ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

من الإنسان » (١).

وفي المصباح ما يوهم اختصاص الخرء أيضا بالإنسان ، لأنّه إذا أخذ بشرح تلك المادّة قال : « خرئ بالهمزة يخرأ من باب تعب ، إذا تغوّط واسم الخارج خرء » (٢) ، وإذا أخذ بشرح مادّة التغوّط قال : « الغائط اسم للمكان المطمئنّ الواسع من الأرض ، ثمّ أطلق الغائط على الخارج المتقذّر من الإنسان كراهية تسميته باسمه الخاصّ ، لأنّهم كانوا يقضون حوائجهم في الأمكنة المطمئنّة فهو من باب مجاز المجاورة ، ثمّ توسّعوا فيه حتّى اشتقّوا منه وقالوا : تغوّط الإنسان انتهى » (٣).

وكيف كان فالعذرة إمّا اسم خاصّ أو اسم عامّ منصرف إلى مسمّى خاصّ ، وعلى كلّ تقدير فيبقى فضلات سائر الحيوانات النجسة داخلة في عنوان ما لا نصّ فيه.

ثمّ الحكم المذكور للعذرة مشهور ، ونقل الشهرة عليه في حدّ الاستفاضة ، بل عليه نقل الإجماع عن ابن الزهرة (٤) ، وعن الصدوق (٥) والمحقّق في المعتبر (٦) والنافع (٧) الحكم بالأربعين إلى الخمسين ، وعن الأوّل في الأوّل عدم الوقوف على شاهد للأوّل ، ولعلّه لتوهّم كون الترديد في الرواية المذكورة مستندة له من الإمام عليه‌السلام ، وهي رواية أبي بصير المرويّة في التهذيبين ، ورواية عليّ بن أبي حمزة المرويّة في الكافي قال : سألت أبي عبد الله عليه‌السلام عن العذرة تقع في البئر؟ قال : « ينزح منها عشرة دلاء ، فإن ذابت فأربعون أو خمسون دلوا » (٨) غير أنّ نظر المشهور في الاستناد إلى احتمال كونه من الراوي ، الموجب للشكّ المحرز لموضوع الاستصحاب ، وقصور سندها باشتراك أبي بصير وضعف عليّ بن أبي حمزة منجبر بالعمل ، مع أنّه يرد على المحقّق عدم انطباق قوله على الرواية لو حمل الترديد على كونه من الإمام عليه‌السلام ، لقضائه بالتخيير بين المقدّرين مع كون الزيادة للاستحباب والأفضليّة كما عليه جماعة ، وللوجوب كما عليه البعض مع قوّته عندنا ، والقول المتقدّم يستدعي الاكتفاء بما بين المقدّرين أيضا وهو ليس من مقتضى النصّ في شي‌ء ، إلّا أن يوجّه بحمل « إلى » في كلامه على بيان البدليّة ، على حدّ

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « خرأ ».

(٢) المصباح المنير ، مادّة « خرئ » : ١٦٧.

(٣) المصباح المنير : ٤٥٧ ، مادّة « الغائط ».

(٤) غنية النزوع : ٤٩.

(٥) المقنع : ٣٠. (٦) المعتبر : ١٥.

(٧) المختصر النافع : ٤٢.

(٨) الكافي ٣ : ٧ / ١١.

٦٦١

ما هو في كلامهم في حدّ الواجب المخيّر : « ما جاز تركه إلى بدل » ، وفي حدّ الواجب المطلق : « ما لا يجوز تركه لا إلى بدل » ، وعلى أيّ حال فالأخذ بالمشهور أخذ بالأحوط فلا ينبغي تركه.

ثمّ صريح الرواية اشتراط هذا التقدير للعذرة بذوبانها ، كما أنّ قضيّة ما فيها من الإطلاق عدم الفرق بين وقوعها رطبة أو يابسة فذابت في الماء ، وأمّا الذوبان ففي كلام غير واحد الانتشار وتفرّق الأجزاء.

وفي المجمع : « ذابت العذرة في الماء أي تفرّقت أجزاؤها وشاعت فيه » (١).

وفي المصباح المنير : « أنّ الذائب خلاف الجامد » (٢) وذكر هذا الشرط وارد في كلام جماعة كالشرائع (٣) ، والنافع (٤) ، وعن المعتبر (٥) ، والتذكرة (٦) ، والذكرى (٧) ، والهداية (٨) ، ومصباح السيّد (٩). ونقله في المختلف (١٠) عن الشيخين (١١) والتقيّ (١٢) والديلمي (١٣) والقاضي (١٤) والعجلي (١٥). وفي اللمعة (١٦) كما عن البيان (١٧) ونهاية الشيخ (١٨) ومبسوطة (١٩) والوسيلة (٢٠) والمراسم (٢١) والإصباح (٢٢) والنهاية (٢٣).

وفي المنتهى (٢٤) اعتبار كونها رطبة ، وفي الدروس (٢٥) كما عن الإرشاد (٢٦) والتحرير (٢٧) اعتبار أحد الأمرين الذوبان أو الرطوبة ، وعن الموجز (٢٨) الاقتصار على التقطّع ، ولعلّه يرادف الذوبان بالمعنى المتقدّم.

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « ذوب » ٢ : ٦١.

(٢) المصباح المنير ؛ مادّة « ذاب » : ٢١١.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٤. (٤) المختصر النافع : ٤٢.

(٥) المعتبر : ١٥. (٦) التذكرة ١ : ٢٦.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤. (٨) الهداية ـ للصدوق ـ : ٧١ قال : « وإن ذابت فيها فأربعون دلوا إلى خمسين دلوا ». (٩) حكى عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١١٠.

(١٠) مختلف الشيعة ١ : ٢٠٩. (١١) المقنعة : ٦٧ والنهاية ١ : ٢٠٨.

(١٢) الكافي في الفقه : ١٣٠. (١٣ و ٢١) المراسم العلويّة : ٣٥.

(١٤) المهذّب ١ : ٢٢. (١٥ و ٢٠) الوسيلة : ٦٩ و ٧٥.

(١٦) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣٧. (١٧) البيان : ١٠٠. (١٨) النهاية ١ : ٢٠٨.

(١٩) المبسوط ١ : ١٢. (٢٢) إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة) ٢ : ٣.

(٢٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٥٩. (٢٤) منتهى المطلب ١ : ٧٩.

(٢٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩. (٢٦) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٧.

(٢٧) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٢٨) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١٢).

٦٦٢

وأمّا اعتبار الرطوبة أو أحد الأمرين منها ومن الذوبان فلعلّه على خلاف النصّ ، وتوجيهه بلزوم الذوبان للعذرة الرطبة عادة ممّا يؤدّي إلى عراء اعتبار الرطوبة مع الذوبان ، والعطف بينهما بكلمة « أو » يمنع عن اعتبار كونه للتفسير ، وكيف كان فلا دليل على الاكتفاء بمجرّد الرطوبة ما لم يصادفها الذوبان ، وعليه فلو وقعت العذرة رطبة من دون أن تذوب فأخرجت لزمها نزح عشرة عملا بإطلاق النصّ.

