ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

أنّ النوع الواحد من النجاسة لا يعقل أن يختلف أفراده في اقتضاء بعضها من المطهّر ما يزيد على ما اقتضاه الآخر بمراتب شتّى ، ولو فرضناها متساوية في الوصف والمقدار ، ولازم قولهم بالانفعال هو الاختلاف ، نظرا إلى ما سيأتي في ذيل مسائل النزح من أنّ « الدلو » الوارد في الروايات محمولة عندهم على ما جرت العادة باستعماله في شخص البئر ، ولا ريب أنّه يختلف في الصغر والكبر ، وقد اعتبر في النزح عن بول الرجل مثلا أربعون دلوا بما هو متعارف على البئر الّتي وقع فيها البول ، والمطهّر إمّا الماء المتجدّد ، أو نفس النزح ، وعلى التقديرين يلزم الاختلاف لو فرضنا آبارا متعدّدة وقع في كلّ منها من أفراد بول الرجل ما هو بوصف واحد ، ومقدار واحد.

أمّا على الأوّل : فلأنّه قد يبلغ مجموع أربعين دلوا إلى الكرّ وما فوقه ، وقد يبلغ إلى نصف الكرّ ، وقد يبلغ إلى ثلثه ، وقد يبلغ إلى ربعه وهكذا ، ومنشأ ذلك الاختلاف إنّما هو اختلاف دلاء هذه الآبار في الكبر والصغر ، فرجع حكم النزح حينئذ إلى أن يقول الشارع : ماء هذه البئر لا يطهّر إلّا بكرّ من الماء ، وماء هذه الاخرى يطهّر بنصف الكرّ ، ولا يطهّر بما دونه ، وماء هذه الثالثة يطهّر ثلثه ولا يطهّر بما دونه مع أنّ النجاسة الواقعة في الكلّ هو البول على مقدار واحد في وصف واحد ، ومثل هذا الحكم حزازة لا ينبغي نسبتها إلى جاهل ، فضلا عن الحكيم العادل.

وأمّا على الثاني : فواضح ، أو يتّضح بملاحظة ما ذكرناه على الأوّل.

وأمّا القول بالانفعال مطلقا : فليس عليه إلّا وجوه واضحة الدفع ، غير واضحة الدلالة في أكثرها.

منها : أنّه يقبل النجاسة بالانفعال فيقبلها بالملاقاة ، حكاه العلّامة في المختلف (١) فأجاب عنه أوّلا : « بأنّه قياس لا نقول به ، وثانيا : بإبداء الفارق بين حالتي الانفعال وعدمه ، فإنّ الماء حالة الانفعال مقهور بالنجاسة ، فيبقى الحكم وهو الامتناع من استعماله ثابتا وفي حالة عدم الانفعال كان الماء قاهرا فيبقى حكم الماء وهو استعماله ثابتا ، ومع قيام الفرق بطل القياس ، وثالثا : أنّ المشترك غير صالح للعلّية ، لوجوده في

__________________

(١) مختلف الشيعة : ١٨٨ ـ ١٨٩.

٥٢١

الواقف الكثير ، مع تخلّف الحكم عنه » (١).

ومنها : ما حكاه في المختلف (٢) أيضا من : أنّ التيمّم سائغ عند الملاقاة للنجاسة وليس بسائغ عند وجود الماء الطاهر ، فالملاقاة للنجاسة توجب التنجيس ، أمّا الأوّل : فلما رواه عبد الله بن أبي يعفور ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا أتيت البئر وأنت جنب ، فلم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به فتيمّم بالصعيد الطيّب ، فإنّ ربّ الماء ربّ الصعيد ولا تقع في البئر ، ولا تفسد على القوم ماءهم » (٣).

وأمّا الثاني : فللإجماع ولقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٤).

وقد يقرّر الاستدلال من الصحيحة المذكورة : بالأمر بالتيمّم ، المتوقّف على تنجيس البئر بالاغتسال فيها ، وبالنهي عن الوقوع والإفساد المترتّب عليه ، الّذي يراد به النجاسة ، كما سبق بيانه في صحيحة محمّد بن بزيع في جملة أدلّة القول بالطهارة.

والأولى أن يقال في تقريره : أنّ الملاقاة للنجاسة لو لم تكن سببا لنجاسة البئر لما ساغ التيمّم عند انحصار سبب الاغتسال فيها ، والتالي باطل للصحيحة المذكورة والمقدّم مثله.

والجواب : منع انحصار سبب الاغتسال في مورد الرواية في ملاقاة النجاسة للبئر ، كيف وهو موقوف على فرض اشتمال بدن الجنب المفروض فيها على النجاسة ، وهو ليس بلازم عقلي ولا غالبي له ، فإطلاق النهي عن الوقوع في البئر يشمل صورتي الاشتمال وعدمه ، فيكون أعمّ ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ ، وهو التنجيس.

ولو سلّم أنّ الاشتمال عليها كان متحقّقا في خصوص المورد وقد علم به الإمام عليه‌السلام ، فنمنع الملازمة بينه وبين تنجيس البئر ، كيف وهو مبنيّ على كون الإفساد المنهيّ عنه مرادا به التنجيس ، وهو في حيّز المنع.

أمّا أوّلا : فلأنّ الإفساد أعمّ من التنجيس ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ ، فلعلّ المراد به هنا كون الاغتسال في البئر مستتبعا للاستقذار وتنفّر الطباع عن مائها بعده ، أو لإثارة الوحل وانكداره باستلزامه لامتزاج الأجزاء الوحليّة به ، أو لصيرورته مستعملا في الحدث الأكبر ، وهو ممّا يراه القوم رافعا لطهوريّته.

فلا يقاس ذلك على الإفساد الوارد في صحيحة ابن بزيع المحمول على التنجيس ،

__________________

(١ و ٢) مختلف الشيعة : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٤٤ ب ٤ من أبواب التيمّم ح ٢ ـ التهذيب ١ : ١٨٥ / ٥٣٥.

(٤) النساء : ٤٣.

٥٢٢

لأنّ ذلك الحمل ثمّة إنّما هو بقرينة ما تقدّم من وصف الواسعيّة ، واستثناء التغيّر الموجب للتنجيس لا محالة ، المقتضي لكون الحكم المنفيّ في المستثنى منه هو التنجيس أو ما يعمّه ، لئلّا يلزم عدم ارتباط الاستثناء بسابقه ، للزومه كون المنفيّ في المستثنى منه شيئا والمثبت في المستثنى شيئا آخر.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو كان علّة المنع التنجيس ، لكان التعليل باللغويّة وزيادة محذور النجاسة في البدن ، وعدم تأتّي الغرض ـ وهو زوال الحدث ـ أولى من التعليل بفساد الماء على القوم ، الّذي علاجه سهل لزواله بالنزح المتعدّد ، إذ المفروض أنّ الماء ينجّس بمجرّد الملاقاة فلا يفيد رفعا للحدث ، ومع ذلك يفيد نجاسة البدن كلّه لملاقاته الماء النجس ، واحتمال طهره بالانفصال عن الماء وبقاء الماء نجسا مبنيّ على عدم اشتراط ورود الماء على المحلّ النجس في تطهيره مطلقا ، حتّى في البدن إذا غسل فيما ينفعل ، ولعلّه ممنوع كما يأتي في محلّه.

