ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

شكّ لاحقة كما يظهر بأدنى تأمّل ، بخلاف المقام لمكان اليقين بحدوث أثر أحد الواقعين بعينه كما في المتعاقبين ، أو لا بعينه كما في المتقارنين ، والشكّ في حدوث أثر الآخر من أوّل الأمر ، فاليقين والشكّ هنا واردان على موضوعين ممتازين في حالة واحدة ، لا على موضوع واحد في حالتين ، كما لا يخفى.

قلت : كما أنّ صفة النجاسة الحاصلة في الماء سبب للنزح ، كذلك وقوع النجاسة الخارجيّة في البئر سبب لحدوث تلك الصفة ، ولمّا كانت السببيّة المستفادة من أدلّة كلّ نوع السببيّة التامّة ـ على معنى كون وقوع كلّ نوع سببا تامّا لانفعال ماء البئر إلى ما يتوقّف ارتفاعه على نزح المقدّر ـ فلا جرم يتعدّد الأثر الحاصل في الماء ، سواء فرضت أثر كلّ فردا مستقلّا من النجاسة ، أو مجموع الآثار فردا بالغا في القوّة إلى ما لا يرتفع إلّا بنزح مقدّرات المجموع ، وإن كانت تلك الاستفادة حاصلة من إطلاق الأدلّة ، فإنّ منع تماميّة السبب لا مستند له إلّا قيام احتمال مدخليّة وجود شرط أو فقد مانع ، وكلّ ذلك ممّا ينفيه إطلاق أدلّة السببيّة ، ومعه لا مجرى للأصل المذكور هنا.

ولا ينبغي نقض المقام بإطلاق أدلّة انفعال القليل من الراكد بكلّ نجاسة ، وأدلّة تطهير الأواني والثياب وغيرها عن النجاسات الملاقية لها ، نظرا إلى أنّ الكلام حرفا بحرف جار في الجميع ، ولا قائل بعدم التداخل في شي‌ء من المسألتين ، بل التداخل في ثانيتهما محكيّ عليه الاتّفاق في كلام بعض ، لمكان الفرق بين المقامين ، فإنّ الشرع في كلّ من المسألتين أسقط اعتبار إطلاق الأدلّة الموجودة فيهما ، حيث دلّ من جهة الضرورة وغيرها على كفاية غسل واحد عن الجميع عند الاجتماع ، والقول فيهما ـ عند التحقيق ـ القول في مسألتي الأغسال ورفع الأحداث الصغيرة ، وإلّا فلو لا ذلك لكان التمسّك بإطلاق الأدلّة في الجميع متّجها ، وكان مقتضاه السببيّة التامّة المقتضية في كلّ سبب وظيفته وإن تعدّدت.

ويمكن الفرق بين المسألتين وغيرهما من النظائر وبين المقام بعد فرض اشتراك الجميع في بقاء إطلاق الأدلّة على حاله ، وكون مقتضاه في الجميع تعدّد الآثار الحادثة في المحلّ من جهة تعدّد المؤثّرات ، بناء على دلالة الإطلاق على كون كلّ مؤثّرا تامّا ولكنّ الشرع في غير المقام من جهة الضرورة اكتفى بمزيل واحد عن الجميع ، ولا يجوز مقايسة المقام عليه لبطلانه رأسا ، ولإمكان الفارق بمدخليّة خصوصيّة في البئر قاضية

٧٤١

بعدم الاكتفاء ، بل تحقّق الفارق كما يفصح عنه الاختلاف في كيفيّة التطهير هنا اختلافا فاحشا شديدا مع انتفاء نظيره في المسألتين ، ولو لا ذلك من جهة مدخليّة الخصوصيّة لبطل الفرق المذكور جدّا.

لا يقال : الإطلاق المدّعى هنا لعلّه في حيّز المنع ، بل لا نرى في أدلّة المقام إطلاقا صالحا لتناول سائر الأحوال ، إن لم نقل بظهورها حال الانفراد كما هو كذلك في أكثرها ، كما لا يخفى على من يلاحظها سياقا وسؤالا وجوابا.

لأنّا نقول : إنّ المعتبر في نهوض الإطلاق دليلا عدم اعتبار التقييد لا ثبوت اعتبار الإطلاق ، وإلّا لانسدّ باب التمسّك بالمطلقات ؛ ولا ريب في عدم ثبوت التقييد ولا عدم قيام ما يقضي باعتبار الانفراد ، وظهوره المدّعى وإن كان مسلّما في الجملة لكنّه غير كاشف عن الاعتبار ، لكونه ناشئا عن اتّفاق الانفراد في الغالب ؛ فالموجب للظهور هو غلبة اتّفاق الانفراد ، ومثل هذه الغلبة غير معتبرة جدّا في شي‌ء من المحاورة ، وهل هي إلّا نظير غلبة الصفاء في الماء الّذي رتّب عليه الشارع أحكاما كثيرة؟

وبالجملة : لا عبرة بالغلبة الناشئة عن مجرّد العادة ، لكون موردها من البدو إلى الختم من اتّفاقيّات الامور لا من مقاصدها ، بل المعتبر منها في إفادة انصراف اللفظ وظهوره المعتبر في خلاف الإطلاق إنّما هو الغلبة في إطلاق اللفظ ، بأن يغلب استعماله لبعض الأفراد المساوي للبعض الآخر في الوجود أو الأقلّ منه وجودا.

ومن هنا يندفع ما عساك تقول في منع نهوض الإطلاق على بعض الوجوه : من إبداء احتمال مدخليّة طهر المحلّ وعدم سبق النجاسة إليه ، فيكون ثاني السببين مصادفا للمحلّ وهو غير قابل للتأثير ؛ والإطلاق المتوهّم موهون جدّا بقوّة احتمال الغناء عن التصريح بالاشتراط والتعرّض للذكر بوجوده في موارد السؤال وعدم الحاجة إلى التنبيه عليه ، كما يقتضيه سياق الأسئلة وغيرها ، فإنّ ذلك في جميع النصوص ظاهر في ورود النجاسة أو فرض ورودها على محلّ طاهر ، فإنّ ذلك ليس إلّا من جهة الغلبة العادية المستندة إلى مجرّد الاتّفاق ، ولا يصلح مثلها صارفة عن الإطلاق.

نعم ، هنا مناقشة اخرى قويّة لم نقف على من سبقنا إليها كجملة ممّا تقدّم ، وهي أنّ تحكيم هذا الإطلاق على الأصل المتقدّم ذكره يعارضه قضاء نفس تلك الأدلّة بكون

٧٤٢

مقدّر كلّ نوع مطهّرا تامّا وموجبا مستقلّا لطهر الماء ، فحينئذ لو وقع فيها فردان من نوع ، أو نوعان متساويان ، أو مختلفان في المقدّر ، فنزح مقدّر أحد الفردين أو أحد النوعين ساوى مقدّر الباقي أو زاد عليه أو نقص عنه ، فإمّا أن يقال : بحصول الطهر في الماء ، أو يقال : بتوقّفه على نزح مقدّر الباقي.

والأوّل اعتراف بالتداخل وعدم تضاعف النزح ، والثاني إخراج للسببيّة المستفادة عن الإطلاق عن كونها تامّة.