والظاهر من إطلاق العذرة أيضا عدم الفرق بين الكبير والصغير ، ولا بين الذكر والانثى ، ولا بين العاقل والمجنون ، ولا بين المسلم والكافر ، إلّا أن يدّعى الانصراف ، فيكون عذرة الكافر حينئذ مندرجة في غير المنصوص ، كما جزم به بعض مشايخنا (١) وأمّا مقدارها فالظاهر أنّه لا حدّ له ، بل يكفي مسمّاه عرفا ما لم يدخل من جهة القلّة فيما لا يتناوله الإطلاق كحبّة من خردل ، غير أنّه لا يجدي في سقوط المقدّر المذكور حيث أنّه لا تقدير لقليلها كذلك ، وإلحاقه بما لا نصّ فيه يبطله الأولويّة إن قلنا فيه بنزح الجميع ، نعم على القولين الآخرين لا يبعد اعتبار مقدّريهما.

والأحوط اعتبار مقدّر الكثير وهو الخمسون ، أو هو والأربعون تخييرا ، ولم نقف من الأصحاب على كلام في هذا الفرع سوى ما نسب إلى المحقّق البهبهاني في شرحه للمفاتيح قائلا : « ولا حدّ لمقدار العذرة ، بل يكفي مسمّاه عرفا بأن يكون فردا متبادرا لقوله عليه‌السلام : « فإن ذابت » ، فلا يكفي كونها قدر حبّة من خردل وأقلّ منه ، وعلى القول بالانفعال لعلّه يكفي لانفعال البئر به واحتياجها إلى مطهّر شرعي ، وهو منحصر في النزح عند القائل به ، فبنزح الخمسين يحصل الطهارة البتة بخلاف ما هو أقلّ منه » (٢).

ثمّ إنّ لهم في اعتبار ذوبان الجميع أو كفاية ذوبان البعض كلاما ، فقيل بالأوّل لأنّ الرواية أسندت الذوبان إلى العذرة الواقعة في البئر ، وهو إنّما يحصل بذوبان الجميع ، وقيل بالثاني لعدم اعتبار القلّة والكثرة ، فلو سقط مقدار البعض الذائب منفردا وذاب كان كافيا في التأثير ، فانضمام الغير إليه لا يمنعه عن التأثير ، وهذا أوجه كما أنّ الأخذ بموجبه أحوط.

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٢٦.

(٢) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط).

٦٦٣

وثانيهما : كثير الدم الّذي مثّلوه بدم ذبح الشاة ، وفي عبارة محكيّة عن السرائر (١) تحديد أقلّ الكثير بدم الشاة ، وتحديد قليل الدم بما نقص عن دم الشاة ، وعن القطب الراوندي (٢) ملاحظة الكثرة والقلّة بالإضافة إلى ماء البئر كثرة وقلّة ، فتختلفان باختلافهما فيه ، خلافا للمشهور المحكيّ عنهم ملاحظة الكثرة بالإضافة إلى نفس الدم ، وقد تقيّد الكثرة بالعرفيّة.

وفي الجميع نظر لخلوّها عن المستند ، وعدم ورود الحكم في النصوص منوطا بلفظي « الكثير » و « القليل » حتّى ينظر في مفهوميهما ، والقول بأنّ المراد من الكثير ما ظهر من مورد الرواية في مقابل القليل وهما بالنسبة إلى الدم نفسه ، واضح الدفع ، بأنّ : مورد الرواية على ما فهموا منه الكثير ليس إلّا ذبح الشاة ، وعلى ما فهموا منه القليل ليس إلّا ذبح الدجاجة ، أو دم رعاف ، على ما في رواية عليّ بن جعفر الآتية (٣).

وفيه أوّلا : عدم قضاء الرواية بالخمسين تعيينا ولا تخييرا ، حتّى يقال بإناطته بالكثرة المفهومة من مورد الرواية.

وثانيا : عدم قضائها بوقوع دم الشاة المذبوحة بأجمعه في البئر ، حتّى يجعل ذلك ميزانا لمعرفة مناط الحكم ، بل المتأمّل في مورد السؤال يعطي وقوع البعض المطلق أو القليل منه فيها ، كما أنّ ذلك هو المفهوم من سؤال الدجاجة ، ثمّ أنّه على تقدير انفهام الكثرة عن مورد تلك الرواية فهي كثرة إضافيّة بالقياس إلى مقابلة دم الدجاجة ، وذلك لا يوجب أصلا كلّيّا مطّردا في جميع أنواع الدم الكثير حتّى ما كان منه دم إنسان أو ثور أو بعير أو نحو ذلك ، فالتعدّي حينئذ ممّا لا مسوّغ له إلّا القياس المبنيّ على استنباط ظنّي بل وهمي ، وهو كما ترى.

فما عن السرائر من أنّه : « ينزح لسائر الدماء النجسة من سائر دماء الحيوانات سواء كان مأكول اللحم أو غيره ، نجس العين أو غيره ، ما عدا دم الحيض والاستحاضة والنفاس إذا كان الدم كثيرا ، وحدّ أقلّ الكثير دم شاة خمسون دلوا ، وللقليل منه وحده ما نقص عن دم شاة عشرة دلاء بغير خلاف ، إلى آخره » (٤) ، ممّا لم يعرف له مستند ، ولو

__________________

(١ و ٤) السرائر ١ : ٧٩.

(٢) نقله عنه الشهيد في روض الجنان : ١٥٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٩٣ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٨.

٦٦٤

كان مبناه على ما ذكر فليس إلّا قياسات في قياس ، وكيف كان فالحكم المذكور لكثير الدم موصوف في كلامهم بكونه مشهورا.

وعن جماعة كشرح الفاضل على القواعد (١) ، والكفاية (٢) ، والذكرى (٣) ، والرياض (٤) ، والمجمع (٥) نقل الشهرة عليه ، وعن الغنية (٦) الإجماع عليه ، وفي العبارة المتقدّمة من (٧) السرائر نفي الخلاف عنه ، وحكاه في المنتهى (٨) وغيره عن الشيخ في النهاية (٩) والمبسوط (١٠) ، لكن أضاف إليه العشرة للقليل.

وفي المسألة مع ذلك أقوال اخر :

منها : ما عن المفيد في المقنعة (١١) من أنّ لكثير الدم عشر دلاء ولقليله خمس دلاء.

ومنها : ما عن الصدوق (١٢) من وجوب ثلاثين إلى ربعين في الكثير ودلاء يسيرة في القليل ، وعن المعتبر (١٣) أنّه مال إليه ، وعن الشهيد في الذكرى (١٤) أنّه حسّنه ، وعن الفاضل الهندي أنّه قرّبه ، قائلا : « بأنّه لا يخلو عن قرب » (١٥).

لأنّ المرويّ صحيحا عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام في رجل ذبح شاة فاضطربت فوقعت في البئر ، وأوداجها تشخب دما؟ قال : « ينزح منها ما بين ثلاثين إلى أربعين » (١٦) وطرح هذا الصحيح لأجل الشهرة والإجماع المدّعى في الغنية ، وعدم الخلاف المدّعى في السرائر ، مع مخالفة المشايخ الأربعة من القدماء والفاضلين والشهيدين من المتأخّرين في غير محلّه ، نعم العمل بالمشهور أحوط » (١٧).