وأمّا ثالثا : فعلى تسليم كون المراد به التنجيس ، فكونه هو التنجيس الواقعي الّذي يراه الشارع تنجيسا في حيّز المنع ، لجواز كون المراد به ما هو التنجيس بحسب اعتقاد القوم ومذهبهم الفاسد ، نظرا إلى أنّ المراد بهم الفرقة الغير المحقّة القائلين بالتنجيس ، حيث قد عرفت كونه مذهبا للجمهور ـ على ما حكاه العلّامة (١) ووافقه آخرون ـ فلعلّ الراوي كان محشورا معهم ، وكانت البئر متعلّقة بهم ، وهم يزعمون الملاقاة للنجاسة سببا للتنجيس.

وممّا يومئ إلى إرادة هذا المعنى تعبيره عليه‌السلام بعدم افساده على القوم مائهم ، فلو كان ذلك سببا للتنجيس في متن الواقع لكان الأولى التعبير بما يخصّ الراوي ، أو بما يعمّه أيضا ، بأن يقول : « لا تفسد الماء على نفسك » ، أو « لا تفسده مطلقا » ، أو مع « قيد على أنفسكم » وما يؤدّي مؤدّاه ، فتأمّل.

ومنها : جملة من الأخبار كصحيحة محمّد بن إسماعيل المرويّة في التهذيبين ، والكافي ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر يكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم ، أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة ونحوها ، ما الّذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه‌السلام في كتابي بخطّه :

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٦.

٥٢٣

« ينزح منها دلاء » (١) ولو كانت طاهرة لما حسن تقريره على السؤال.

وصحيحة عليّ بن يقطين المرويّة في التهذيبين ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن البئر يقع فيها الحمامة ، والدجاجة ، والفأرة ، أو الكلب أو الهرّة ، فقال : « يجزيك أن تنزح منها دلاء ، فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء الله » (٢) ، ولو كانت طاهرة لكان تعليل التطهير بالنزح تعليلا لحكم سابق بعلّة لاحقة ، وهو محال.

وموثّقة عمّار ـ الواردة في التهذيب ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ـ حديث طويل ـ قال : وسئل عن بئر يقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير؟ قال : « ينزف كلّها ، فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى الليل ، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين ، فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت » (٣).

وحسنة زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير بإبراهيم بن هاشم ـ الموجودة في التهذيبين ، وفي الكافي اختلاف يسير في بعض ألفاظها ـ قالوا : قلنا له : بئر نتوضّأ منها يجري البول قريبا منها ، أينجّسها؟ قالوا : فقال : « إن كانت البئر في أعلى الوادي » (٤) والوادي يجري فيه البول من تحتها ، فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع ، أو أربعة أذرع لم ينجّس ذلك شي‌ء ، وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمرّ الماء عليها ، وكان بين البئر وبينه سبعة أذرع لم ينجّسها ، وما كان أقلّ من ذلك لم يتوضّأ منه ».

قال زرارة : فقلت له : فإن كان مجرى بلزقها (٥) وكان لا يلبث (٦) على الأرض فقال :« ما لم يكن له قرار فليس به بأس ، وإن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض ولا قعر له حتّى يبلغ إليه ، وليس على البئر منه بأس ، فتوضّأ منه ، إنّما ذلك إذا استنقع كلّه » (٧).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٩ ـ مع اختلاف يسير ـ الكافي ٣ : ٥ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٥ ـ الاستبصار ١ : ٤٤ / ١٢٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٢ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٦ ـ الاستبصار ١ : ٣٧ / ١٠١.

(٣) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩ ـ و ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ـ الاستبصار ١ : ٣٨ / ١٠٤.

(٤) الوادي : المكان الّذي يجري فيه الماء (منه).

(٥) لزق به لزوقا ، والتزق به ، أى لصق به ، وألزقه به غيره ، يقال : فلان لزقي وبلزقي ، أي بجنبي (الصحاح ٤ : ١٥٤٩).

(٦) في هامش الأصل : وفي رواية الكافي : « لا يثبت ».

(٧) الوسائل ١ : ١٩٧ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٣ ـ الاستبصار ٤٦ / ١٢٨.

٥٢٤

وفي نسخة اخرى محكيّة عقيب قوله عليه‌السلام : « أو أربعة أذرع » قوله : « لم ينجّس شي‌ء من ذلك ، وإن كان أقلّ من ذلك نجّسها ، قال : وإن كانت البئر في أسفل الوادي ، ويمرّ الماء عليها ، وكان بينه وبين البئر تسعة أذرع لم ينجّس ، وما كان أقلّ من ذلك فلا تتوضّأ منه ، فقلت له : فإن كان مجرى البول يلصقها ... » الحديث (١).

والجواب عن الأوّل : منع كون السائل معتقدا بالنجاسة حتّى يلاحظ فيه التقرير وعدمه ، وإن عبّر في سؤاله بلفظ « التطهير » الموهم لذلك ، لجواز كون عدم النجاسة معهودا فيما بينه وبين المسئول ، معلوما له منه عليه‌السلام ، وأنّ النزح إنّما يجب تعبّدا ، أو أنّه مستحبّ مع جهله بوظيفة الواجب التعبّدي ، أو الاستحباب في مفروض السؤال ، فسأل عنه بعبارة : « ما الّذي يطهّرها؟ » تورية وتحفّظا عن عثور المخالف على ما هو عليه من المذهب ، فأجابه الإمام عليه‌السلام على وفق غرضه من السؤال ، لعلمه عليه‌السلام به بما أفاده التخيير في مراتب الجمع المناسب للاستحباب.

ويقوى هذا الاحتمال بملاحظة أنّ السائل كان يعدّ من وزراء الخليفة ، فدواعي التقيّة بالنسبة إليه كانت متحقّقة من جهات عديدة ، مع ملاحظة أنّ المسألة فيما بينه وبين المسئول حصلت بطريق المكاتبة ، ومن الواضح أنّ المراسلة وإن ارسلت في خفية ممّا يظفر عليه الأعداء المستور عنهم كثيرا ، خصوصا في حقّ من يكثر عنده تردّد المخالفين ، وهو يعاشرهم ليلا ونهارا ، ولا معنى لأصالة عدم التقيّة مع قيام هذه الدواعي وقوّة احتماله.

ولو سلّم أنّه كان معتقدا بالنجاسة ، ولم يكن في سؤاله مظهرا للتقيّة مريدا به التورية ، ولكن الجواب الصادر عن الإمام عليه‌السلام إمّا ردع له عمّا اعتقده ، أو إمساك عن الردع صريحا مع التنبيه على خطئه في اعتقاده ومخالفته للواقع ، وذلك لأنّ صيغة الجمع في قوله عليه‌السلام : « ينزح دلاء » إمّا يراد بها الماهيّة المطلقة الّتي مفادها التخيير بين مصاديقها المترتّبة الّتي منها أقلّ مراتب الجمع ، أو مراد بها الإهمال الغير الملحوظ معه شي‌ء من الإطلاق والتقييد ، أو مراد بها المرتبة المعيّنة من مراتب الجمع مع عدم إفادته التعيين للسائل أصلا ، أو تأخير بيانه إلى زمان آخر ، أو إحالته في معرفة التعيين

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٩٧ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٣ ـ الاستبصار ٤٦ / ١٢٨.

٥٢٥

إلى ما تقرّر منه في الخارج.