بل الإنصاف : أنّ استفادة السببيّة التامّة عن تلك الأدلّة بالقياس إلى المنجّس ليست بأظهر من استفادتها بالقياس إلى المطهّر ، إن لم نقل بأنّها في الدلالة على أنّ كلّ مقدّر سبب تامّ للطهر أظهر ، فقضيّة التنافي بين القضيّتين طرح إحداهما والأخذ بالاخرى بمرجّح خارجي ، ولا يبعد كون الرجحان في جانب القضيّة الثانية ، لتأيّدها أوّلا : بالأصل المتقدّم ، وثانيا ، بملاحظة النظائر الّتي تقدّم إلى بعضها الإشارة ؛ وثالثا : بقضاء الاعتبار بأنّ أثر النجاسة ليس من الامور القابلة للتعدّد.

واحتمال التأكّد بكثرة الوارد ليس ممّا يساعد عليه النظر ، حيث لا مقتضي له سوى قيام الدليل على تأكّد أثر بعض النجاسات بالقياس إلى أثر نجاسة اخرى ، كالخمر بالقياس إلى الدم ، كما يفصح الاختلاف في المقدّر بالكثرة والقلّة ؛ وهو كما ترى قياس ومع الفارق ، لجواز كون تأكّد الأثر في المقيس عليه من مقتضيات ذات المؤثّر وطبعه ، فكيف يقاس عليه غيره في اقتضاء التأكّد بواسطة أمر عرضي وهو انضمام مؤثّر إلى مثله.

ولكن يمكن دفعها : بمنع اقتضاء الأدلّة كون كلّ مقدّر سببا تامّا للطهر ، بل القدر المسلّم اقتضاؤها كونه سببا تامّا لزوال الأثر الناشئ عن النوع المعلّق على وقوعه ذلك المقدّر ، ولا ريب أنّه بحكم السببيّة التامّة في مزيله حاصل ، غايته كونه مقارنا لطهر المحلّ إن قلنا بكونه أمرا وجوديّا ، وقد يقارن أثر النجاسة الباقية المتوقّف زواله على نزح مقدّرها أيضا ، فعدم حصول الطهر فعلا لمانع بعد نزح أحد المقدّرين لا ينافي كون ذلك النزح سببا تامّا كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكر من الوجوه في تأييد القضيّة الثانية ، فليس شي‌ء منها بشي‌ء يصلح للتعويل عليه في نظائر المقام.

٧٤٣

وبالتأمّل في جميع ما ذكر ظهر ضعف حجّة القول بالتداخل مطلقا أو في الجملة ، وبقي في المقام امور ينبغي الإشارة إليها من باب التفريع.

أحدها : قضيّة الدليل المذكور عدم الفرق في المنجّس بين النوعين المختلفين في الاسم والحكم معا ، أو في الاسم فقط ، واقعين في البئر على سبيل التعاقب أو الدفعة ، وبين فردين من نوع واحد ، خلافا لمن توهّم الفرق محتجّا في الأخير : بأنّ الحكم معلّق في الأخير على الاسم المتناول للقليل والكثير لغة وعرفا.

واجيب عنه : بأنّ ظاهر الأدلّة في الأكثر تعلّق الحكم بالفرد من الجنس ، نعم قد يتمّ ذلك في مثل البول والعذرة وأشباهها ، لشمول اللفظ للقليل منهما والكثير ، أمّا في مثل البعير والحمار فلا ، لعدم شمول اللفظ أزيد من واحد.

ولا يخفى وهنه على الخبير البصير ، فإنّ الأحكام تتبع الطبائع باعتبار وجوداتها ، على معنى أنّ المصحّح لتعلّق الحكم بها وجوداتها الخارجيّة ولو بحسب الإمكان لئلّا يلزم السفه ، مضافا إلى التكليف بغير المقدور.

نعم ، قد ترد الطبيعة في الخطاب مقرونة بما هو من لوازم الوجود الخارجي ، كـ « الوقوع » الوارد في أسئلة نصوص الباب وأجوبتها كما هو الأكثر ، فيظنّ أنّ ذلك الوجود له مدخليّة في موضوع الحكم فيترتّب عليه حينئذ دعوى تعلّقه بالفرد ، وهذا كما ترى ، فإنّ أقصى ما يلزم من ذلك توارد السؤال والجواب على الفرد من حيث انطباقه على الطبيعة المطلقة لا من حيث الفرديّة.

فتحصّل من ذلك دفع الاحتجاج بأنّه إن اريد بما ذكر كون ذلك هو الأصل في المسألة الاصوليّة فقد دفعناه في محلّه ، وإن اريد به كونه كذلك في خصوص المقام بملاحظة ما ذكر من القرينة فقد تبيّن منعه.

فالحقّ أنّ الحكم معلّق على الطبيعة من غير نظر إلى الأفراد ، وقد دلّ الدليل على أنّها في ضمن أيّ فرد تحقّقت مؤثّر تامّ لما يقتضي نزح المقدّر ، ومقتضي المؤثّريّة التامّة تعدّد أثرها بوقوعاتها المتعدّدة على سبيل التدريج.

فما في بعض العبائر من دعوى القطع بعدم الفرق في الحكم بين مقدار من البول وقع دفعة أو وقع كلّ جزء منه دفعة ؛ وأنّا نفهم من أدلّة وقوع هذه الطبائع أنّ السبب وجودها

٧٤٤

في البئر ولو برجوعات متعدّدة ، واضح الضعف ؛ بعد ملاحظة ما بيّنّاه من قاعدة السببيّة.

وأضعف منه ما في كلام بعض المشايخ من : « أنّ الدليل لمّا دلّ على أنّ العذرة ينزح لها خمسون دلوا وكانت ماهيّة صادقة على القليل والكثير ، واشتغل الذّمّة بالنزح بالوقوع الأوّل وجاء الوقوع الثاني انقلب الفرد الأوّل إلى الثاني ، فصارت مصداقا واحدا للماهيّة ، وهكذا كلّما يزداد فيدخل تحت قوله عليه‌السلام : « العذرة المذابة ينزح لها خمسون » وليس هذا إلّا كتعدّد النوع الواحد من الحدث الأصغر أو الأكبر ، كالبول مرّات والجنابة مرّات » (١) انتهى.

ولعلّه قدس‌سره فرض الكلام فيما يقع مستمرّا على وجه يكون أجزاؤها الواقعة متواصلة أو متفاصلة بفصل غير معتدّ به ، وإلّا فلا يرجع إلى محصّل ، فإنّ الواقع بالوقوع الأوّل قد وقع بوصف أنّه مؤثّر تامّ فلا بدّ له من أثر لا محالة ، ثمّ إذا جاء الوقوع الثاني فإمّا أن ينعقد به مع قطع النظر عن الأوّل المؤثّر التامّ أو لا ، وعلى الأوّل فما معنى الانقلاب؟ وأيّ شي‌ء أوجب وحدة المصداق؟ مع أنّه عند التحقيق غير معقول بملاحظة أنّ الواقع أوّلا قد انعدم بعد وقوعه بالاستهلاك ، والواقع ثانيا حين وقوعه موجود ، وكيف ينعقد المعدوم مع الموجود مصداقا واحدا لماهيّة.