ومنها : ما عن المرتضى في المصباح (١٨) من أنّ الدم فيه ما بين الدلو الواحدة إلى عشرين ، وأمّا روايات الباب فعدّة أخبار لا بأس بإيرادها جميعا.

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣٢٩.

(٢) كفاية الأحكام : ١٠.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤. (٤) رياض المسائل ١ : ١٥٦.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٧١. (٦) غنية النزوع : ٤٨.

(٧) السرائر ١ : ٧٩. (٨) منتهى المطلب ١ : ٧٩.

(٩) النهاية ١ : ٢٠٩. (١٠) المبسوط ١ : ١٢.

(١١) المقنعة : ٦٧. (١٢) الفقيه ١ : ٢٠ / ٢٩.

(١٣) المعتبر : ١٥. (١٤) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤.

(١٥) كشف اللثام ١ : ٣٣٠ وفيه : « وهو الأقرب » بدل « لا يخلو عن قرب ».

(١٦) الوسائل ١ : ١٩٣ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(١٧) لاحظ كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٣٣٠.

(١٨) حكاه عنه في المعتبر : ١٥.

٦٦٥

منها : الصحيحة المشار إليها في كلام الفاضل ، وهي على ما في الاستبصار عن عليّ بن جعفر ، قال : سألته عن رجل ذبح شاة فاضطربت فوقعت في بئر ماء وأوداجها تشخب دما هل يتوضّأ من تلك البئر؟ قال : « ينزح منها ما بين الثلاثين إلى الأربعين دلوا ويتوضّأ ولا بأس به ».

قال : وسألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر هل يصلح أن يتوضّأ منها؟ قال : « ينزح منها دلاء يسيرة ثمّ يتوضّأ منها ».

وسألته عن رجل يستقي من بئر فرعف فيها هل يتوضّأ منها؟ قال : « ينزح منها دلاء يسيرة » (١).

ومنها : ما تقدّم في المسألة الاولى من رواية كردويه ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم ، أو نبيذ مسكر ، أو بول ، أو خمر؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا » (٢).

ومنها : ما تقدّم أيضا في المسألة المذكورة من رواية زرارة قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر؟ قال : « الدم والخمر والميّت ولحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ينزح منه عشرون دلوا » (٣) إلى آخره.

ومنها : ما تقدّم في المسألة الثالثة من رواية عمّار المتضمّنة لقوله : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر؟ فقال : « ينزح منها دلاء ، هذا إذا كان ذكيّا » (٤) إلى آخره.

ومنها : ما تقدّم في أدلّة القائلين بنجاسة البئر بالملاقاة من رواية ابن إسماعيل ابن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء ، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم ، أو يسقط فيها شي‌ء من العذرة كالبعرة ونحوها ، ما الّذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه‌السلام بخطّه في كتابي : « ينزح دلاء منها » (٥).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٩٣ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الاستبصار ١ : ٤٤ / ١٢٣.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٢ و ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٨ و ٦٩٧.

(٤) الوسائل ١ : ١٩٤ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٥.

٦٦٦

وأنت خبير بأنّ هذه الروايات لا ينطبق شي‌ء منها على شي‌ء من الأقوال المتقدّمة حتّى قول الصدوق أيضا ، لأنّ قضيّة ذلك القول دخول الثلاثين في التحديد القاضي بجواز الاكتفاء به ، وما يمكن توهّم انطباقه عليه من الروايات إنّما هو صحيحة عليّ بن جعفر ـ على ما فهمه الفاضل ـ (١) وهي كما ترى ظاهرة في الخروج ، وكون العبرة بما بين الثلاثين والأربعين من الأعداد ، وأقصى ما يتكلّف في ذلك إدراج الطرف الثاني وهو الأربعون في الحدّ ، بناء على أنّ التقييد بالغاية ظاهر في دخول الغاية في المغيّى ، وأمّا الطرف الأوّل فلا مقتضي لاندراجه بحسب الدلالة اللفظيّة ، وادّعاء فهم العرف للدخول غير مسموع ؛ والمفروض أنّه لا أولويّة في البين أيضا لتوجب ظنّ الدخول ، وكون مستند دخوله الإجماع ينفيه الخلاف الفاحش المتقدّم ومخالفة المشهور.

وأمّا ما قيل في الاحتجاج للمفيد بمكاتبة ابن بزيع الحاكمة بنزح دلاء ، من أنّ أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة فيجب أن يؤخذ به ويصير إليه ، إذ لا دليل على ما دونه ، على ما حكي عن الشيخ (٢) من هذا التقرير للاحتجاج.

ففيه : ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلعدم انطباق مورد الرواية على القول المذكور ، مع عدم تبيّن وجه الحكم في تعيّن الخمس لقليل الدم ، نظرا إلى أنّ السؤال مفروض في القطرات المنبئة عن القلّة ، وتعيّن العشرة في ذلك القول مفروض في الكثير.

وأمّا ثانيا : فلمنع الاختلاف في مفاد صيغ الجمع في نظر العرف على ما قرّر في محلّه ، وما عليه النحاة من الفرق بين جموع القلّة وجموع الكثرة بكون أقلّ الأوّل ثلاثة وأكثره عشرة وهي أقلّ الثاني اصطلاح لا شاهد عليه ، بل العرف شاهد بخلافه ، فلا يعدل عنه في خطابات الشرع ، ومقتضاه الاقتصار على الثلاثة في الجميع عملا بالإطلاق القاضي بكفاية أقلّ المراتب.

وأمّا ثالثا : فلمنع كون لفظة « الدلاء » من جموع القلّة على ما هو مضبوط عندهم ، ومع كونه من جموع الكثرة فقضيّة البناء على الفرق المذكور كون العشرة أقلّ عدد يضاف إلى هذا الجمع لا أكثره.

وأمّا رابعا : فلمنع تعيّن الحمل على الأكثر بعد تسليم المقدّمتين ، بل القاعدة تقتضي

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣٢٩.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٥.

٦٦٧

الاكتفاء بالأقلّ كما عرفت ، ومن هنا لو ذهب الوهم إلى اعتبار ذلك مستندا لقول الشيخ بالعشرة في القليل ـ كما تقدّم عنه في النهاية (١) والمبسوط ـ (٢) وهو الّذي نسب إلى المشهور أيضا في بعض المسائل الآتية بدعوى : أنّ هذا العدد أقلّ ما يضاف إلى جمع الكثرة ، لاتّجه المنع إليه بابتنائه على الفرق المتقدّم منعه.

وبالجملة : أقوال المسألة لا يخلو عن اضطراب وتشويش ، حيث لا مستند لشي‌ء منها يكون واضح الدلالة على المطلق حتّى المشهور ، وإن حكي عليه الإجماع والشهرة ، لأنّهما ما لم يوجبا أو لم يقترنهما ما يوجب الاطمئنان لا عبرة بهما ، ومع ذلك فهو الأحوط لكونه أجمع الأقوال بعدم خروج شي‌ء منها عنه.

ويمكن تأييده بما عرفت من مصير الشيخ في النهاية إليه ، بناء على أنّه بمنزلة الرواية المرسلة لما اعترف به من أنّه لا يفتي فيها إلّا بمتون الروايات (٣) ، فالمصير إليه حينئذ أولى عملا بالاحتياط.