ولا سبيل إلى الأخير بشي‌ء من محتملاته ، إذ مبنى الفرض على أنّ السائل بعد اعتقاده بأصل النجاسة ، وأنّ زواله يفتقر إلى مطهّر لا محالة ، تصدّى للسؤال عن تعيين المطهّر ، كما هو ظاهر قوله : « ما الّذي يطهّرها »؟ فهو على تقدير إصابة اعتقاده للواقع كان في مقام الحاجة إلى البيان ، ولو كانت حاجته مجرّد العلم بحكم المسألة فلا يناسبه الإجمال ، ولا تأخير البيان إلى غير زمن السؤال ، ولا إحالته إلى ما هو مقرّر في الخارج ، لأنّ ذلك يوجب خروج السؤال منه لغوا ، حيث أنّه قبل السؤال كان عالما ـ على فرض علمه بالنجاسة بحسب الواقع ـ بأنّ هناك مطهّرا معيّنا في الواقع مقرّرا في الخارج ، ولو كان مجرّد ذلك كافيا له في استحصال التعيين لما تعرّض للسؤال.

واحتمال اقتران الجواب بالبيان أيضا ، أو بما يرشده إلى البيان الثابت في الخارج وقد اختفى ذلك علينا ، يدفعه : الأصل ، فتعيّن حينئذ أحد الوجهين الأوّلين.

ولا ريب أنّ الجواب على أوّلهما يفيد ردعا للسائل عن اعتقاده ، لأنّ التخيير المطلق لا يلائم العدد المعيّن الّذي يعتبره أهل القول بالنجاسة ، فيرجع مفاده إلى أنّ مورد السؤال لم يقرّر له في الشريعة مطهّر معيّن ، لا لأنّه يحتاج إلى مطهّر معيّن ولم يبيّن مطهّره ، فإنّ ذلك محال على الإمام عليه‌السلام لكونه من أنحاء الجهل بالحكم الشرعي ، بل لأنّه لا يفتقر إلى مطهّر فكيف يستحصل تعيينه.

غاية الأمر أنّ هناك نزحا ثابتا بعنوان الوجوب ، أو الاستحباب ، وأنت مخيّر فيه بين الزائد والناقص ، ولا يعقل التخيير بينهما بالقياس إلى المطهّر الّذي هو من قبيل الوضعيّات ـ لو سلّمنا إمكانه في التكليفيّات ـ لأنّ الوضعيّات ـ الّتي تكون من مقولة المقام ـ أسباب واقعيّة لا تتغيّر باعتبار العلم والجهل ، والقصد والإرادة ، فلا يطرأها الاختلاف بالوجوه والاعتبارات ، فالناقص إن كان صالحا للتطهير فبمجرّد حصوله يترتّب عليه الأثر ، ويبقى اعتبار الزيادة في الفرد الزائد لغوا ، وقصد اختيار الزائد لا يعطيها التأثير والمدخليّة في الأثر.

بخلاف التكليفيّات فإنّها لقبولها التغيّر والاختلاف بالوجوه والاعتبارات ، الّتي منها قصد المكلّف ونيّته ، ومنها اشتمال الناقص بوصف أنّه ناقص على مصلحة مشتركة بينه

٥٢٦

وبين الزائد بوصف أنّه زائد ، أمكن اعتبار التخيير فيها بينهما بدعوى : كون مناط الفرديّة في كلّ منهما هو القصد والنيّة ـ كما عليه بعضهم ـ أو وصفي الزيادة والنقصان من حيث إنّهما متقابلان تقابل الملكة والعدم ، وقد لاحظهما الشارع ووجدهما مشتملتين معا على خصوصيّة معتبرة في أفراد المخيّر فيه المتشاركتين في المصلحة الداعية إلى إيجاب التخيير ، كما فصّلناه في تحقيقاتنا الاصوليّة.

هذا شي‌ء يتكلّف على تقدير وجوب النزح ، وإلّا فعلى تقدير استحبابه ـ كما هو الأظهر ـ فلا حاجة إلى شي‌ء من التكلّف ، لأنّ مراتب الاستحباب ممّا يقبل الاختلاف في زيادة الرجحان ونقصانه إلى أن يبلغ مرتبة رجحان الوجوب ، ومع بلوغه له يسقط حكم التخيير فيما بين المراتب الباقية المندرجة تحت الرجحان الملزم ، وإن أمكن اختلافها في القوّة والضعف لو فرضنا المزيّة في ذي المزيّة بنفسها كافية في الإيجاب والإلزام ، فإنّ ذلك ممّا يقضي بإيجاب التعيين ، ولا يقبل التخيير بينه وبين الفاقد لتلك المزيّة وتمام الكلام في محلّه.

كما أنّه على ثانيهما (١) إمساك عن بيان الواقع مع التنبيه الإجمالي على أنّ السؤال الكاشف عن الاعتقاد ليس على ما ينبغي ، وهو كما ترى ممّا لا يستقيم إلّا إذا لم يكن المقام مقتضيا لبيان الواقع ، فلو لا السؤال على خلاف الواقع لم يعقل مانع عن بيان تفصيله ، لموافقته ما عليه العامّة الّذين يكون التقيّة في مواردها من جهتهم ، وأصالة عدم الخوف والتقيّة ـ على فرض جريانها في المقام ، مع ملاحظة ما ذكر سابقا من وجود دواعيها ـ يعارضها أصالة عدم اقتران الخطاب بما يفيد بيان التعيين ، لأنّ ذلك لا يجدي نفعا إلّا على تقدير فرض السائل سائلا عن تعيين المطهّر ، وكون الجواب متضمّنا لما يحصل به الغرض.

فالأولى حمل الجواب على هذا الوجه الثاني ، بدعوى : أنّ الإمام عليه‌السلام أهمل في جوابه ـ لداعي الخوف ـ عن الردع القائم في خصوص مورد هذا السؤال ، مؤخّرا له إلى مقام يقتضيه بتجرّده عن دواعي الخوف ، فردعه بما صحّ عنه من الرواية المتقدّمة الّتي هي أوّل روايات الطهارة في وقت آخر ، إذ المفروض أنّ هذه الرواية مع ما استدلّ بها

__________________

(١) أى على ثاني الوجهين الأوّلين الّذي أشار إليهما بقوله : « فتعيّن حينئذ أحد الوجهين الأوّلين » الخ.

٥٢٧

على النجاسة صحّتا معا عن ابن بزيع ، فليحمل كلام الإمام عليه‌السلام في إحداهما على الإهمال الناشئ عن الخوف لوجود دواعيه حين صدوره ، وفي اخراهما على بيان الواقع المفيد للردع ، لعراء مقام صدوره عن تلك الدواعي ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فنقول : إنّ هاتين الروايتين مع صحّتهما معا ، واتّحاد الطريق فيهما متعارضتان جزما ، فلا بدّ إمّا من الجمع بينهما بإرجاع إحداهما إلى الاخرى باعتبار الدلالة ، أو جهة الصدور ، أو مراجعة الترجيح فيما بينهما ، أو إرجاعهما إلى باب التعادل المقتضي للتخيير فيما بينهما ، وعلى كلّ تقدير كان المتعيّن العمل بالرواية القاضية بالطهارة.