ثمّ أيّ فائدة في ذلك الانقلاب ووحدة المصداق إلّا قيام الأثر بهما معا ، وهو خلاف فرض كونهما مؤثّرين تامّين ؛ مع أنّه غير معقول أيضا ، إذ الأثر قد استكمل بالأوّل فتوجّه الثاني أيضا إليه توارد للعلّتين التامّتين على معلول واحد.

إلّا أن يقال : بكون ترتّب الأثر على الأوّل معلّقا على لحوق الثاني وهو خلاف ما فرضناه أوّلا كما لا يخفى.

وعلى الثاني فعدم التأثير إمّا لقصور في الواقع ، بدعوى : أنّه فاقد للماهيّة الّتي علّق عليها التأثير ، أو فاقد للخصوصيّة الثابتة في الواقع الأوّل. أو لقصور في المحلّ ، بدعوى : أنّه لا يتأثّر إلّا إذا كان فارغا عن أثر مؤثّر آخر.

ولا سبيل إلى شي‌ء منها ، لقيام الضرورة بوجود الماهيّة ، كيف لا وأنّ الكلام على هذا الفرض دون غيره ، وضرورة عدم مدخليّة الخصوصيّة المتعيّنة في صلاحية التأثير

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٤٩٤.

٧٤٥

ولا فعليّته ، سيّما مع أنّ الكلام على تقدير تعلّق الحكم بالطبيعة وظهور إطلاق الأدلّة ـ على ما بيّنّاه ـ في عدم مدخليّة ما عدا الماهيّة ، فسبق أثر إلى المحلّ لا يصلح مانعا عن التأثير وإلّا لزم تقييد الأدلّة بلا شاهد عليه.

ونعم ما قيل (١) ـ في دفع بعض ما ذكر ـ من : أنّ صدق « أنّ العذرة ينزح لها خمسون » على الكلّ إنّما يوجب حدوث سبب متأخّر عن الكلّ ، لا انقلاب ما حدث بالأوّل إلى كونه مسبّبا عن المصداق الواحد الصادق على الكلّ.

ثمّ تشبيه المقام بمسألة الحدث الأصغر والأكبر ، قد عرفت ما فيه بغير مرّة.

نعم ، ربّما يشكل الحال في اعتبار تعدّد الأثر على حسب تعدّد الفرد الواقع في صورة وقوع الفردين على سبيل الدفعة ، إذ الماهيّة حينئذ ليست إلّا واحدة صادقة على الجميع ، ولم يتحقّق لها وقوع إلّا مرّة واحدة ، فكيف يتعدّد أثرها.

وقد يفصّل : (٢) بأنّ موضوع الحكم بالمقدّر إن كان هو الفرد الواحد فوقوع المتعدّد دفعة في حكم المتعاقبين ، واحتمال خروج ذلك عن مورد النصّ ضعيف ، وإن كان هو الطبيعة الكلّيّة الصادقة على القليل والكثير فلا يحصل التعدّد فيها إلّا بالتعاقب مع الفصل الموجب لصدق التعدّد.

أقول : ويمكن اعتبار التعدّد أيضا على الوجه الثاني ، إذ لا عبرة بتعدّد الوقوع حتّى يقال : بانتفائه هنا ، ولا أنّ النظر في هذا الوجه إلى تعدّد الواقع حتّى يقال : برجوعه إلى الوجه الأوّل ، بل المعتبر تعدّد التأثير وإن كان قائما بماهيّة واحدة ، كما هو كذلك في الفردين المتعاقبين ، وكما أنّ الماهيّة يجوز اتّصافها بوصفين متضادّين فصاعدا ، ووجودها في مكانين متغايرين فصاعدا ، فكذلك يجوز اتّصافها بتأثيرين فصاعدا ، كلّ تأثير في ضمن خصوصيّة لا بشرط انضمام الخصوصيّة ، بل لأنّ من دأبها أن تؤثّر حال الوجود ، نظرا إلى أنّ التأثير الفعلي من لوازم وجودها الخارجي ولا وجود لها إلّا مع انضمام الخصوصيّة ، ولا يعقل فرق من هذه الجهة بعد إلغاء الخصوصيّة بين وجودها في ضمن فردين متقارنين ووجودها في ضمن فردين متعاقبين ، فإنّ المؤثّر في الكلّ هو

__________________

(١) القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٥١.

(٢) المفصّل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في المصدر السابق.

٧٤٦

الماهيّة ، وكما يتعدّد تأثيرها مع التعاقب فينبغي أن يتعدّد التأثير مع التقارن ، ومجرّد تقارن الفردين وتعاقبهما مع إحراز بعض ما سبق لا يصلح في حكم العقل فارقا بينهما في الحكم ، كيف لا ولا ريب أنّها في ضمن كلّ من الفردين المتقارنين كانت مؤثّرة تامّة على تقدير الانفراد وعدم اتّفاق الانضمام بينهما حتّى أنّها من جهتها منفردين كانت مقتضية لأثرين ، فأيّ شي‌ء أسقطها عن هذا الحكم؟ وهل هو إلّا إنكار السببيّة التامّة بالقياس إليها؟ أو رجوعا عن القول بأنّ الأدلّة قضت بكونها سببا تامّا للتنجيس كائنة ما كانت ؛ والمفروض تحقّقها في ضمن كلّ من الفردين فيجب بحكم السببيّة المطلقة أن تؤثّر أثرين.

وثانيها : عن أهل القول بعدم التداخل أنّه استثنوا من ذلك ما إذا تبدّل موضوع حكم بسبب تعاقب الفردين من ماهيّة فصاعدا بموضوع حكم آخر ، كما لو وقع دمان قليلان فصاعدا إلى أن بلغ المجموع حدّ الدم الكثير الّذي هو موضوع لنزح خمسين ، كما أنّ القليل موضوع لنزح عشرة فاكتفوا منه بمنزوح الموضوع الثاني وهو خمسون في المثال.

وعن الشهيد رحمه‌الله (١) استثناء آخر لما إذا كان التكثّر داخلا تحت الاسم كزيادة كثرة الدم ، فلا زيادة في القدر حينئذ لشمول الاسم.

والأوّل لا يخلو عن مناقشة ، فإنّ القليل والكثير ليسا بعنوانين واردين في النصوص ليتمسّك في الموارد المشتبهة بإطلاق لفظيهما ، وإنّما هما معنيان استفادوهما من النصوص الواردة في رمي الشاة والدجاجة كما مرّ ، فيضعف تناولهما لمثل هذه الكثرة الانتزاعيّة جدّا.

بل لو كان الموجود في النصوص هو لفظ « الكثرة » ـ كالموجود في الفتاوي ـ لكان شموله لمثل المقام في غاية الإشكال ، إذ « الكثرة » هنا في مقابل « القلّة » فتكون ظاهرة فيما كان وصفا حقيقيّا في فرد ، لا ما كان منتزعا عن أفراد ، مع أنّك قد عرفت أنّ التأثير قائم بذات المؤثّر حال الوجود ، فالمقتضي لنزح خمسين إنّما هو الكثير الخارجي لا مفهومه الذهني الصرف ولا خارج له هنا ، لأنّ الفرد الأوّل عند وجوده كان منفردا عن الثاني ثمّ انعدم باستهلاكه في الماء عند وجود الثاني.

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٩١.