ثمّ إنّ إطلاق الأصحاب يقضي بشمول الحكم لدم نجس العين ، بل هو صريح ما تقدّم عن ابن إدريس (٤) ، غير أنّ التأمّل في ظاهر الروايات ولو من جهة الانصراف ممّا يعطي خلافه ، فالأولى على القول بوجوب نزح الجميع في غير المنصوص إلحاقه به ، وإلّا فإلحاقه بغيره من الدماء مع البناء فيها على المشهور أولى وأحوط ، وعلى قياسه الدماء الثلاث الّتي قد عرفت عن الحلّي (٥) التصريح باستثنائها من عنوان المسألة ، والله العالم.

المسألة الخامسة : فيما ينزح له أربعون دلوا ، وقد اختلفت كلمة الأصحاب في ضبط ذلك وحصره عددا ، ففي شرائع المحقّق : « أنّه لموت الثعلب ، والأرنب ، والخنزير ، والسنّور ، والكلب ، وشبهه ، وبول الرجل » (٦).

وفي المنتهى (٧) عزاه في الجميع مع زيادة « الشاة » إلى الشيخين ، ثمّ نسب إلى السيّد أنّه وافقهما في الكلب وبول الرجل ، وإلى ابن بابويه أنّه وافقهم في البول.

ووافقهم في الجميع إلّا زيادة لفظة « شبهه » الشهيد في الدروس (٨) واللمعة (٩) ، وعن

__________________

(١ و ٣) النهاية ١ : ٧ و ٢٠٩.

(٢) المبسوط ١ : ١٢.

(٤) السرائر ١ : ٧٩. (٥) السرائر ١ : ٧٩.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ١٣. (٧) منتهى المطلب ١ : ٢٨.

(٨) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٩) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣٨ ولكن اضيف فيه إلى المذكورات قوله : « وشبه ذلك » ويحتمل كونه ـ

٦٦٨

السرائر (١) زيادة الشاة ، والغزال ، وابن آوى ، وابن عرس ، على ما عرفت عن الشرائع ثمّ قال : « وما أشبه ذلك في مقدار الجسم على التقريب » (٢).

وعن الغنية (٣) الإجماع على المذكورات وأشباهها ، وفي الروضة (٤) ـ كما عن شرح المفاتيح ـ (٥) جعل الحكم مشهورا ، وعن الذكرى (٦) أنّ الحكم في الكلب والسنّور مشهور ، وعن الكفاية (٧) شهرته في الكلب والسنّور ، قال الصدوق في الفقيه : « فإن وقع فيها كلب نزح منها ثلاثون دلوا إلى أربعين دلوا ، فإن وقع فيها سنّور نزح منها سبع دلاء » ـ إلى أن قال ـ : « وإن بال فيها رجل استقى منها أربعون » ـ إلى أن قال ـ : « وإن وقعت شاة وما أشبهها في بئر ينزح منها تسعة دلاء إلى عشرة دلاء » (٨).

وعنه في المقنع : « إن وقع فيها كلب أو سنّور فانزح ثلاثين دلوا إلى أربعين ، وقد روى سبع دلاء » (٩).

ومستند المشهور في غير بول الرجل ـ على ما في كلام غير واحد ـ روايتان ، إحداهما : موثّقة سماعة ـ المرويّة في التهذيبين ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال : « إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء ، وإن كانت سنّورا أو أكبر منه نزحت منها ثلاثين دلوا أو أربعين دلوا » (١٠).

اخراهما : رواية القاسم عن عليّ المرويّة فيهما أيضا ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء » قال : وسألته عن الطير والدجاجة تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء ، والسنّور عشرون ، أو ثلاثون ، أو أربعون دلوا ، والكلب وشبهه » (١١).

ولا يذهب عليك أنّ هذه الرواية كسابقتها إنّما تقتضي الأربعين على جهة التخيير ، وهو ينافي التعيين الّذي صار إليه الجماعة ، ولكن ظاهرهم أنّهم إنّما صاروا إليه من

__________________

ـ من كلام الشهيد الثاني رحمه‌الله فاشتبه بكلام الماتن فادخل في المتن ـ والله العالم.

(١ و ٢) السرائر ١ : ٧٦.

(٣) غنية النزوع : ٤٩.

(٤) الروضة البهيّة ١ : ٣٨.

(٥) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٦.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ٩٥.

(٧) كفاية الأحكام ١ : ١٠. (٨) الفقيه ١ : ٢١. (٩) المقنع : ٣٠.

(١٠ و ١١) الوسائل ١ : ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ و ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٦ و ٢٣٥ / ٦٨١ و ٦٨٠ ـ الاستبصار ١ : ٣٦ / ٩٨ و ٩٧.

٦٦٩

جهة الاستصحاب كما هو صريح البعض ، أو لمراعاة الاحتياط خروجا عن شبهة الخلاف ، وعملا بجميع ما ورد في هذا الباب من الأخبار ، وإن شئت فانظر إلى كلام الشيخ في التهذيب في وجه الاحتجاج بالروايتين ، قائلا : « وليس لأحد أن يقول : كيف عملتم على أربعين دلوا في السنّور والكلب وشبههما ، وفي الدجاجة والطير على سبع دلاء ، وفي هذين الخبرين ليس القطع إلى أربعين دلوا ، بل إنّما يتضمّن على جهة التخيير ، وهلّا عملتم بغير هذين الخبرين ممّا يتضمّن نقصان ما ذهبتم إليه؟ لأنّا إذا عملنا على ما ذكرناه من نزح أربعين دلوا ممّا وقع فيه الكلب وشبهه ، و [نزح] سبع دلاء ممّا وقع فيه الدجاج وشبهه ، فلا خلاف بين أصحابنا في جواز استعمال ما بقي من الماء ، ويكون أيضا الأخبار تتضمّن الأقلّ من ذلك داخلة في جملته ، وإذا عملنا على غير ذلك نكون دافعين لهذين الخبرين جملة وصائرين إلى المختلف فيه ، فلأجل هذا عملنا على نهاية ما وردت به الأخبار » (١).

واعتذر بمثل ذلك في الاستبصار (٢) ، وأضاف فيه التعليل : بأنّ العمل بالخبرين ممّا يوجب العلم بزوال النجاسة ، ولا يحصل مع العمل على غيرهما ، وعلى هذا فيظهر ثمرة الاستدلال بالخبرين في نفي اعتبار ما زاد على أربعين ، لأنّه أقصى ما ورد به النصّ ، وحينئذ فلا إشكال ظاهرا.

نعم ، يبقى الكلام في جواز الاعتماد على الرواية الثانية باعتبار سنده الّذي هو بنفسه ضعيف بواسطة القاسم بن محمّد ، وعليّ بن أبي حمزة ، ولذا وصفه في المنتهى (٣) بالضعف تعليلا بكون الرجلين واقفيّين ، ولكن الخطب في ذلك بعد ملاحظة انجباره بالشهرة وبعمل من لا يعتمد على أخبار الآحاد كالحلّي (٤) ، مع ما ستعرفه في عليّ ، ممّا يوجب الاطمئنان به ، مع أنّ تعويل الشيخ عليه من أمارات الاعتبار عندهم.