أمّا على التقدير الأوّل : فلأنّ بناء العمل على رواية النجاسة بجعلها حاكمة على رواية الطهارة يستلزم فساد الاستثناء الواقع فيها ، لابتناء صحّة هذا الاستثناء على اعتبار المستثنى منه ملاقاة النجاسة أعمّ من المغيّرة وغير المغيّرة ، فلو أخرجت الملاقاة المغيّرة بالاستثناء والملاقاة الغير المغيّرة برواية النجاسة لزم كذب المستثنى منه.

ولا يرد نظير ذلك في عموم أدلّة التغيّر المتقدّمة الّتي منها : النبوي « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١). بعد الجمع في تخصيصها بين الاستثناء الوارد فيها وأدلّة انفعال القليل ، لأنّ مرجع هذين التخصيصين إلى تخصيص « شي‌ء » بما عدا النجاسة المغيّرة باستثناء المذكور ، وتقييد « الماء » بالكرّ بموجب أدلّة انفعال القليل ، ولا يلزم من ذلك محذور من حيث كون لفظة « الماء » أعمّ من الكرّ ، ولفظة « شي‌ء » أعمّ من النجاسة المغيّرة والنجاسة الغير المغيّرة ، وبعد ارتكاب التقييد مع التخصيص المذكورين يبقى تحت اللفظين الكرّ وما زاد عليه مع النجاسة الغير المغيّرة ، فصدق بذلك المستثنى منه جزما ، ولا يتأتّى نظير هذا الفرض في المقام ، لأنّ مبنى الاستدلال برواية النجاسة على دعوى : نجاسة ماء البئر ـ وإن كان كرّا ـ بملاقاة النجاسة ولو لم يكن مغيّرة ، فلا يبقى تحت المستثنى منه شي‌ء.

ولو قدّرنا المستثنى عامّا بالقياس إلى ملاقاة النجاسة وعدم ملاقاتها لزم فساد آخر ، وهو كون السلب الوارد فيه من باب السالبة المنتفية الموضوع ، ولو قدّرناه عامّا بالقياس إلى ملاقاة النجاسة وملاقاة ما عدا النجاسة لزم فساد ثالث ، وهو حمل

__________________

(١) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ، كنز العمّال ٩ : ٣٩٧ ح ٢٦٦٥٢ ، ورواها أيضا في المعتبر : ٨.

٥٢٨

المستثنى منه بعد الاستثناء والتخصيص على ملاقاة غير النجاسة ، فيرجع مفاده إلى أنّ ملاقاة غير النجاسة لا يوجب فساد الماء ، وهو كما ترى من باب توضيح الواضحات ، وهو كما ترى ممّا لا ينبغي حمل كلام الحكيم عليه.

فلا بدّ من تطرّق التصرّف إلى رواية النجاسة ، إمّا بحملها على التقيّة ، أو بحمل « التطهير » الوارد فيها مع ضميمة التقرير على رفع الاستقذار وتنفّر الطبع ، وليس شي‌ء من ذلك بعيدا في مقابلة المحاذير المذكورة ، مع وجود ما يقرّبهما معا ، أمّا الأوّل : فلما مرّ من قيام دواعي التقيّة ، وأمّا الثاني : فلورود لفظ « التطهير » في الروايات على هذا المعنى.

وأمّا على التقدير الثاني : فلوضوح أنّ الترجيح في جانب رواية الطهارة لموافقتها الأصل ، والعمومات القرآنيّة القاضية بطهارة الماء بحسب الخلقة الأصليّة ، ومخالفتها لمذهب العامّة ، وكونها بعضا من مجموع الأخبار المتقدّمة الّتي أكثرها معتبرة فيما بين صحاح وموثّقات ، فإنّ المعارضة في الحقيقة فيما بين مجموع تلك الأخبار والأخبار المذكورة للقول بالنجاسة ، ولا ريب أنّ الكثرة من المرجّحات ، وليس في جانب تلك الأخبار إلّا الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة ، وهي موهونة بقوّة المخالف ، والعلم باستنادها إلى أدلّة ضعيفة غير واضحة الدلالة ، الغير السليمة عن قصور جهة صدورها ، ولا ينبغي اعتبار الكثرة فيها بضمّ أوامر النزح الواردة في أنواع النجاسات ـ حسبما يأتي تفصيلها ـ لأنّ ذلك فرع سلامة تلك الأوامر عمّا يزاحمها ممّا يقتضي حملها على الاستحباب ، وستعرف قيام ذلك في المقام من وجوه عديدة.

وأمّا على التقدير الثالث (١) : فلأنّ المقام ـ مع أنّه ليس من جزئيّات التعادل ، لما عرفت من وجوه المرجّح من جهات عديدة ـ قابل لاختيار كلّ من المتعارضين ، فلم لا يختار أخبار الطهارة ، مع أنّ العمل بها عمل بالأصل ، وعمومات الطهارة ، والأدلّة النافية للعسر والحرج ، وعمومات السمحة السهلة.

وبجميع ما قرّرناه في الوجه الأخير من البداية إلى تلك النهاية ينقدح الجواب عن الأخبار الاخر ، فإنّ طريق الاستدلال بها واحد ، وإن كان بعضها أظهر في الدلالة على الانفعال من البعض الآخر فيكون طريق الجواب أيضا واحد ، وإن كان لا يجري بالنسبة

__________________

(١) وفي الأصل : « وأما على التقدير الثاني » ، والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.

٥٢٩

إليها الوجهان الأوّلان ممّا ذكرناه بالقياس إلى الصحيحة الاولى ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ومحصّل الجواب : أنّ ترك العمل بأخبار الطهارة عملا بأخبار النجاسة خلاف الإنصاف ، وخلاف طريقة الاجتهاد وقواعد الاستنباط ، وقوانين فهم الألفاظ ، وليس لهذا القول بعد ذلك ممّا يصلح الاستناد إليه إلّا الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة ، والأخبار المتضمّنة للنزح كما حكي الاستدلال بهما أيضا.

والجواب عن الأولى : قد تبيّن بما ذكر من قيام ما يوهنها ، فلا يمكن التعويل عليها ، وعن الثانية : بمنع دلالتها على الوجوب أوّلا ، لقيام ما يزاحمها في تلك الدلالة ممّا يصرفها إلى الاستحباب أوّلا (١) ، ومنع الملازمة بين وجوب النزح والنجاسة ، بعد قيام قوّة احتمال التعبّد ـ كما عليه جماعة ـ ولا سيّما مع ملاحظة كون الحمل عليه طريق جمع بينها وبين أخبار الطهارة ، مع كثرتها واعتبارها سندا وقوّتها دلالة ، مضافا إلى ورود النزح في أشياء طاهرة كما ستعرف.

وأمّا القول بالفرق بين الكرّ وما دونه : فحكي الاحتجاج له بوجوه :

أحدها : رواية الحسن بن صالح الثوري المرويّة في التهذيبين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شي‌ء » (٢).

وثانيها : ما عن الفقه الرضوي حيث قال عليه‌السلام : « وكلّ بئر عمق مائها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها ، فسبيلها سبيل الماء الجاري ، إلّا أن يتغيّر لونها أو ريحها » (٣).

وثالثها : موثّقة عمّار ـ المتقدّمة ـ قال : سئل عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن البئر يقع فيها زنبيل من عذرة يابسة أو رطبة ، فقال : « لا بأس إذا كان فيها ماء كثير » (٤).

ورابعها : عموم ما دلّ من الأخبار على اشتراط الكرّيّة في عدم الانفعال.