٧٤٧

نعم ، إذا اعتبر العقل بينهما حالة انضمام حصل عنده عنوان « الكثرة » وليس ذلك إلّا مفهوما ذهنيّا ، مع أنّ الفرد الأوّل بحكم أدلّة السببيّة قد أثّر بحدوثه في نزح العشرة جزما ، فإذا حدث الفرد الثاني لكان ينبغي أن يؤثّر في نزح عشرة اخرى لا في انقلاب الحكم الأوّل إلى حكم آخر ، لا لأنّ الأصل عدم حدوث ذلك الحكم ، حتّى يعارض بأصالة عدم حدوث العشرة الثانية نظرا إلى أنّ الشكّ في تعيين الحادث لا في نفس الحدوث ، بل لأنّ الانقلاب يقتضي زوال الحكم الأوّل وحدوث حكم آخر والأصل في الحادث القلّة ، ولا ريب أنّ الزوال محلّ شكّ ولا معارض للأصل النافي له.

مع أنّه كما يصدق على مجموع هذه الدماء عنوان « الكثرة » فيندرج بذلك في أدلّة دم الكثير ، فكذلك يصدق على كلّ واحد عنوان « القلّة » فيندرج بذلك في أدلّة القليل ، ولا يمكن الجمع بين الدليلين بمراعاة المنزوحين الحاصلة بنزح الخمسين تارة اعتبارا للمجموع ، ونزح العشرة مكرّرا تارة اخرى اعتبارا لكلّ واحد ، لأنّ العبرة في تعدّد السبب المقتضي لتعدّد المسبّب بالتعدّد الحقيقي الخارجي ، والمغايرة بين المجموع وكلّ واحد اعتباري عقلي ، فيجب إعمال أحد الدليلين بإعمال الترجيح بينهما ، ولعلّ الرجحان مع دليل العشرة لكون القلّة في كلّ واحد حقيقيّة والكثرة في المجموع اعتباريّة.

وملخّصه دعوى : أنّ أدلّة القليل أظهر شمولا للمقام من أدلّة الكثير فيجب العمل بها.

وقد يتكلّف في المقام بلزوم مراعاة أكثر الأمرين من منزوح القليل المتكرّر ومنزوح الكثير جمعا بين الدليلين ، بدعوى : « أنّ الموجود في الخارج على سبيل البدل إمّا أسباب متعدّدة للعشرة ، وإمّا سبب واحد للخمسين ، ولا وجه لإلغاء تأثير مصداق السبب المقتضي للأكثر ، ولا لإلغاء تأثير المقتضي للأقلّ ، لكنّه يتداخل في الأكثر لعدم إمكان الجمع بين مقتضاهما للحكم بالسبعين فيما لو وقع دمان قليلان.

وإنّما اعتبرنا التداخل في جانب الأقلّ إذ بعد البناء على تداخل مقتضي المصداقين لا معنى لتداخل الأكثر في الأقلّ إلّا إسقاط الزائد مع وجود سببه ، وهو طرح لإطلاق دليله من غير تقييد ، بخلاف تداخل الأقلّ في الأكثر فإنّه لا يوجب إسقاطا ، فلو فرضنا أنّ التعدّد يقتضي أزيد من الخمسين كما إذا وقع القليل سبع مرّات فصار بالثامن كثيرا ، فإنّه وإن صدق على المجموع « وقوع الدم الكثير » ، إلّا أنّه يصدق أيضا « وقع فيه سبع

٧٤٨

مرّات بل ثمانية دماء قليلة » فلا معنى حينئذ لإلغاء ما يوجبه كلّ مرّة ، وليس في ذلك إلغاء لمقتضى مصداق الدم الكثير » (١).

وفيه : أنّ الجمع بعد فقد المرجّح واليأس عن الترجيح ، وقد عرفت وجود المرجّح ، فالأقوى إذن الاكتفاء بمنزوح القليل متكرّرا حسب تكرّر الدم ، زاد المجموع على منزوح الكثير أو ساواه أو نقص عنه ، وإن كان الاحتياط مع مراعاة جانب الكثير ، وأحوط منه الأخذ بالأكثر كائنا ما كان.

وثالثها : قضيّة إطلاقهم في عدم التداخل مع إطلاق قولهم فيما تقدّم بلحوق الجزء بالكلّ تضاعف النجاسة فيما لو وقع فيه جزءان من حيوان ، لكن عن الشهيد (٢) أنّه مع اختياره القولين المذكورين اكتفى بنزح مقدّر الكلّ ، بناء على صدق الاسم فيما لو اتّفق وقوع أجزاء الحيوان كلّها دفعة أو تدريجا ، وقد يقال : بأنّه مستثنى من قاعدة عدم التداخل ، وكأنّ القائل بدخول الجزء فيما لا نصّ فيه أيضا قائل بالاكتفاء.

واعترض عليه الخوانساري في شرح الدروس بأنّ : « ذلك يستلزم نقصان النزح بسبب زيادة النجاسة ، وذلك لأنّه إذا وقع جزءان من الحيوان دفعتين بحيث لم يتمّ كلّه فعلى القول بالإلحاق وعدم التداخل يجب نزح مقدّر ذلك الحيوان مرّتين ، وعلى القول بإدخاله فيما لا نصّ فيه يجب نزح ما يجب فيه مرّتين ، وإذا وقع حينئذ الجزء الآخر الّذي يتمّ به الحيوان يجب نزح مقدّره « مرّة » ، فيلزم المحذور على الأوّل مطلقا وعلى الثاني إذا كان هذا المقدّر أقلّ من مرّتي منزوح ما لا نصّ فيه ».

ثمّ دفعه رحمه‌الله : « بأنّ الاستبعاد في الامور الشرعيّة ممّا لا مجال له خصوصا في أحكام البئر » (٣).

وأنت خبير بعدم ابتناء الاعتراض على الاستبعاد الصرف ، بل الاعتراض متّجه من جهة أنّ في الحكم المذكور مخالفة للأصل ، لابتنائه على انقلاب الحكم الأوّل الناشئ من قاعدة عدم التداخل المبتنية على قاعدة السببيّة ، ولا معنى له إلّا زوال حكم وحدوث حكم آخر ، ولا دليل لهم عليه يرفع حكم الأصل.

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٥٤ ، مع اختلاف يسير.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٩١.

(٣) مشارق الشموس : ٢٤٣.

٧٤٩

وتحقّق صدق اسم الكلّ لا يصلح رافعا لحكم حادث قبله ، وإنّما هو موجب لحدوث حكم غير حادث لو لا المانع ، وهو هنا غير معقول لما عرفت من كون المغايرة بين الكلّ والأبعاض اعتباريّة ، ومعه لا يتعدّد مقتضاهما.

إلّا أن يدفع : بأنّ الحكم بلحوق الجزء بالكلّ كان مبنيّا على الاحتياط ، بناء على عدم صدق اسم الكلّ على الجزء ، وتضاعف النزح على تقدير تعدّد الجزء الغير البالغ حدّ الكلّ أيضا كان مبنيّا على ذلك ، فالاستصحاب المذكور النافي لاحتمال زوال الحكم الأوّل استصحاب في حكم الاحتياط ، فهو حكم ظاهري في حكم ظاهري ، وصدق الاسم حيثما تحقّق إنّما يعطي الحكم الواقعي ولو بملاحظة دليل اجتهادي ، ومن البيّن ارتفاع الحكم الظاهري بانكشاف الحكم الواقعي وحدوثه.