وممّا بيّنّاه من ظاهر دلالة الخبرين ظهر وجه الاختلاف بينهم وبين الصدوق ، فإنّ ظاهره أنّه أخذ بظاهر التخيير من دون التفات إلى احتياط وغيره ، مع ظهور كون مستنده الموثّقة أو ما هو نظيرها في الاقتصار على ما يشمل الكلب والسنّور ، لكنّه مع

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٦ الحديث ٦٨١.

(٢) الاستبصار ١ : ٣٧.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٨٣.

(٤) السرائر ١ : ٧٦.

٦٧٠

إشكال في دعوى الانحصار لا ينطبق إلّا على فتواه في المقنع (١) ، وأمّا فتواه في « الشاة » ـ على ما عرفته عن الفقيه ـ (٢) فقيل : إنّ مستنده رواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه ، أنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : « الدجاجة ومثلها يموت في البئر نزح منها دلوان [أ] وثلاثة ، فإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة أو عشرة » (٣).

وهذه الرواية مع روايات اخر قد خرجت على خلاف المذهب المشهور ، ولأجل ذا سقطت عن الاعتبار ، سيّما الروايات الاخر الّتي لا عامل بها أصلا ، وهي الّتي بين ما دلّ على وجوب نزح الجميع كرواية عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سئل عن بئر يقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير؟ قال : « تنزف كلّها » (٤) ، وحملها الشيخ (٥) على صورة التغيّر.

وما دلّ على نزح دلاء كرواية الفضل البقباق ، قال : قال : أبو عبد الله عليه‌السلام في البئر يقع فيها الفأرة ، أو الدابّة ، أو الكلب ، أو الطير ، فيموت ، قال : « يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ثمّ يشرب منه ويتوضّأ » (٦).

ورواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن البئر يقع فيها الحمامة ، والدجاجة ، أو الفأرة ، أو الكلب ، أو الهرّة؟ فقال : « يجزيك أن تنزح منها دلاء ، فإنّ ذلك يطهّره إن شاء الله تعالى » (٧).

وفي معناهما روايات اخر ، وحملهما الشيخ على إرادة بيان الحكم لبعض المذكورات كالفأرة والطير ، أو أنّ الدلاء جمع كثرة وهو ما زاد على عشرة فلا يمتنع أن يكون المراد به أربعين.

وما دلّ على كفاية السبع كرواية عمرو بن سعيد بن هلال ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة والسنّور إلى الشاة؟ فقال : « كلّ ذلك نقول سبع دلاء » (٨) إلى آخره ، وما دلّ على كفاية الخمس كرواية أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الفأرة ، والسنّور ، والدجاجة ، والكلب ، والطير ، قال : « فإذا لم يتفسّخ ، أو يتغيّر طعم الماء ، فيكفيك خمس

__________________

(١) المقنع : ٣٠. (٢) الفقيه ١ : ٢١. (٣) الوسائل ١ : ١٨٦ ب ١٨ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٣. (٤ و ٦ و ٧) الوسائل ١ : ١٨٤ و ١٨٢ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ و ٦ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٢ و ٢٣٧ / ٦٩٩ و ٦٨٥ و ٦٨٦.

(٥) التهذيب ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩.

(٨) الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٧٩.

٦٧١

دلاء » (١) وحملها الشيخ على نظير ما سبق من إرادة بيان الحكم لبعض المذكورات.

ولا يخفى أنّ اختلاف هذه الروايات وغيرها من روايات البول قرينة واضحة على المختار من عدم نجاسة البئر وعدم وجوب نزحها ، لأنّ الاستحباب هو الّذي لا ينافيه هذا الاختلاف ، لاختلاف مراتب الفضل والرجحان.

وأمّا الحكم في بول الرجل فقد أسنده في المدارك (٢) إلى الخمسة وأتباعهم ، وعن الغنية (٣) والسرائر (٤) الإجماع عليه ، ومستنده الرواية المرويّة ـ في التهذيبين ـ عن عليّ ابن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن بول الصبيّ الفطيم يقع في البئر؟ فقال : « دلوا واحدة » ، قلت : بول الرجل؟ قال : « ينزح منها أربعون » (٥).

والرواية واضحة الدلالة على المطلوب ، غير أنّه قد يستشكل بالنظر إلى سندها من جهة عليّ بن أبي حمزة المجروح عندهم ، المرميّ بالوقف ، لكن الخطب فيه أيضا سهل بعد ملاحظة الانجبار بالشهرة كما صرّح به جماعة منهم المحقّق ـ على ما حكي ـ قائلا : « إنّها مجبورة بعمل الأصحاب » (٦).

وعن المنتهى : « أنّ عليّ بن حمزة لا يعوّل على روايته ، غير أنّ الأصحاب قبلوها وبذلك يطرح ما يعارضها من الأخبار » (٧).

وفي حاشية المدارك ـ للمحقّق البهبهاني ـ : « أنّ الشيخ ادّعى إجماع الإماميّة على العمل برواية عليّ بن أبي حمزة ، مضافا إلى أنّ هذه الرواية منجبرة بالشهرة » (٨).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٤.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٢ ـ والمراد بالخمسة هم والد الصدوق والسيّد ، نقله عنهما في المعتبر ١٦.

والصدوق كما في الفقيه ١ : ١٧ ، والهداية ٣٠ ؛ والمفيد في المقنعة ٦٧ ؛ والشيخ كما في التهذيب ١ : ٢٤٣ ؛ والمبسوط ١ : ١٢ ؛ والنهاية : ٧. والمراد باتباعهم هما أبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠ ؛ والسلّار في المراسم العلويّة : ٣٥.

(٣) غنية النزوع : ٤٩.

(٤) السرائر ١ : ٧٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٨١ ب ١٦ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٣ / ٧٠٠ ـ الاستبصار ١ : ٣٤ / ٩٠.

(٦) المعتبر : ١٦.

(٧) منتهى المطلب ١ : ٨٦ وعبارة : « وبذلك يطرح ما يعارضها من الأخبار » لا يوجد في المنتهى ، بل هو من كلام الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٣١ الّذي نقل عنه المصنّف رحمه‌الله عبارة المنتهى ، ـ كما يظهر بالتتبّع ـ وزعم أنّه من تتمّة كلام العلّامة رحمه‌الله.

(٨) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٣٦.

٦٧٢

وعن المحقّق في المعتبر أنّه دفعه ـ مضافا إلى دعوى الانجبار ـ « بأنّ كونه واقفيّا غير قادح في اعتبار روايته ، لأنّ تغيّره إنّما كان بعد موت الكاظم عليه‌السلام فلا يقدح فيما قبله » (١).

واستضعفه في المدارك بأنّ : « العبرة في عدالة الراوي بوقت الأداء لا التحمّل ، ومن المعلوم انتفاء تحقّق ذلك » (٢).

وعن صاحب المعالم نظير ذلك مع وجه آخر ، قائلا : « بأنّ قوله : « ابن أبي حمزة إنّما تغيّر في زمن موسى ، عليه‌السلام » عجيب ، إذ ليس الاعتبار في عدالة الراوي بحال التحمّل بل بحال الرواية ، وكيف يعلم بمجرّد إسنادها إلى الصادق عليه‌السلام أنّ روايته لها وقعت قبل تغيّره؟ وما هذا إلّا محض التوهّم.