وأجاب الشيخ (٥) عن الأوّل بوجهين :

أحدهما : أن يكون المراد بالركيّ المصنع الّذي لا يكون له مادّة بالنبع ، دون الآبار

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٠ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٢ ـ الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٨.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٦ / ١٣١٢ ـ الاستبصار ١ : ٤٢ / ١١٧.

(٥) الاستبصار ١ : ٣٣ ذيل الحديث ٨٨.

٥٣٠

الّتي لها مادّة ، فإنّ ذلك هو الّذي يراعى فيه الاعتبار بالكرّ.

والثاني : أن يكون ذلك ورد مورد التقيّة ، لأنّ من الفقهاء من سوّى بين الآبار والغدران في قلّتها وكثرتها ، فيجوز أن يكون الخبر ورد موافقا لهم ، والّذي يبيّن ذلك أنّ الحسن بن صالح ـ راوي هذا الحديث ـ زيديّ بتري ، متروك الحديث فيما يختصّ به.

والجواب عن الثاني : بما تقدّم الإشارة إليه من عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظة « كثير » فلا بدّ من حملها على الكثرة العرفيّة ، وهي غير معتبرة في عدم انفعال الماء إجماعا ، فيجب كونها معتبرة للتحفّظ عن التغيّر ، ولو سلّم فهي محتملة للتقيّة كما عرفت في كلام الشيخ ، ومع هذا كلّه فهي معرض عنها الأصحاب بأجمعهم وكان القول بموجبها خرق للإجماع.

وعن الثالث : بعدم اعتبار السند ، وعلى فرض الاعتبار يتوهّن بما عرفت.

وعن الرابع : بأنّ عمومات الكرّ تخصّص بما عدا البئر ، تحكيما لعمومات البئر عليها ، وإن كان بينهما عموم من وجه حسبما عرفت سابقا مع وجه التحكيم ، دون العكس.

وقد يقرّر الاحتجاج بذلك على وجه لا يتوجّه إليه ما ذكر من التحكيم ، وهو عموم أدلّة انفعال القليل ، ولا يعارضها عموم أدلّة طهارة ماء البئر لانصراف ما فيها من الإطلاق إلى ما يبلغ الكرّ ، بملاحظة أنّه الغالب في الآبار ، ولذا ترى أنّهم عليهم‌السلام أمروا أحيانا بنزح مائة دلو وسبعين دلوا ، والكرّ ، من غير تقييد بكون الماء كثيرا تعويلا على الغالب.

ودعوى : أنّ العمومات مخصّصة بما دلّ على طهارة البئر عند التغيّر ، بنزحها حتّى يزول التغيّر ، فلو لا اعتصام الماء لا نفعل ما يخرج منها بملاقاة المتغيّر ، مدفوعة : باحتمال كون النزح مطهّرا تعبّديّا على خلاف القاعدة.

واجيب عنه : بأنّه لو لا إعراض الأصحاب عن هذا القول أمكن المصير إليه ، لقوّة مستنده.

وأمّا قول الجعفي : فلم نقف على مستنده.

ثمّ على المختار فهل النزح الوارد في الأخبار المستفيضة واجب أو لا؟ فيه خلاف ، فعن المشهور القول باستحبابه ، وصرّح الشيخ في التهذيبين (١) بوجوبه ، وهو صريح

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣١ ذيل الحديث ٨٤ قال فيه : « فليس لأحد أن يجعل ذلك دليلا أنّ المراد بمقادير النزح ضرب من الاستحباب » ـ التهذيب ١ : ٢٣٢.

٥٣١

العلّامة في المنتهى (١) ويشكل ذلك من حيث إنّه في الكتاب المذكور صرّح بكون النزح الوارد عن الأئمّة عليهم‌السلام تعبّدا ، مع تصريحه عند الفراغ عن بحث المنزوحات : « بأنّه لا يجب النيّة في النزح ، ويجوز أن يتولّى النزح البالغ وغيره ، والمسلم وغيره مع عدم المباشرة ، للمقتضي وهو النزح السالم عن معارضة اشتراط النيّة » (٢).

وهو كما ترى خلاف المعنى المصطلح عليه في الواجب التعبّدي. ولكن يدفعه : أنّ إطلاق التعبّد هنا ليس باعتبار المعنى المصطلح عليه ، بل معناه : أنّه شي‌ء يلتزمه المكلّف ويثبت عليه ويستقرّ في ذمّته لأجل ما فيه من وصف العبوديّة ، كما صرّح به الفاضل عند الاستدلال على ما ادّعاه من عدم وجوب النيّة بقوله : « لعدم الدالّ (٣) على الوجوب ، ولأنّه ليس في نفسه عبادة مطلوبة ، بل معنى وجوب النزح عدم جواز الاستعمال إلّا به ، لأنّه مستقرّ في الذمّة فجرى مجرى إزالة النجاسات ». (٤)

وقضيّة هذه العبارة كون النزح المعتبر على حدّ الواجبات التوصليّة ، الّتي لا يتوقّف الخروج عنها على المباشرة النفسيّة ولا نيّة القربة ، بل قضيّة العبارة أنّ إطلاق الوجوب هنا أيضا ليس على معناه المصطلح عليه ، وهو الطلب الحتمي الّذي يستتبع مخالفته استحقاق الذّم والعقوبة ، بمعنى أنّه ليس هناك طلب حتمي متعلّق بالنزح نفسه ليكون بنفسه مطلوبا لذاته أو للغير ، بل معنى وجوبه أنّه يحرم استعمال الماء بدونه ، فهو ممّا يتوقّف عليه إباحة الاستعمال وارتفاع الحرمة ، فيكون شرطا للإباحة ، وهو المراد بكونه مستقرّا في الذمّة ، على معنى أنّ من أراد استعمال الماء على وجه مباح وهو لا يتأتّى إلّا بعد النزح ، فذمّته مشغولة بالنزح.

فمعنى كونه جاريا مجرى إزالة النجاسات ، أنّه نظيرها في اشتغال الذمّة المتوقّف رفعه على حصول المشتغل به في الخارج كيفما اتّفق ، لا أنّه نظيرها في جميع الجهات ، وإلّا فهي مع ما ذكر واجبة بالمعنى المصطلح عليه وإن كان وجوبها للغير ، وهو الأمر النفسي مشروط بالطهارة.

فتبيّن من جميع ذلك : أنّ الوجوب المدّعى هنا ليس هو الوجوب النفسي التعبّدي ، ولا الوجوب النفسي التوصّلي كدفن الميّت ومواراته ، ولا الوجوب التوصّلي الغيري

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٨.

(٢ و ٤) منتهى المطلب ١ : ١٠٥.

(٣) كذا في الأصل ، وفي النسخة الموجودة عندنا « لعدم الدليل ... » الخ.

٥٣٢

كإزالة النجاسة عن الثوب والبدن ، لأنّ كلّ ذلك يتضمّن الطلب الحتمي وهو منتف في المقام ، وهذا المعنى من الوجوب قد يسمّى عندهم بالوجوب الشرطي قبالا للنفسي والغيري ، وإن كان إطلاق الوجوب عليه باعتبار المعنى المصطلح عليه مجازا ، ولا يخفى أنّ الوجوب بهذا المعنى يصحّ إطلاقه على كلّ ما هو شرط لإباحة شي‌ء محرّم ، كاستئذان المالك مثلا عند إرادة التصرّف في ملكه ، فإنّه محرّم بدون الإذن.