لكن إنّما يستقيم ذلك بعد تسليم قضيّة الصدق ، وإلّا فللمناقشة فيه مجال واسع ، لوضوح مدخليّة تواصل الأعضاء في صدق اسم الحيوان بعنوان الحقيقة أو المجاز القريب.

والأولى في كلّ من الجزء والجزءين فصاعدا وتمام الأجزاء اعتبار ما تقدّم عن صاحب المعالم (١) من الاكتفاء بأقلّ الأمرين من مقدّر الكلّ ومقدّر غير المنصوص ، ودليله الأولويّة.

إلّا أن يقال : بمنع الأولويّة ، بل ثبوتها مع تمام الأجزاء أو ما يقرب منه من الأجزاء الناقصة في الإلحاق بغير المنصوص المقتضي عند التعدّد المفروض تعدّد نزح ما يجب لغير المنصوص ، للقطع بأنّ النجاسة الملاقية للماء حينئذ أكثر وأزيد من الملاقية فيما لو وقع الحيوان كاملا متواصلة الأعضاء ، هذا ومع ذلك فالمسألة ليست بخالية عن الإشكال.

وممّا ذكرناه جميعا بان الحكم فيما لو وقع جزءان من إنسانين مثلا ، فعلى القول بإلحاق الجزء بالكلّ يجب نزح مقدّر الإنسان مرّتين ، وعلى القول بإدخاله فيما لا نصّ فيه يجب منزوح ما لا نصّ فيه مرّتين ، وعلى قول صاحب المعالم يجب نزح أقلّ الأمرين من المقدّر للكلّ من كلّ منهما ومن منزوح غير المنصوص ، كذا قيل.

ورابعها : عن الشهيد في الذكرى (٢) أنّه ألحق الحيوان الحامل وذا الرجيع النجس بغيرهما ، إمّا لانضمام المخرج المانع من الدخول في الماء ، أو لإطلاق الأدلّة في تقدير

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ٢٧٧.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٩١.

٧٥٠

النزح ، إلّا إذا انفتح المخرج بحيث تحقّق معه ملاقاة الماء لما في الباطن.

وعن صاحب المعالم (١) أنّه استوجهه إلّا في ثاني التعليلين ، فإنّ الاعتماد عليه في الحيوان الحامل مشكل ، من حيث إنّ الإطلاق إنّما يجدي فيما يغلب لزومه لذي المقدّر كالرجيع الكائن في الجوف ، وليس الحمل منه كما لا يخفى ، وإنّما الاعتماد على التعليل الأوّل واستحسنه في هذا الكلام الخوانساري (٢).

والظاهر ابتناء هذا الكلام على قاعدتهم في انصراف المطلق إلى الغالب ، الّتي مآلها إلى مانعيّة الندرة عن شمول الإطلاق ، وإن كان مؤدّى العبارة يعطي شرطيّة الغلبة للشمول ، وعلى أيّ تقدير فلا وجه له بعد ملاحظة ما سبق بيانه من أنّ العبرة في انصراف المطلق ليست بالغلبة العاديّة.

وخامسها : عن صاحب المعالم أنّه بعد ذكر المسألة قال : « إذا تقرّر هذا ، فاعلم أنّ الحكم على تقدير سعة ماء البئر لنزح المقادير المتعدّدة واضح.

وأمّا مع قصوره عنها فالظاهر الاكتفاء بنزح الجميع ، لأنّه به يتحقّق إخراج الماء المنفعل ، والحكم بالنزح إنّما تعلّق به ، وهذا آت فيما لو زاد المقدّر الواحد عن الجميع أيضا.

وحينئذ فلو كان كلّ واحد من المتعدّد موجبا لنزح الجميع حصل التداخل واكتفى بنزحه مرّة ، ولو كان الماء ـ والحال هذه ـ غالبا وقلنا بقيام التراوح مقام نزح الجميع حينئذ ، ففي الاكتفاء بتراوح اليوم للكلّ نظر.

من حيث إنّه قائم مقام نزح الجميع وبدل منه ، وقد فرض الاكتفاء في المبدل بالمرّة فكذا البدل.

ومن أنّ الاكتفاء في المبدل بالمرّة إنّما هو لزوال متعلّق الحكم بالنزح أعني الماء المنفعل ، وذلك مفقود في البدل ، ولا يلزم من ثبوت البدليّة المساواة من كلّ وجه.

ويمكن ترجيح الوجه الأوّل بأنّ ظاهر أدلّة المنزوحات كون نزح الجميع أبعد غايات النزح عند ملاقاة النجاسات ، وقيام التراوح مقامه حينئذ يقتضي نفي الزيادة عليه » (٣) انتهى.

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ٢٧٧.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٣.

(٣) فقه المعالم ١ : ٢٧٦ ـ ٢٧٥.

٧٥١

ولا يخفى ضعف الوجه الأوّل مع ما ذكره في ترجيحه ، فإنّ التراوح يقوم مقام نزح الجميع في كونه أبعد الغايات إذا لم يتعدّد ما يوجب نزح الجميع ، وأمّا معه فسقوط الحكم مع حصول نزح الجميع مرّة إنّما هو لعدم قابليّة المحلّ للتعدّد لا لحصول ما هو أبعد الغايات عن الكلّ ، وحينئذ فلا موجب لسقوط التعدّد عن التراوح المفروض بدلا ، لانتفاء موجب السقوط وهو تعذّر التعدّد.

فقضيّة البدليّة تعدّد البدل مع تعدّد المبدل واتّحاده مع اتّحاده ، وإن شئت نظّر المقام بمسألة قتل زيد إذا تعدّد أسبابه كقتل النفس مرّتين مثلا ، وقلنا : ببدليّة الدية عن القصاص إذا رضي بها أولياء الدم ، فحينئذ لو اختير المبدل فلا إشكال في الاكتفاء بالمرّة ، وإن قلنا بعدم التداخل لعدم قابليّة المحلّ للتعدّد ، وأمّا مع اختيار البدل فلا أظنّ قائلا يقول بالاكتفاء فيه بدية واحدة.

وأمّا ما قيل : من أنّ الواجب أوّلا نزح الجميع للكلّ فإن لم يمكن قام مقام الجميع التراوح ، وكما أنّه إذا نزح الجميع في صورة الإمكان أجزأ لعدم بقاء ما يتعلّق به النزح ، كذلك إذا نزح الماء بطريق التراوح ، فإنّ ماء التراوح على هذا يكون عبارة عن مجموع ماء البئر ، فلم يبق للنزح حينئذ متعلّق حتّى يمكن تعدّد البدل ، لأنّ الماء الباقي بعد التراوح يكون في حكم النابع بعد نزح الجميع ، وكما أنّه لا يتعلّق النزح بالنابع فكذلك لا يتعلّق بما هو مثله.