مع أنّ الجزم بإرادة ابن أبي حمزة البطائني الّذي هو واقفي لا وجه له ، لاشتراك الاسم بينه وبين ابن أبي حمزة الثمالي ، وأيّ قرينة واضحة على التمييز » (٣).

أقول : لا حاجة إلى قرينة التميّز لكون الثمالي بنفسه ثقة مصرّحا بتوثيقه في كلام غير واحد ، فلا وجه لما ذكره إن أراد به القدح من جهة الاشتراك.

وفي حاشية المدارك ـ للمحقّق المتقدّم ذكره ـ التعرّض لتوجيه كلام المحقّق دفعا للاعتراض المذكور قائلا : « ولعلّ غرض المحقّق أنّ الأصحاب يعملون بروايته مع أنّ عادتهم عدم الاتّفاق على العمل برواية من أنكر الحقّ عنادا ، وأكل أموال الكاظم عليه‌السلام ظلما وعدوانا ، فالظاهر أنّهم إنّما أخذوا الرواية عنه قبل أن يصدر منه ما صدر » (٤).

وقد يوجّه أيضا : « بأنّه لعلّه لأنّ الظاهر أنّ من تحمّل الحديث عن الإمام عليه‌السلام يبادر إلى نقله وروايته لغيره وثبته في كتابه ، والظاهر أنّ من سمعه إنّما سمعه منه قبل موت الكاظم عليه‌السلام ، ويبعد أن يكون قد ترك الرواية من زمان الصادق عليه‌السلام إلى زمان الرضا غير مرويّة ولا مثبتة في الكتاب » (٥).

وفي المسألة قولان آخران.

أحدهما : ما يستفاد من العلّامة في المنتهى قائلا : « والأقرب عندي في العمل الأخذ

__________________

(١) المعتبر : ١٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٢.

(٣) فقه المعالم ١ : ٢٠٧.

(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٣٦.

(٥) الموجّه هو الشيخ الأعظم الأنصاري في كتاب الطهارة ١ : ٢٣١.

٦٧٣

برواية محمّد بن بزيع لسلامة سندها ، ويحمل « الدلاء » في البول على رواية كردويه ، فإنّها لا بأس بها » (١).

ومراده من رواية محمّد بن بزيع الصحيحة ـ المتقدّمة مرارا ـ المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « ينزح منها دلاء » (٢) وبرواية كردويه ما تقدّم من قوله سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم ، أو نبيذ مسكر ، أو بول ، أو خمر؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا » (٣).

ولعلّ الحمل الّذي اعتبره بين الروايتين مبنيّ على توهّم عطف البول في رواية كردويه على المضاف في « قطرة دم » دون المضاف إليه ، وإلّا لم يكن لحمل « دلاء » الصحيحة على ثلاثين دلوا [وجها] (٤) لاختصاصه بالقطرة ، ومع ذلك فأصل القول شاذّ لا عبرة به.

وثانيهما : ما استظهره صاحب المدارك (٥) من نزح دلاء للقطرات من البول مطلقا ، لصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام (٦) ، ونزح الجميع لانصبابه فيها مطلقا ، لصحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام في البئر يبول فيها الصبي ، أو يصبّ فيها بول ، أو خمر؟ فقال : « ينزح الماء كلّه » (٧).

ويظهر الميل إليه من صاحب المعالم أيضا ، قائلا ـ في كلام محكيّ له ـ : « المتّجه العمل بصحيحة معاوية بن عمّار في الكثير ، لدلالة الانصباب عليه ، وبصحيحة محمّد بن إسماعيل في القليل ، لظهور القطرات فيه ، إلّا أن يتحقّق إجماع على خلافه ، لا مجرّد عدم ظهور القائل به كما يقال » (٨).

وهذا أيضا كسابقه في الشذوذ المسقط للاعتبار.

(فروع) أحدها : إذا عرفت أنّ مورد النصّ والفتوى هو الرجل ، وهو ظاهر في الذكر البالغ ، تعلم أنّ الحكم لا يتناول المرأة ، فحصل الفرق إذن بينهما ، وهو المحكيّ عن

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٨٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٨.

(٤) زيادة يقتضيها السياق.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٨٢.

(٦) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١.

(٧) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٦.

(٨) فقه المعالم ١ : ٢٠٨ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

٦٧٤

الأكثر المصرّح به في كلام جماعة.

لكن المرويّ عن السرائر (١) عدم الفرق تعليلا : بأنّ الأخبار متواترة من الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام على أنّه ينزح لبول الإنسان أربعون دلوا ، وظاهره الشمول للمرأة فضلا عن الصغير ، قيل : وهو المحكيّ عن التحرير (٢) ، بل وعن الغنية (٣) ، والإصباح (٤) والإشارة (٥)

قيل : وفي شرح المفاتيح (٦) وغيره نقل الإجماع عن ابن زهرة عليه ، قال في المنتهى : « لا فرق بين بول المرأة والرجل ، إن عملنا برواية محمّد بن بزيع أو رواية كردويه ، وإن عملنا برواية عليّ بن أبي حمزة حصل الفرق ، وابن إدريس لم يفرّق بينهما من مآخذ اخر ، قال : لأنّها إنسان ، والحكم معلّق عليه معرّفا باللام الدالّ على العموم ، ومقدّماته كلّها فاسدة. نعم لا فرق في المرأة بين الصغيرة والكبيرة في وجوب الأربعين » (٧).

وعن المعالم : « وعلى ما ذكرناه ـ من العمل بروايتي معاوية بن عمّار ، ومحمّد ابن إسماعيل ـ لا فرق بينهما ، لإطلاق البول في الروايتين » (٨).

وعن المعتبر الاعتراض على ما ذكره ابن إدريس ، قائلا : « نحن نسلّم أنّها إنسان ، ونطالبه أين وجد الأربعين معلّقة على بول الإنسان ، ولا ريب أنّه وهم » (٩) ، واستحسنه المحقّق الخوانساري (١٠) تعليلا بعدم وقوفه في الروايات على ما يدلّ عليه.

ثمّ القائلون بالفرق اختلفوا في مقدّر المرأة ، فعن جماعة منهم إلحاقه بما لا نصّ فيه ، وعن المعتبر أنّه أوجب ثلاثين دلوا ، سواء كان من صغيرة أو كبيرة لرواية كردويه ، وحكم باستحباب نزح الجميع لرواية معاوية بن عمّار ، وتنظر المحقّق الخوانساري في القولين بكليهما.

« أمّا الأوّل : فلورود النصّ فيه متعدّدا ، كصحيحتي معاوية بن عمّار ، وابن بزيع

__________________

(١) السرائر ١ : ٧٨.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٣) غنية النزوع : ٤٩٠.

(٤) إصباح الشيعة : ٤.

(٥) إشارة السبق : ٨١ وفيه : « وكذا البول البشري البالغ ».

(٦) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٦ ـ حيث قال : « لكن نقل ابن زهرة الإجماع على أربعين في بول الإنسان وكذلك ابن إدريس محتجّا بتواتر الأخبار في ذلك ».