وعلى هذا المعنى يحمل قولهم : يجب الوضوء للنافلة ، ولمسّ كتابة القرآن ، ويجب الغسل لدخول المساجد ، وقراءة العزائم ونحو ذلك ، وممّن صرّح بثبوت هذا الإطلاق وثبوت التسمية المذكورة عندهم صاحب المدارك في أوّل الكتاب عند شرح قول المحقّق : « فالواجب من الوضوء ما كان لصلاة واجبة ». بقوله : « إنّما قيّد الصلاة بالواجبة ، لعدم وجوب الوضوء للنافلة ، وإن كان شرطا فيها ، إذ لا يتصوّر وجوب الشرط لمشروط غير واجب ، ولأنّه يجوز تركه لا إلى بدل ، ولا شي‌ء من الواجب كذلك.

وقد توهّم بعض من لا تحقيق له وجوب الوضوء للنافلة ، لتوجّه الذمّ إلى تاركه إذا أتى بالنافلة في تلك الحال ، وهو خطأ ، فإنّ الذمّ إنّما يتوجّه إلى الفعل المذكور لا الترك ، وأحدهما غير الآخر.

نعم ، قد يطلق على هذا النوع من الندب اسم الواجب تجوّزا ، لمشابهة الواجب في أنّه لا بدّ منه بالنسبة إلى المشروط ، وإن كان في حدّ ذاته مندوبا ، ويعبّر عنه بالوجوب الشرطي إشارة إلى علاقة التجوّز » (١) انتهى.

وعلى هذا فاستعمال الماء قبل النزح يستتبع استحقاق العقوبة بالنسبة إلى فعل المحرّم لا بالنسبة إلى ترك الواجب ، ولا يخلّ ذلك في صحّة ما استعمل فيه ذلك الماء كالطهارة لمشروط بها ما لم يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي المستحيل عندنا ، ولا أنّه يفيد تحريما في فعل متوقّف على استعمال الماء فيه مشروط بطهارة ذلك الماء كما في المأكول ، نعم يفيد تحريما في استعمال المشروب لا بعنوان أنّه شرب للماء ، بل بعنوان أنّه استعمال لما لا يجوز استعماله بدون الشرط المذكور ، كما أنّ أكل مال الغير حرام لا بعنوان أنّه أكل ، بل بعنوان أنّه إتلاف لمال الغير بدون إذن منه.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٩.

٥٣٣

ويستفاد هذا المعنى مع جميع ما ذكر من معنى الوجوب هنا وغيره من الشيخ في التهذيب ، حيث إنّه بعد ما نقل عبارة شيخه المفيد قدس‌سره في المقنعة وهو قوله : « وبقي أن ندلّ على وجوب تطهير مياه الآبار ، وأنّ من استعملها قبل تطهيره يجب عليه إعادة ما استعمله فيه إن وضوءا فوضوءا ، وإن غسلا فغسلا وإن كان غسل الثياب فكذلك ».

قال : « قال محمّد بن الحسن : عندي أنّ هذا إذا كان قد غيّر ما وقع فيه من النجاسة أحد أوصاف الماء ، إمّا ريحه أو طعمه أو لونه ، فأمّا إذا لم يتغيّر شيئا من ذلك فلا يجب إعادة شي‌ء من ذلك ، وإن كان لا يجوز استعماله إلّا بعد تطهيره » (١).

أقول : ويشكل ذلك بأنّه إذا كان أصل الاستعمال حراما فكيف يعقل صحّة الوضوء أو الغسل معه وإن لم يكن الماء نجسا ، فإنّ اجتماع الأمر والنهي غير جائز عقلا ولو كان الأمر غيريّا ، ـ كما قرّر في محلّه ـ وكان قوله بالصحّة مبنيّ على تجويزه الاجتماع بينهما مطلقا ، أو إذا كان الأمر غيريّا ، وكيف كان فمراد أهل القول بوجوب النزح تعبّدا كونه شرطا لإباحة استعمال الماء ، وهو لا يستلزم نجاسته جزما. وحينئذ فلا وقع لما اورد (٢) عليهم : « من أنّهم إن أرادوا به الوجوب الشرطي لما يشترط فيه الطهارة من الشرب ، والاستعمال في المأكول ، والطهارة به من الحدث والخبث ، بمعنى عدم جواز هذه الامور قبل النزح ، فليس النجاسة إلّا ما منع استعماله في هذه الامور ، فإذا تحقّق المنع عن هذه الامور تحقّقت النجاسة ، ويلزمها نجاسة الملاقي له ، فلا يرد أنّ الثمرة تظهر في عدم تنجّس ملاقيه. فتأمّل.

وإن أرادوا الوجوب النفسي ففي غاية البعد عن ظاهر الروايات » فإنّ (٣) النجاسة وصف وجوديّ هو منشأ للمنع عن الامور المذكورة لا أنّها نفس المنع عنها ، ولا ريب أنّ منشأ المنع أعمّ من النجاسة ، ولذا ترى المنع عنها ثابتا في الماء المغصوب أيضا ، ولا يقال : بأنّه نجاسة ، فالثمرة المذكورة في محلّها ، ولعلّ الأمر بالتأمّل في كلامه إشارة إلى المعنى الّذي قرّرناه.

فالأولى أن يقال في ردّهم : بأنّ قولكم بوجوب النزح بالمعنى المذكور نشأ عن

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٢.

(٢) والمورد هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٠٧.

(٣) هذا جواب عن إيراد الشيخ الأعظم رحمه‌الله.

٥٣٤

توهّم كونه طريق جمع بين الروايات القاضية بطهارة ماء البئر الملاقي للنجاسة والأخبار الآمرة بالنزح ، فالقول بالطهارة مع وجوب النزح تعبّدا جمع بينهما في العمل.

ويرد عليه : أنّ بناء هذا الجمع ـ مع كون الوجوب عبارة عن المعنى المتقدّم ـ على حمل الأوامر والجمل الخبريّة الواردتين في أخبار النزح على كونها للإرشاد إلى الواقع ، المفيد لشرطيّة النزح لجواز الاستعمال ، المستلزمة لحرمته بدونه.

ويعارضه إمكان حملها على الاستحباب الغير المستلزم لحرمة الاستعمال بدونه.

واختيار الأوّل دون الثاني لا بدّ له من شاهد خارجي ، وأيّ شي‌ء في المقام ينهض شاهدا بذلك ، مع ما فيه من استلزامه حرمة الاستعمال الّتي هي مخالفة للأصل ، إذ المفروض أنّها لم تثبت بدليل منفصل عن تلك الأخبار ، وإنّما تثبت بعد حمل أوامرها مع جملها الخبريّة على بيان الشرطيّة من باب الدلالة الالتزاميّة.

مع إمكان ترجيح الثاني عليه بشهادة نفس الأخبار القاضية بالطهارة ، بملاحظة ما في أكثرها من إطلاق نفي البأس ، ولا ريب أنّ وجوب النزح بالمعنى المصطلح عليه ـ إن ثبت به قول ـ وحرمة الاستعمال بدونه ـ كما يقول به الجماعة ـ بأس.

