ، أو أنّه تعبّد صرف؟ وجوه بل أقوال.

اختار أوّلها العلّامة في المختلف (٢) ، بناء على مذهب الشيخين (٣) من سلب الطهوريّة عن الماء المستعمل في الحدث الأكبر ، وهو المحكيّ عن صريح المعتبر (٤) تارة وظاهره اخرى (٥).

وثانيها : محكيّ عن كتب ثاني الشهيدين (٦) ، ويلوح الثالث عن كلام جماعة كما في المدارك (٧) ، وهذا هو الأقوى والموافق للأصول القويمة السليمة عمّا يصلح معارضا ولا رافعا لها ، بل الأوّل من الأقوال ممّا ينبغي القطع ببطلانه لما تقدّم من أنّ حدوث النجاسة بغير سبب يقتضي التنجيس غير معقول.

والقول بكون الروايات محمولة على الغالب من عدم انفكاك بدنه عن النجاسة.

يدفعه : منع هذه الغلبة في الجنب الواقع أو الداخل أو النازل في البئر ، ومع تسليمها مطلقا فليس عليها مدار القول بالنجاسة ، ضرورة منافاتها لما حكي عن الشهيد من أنّ ظاهره أنّ علّة النزح هي النجاسة لكن بشرط الاغتسال ، فإنّ استناد النجاسة إلى النجاسة الخارجيّة العارضة للبدن بحكم الغلبة يقتضي عدم الفرق بين تحقّق الاغتسال وعدمه بعروض النجاسة للماء بمطلق المباشرة فيلغو الاشتراط.

كما أنّ القول بأنّ ما ذكر استبعاد مدفوع بالنصّ ، يدفعه : أنّ الاستبعاد لا يرتفع

__________________

(١) ينبغي أن تكون العبارة هكذا « ... هل هو لزوال الطهوريّة عنه أو لنجاسة ماء البئر بسببه ... الخ » حتّى يستقيم ما سيجي‌ء منه قدس‌سره من قوله : « وثانيها : محكيّ عن كتب ثاني الشهيدين الخ » ، لأنّ الشهيد رحمه‌الله من القائلين بكون العلّة في وجوب النزح هو نجاسة البئر وإن كان بدنه خاليا من النجاسة ، انظر : (روض الجنان : ١٥٤).

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٠.

(٣) المقنعة : ٦٧ ـ النهاية ١ : ٢٠٢ حيث قال : « ولا بأس باستعمال المياه وإن كانت قد استعملت مرّة اخرى في الطهارة ، إلّا أن يكون استعمالها في الغسل من الجنابة أو الحيض ، أو ما يجري مجراهما ، أو في إزالة النجاسة ».

(٤) المعتبر : ٢١ حيث قال : « وما يرفع به الأكبر طاهر وفي رفع الحدث به ثانيا قولان ، المرويّ المنع ... ».

(٥) المعتبر : ٢٢ حيث قال : « والأولى عندي تجنّبه والوجه التفصّي من الاختلاف والأخذ بالاحتياط ».

(٦) روض الجنان : ١٥٤ ـ الروضة البهيّة ١ : ٢٧٠.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٨٨.

٦٩٩

بمجرّد النصّ بل يتوقّف على دلالته الواضحة المعتبرة ، ولا سبيل لأحد إلى إحراز تلك الدلالة في نصوص المقام ، كيف لا وقصارى ما فيها إنّما هو الدلالة على وجوب النزح بعد تسليمها وهي أعمّ ، والعامّ لا يصلح دليلا على الخاصّ ، وما تقدّم منّا من دعوى نهوض الدلالة عرفا في الأوامر الواردة في باب المياه وغيرها من سائر التطهيرات وكذلك نواهيها على كونها لأجل النجاسة لا التعبّد الصرف إنّما نقول به فيما لم يصادف الأمر ما يوجب وهنه في تلك الدلالة ، ومن الموهنات القائمة في المقام عدم معهوديّة مقتض للنجاسة في الشريعة يختلف فيه الأشياء ، ولا سيّما المياه القابلتين للتنجّس.

وكون ذلك الاختلاف إنّما نشأ عن قصور ماء البئر في القوّة العاصمة عن الانفعال فلذا ينفعل كرّه بملاقاة مطلق النجاسة.

يفسده : أنّ ماء البئر ليس بأضعف من المضاف وهم لا يقولون بانفعاله بمباشرة الجنب ولو بقصد الاغتسال.

وكون ذلك مستندا إلى الفرق في أنّ المضاف لا يرفع الحدث ـ مع أنّه باطل بأنّ التحقيق كما سيأتي أنّ الحدث لا يرتفع بهذا الاغتسال أيضا ـ ينفيه : أنّ رفع الحدث حيثيّة في الماء تكشف عن زيادة القوّة فكيف تصلح أمارة لما هو ملزوم للقصور والضعف؟ مع أنّ المقتضي لهذا الحكم إن كان هو رفع نوع الحدث فهو منقوض بالأحداث الاخر من الحيض والاستحاضة والنفاس ، وإن كان هو رفع حدث الجنابة خاصّة فيؤول الكلام إلى دعوى : أنّ من المنجّسات الثابتة في الشريعة رفع حدث الجنابة ، وهذا كما ترى حكم كلّي قاطع للأصول المحكمة شرعيّة وعقليّة فكيف يمكن إثباته بمثل هذه الدلالات الضعيفة ، مع أنّ في ثبوتها ألف كلام وفيه مخالفة للشهرة أيضا.

وبجميع ما ذكر يندفع ما قيل في تقريب القول بالنجاسة من استظهاره من ظاهر لفظ « الإفساد » الوارد في صحيحة ابن أبي يعفور ، بدعوى : « أنّ ظاهره عدم ترتّب أثر عليه فلا يطهّر من الحدث ولا الخبث ؛ بل ظاهره عدم الصلاح فيه رأسا فلا يصلح للشرب أيضا ، وهذه الامور من لوازم النجاسة » (١) انتهى.

مع ما فيه من منع ظهور تلك اللفظة في هذا النحو من عموم الحكم ، بل قصارى ما

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٣٨.

٧٠٠