ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

الوارد في الأخبار ، واستحبابه المسلّم بحكم العقل والنقل لا ينافي الاكتفاء بغير المعتاد ممّا هو متداول في العرف.

فإن قلت : لا إشكال كما لا خلاف لأحد في أنّ الظاهر المنساق من الأخبار إنّما هو المتعارف في زمن الصدور ، فلم لا تعتبره وتكتفي بالمفهوم العرفي العامّ؟.

قلت : هذا الظهور إنّما هو من جهة اختصاص الخطاب بأهل زمن الصدور بل خصوص المخاطب ، لكن قد عرفت سابقا أنّه لا مخالفة في لفظ « الدلو » بين عرف ذلك الزمان وعرف سائر الأزمنة إلى زماننا هذا ، ولا بين العرف العامّ واللغة ، فإذا اكتفينا بالعرف العامّ الثابت في هذا الزمان فقد أخذنا بما كان متعارفا نوعه في زمن الصدور جزما.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الاحتمالات الجارية في المقام وفي عبارات الأصحاب من كون العبرة بالمعتاد في زمن الصدور خاصّة ، أو بالمعتاد في جميع الأزمنة ، أو بالمعتاد في زماننا هذا في جميع البلدان ، أو بالمعتاد في بلد البئر المبتلى بها ، كلّها يرجع إلى معنى واحد ، وهو كون العبرة بالمفهوم العرفي العامّ المنصرف عند الإطلاق إلى الأفراد الغالبة ، وهي الّتي صارت معتادة في جميع الأزمنة وكافّة البلدان الدائرة بين صغير وكبير غير الخارجين عن الاعتدال والمتوسّط بينهما ، فالمكلّف بحكم إطلاق الأخبار وفتاوي العلماء الأخيار مخيّر بين الجميع ، وإن لم يكن معتادا استعماله على شخص البئر أو نوعها.

نعم ، الاحتياط الاستحبابي في اعتبار المعتاد لو كان أكبر من غيره ، كما أنّه في غيره لو كان أكبر منه.

فما يستفاد من بعضهم وتبعه غير واحد من متأخّري المتأخّرين بعد اعتبار ما جرت العادة على شخص البئر أو على نوعها من أنّه إن تساوت الدلاء فيه في جميع الأزمان فلا إشكال ، وإن اختلفت فالغالب ، وإن تساوت فالتخيير ، ولو لم يكن لها دلو في البلد ولا لأمثالها فدلو أقرب البلدان إليها فالأقرب إن اتّفقت ، ومع الاختلاف ما تقدّم من اعتبار الغالب إن كان وإلّا فالتخيير ، تكلّف غير واضح الوجه.

وينفيه : إطلاق الأخبار ، مع الجزم بأنّ أصحاب الأئمّة ما كانوا يلتزمون بمثل هذا التكلّف ، فلذا لم يقع إليه في النصوص وكلام الأصحاب إشارة.

٧٢١

وعن بعض المتقدّمين : (١) أنّ المراد بالدلو الهجريّة (٢) ووزنها ثلاثون رطلا ، وقيل : أربعون ، وهو ضعيف جدّا لعراه عن مستند معتبر ، وإن كان قد يقال : إنّ مستنده ما نقل عن الفقه الرضوي من أنّه : « إذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنّور وما أشبه ذلك فمات فيها ولم يتفسّخ نزح منها سبعة أدلو من دلاء هجر ، والدلو أربعون رطلا » (٣) ، فإنّ العذر في عدم الاعتداد بذلك ما تقدّم الإشارة إليه ، كما عليه بناء المعظم على ما اعتذر لهم بعضهم في عدم اعتدادهم هنا بما عرفت.