مع ما يلزم على هذا القول من تجويز المعصوم عليه‌السلام لاجتماع الأمر والنهي في الأخبار النافية للبأس عن استعمال الماء المفروض قبل النزح ـ كما هو مورد تلك الأخبار ـ لو صحّ الوضوء والغسل بهذا الماء قبله كما هو مقالتهم المتقدّمة ، إذ مبنى ذلك على جعل إطلاق نفي البأس الوارد فيها شاملا لصورتي العلم بملاقاة النجاسة والجهل بها إلى ما بعد الاستعمال ، وإن اختصّ موردها بصورة الجهل كما لا يخفى ، نظرا إلى أنّ خصوصيّة مورد السؤال لا تصلح مخصّصة لعموم الجواب أو إطلاقه ، فيرجع مفاد قولهم : « لا بأس بالماء المفروض ، أو باستعماله المفروض » إلى أنّه لا بأس به سواء كان في صورة العلم أو الجهل ، ولا ريب أنّ نفي البأس عنه في صورة العلم مع قصد صحّة العمل تصريح بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وهو على خلاف مقتضي العقل القاطع.

إلّا أن يقال : بمنع تناول الجواب لصورة العلم أيضا ، بل إطلاقه ينزّل إلى مورد السؤال كما هو الأظهر ، بل لا إطلاق في جملة منها لصراحتها في صورة الجهل حين الاستعمال كما لا يخفى ، فنفي البأس عن الاستعمال المذكور في صورة الجهل المتضمّن

٥٣٥

لتصحيح العمل لا ينافي حرمته في صورة التذكّر ، المستلزمة لبطلان العمل ، حذرا عن اجتماع الأمر والنهي ، فصحّة العمل في صورة التذكّر لا تستفاد من تلك الأخبار ، فهي ساكتة عن إفادة استحباب النزح كما هي ساكتة عن إفادة حرمة الاستعمال قبله ، فحينئذ لا بدّ في تعيين أحد المعنيين من ملاحظة روايات النزح وتحصيل الشاهد منها.

ولكن يدفعه : منع إطلاق هذا التنزيل ، بل جملة من تلك الأخبار صريحة في صورة العلم ، كصحيحة عليّ بن جعفر (١) ، وصحيحة زرارة (٢) ، ومرسلة عليّ بن حديد (٣) ، وجملة اخرى مطلقة بالقياس إلى صورتي العلم والجهل ، كصحيحة معاوية بن عمّار المشتملة على قوله عليه‌السلام : « لا يغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر ، إلّا أن ينتن » (٤) ، وموثّقة زيد بن أبي اسامة الشحّام (٥) ، ولا ريب أنّه لا داعي فيها إلى التنزيل المذكور ، فإذا كانت هي بصراحتها أو إطلاقها شاملة لصورة العلم بالملاقاة مع تضمّنها لصحّة الوضوء ونحوه ، فكما لا يمكن القول في مواردها بالنجاسة ، فكذلك لا يمكن القول بحرمة الاستعمال حذرا عن اجتماع الأمر والنهي.

واحتمال كون روايات النزح مخصّصة لها بما بعد النزح ، يدفعه : مع أنّه موجب لحمل كلام المعصوم عليه‌السلام على ما لا حاجة له إلى البيان ، من حيث إنّ الصحّة وعدم البأس ممّا يعلمه كلّ أحد حتّى على تقدير النجاسة الّتي ترتفع بالنزح ، أنّ أخبار النزح بناء على صلوحها للتخصيص لا تنافي كون اعتبار النزح لأجل التطهير وإزالة النجاسة ، وليست بظاهرة الدلالة على أنّه لأجل حرمة الاستعمال قبله.

ثمّ بعد البناء على الطهارة بأدلّة اخرى خارجة عنها ، فكما أنّها محتملة لإفادة شرطيّة النزح المستلزمة لحرمة الاستعمال بدونه ، فكذلك محتملة لاستحبابه ، فلا تنافي بينها وبين أخبار الطهارة القاضية بصحّة العمل بدون النزح ، ومعه لا تصلح مخصّصة ، وحيث إنّ هذا الاحتمال قائم فيها مع الاحتمال الأوّل فلم يثبت فيها عنوان المخصّصيّة ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٢٤٧ قطعة من الحديث ٧٠٩.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٠ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٩.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٩ / ٦٩٣.

(٤ و ٥) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ و ١٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٢ و ٢٣٣ / ٦٧٠ و ٦٧٤.

٥٣٦

لأنّه مبنيّ على الاحتمال الأوّل والمفروض كونه مشغولا بالمعارض المساوي ، إن لم نقل بكونه أقوى.

هذا مع أنّ هذه الأخبار متعارضة بنفسها ، لتضمّنها باختلافها تقديرات متعدّدة لنجاسة واحدة ، بحيث لا يمكن الأخذ بكلّ من هذه التقديرات بعنوان أنّه شرط ، نظرا إلى أنّه أمر واقعي والواقع لا يقبل الاختلاف ، مع ما في أكثرها من القصور في أسانيدها ، فلا تنهض دليلا على إثبات الحكم المخالف للأصل ، فلا بدّ من حملها على الاستحباب ، لأنّه الّذي يتسامح في أدلّته ، وهو الّذي لا يقبل الاختلاف بحسب مراتبه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ النزح إن اعتبر مطهّرا للبئر ـ على القول بالنجاسة ، أو في صورة التغيّر ـ ففي سقوطه بقيام غيره مقامه ممّا هو مطهّر لغيرها ، من إلقاء الكرّ ، أو إجراء الماء الجاري عليها ، أو وقوع المطر عليها ، نوع كلام بين الأصحاب يأتي التعرّض له عند البحث عن المنزوحات ، وأمّا على المختار من استحباب النزح ، وعلى القول بوجوبه تعبّدا ، فمقتضى القاعدة عدم سقوطه بالغير ما دام صدق اسم البئر باقيا.

ولعلّه إلى ذلك يرجع ما فصّله بعضهم من أنّ النزح لو كان للنجاسة فالظاهر حينئذ سقوطه ، وإن كان للتعبّد فإن حصل الامتزاج بالجاري أو الكثير فالظاهر أيضا السقوط ، لأنّ النزح إنّما تعلّق به في حال البقاء على حقيقته ، وعند الاستهلاك يصير في حكم المعدوم ، وإن حصل الاتّصال فالظاهر عدم السقوط لعدم خروجه عن حقيقته.

* * *

٥٣٧

ينبوع

كلّ ماء حكم بنجاسته شرعا من جهة التغيّر ، أو الملاقاة للنجاسة ، أو قيام أمارة عليها ـ حيث تعتبر ـ لم يجز استعماله في الطهارة حدثا وخبثا ، وفي مشروط بالطهارة غير الطهارة أكلا وشربا ، شرعا إلّا عند الضرورة ، ويتوقّف الجواز على تطهيره بما هو مطهّر له شرعا ، وحيث إنّ العنوان مشتمل على أحكام فلا بدّ من إيراد البحث في مقاصد :

المقصد الأوّل : في عدم جواز استعماله في الطهارة ولو كانت عن خبث مطلقا ، والظاهر أنّ هذا الحكم إجماعيّ في الجملة ، وفتاوي الفقهاء متظافرة عليه ، قال العلّامة في المنتهى : « لا يجوز استعمال الماء النجس في رفع الحدث ، ولا في إزالة النجاسة » (١) قال المحقّق في الشرائع : « وإذا حكم بنجاسة الماء لم يجز استعماله في الطهارة مطلقا ، ولا في الأكل والشرب إلّا عند الضرورة » (٢) وفي النافع : « كلّ ماء حكم بنجاسته لم يجز استعماله ، ولو اضطرّ معه إلى الطهارة يتيمّم » (٣) قال الشهيد في الدروس : « ويحرم استعمال الماء النجس ، والمشتبه به في الطهارة » إلى قوله : « ويجوز شربه للضرورة » (٤). ومفهومه عدم جواز الشرب لغير الضرورة.