فضعفه واضح جدّا ، ضرورة أنّ التراوح بدل عن نزح الجميع في تعلّق الحكم به لا أنّه بدل عنه في ارتفاع الحكم عنه ، ولا ريب أنّ الحكم قد تعلّق بنزح يتعدّد بتعدّد أسبابه من أوّل الأمر ، غايته أنّه إذا حصل في الخارج مرّة ارتفع الحكم عن الباقي لعدم بقاء متعلّقه ، لا أنّ الباقي لم يتعلّق به الحكم من أوّل الأمر ، ولذلك لا يوجب ذلك تخصيصا في دليل سببيّة ما يقتضي من النجاسات نزح الجميع ثانية وثالثة وهكذا ، فإنّ زوال الحكم المتعلّق بانتفاء متعلّقه غير عدم تعلّق الحكم من أوّل الأمر بما هو صالح له ، والتخصيص يلزم على الأوّل دون الثاني ، فإذا فرض أنّ الحكم يتعدّد تعلّقه بنزح الجميع عند تعدّد أسبابه وفرض تعذّر ذلك من جهة غلبة الماء واستيلائه ، فلا جرم يتعدّد الحكم المتعلّق ببدله بعد ثبوت البدليّة ؛ والمفروض أنّ انتفاء المتعلّق بالقياس إليه

٧٥٢

غير معقول ما دام نزح الجميع غير ممكن ، فلا مقتضي حينئذ لسقوط الحكم عن الباقي بعد حصول التراوح مرّة ، ولو فرض أنّ الماء الباقي بعد تراوح اليوم يقصر عن تراوح يوم آخر فهو فرض انكشاف خطأ في ظنّ تعذّر نزح الجميع أوّلا ، فينكشف به عدم انتقال الحكم من المبدل إلى بدله من أوّل الأمر ، فيجب الإقدام على نزح الباقي لينعقد به نزح الجميع المأمور به الأوّلي.

ولو سلّم أنّ الحكم أوّلا بمقتضى حجّيّة الظنّ كان متعلّقا بالبدل ، فانكشاف القصور بالقياس إلى البدل الآخر يكشف عن كون الحكم بالقياس إليه قائما بنفس المبدل لا منتقلا منه إلى البدل.

* * *

٧٥٣

ينبوع

لا ينجّس البئر بالبالوعة ، قربت منها أم بعدت ما لم يعلم بتغيّرها بما فيها إذا كان نجاسة عينيّة ، على المختار من عدم انفعالها بمجرّد الملاقاة أو بملاقاة ما فيها لها ، وإن لم يكن نجاسة عينيّة على القول الآخر ، ولا يكفي فيهما الظنّ المطلق بتحقّق السبب ، والكلام في كلّ هذه المطالب وأدلّتها قد تقدّم ، ويدلّ على المختار أو يؤيّده رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة أذرع وأقلّ وأكثر يتوضّأ منها؟ قال : « ليس يكره من قرب ولا بعد ، يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء » (١).

وعلى القول الآخر يؤول الرواية إلى أنّ التغيّر إنّما اعتبر هنا أمارة غالبيّة على الملاقاة ، لا لقصر الحكم على التغيّر ليخرج عنه الملاقاة المطلقة.

والبالوعة : ثقب في وسط الدار كما في المجمع (٢) ، وعن الصحاح أيضا (٣) ، أو بئر يحفر ضيّق الرأس يجري فيها ماء المطر ونحوه كما عن القاموس (٤) ، أو مجمع ماء النزح كما في الروضة (٥) ، أو مرمى مطلق النجاسات كما عن الروض (٦) ، أو ما يرمى فيه ماء النزح أو غيره من النجاسات كما في المدارك (٧) ، وهو الأجود.

وعلى أيّ معنى فحكموا بأنّه تستحبّ التباعد بينها وبين البئر واتّفقوا عليه ، وإن اختلفوا في تحديد ما ينبغي بينهما من البعد ، فعن المشهور ـ مع استفاضة حكاية الشهرة فيه ـ أنّه بخمسة أذرع مع صلابة الأرض أو فوقيّة البئر ، وبسبعة أذرع مع انتفاء الأمرين.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٠ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٤.

(٢) مجمع البحرين ؛ مادّة « بلع ».

(٣) الصحاح ؛ مادّة « بلغ » ٣ : ١١٨٨.

(٤) قاموس اللغة ٣ : ٧.

(٥) الروضة البهيّة ١ : ٤٧.

(٦) روض الجنان : ١٥٦.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ١٠٢.

٧٥٤

ومقتضى ذلك استحباب الخمس في أربع صور من الستّ الّتي هي مرتفع الاثنين اللذين هما صلابة الأرض ورخاوتها في الثلاث الّتي هي فوقيّة البئر ومساواتها وتحتيّتها ، واستحباب السبع في صورتين منها وهما صورة المساواة وتحتيّة البئر مع رخاوة الأرض.

ومعنى فوقيّة البئر أن يكون قرارها أعلى من قرار البالوعة ، بأن يكون البالوعة أعمق منها كما في المدارك (١) ، وفي كلام شارح الدروس : « أنّ العبرة في الفوقيّة على ما ذكره الأصحاب بقراريهما ، لا بوجه الأرض » (٢) ، وفي عبارة الشيخ علي في حاشية الشرائع : « المراد بالفوقيّة كون قرار البئر أعلى ، ويتحقّق علوّ أحدهما بكونها أكثر عمقا وبالجهة » (٣) ، وقضيّة ذلك ـ كما في المدارك ـ (٤) كون القرار عبارة عن قعريهما من الأرض.

وقد يقال في تفسيره : إنّه وجه الماء لا قعره ، والأوّل أظهر ؛ وصرّحوا أيضا بأنّ المراد بالذراع ما هو المعتبر في تحديد المسافة ، وفسّرها في المدارك (٥) بالذراع الهاشميّة (٦) ، وليس على ما ينبغي ؛ بل المعتبر في المسافة ذراع اليد المحدودة بستّ قبضات معتدلة ، وكلّ قبضة أربع أصابع معتدلة ، والإصبع عرض ستّ شعيرات معتدلة ، والشعيرة ستّ شعرات من ذنب البرذون.

ومقابل المشهور مذهب ابن جنيد الإسكافي ، وهو على ما في مختلف العلّامة أنّه : « إن كانت الأرض رخوة والبئر تحت البالوعة فليكن بينهما اثنى عشر ذراعا ، وإن كانت صلبة أو كانت البئر فوق البالوعة فليكن بينهما سبع أذرع » (٧).

وهذه العبارة كما ترى لا توافق عبارته المحكيّة عنه في مختصره ؛ وهي : « لا استحبّ الطهارة من بئر يكون بئر للنجاسة الّتي يستقرّ فيها النجاسة من أعلاها في مجرى الوادي ، إلّا إذا كان بينهما في الأرض الرخوة اثنى عشر ذراعا ، وفي الأرض الصلبة سبع أذرع ، فإن كان تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ، وإن كانت محاذيتها في سمت القبلة فإذا كان بينهما سبع أذرع فلا بأس » (٨).

__________________

(١ و ٤ و ٥) مدارك الأحكام ١ : ١٠٢.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٦.

(٣) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة ٥.

(٦) ذراع الهاشميّة ذراع وثلث باليد ، فذراع اليد أربع وعشرون إصبعا عرضا ، وذراع الهاشميّة اثنان وثلاثون إصبعا (منه عفى عنه).

(٧) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٧.

(٨) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٢٩٢.