(٧) منتهى المطلب ١ : ٨٦.

(٨) فقه المعالم ١ : ٢٠٩.

(٩) المعتبر : ١٦. (١٠) مشارق الشموس : ٢٣٠.

٦٧٥

وروايتي كردويه ، إلّا أن يقال : صحيحة معاوية لم يعمل بها الأصحاب في حكم البول فلا عبرة بها ، وقد يقال : إنّ عدم عمل الأصحاب بها إنّما هو في بول الرجل لوجود مخصّص في الخارج ، وذلك لا يستلزم عدم العمل بها في بول المرأة ، إلّا أن يقال : إذا ثبت عدم العمل بها في بول الرجل فالتخصيص ليس بأولى من المجاز ، فليحمل على الاستحباب ؛ وكذا الحال في صحيحة ابن بزيع ، وأمّا روايتا كردويه فإحداهما خارجة عن البحث لاختصاصها بالمخالط بماء المطر ، وأمّا الاخرى فغير نقيّة السند ، فالعمل بها مشكل ، مع أنّ الأصحاب لم يعملوا بمضمونها ، وأيضا أنّها مختصّة ظاهرا بقطرة البول فلا نصّ فيما عداها.

وأمّا الثاني : فلأنّ رواية كردويه لا تصلح للاعتماد عليها مع ظهورها في القطرة ، والّذي يقتضيه النظر أن يكتفى في القليل منه بدلاء لصحيحة ابن بزيع ، مع تأيّدها بالأصل ، وأمّا في الكثير فلا يبعد الاكتفاء بالثلاثين ، لأنّه القدر المتيقّن ولا دليل على الزائد ، والأولى الأربعون ، والأحوط الجميع » (١) ، انتهى ملخّصا. وهذا كما ترى قول آخر اختاره وهو فرق في بول المرأة بعد الفرق بينه وبين بول الرجل بين قليله وكثيره ، فعلم أنّ المسألة ذات أقوال ، وحيث إنّا لا نقول بالنجاسة ولا بوجوب النزح فلا جدوى للتعرّض لجرح هذه الأقوال وتعديلها.

وثانيها : عن ظاهر الأكثر عدم لحوق الخنثى بالرجل ، وعن بعضهم استقرب إلحاقه بما لا نصّ فيه ، وعن المسالك : « والأجود في بول الخنثى وجوب أكثر الأمرين من الأربعين وما يجب لما لا نصّ فيه » (٢).

وفي الروضة ـ بعد إلحاقه بما لا نصّ فيه ـ : « ولو قيل فيما لا نصّ فيه بنزح ثلاثين أو أربعين وجب في بول الخنثى أكثر الأمرين منه ومن بول الرجل مع احتمال الاجتزاء بالأقلّ » (٣) انتهى.

وفي حكم الخنثى الممسوح وهو الّذي ليس له ما للرجال ولا للنساء.

وثالثها : قضيّة إطلاق الرجل في مورد النصّ عدم الفرق فيه بين المسلم وغيره ، كما

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٣٠.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ١٧.

(٣) الروضة البهيّة ١ : ٣٨.

٦٧٦

في الروضة (١) ، وعن المسالك (٢) ، والمهذّب (٣) ، وشرح الفاضل (٤) ، بل عن السرائر (٥) ، والتحرير (٦) ، ونهاية الإحكام (٧) ، أيضا.

وفي المنتهى التصريح به (٨) ، وعن المعالم (٩) ، وشرح المفاتيح (١٠) ، والذخيرة (١١) ، « أنّه ظاهر الأصحاب ».

وفي شرح الدروس للخوانساري : « أنّ المتقدّمين حتّى ابن إدريس القائل بالفرق بين موت المسلم والكافر لم يفرّقوا بينهما في البول ، لتناول العموم لهما ، واحتمل بعض المتأخّرين الفرق لأنّ لنجاسة الكفر تأثيرا ، ولهذا لو وقع في البئر ماء متنجّس بملاقاة بدن الكافر لوجب له النزح ، فكيف يكتفي للبول مع ملاقاته لبدنه بأربعين ، والحكم إنّما هو منوط بنجاسة البول لا بنجاسة الكفر ، وقال : وهذا وارد في سائر فضلاته كعذرته وبوله ، ومثله دم نجس العين » (١٢) انتهى.

وأنت خبير بوهن هذا الكلام وفساد ذلك الاستنباط ، فإنّ أقصى ما ثبت بالدليل من نجاسة الكافر إنّما هو نجاسة ظواهر بدنه لا بواطنه ، ولا سيّما عروقه ومجاري فضلاته ، والبول وما أشبهه إنّما يخرج من الباطن من دون لصوقه لظاهر البدن كما لا يخفى ، ولو فرض الكلام فيما لو لاصق ظاهر البدن اتّفاقا ـ فمع أنّه خارج عن مفروض المسألة ـ يتّجه المنع إلى اقتضاء ذلك تأثيرا من حيث ابتنائه على قبول النجس أو المتنجّس للنجاسة ثانيا ، وهو موضع منع ، خصوصا في النجس بالأصل كالبول والدم وغيرهما من الفضلات ، وقياس ما نحن فيه على الماء المتنجّس بملاقاة بدن الكافر باطل لوضوح الفرق بين المقامين.

ومن هنا يظهر الفرق بين مسألتنا هذه وما تقدّم من مسألة الموت الّذي صرنا فيه

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٣٨.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ١٧.

(٣) المهذّب ١ : ٢٢.

(٤) كشف اللثام ١ : ٣٣٣.

(٥) السرائر ١ : ٧٨.

(٦) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٧) نهاية الإحكام ١ : ٢٥٩.

(٨) منتهى المطلب ١ : ٨٦.

(٩) فقه المعالم ١ : ٢٠٩.

(١٠) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٦ وفيه : « ونسب إلى الأكثر عدم الفرق بين المؤمن والكافر لعموم اللفظ ».

(١١) ذخيرة المعاد : ١٣٣. (١٢) مشارق الشموس : ٢٣٠.

٦٧٧

إلى الفرق بينهما فيما لو وقع الكافر حيّا في البئر ثمّ اتّفق موته فيها.

ومحصّل الفرق : أنّ ماء البئر يلاقيه نجاسة الكفر سابقة على الموت وهي داخلة في غير المنصوص ولا يشملها حكم الموت ، كما سبق تفصيل القول في تحقيقه ، بخلاف المقام الّذي لم يطرأ الموضوع نجاسة اخرى غير النجاسة البوليّة.

فاندفع بذلك ما عن صاحب المعالم قائلا : « والتحقيق : أنّ الحيثيّة معتبرة في الجميع كما أشرنا إليه في مسألة موت الإنسان ، واللازم من ذلك عدم الاكتفاء بالمقدّر لحيثيّته عند مصاحبة اخرى لها ، لما سيأتي من عدم تداخل المنزوحات عند تعدّد أسبابها.

ولا ريب أنّ ملاقاة النجاسة لنجاسة اخرى على وجه مؤثّر يوجب لها قوّة واعتبارا زائدا على حقيقتها ، والدليل الدّال على نزح مقدار مخصوص لها غير متناول لما سواها ، فكيف يكون كافيا عن الجميع بتقدير الاجتماع » (١) انتهى.