وفي المدارك : « الإجماع عليه ناقلا حكايته عن النهاية (٥) أيضا ، مع التصريح بعدم الفرق بين حالتي الاختيار والاضطرار » (٦) ، كما تشير إليه قيد الإطلاق في عبارة الشرائع ، وصرّح بالإجماع أيضا في الرياض (٧) وفي الحدائق (٨) نفى الخلاف ، وفي شرح الدروس للخوانساري : « كأنّه إجماعي » (٩) ، وحكي إطلاق المنع في الطهارة

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٤.

(٢) الشرائع ١ : ١٥.

(٣) المختصر النافع : ٤٤.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٥) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٦.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٧) رياض المسائل ١ : ١٩٣.

(٨) الحدائق الناضرة ١ : ١٩٣.

(٩) مشارق الشموس : ٢٨١ (حجرية).

٥٣٨

واختصاصه بالاختيار في الشرب ، كما في المناهل (١) عن النهاية (٢) ، والسرائر (٣) ، والمعتبر (٤) ، والقواعد (٥) ، والتحرير (٦) ، والذكرى (٧) ، والجعفريّة (٨) ، ومجمع الفائدة (٩).

واستدلّ عليه : بأنّ الطهارة تقرّب إلى الله تعالى ، وهو لا يحصل بالنجاسة ، ولا يخفى ما فيه من المصادرة ، فإنّ عدم حصول القرب بتلك الطهارة مبنيّ على ثبوت المنع الشرعي عن استعمال هذا الماء فيها ، وهو لا يثبت بهذا الوجه.

وفي المنتهى (١٠) الاستدلال عليه بالنسبة إلى إزالة النجاسة : « بأنّ الماء منفعل بها ، فكيف يعدمها عن غيره » وبالنسبة إلى رفع الحدث بصحيحتي حريز ، والفضل المتقدّمتين في أخبار انفعال القليل ، ففي أولاهما قال عليه‌السلام : « فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضّأ منه ، ولا تشرب » (١١). وفي الثانية فقال : « رجس نجس ، لا تتوضّأ بفضله ، واصبب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أوّل مرّة ، ثمّ بالماء » (١٢).

ويدلّ عليه أكثر ما تقدّم من روايات الباب المذكور ، وأصل الحكم واضح لا حاجة له إلى الاستدلال ، لتظافر الأخبار المفيدة للقطع باشتراط الطهارة في ماء الوضوء والغسل ، مع قضاء العقل القاطع بعدم صلوح النجس لرفع النجاسة ، بل هو لا يفيد إلّا تأكّد نجاسة المحلّ ، وقضيّة ذلك عدم كون استعماله فيها مجزيا ، فعدم الإجزاء ممّا لا إشكال فيه ، بل الإشكال في أنّه هل يحرم بحيث يترتّب عليه الإثم واستحقاق العقوبة؟

ومنشؤه أنّ فتاوي الأصحاب تضمّنت في عناوين المسألة للتعبير عن الحكم بلفظ « الحرمة » و « عدم الجواز » فاختلفت الآراء الناظرة فيها في المعنى المراد من اللفظين ، لاحتمالهما إرادة مجرّد البطلان وعدم الإجزاء ، أو المعنى المتعارف المستتبع للإثم ، ففي المدارك : « المراد بعدم الجواز هنا معناه المتعارف وهو التحريم ، بقرينة قوله : « ولا في

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ الورقة : ١٦٢ (مخطوط).

(٢) النهاية : ٨ ـ ٧. (٣) السرائر ١ : ٨٨. (٤) المعتبر : ١١.

(٥) قواعد الأحكام ١ : ١٨٩.

(٦) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ١١٠.

(٨) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).

(٩) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(١٠) منتهى المطلب ١ : ٥٤.

(١١) الوسائل ١ : ١٣٧ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥.

(١٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦.

٥٣٩

الأكل والشرب » ، فإنّ استعماله فيهما محرّم قطعا » (١) ، وعزى ذلك إلى المحقّق الثاني في شرح القواعد (٢) ، وثاني الشهيدين في الروضة (٣) ، وعنه في المسالك : « أنّه حرام مع اعتقاد شرعيّته أمّا بدونه فلا » (٤).

وعن العلّامة في النهاية إرادة المعنى الأوّل ، قائلا ـ بعد الحكم بالتحريم ـ : « إنّا لا نعني بالتحريم حصول الإثم بذلك ، بل نعني عدم الاعتداد به في رفع الحدث » (٥) ، واحتمله صاحب المدارك أخيرا في عبارة الشرائع ، واحتجّ على الاحتمال الأوّل : « بأنّ استعمال المكلّف النجس فيما يعدّه طهارة في نظر الشارع ، أو إزالة للنجاسة يتضمّن إدخال ما ليس من الشرع فيه ، فيكون حراما لا محالة » (٦) وحكي مثل هذا الاحتجاج عن المحقّق الثاني ، قائلا : « بأنّ استعمال المكلّف الماء النجس في الطهارة وإزالة النجاسة ، إدخال لما ليس من الشرع فيه ، فيكون حراما لا محالة » (٧).

فظهر من جميع ما ذكر أنّ القائلين بإرادة الحرمة الشرعيّة مرادهم بها الحرمة التشريعيّة والظاهر أنّ العلّامة في النهاية لا ينكر الحرمة بهذا المعنى ، بل الّذي نفاه إنّما هو الحرمة الذاتيّة ، كما أنّ ظاهر الآخرين أنّهم لا ينكرون الحرمة بمعنى عدم الإجزاء ، كيف والحرمة التشريعيّة ممّا لا يعقل الالتزام بها إلّا مع الاعتراف بعدم الإجزاء في نظر الشارع ، لأنّه الّذي يحقّق موضوع التشريع ويثبته مع علم المكلّف به ، وأمّا الحرمة الذاتيّة فلم نقف على قائل بها بعنوان الجزم واليقين.

نعم ، يستفاد عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس توهّم احتمالها ، حيث أنّه بعد ما تنظّر في احتجاج المحقّق الثاني المتقدّم بقوله : « فيه نظر ، إذ كونه من قبيل الإدخال الّذي يكون حراما ممنوع لا بدّ له من دليل ».

قال : « ويمكن الاستدلال على الحرمة بالمعنى المتعارف في استعمال الماء النجس في الطهارة ، بما ورد كثيرا في أكثر الروايات من النهي عن التوضّي والغسل بالمياه النجسة ، مثل ما ورد في الماء المتغيّر بالنجاسة وغيره ، بحيث يفضي احصاؤه إلى تطويل

__________________

(١ و ٦) مدارك الأحكام ١ : ١٠٦.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٤٩.

(٣) لم نجده في الروضة نعم هو موجود في روض الجنان : ١٥٥.

(٤) مسالك الأفهام ١ : ٢١.

(٥) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٦.

(٧) جامع المقاصد ١ : ١٤٩.

٥٤٠