٧٥٥

ووجه المخالفة : أنّها يقضي باعتبار اثنى عشر بشرط فوقيّة البالوعة ورخاوة الأرض ، والسبع بشرط فوقيّة البالوعة وصلابة الأرض ، أو بشرط تحاذيهما من جهة القبلة ، بأن يكون إحداهما في جهة الشرق واخراهما في جهة الغرب ؛ وعدم اعتبار شي‌ء من التقديرين وغيرهما مع انتفاء الامور كلّها ، بأن يكون البالوعة تحت البئر في رخوة أو صلبة ، فإنّ إطلاق نفي البأس هنا يقضي بعدم اعتبار تقدير في ذلك.

وهاهنا مذاهب اخر محكيّة :

منها : ما حكي عن ظاهر الصدوق من جعله المدار على الصلابة والرخاوة ، وهذه عبارته في الفقيه : « والبئر إذا كان إلى جانبها كنيف ، فإن كانت الأرض صلبة فينبغي أن يكون بينهما خمسة أذرع ، وإن كانت رخوة فسبعة أذرع » (١).

ومنها : ما عن السرائر (٢) من أنّه يستحبّ أن يكون بين البئر الّتي يستقى منها وبين البالوعة سبعة أذرع ، إذا كانت البئر تحت البالوعة وكانت الأرض سهلة ، وخمسة أذرع إذا كانت فوقها والأرض أيضا سهلة ، وإن كانت الأرض صلبة فخمس.

ومرجع ذلك إلى ما حكي من عبارة التلخيص من أنّه : « يستحبّ تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع مع الرخاوة والتحتيّة ، وإلّا فخمس » (٣).

ومنها : ما حكي عن الإرشاد من « أنّه يستحبّ تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع إن كانت الأرض رخوة أو كانت البالوعة فوقها ، وإلّا فخمس » (٤) ، وعن بعض النسخ « الواو » بدل « أو » وحينئذ يرجع إلى عبارة التلخيص ، والسرائر.

ومستند المشهور الجمع بين رواية الحسن بن رباط ومرسلة قدامة بن أبي زياد الجمّاز ، المرويّتين في الكتب الثلاث الكافي والتهذيبين.

فاولاهما : عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن البالوعة يكون فوق البئر؟ قال : « إذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع ، وإن كانت فوق البئر فسبعة أذرع من كلّ ناحية (٥)

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨ ذيل الحديث ٢٢.

(٢) السرائر ١ : ٩٥ ـ ٩٤.

(٣) تلخيص المرام (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٢٧١).

(٤) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٥) في شرح الدروس : « وفسّر قوله عليه‌السلام : « من كلّ ناحية » بأنّه لا يكفي البعد بهذا المقدار من جانب واحد من جوانب البئر إذا كان البعد بالنظر إليها متفاوتا ، وذلك مع استدارة رأس البئر ، فربّما يبلغ المساحة السبع إذا قيس إلى جانب ولا يبلغه بالقياس إلى جانب آخر ، فالمعتبر ـ

٧٥٦

وذلك كثير » (١).

وثانيتهما : عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته كم أدنى ما يكون بين بئر الماء والبالوعة؟ فقال : « إن كان سهلا فسبعة أذرع ، وإن كان جبلا فخمسة أذرع ، ثمّ قال : يجري الماء إلى القبلة إلى يمين القبلة ، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، ويجري عن يسار القبلة إلى يمين القبلة ، ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة » (٢).

وجه الاستدلال بهما : أنّ الحكم بالخمس في الاولى معلّق على أسفليّة البالوعة وفي الثانية على جبليّة الأرض وهي صلابتها ، كما أنّ الحكم بالسبع في الاولى معلّق على فوقيّة البالوعة وفي الثانية على سهليّة الأرض وهي رخاوتها ، فالاولى مطلقة من حيث الأرض ومقيّدة من حيث الوضع ، كما أنّ الثانية مطلقة من حيث الوضع ومقيّدة من حيث الأرض ، فيتعارضان فيما لو كانت البالوعة فوقا في أرض صلبة وما لو كانت البالوعة أسفل في أرض سهلة ، ضرورة أنّ مطلق الاولى في الصورة الاولى يقتضي السبع ، ومقيّد الثانية يقتضي فيها الخمس ، كما أنّ مقيّد الاولى في الصورة الثانية يقتضي الخمس ومطلق الثانية يقتضي فيها السبع ، فيطرح مطلق كلّ في جانب السبع بمقيّد الاخرى في جانب الخمس جمعا بينهما.

وقضيّة ذلك دخول الصورتين المذكورتين في حكم الخمس ، لرجوع قوله عليه‌السلام : « وإن كانت فوق البئر فسبعة أذرع » في الرواية الاولى بعد التقييد إلى أن يقول : « وإن كانت فوق البئر فسبعة أذرع إلّا أن تكونا في أرض صلبة فيكفي حينئذ الخمس » فيدخل الاولى من الصورتين في حكم الخمس ، ورجوع قوله عليه‌السلام : « إن كان سهلا فسبعة أذرع » في الرواية الثانية بعد التقييد إلى أن يقول : « إن كان سهلا فسبعة أذرع إلّا مع أسفليّة البالوعة

__________________

ـ حينئذ البعد بذلك المقدار ، فما زاد بالقياس إلى الجميع » ، انتهى. والأظهر أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ ناحية » تعميم للحكم بالقياس إلى الجهات الّتي تقع فيهما البئر والبالوعة من الجنوب والشمال والمشرق والمغرب ، والظرف متعلّق بعامل مقدّر والجملة في محلّ النصب على أن يكون حالا للضمير في قوله : « وإن كانت فوق البئر فسبعة » ولفظة « الكلّ » مراد بها معنى « أيّ » ، المفيد للعموم البدلي ، فليتدبّر (منه عفى عنه).

(١) الوسائل ١ : ١٩٩ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٧ / ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٠ الاستبصار ١ : ٤٥ / ١٢٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٩٨ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٨ / ٣ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩١.

٧٥٧

فيكفي حينئذ الخمس » فيدخل الثانية من الصورتين في حكم الخمس أيضا ، فالداخل في حكم الخمس أربع صور من الستّ المذكورة ، والباقي تحت السبع صورتان.

وأنت خبير بأنّه يمكن انعكاس الفرض أيضا بحيث كان الداخل في حكم السبع أربع صور والباقي تحت الخمس صورتين ، وإنّما يتأتّى ذلك بطريق خر للجمع ، وهو طرح مطلق كلّ في جانب الخمس بمقيّد الاخرى في جانب السبع ، وقضيّة ذلك دخول الصورتين المذكورتين موردا للتعارض في حكم السبع ، فيبقى تحت الخمس ما لو كانت البالوعة في الأرض الصلبة أسفل من البئر أو مساوية لها.

وإلى ذلك ينظر عبارة الإرشاد المتقدّمة على النسخة الّتي فيها « أو » ، وكان منشؤها اختيار هذا الطريق من الجمع على خلاف ما اختاره المشهور ، ومن هنا ترى شارح الدروس اعترض على مختار المشهور بأنّ : « طريق الجمع لا ينحصر فيما ذكر ، إذ كما يقيّد الحكم بالسبعة في الموضعين ، يمكن أن يقيّد الحكم بالخمسة فيهما ، لكن الأولى متابعة المشهور مع التأييد بالأصل » (١) انتهى.