ومحصّل الاندفاع : منع اجتماع الحيثيّتين من النجاسة أو نجاستين مؤثّرتين ، حيث لا مقتضى لأحدهما كما عرفت.

المسألة السادسة : فيما ينزح له ثلاثون دلوا ، وهو على ما في كلام غير واحد ماء المطر المخالط للبول ، والعذرة ، وخرء الكلب.

وأصل الحكم مشهور ، ونقل الشهرة عليه إلى حدّ الاستفاضة في كلامهم مذكور ، ومستنده الرواية المرويّة ـ في التهذيبين وغيرهما ـ عن ابن أبي عمير عن كردويه ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول ، والعذرة ، وأبوال الدوابّ وأرواثها ، وخرء الكلاب؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا ، وإن كانت مبخرة » (٢) وضعف الرواية بكردويه لجهالته غير قادح ، بعد ملاحظة قضيّة الانجبار بالشهرة ورواية ابن أبي عمير عنه.

وأمّا ما عن مبسوط الشيخ من أنّه : « متى وقع في البئر ماء خالطه شي‌ء من النجاسات مثل ماء المطر والبالوعة وغير ذلك ، نزح منها أربعون دلوا للخبر » (٣) فاسد مخالف للنصّ والفتوى ، والخبر المشار إليه ممّا لم يعرف له أثر.

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ٢١٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٨١ ب ١٦ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠٠ الاستبصار ١ : ٤٣ / ١٢٠.

(٣) المبسوط ١ : ١٢.

٦٧٨

ومثله في الشذوذ ما عن الفقيه (١) بدل « ماء المطر » « ماء الطريق » ، إلّا أن ينزّل إلى إرادة ماء المطر لأنّه الغالب ، وكيف فالتعدّي عن مورد النصّ غير سائغ ، وإلحاق غير المنصوص هنا كالمطر المخالط بغير ما ذكر من النجاسات ، والماء المخالط لها ولغيرها بغير المنصوص المخصوص بحكم آخر متعيّن ، إن لم يفهم من دليل مقدّر كلّ نجاسة منفردة شموله لها مختلطة.

ولعلّه إلى ذلك ينظر ما عن السرائر من « أنّ ما في المبسوط غير واضح ولا محكيّ ، بل تعتبر النجاسة المخالطة للماء [الواقع في ماء البئر] ، فإن كانت منصوصة [عليها] أخرج المنصوص [عليها] ، وإن كانت غير منصوصة دخلت في قسم غير المنصوص ، والصحيح من المذهب والأقوال المقصودة (٢) بالإجماع والنظر والاعتبار والاحتياط نزح جميع ماء البئر ، ومع التعذّر التراوح » (٣) انتهى.

وقضيّة ما عرفت عدم التعدّي عن حكم النصّ إلى ما لو انضمّ إلى المذكورات غيرها ، أو وقع الغير بدل بعضها ، ولمّا كان النصّ ظاهرا في اعتبار وقوع جميع المذكورات فقد يشكل الحال لو فقد بعضها ، لكن في كلام غير واحد ـ كما عن الشيخ عليّ في شرحه للقواعد (٤) ، وشرح الدروس (٥) ، وغيرهما ـ الاقتصار على حكم الجميع بالطريق الأولى.

وللتأمّل في أمثال هذه الأولويّة مجال واسع ما لم تكن عرفيّة ، والأقرب ملاحظة حال النصّ الوارد في مقدّر النجاسة المختلطة إذا وقعت منفردة ، فإن تناولها مختلطة وإلّا فالإلحاق بغير المنصوص ، من غير فرق في جميع ما ذكر بين كون مقدّر البعض المختلط مساويا للثلاثين أو زائدا عليه أو ناقصا منه.

وقد يقال في الأخير : بالاقتصار على المقدّر الأقلّ من ثلاثين إن كان ، ويدّعى عليه الأولويّة أيضا بالإضافة إلى حالة الانفراد وإن كان الأحوط اعتبار الثلاثين ، وفي

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢ / ٣٥.

(٢) والصواب : « المعتضدة » كما قال في السرائر : « فالصحيح من المذهب والأقوال الّذي يعضده الإجماع » الخ.

(٣) السرائر ١ : ٨١ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٤٢.

(٥) مشارق الشموس : ٢٣١.

٦٧٩

الروضة أطلق القول بأنّ الحكم معلّق على الجميع فيجب لغيره مقدّره أو الجميع إن لم يكن له مقدّر ، الأقرب بالاحتياط هو ما ذكرنا.

ثمّ إنّ هاهنا إشكالا معروفا أورده بعضهم على أصل المسألة ، وهو : أنّ ترك الاستفصال عن النجاسات المذكورة يقتضي [تساوي] جميع محتملاتها في الحكم ، فيستوي حال العذرة رطبة ويابسة ، وحال البول إذا كان بول رجل أو غيره ، وقد حكموا بنزح خمسين للعذرة الرطبة ، وأربعين لبول الرجل مع انفراد كلّ منهما ، فكيف تجتزئ بالثلاثين مع انضمام أحدهما إلى الآخر ، وانضمام غيرهما إليهما ، وهو مقتض لزيادة النجاسة وتضاعفها.

واجيب عنه تارة : بإمكان تنزيل الرواية على ماء المطر المخالط لهذه النجاسات مع استهلاك أعيانها.

وردّ : بأنّه على تقدير الاستهلاك لا يبقى فرق بين ماء المطر وغيره وقد فرّقوا.

واخرى : بجواز استناد الحكم إلى التخفيف المستند إلى مصاحبة ماء المطر كما عن المسالك (١).

وثالثة : بأنّ الاستبعاد غير مسموع في مقابلة النصّ ، خصوصا مع ملاحظة ابتناء أحكام البئر ـ بل الأحكام الشرعيّة مطلقا ـ على جمع المتباينات وتفريق المتماثلات (٢).

ورابعة : بأنّ هذا الكلام إنّما يتوجّه إذا كان دليل الحكم ناهضا بإثباته وليس الأمر كذلك هاهنا ، نظرا إلى أنّ راوي هذا الحديث أعني « كردويه » مجهول الحال ، إذ لم يتعرّض له الأصحاب في كتب الرجال ، وبما تقدّم ذكره تقدر على دفع ذلك.

المسألة السابعة : فيما ينزح له عشرة دلاء وهو أمران :

أحدهما : العذرة الجامدة ، والمراد بها ما يقابل الذائبة الذائبة المنزوح لها خمسون دلوا على ما تقدّم الكلام فيها مشروحا ، وحيث إنّ الذوبان كان عبارة عن تفرّق الأجزاء وشيوعها في الماء فالجمود كان عبارة عمّا لم تتفرّق أجزاؤه ، بأن تخرج قبل شيوعها ولو بعد صيرورتها متبتلة أو رطبة ، والحكم المذكور لها هو المشهور المحكيّ عليه الشهرة في حدّ الاستفاضة ، المنفيّ عنه الخلاف كما عن السرائر (٣) ، بل المنقول عليه الإجماع عن

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ١٩.

(٢) المجيب بهذا هو صاحب المعالم رحمه‌الله في فقه المعالم ١ : ٢١٨.

(٣) السرائر ١ : ٧٩.

٦٨٠