وإن كان صاحب الحدائق تصدّى بدفعه قائلا : « لا يخفى أنّ الغرض من التحديد في هذه الأخبار والشروط المذكورة فيها إنّما هو منع تعدّي ماء البالوعة إلى البئر ، فمع السهولة فيما عدا صورة علوّ قرار البئر لمّا كان مظنّة التعدّي كان اعتبار البعد بالسبعة أليق ، ومع الصلابة وكذا مع علوّ قرار البئر في السهلة لمّا كان مظنّة عدم التعدّي حسن الاقتصار على الخمسة ، فلا يحتاج إلى قيد خر » (٢).

وعن الشهيد الثاني في الروض المناقشة في مستند المشهور ، بقوله : « والرواية الّتي هي مستند الحكم ليس فيها ما يدلّ على حكم التساوي فهو مسكوت عنه » (٣) انتهى.

ولعلّه إلى دفع هذه المناقشة ينظر ما قد يتكلّف في بيان وجه جمع المشهور ، ويقال : « وجمع المشهور بينهما بتقييد حكم السبع في الروايتين مع إرادة عدم فوقيّة البئر من الفقرة الثانية من الرواية الاولى ، لأنّ المتبادر من مثله نقيض الشرطيّة الاولى لا ضدّها » (٤) انتهى.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٤٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٣٨٧.

(٣) روض الجنان : ١٥٧.

(٤) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٦٧.

٧٥٨

فإنّ عدم فوقيّة البئر المراد من تلك الفقرة أعمّ من فوقيّة البالوعة ومساواتها ، فعلم من الرواية حينئذ حكم التساوي أيضا.

وأنت خبير بعدم الحاجة إلى ارتكاب هذا التكلّف وعدم ورود المناقشة المذكورة ، فإنّها إنّما تتوجّه إذا انحصر مستند المشهور في الرواية الاولى ، وقد عرفت أنّه المجموع منها ومن الرواية الثانية بعد اعتبار الجمع بينهما وتقييد مطلق كلّ بمقيّد الاخرى ، ولا ريب أنّ حكم التساوي وإن كان مسكوتا عنه بالقياس إلى الرواية الاولى ، غير أنّه منطوق به في الرواية الثانية بحكم الإطلاق من حيث الوضع ، الشامل لصور ثلاث ، منها صورة التساوي ، والمفروض أنّه لم يخرج من هذا الإطلاق بعد اعتبار التقييد بالقياس إليه إلّا صورة فوقيّة البئر ، فتبقي الصورتان الأخيرتان مندرجتين في حكم السبع.

ومن هنا يعلم عدم خروج صورة التساوي المحكوم عليها بالخمس مع صلابة الأرض ، لأنّها مندرجة في الفقرة الثانية من الرواية الثانية أخذا بموجب الإطلاق الّذي لم يطرأه التقييد أصلا.

وقد يقال : « بأنّ المستفاد من مجموع الروايتين أنّ السبعة لها سببان : وهما السهولة وفوقيّة البالوعة ، والخمسة أيضا لها سببان : الجبليّة وأسفليّة البالوعة ، ويحصل التعارض عند تعارض السببين ، كما إذا كانت الأرض سهلة والبالوعة أسفل ، فلا بدّ من مرجّح خارجي ، وكذا إذا كانت الأرض جبليّة والبالوعة فوق البئر ، ولعلّه بالنسبة إلينا يكفي الشهرة في الترجيح ، فيحكّم كلّ منهما على الآخر بمعونتها ، وبالنسبة إليهم لا نعلم المرجّح ولعلّه دليل خارجي » انتهى.

وهذا الكلام نقله بعض مشايخنا (١) عن بعض مشايخه المعاصرين (٢) أنّه ذكره بعد ما زيّف جمع المشهور بعدم جريانه على القواعد ، ومبناه على العمل بالروايتين معا من دون تصرّف فيهما ، وهو كما ترى غير معقول مع فرض التعارض ، فكيف يستفاد السببيّة لكلّ من الامور الأربع حتّى يفرض صورة التعارض بين السببين.

ثمّ على فرض هذا التعارض فكيف يصحّ الشهرة مرجّحة فيه ، وهي على فرض صلوحها للمرجّحيّة إنّما يرجع إليها في تعارض الدليلين ، والكلام المذكور مبنيّ على

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٦٨.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٥٢٤.

٧٥٩

عدم الالتفات إلى تعارض الدليلين ، لأنّه أخذ بالمدلولين بعد الفراغ عن تماميّة الدليلين. فظهر أنّ ما صنعه المشهور هو الموافق للقواعد ، وعليه كان المستفاد من الروايتين بعد الجمع والتقييد ـ مع ملاحظة أنّ الغرض الأصلي من التقدير والتحديد الواردين فيهما إنّما هو حفظ ماء البالوعة عن النفوذ والتعدّي إلى البئر ـ أنّ عدم التعدّي مشروط بأحد الامور الثلاث من صلابة الأرض في البعد المحدود بالخمس ، وأسفليّة البالوعة في ذلك البعد أيضا ، وكون البعد بينهما سبعة أذرع مع انتفاء الأمرين الأوّلين.

وبذلك ـ مضافا إلى ما مرّ ـ يظهر الدليل على جمع المشهور ، وكونه أولى من الجمع الّذي كان يقتضيه الإرشاد على إحدى النسختين.

وبقي الكلام في مستند سائر الأقوال ما عدا قولي المشهور والإرشاد.

أمّا قول الصدوق : فلعلّه مبنيّ على الأخذ بالرواية الثانية بعد البناء على التخيير ، أو من جهة ترجيحها على الرواية الاولى بمرجّح داخلي أو خارجي ، أو على العمل بهما معا ، بتوهّم أنّهما من باب العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر ، نظرا إلى أنّ الفقرة الاولى من الرواية الاولى مقيسا إلى الفقرة الثانية من الثانية ، والفقرة الثانية من الاولى مقيسا إلى الفقرة الاولى من الثانية خاصّ في مقابل العامّ موافق ظاهراهما فلا تعارض بينهما ، ومعه يجب العمل عليهما معا بحمل الخاصّ على بيان إحدى فردي العامّ.

أمّا عموم فقرتي الرواية الثانية فلأنّهما يتضمّنان من جهة الوضع صورا ثلاث ، وأمّا خصوص فقرتي الرواية الاولى فلاختصاص كلّ منهما من جهة الوضع بإحدى الثلاث ، وأمّا موافقة الظاهرين في الحكم فلاتّحاد اولى الاولى مع ثانية الثانية في التقدير بالخمس ، واتّحاد ثانية الاولى مع اولى الثانية في التقدير بالسبع.

وأنت خبير بما في كلّ من هذه الوجوه من الفساد الواضح :

أمّا فساد الأوّلين : فلأنّ اعتبار التخيير أو الترجيح بين الدليلين المتعارضين إنّما هو مبنيّ على عدم إمكان الجمع بينهما بأحد من وجوه التصرّف ، من تخصيص أو تقييد فيهما معا أو في أحدهما حسبما يقتضيه القواعد والقرائن العرفيّة ، وقد عرفت أنّ الجمع بنحو التقييد في الروايتين معا مع قيام القرينة على تعيينه ممكن ، ومعه لا يعقل التخيير ولا الترجيح.

٧٦٠