المسألة الثانية : عن العلّامة في أكثر كتبه (٤) ، وتبعه الشهيد في الذكرى (٥) ، وصاحب المعالم (٦) وغيره ـ على ما حكي ـ القول بأنّه لو نزح البئر بإناء عظيم يسع العدد ومقدار الدلاء المقدّرة دفعة أو دفعات كان مجزيا ، وعن المحقّق في المعتبر (٧) ، والعلّامة في التحرير (٨) ، والمنتهى (٩) ، والشهيد في الدروس (١٠) والبيان (١١) ، والشهيد الثاني (١٢) أيضا القول بخلافه ، حجّة الأوّلين وجهان :

أحدهما : أنّ الغرض من اعتبار النزح ـ وهو إخراج المقدار ـ يحصل بذلك أيضا فيكون مجزيا.

وفيه : إنّ ذلك إنّما يصحّ فيما لو كان المقدّر الشرعي مقدّرا وزنيّا كالكرّ المقدّر نزحه في بعض النجاسات ، وفي حكمه النزح المزيل للتغيّر على المختار من حصول الطهر بإزالة التغيّر ونزح الجميع فيما اعتبر له ذلك ، فإنّ الغرض في هذه الصور يحصل بكلّ ما أمكن معه النزح كما نصّ عليه غير واحد ونفوا عنه الإشكال بل الخلاف أيضا ، ولا ريب أنّ مفروض المسألة ليس من هذا الباب ، بل المقدّر الشرعي هنا عددي ، وأداء المقدّر الوزني من دون مراعاة العدد المخصوص لا يقوم مقام العدد وإن بلغ في الكثرة ما

__________________

(١) حكاه في فقه المعالم ١ : ٢٨٧.

(٢) وفي هامش المعالم عن بعض النسخ : « المراد بالدلو النجرية ».

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٢.

(٤) كما في تذكرة الفقهاء ١ : ٢٨.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٩.

(٦) فقه معالم ١ : ٢٨٨ ـ ٢٨٧. (٧) المعتبر : ١٩.

(٨) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٩) منتهى المطلب ١ : ١٠٤.

(١٠) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(١١) البيان : ١٠٠. (١٢) مسالك الأفهام ١ : ١٩.

٧٢٢

بلغ ؛ ولعلّ الشارع الحكيم من جهة علمه بأنّ أثر هذه النجاسة لا يزول إلّا بتحقّق هذا العدد في الخارج واعتبره على قياس ما هو الحال في التطهير عن النجاسات الحاصلة في الثوب ونحوه المعتبر في غسلها التعدّد مرّتين أو ثلاث أو سبع مرّات ، وكما أنّ ذلك لا يطهّر بغسله مرّة بمدّ أو أكثر من الماء الّذي لو فرض غسله به مع اعتبار العدد كان كافيا في طهره فكذلك المقام ، لا نقول بأنّه مثله حتّى يكون راجعا إلى القياس ، بل المراد أنّ كونه كذلك محتمل فينعقد معه موضوع الاستصحاب وهذا أصل لا رافع له هنا.

نعم ، ربّما يقوى هذا التوهّم على القول بوجوب النزح تعبّدا ، نظرا إلى أنّ وجوبه حينئذ توصّلي ومن حكمه أن يحصل في الخارج بأيّ نحو اتّفق ، ولذا لا يعتبر فيه نيّة القربة كما يأتي إليه الإشارة.

ولكن يدفعه : أنّ المأخوذ في مفهوم الواجب التوصّلي حصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق إذا اتي به على نحو ما امر به ، والمفروض خلافه ، إذ الأمر قد تعلّق بالعدد والمقدار الغير العددي ليس منه ، كيف ولو صحّ ذلك لكان الواجب على الشارع التعرّض لتعيين المقدار ، وكان عليه التفصيل في الدلاء باعتبار ما يكون منها كافيا عدده المعيّن في خروج المقدار المعيّن.

ومن هنا قد يؤيّد القول بعدم الإجزاء بأنّهم عليهم‌السلام أمروا بنزح العدد من غير تفصيل بين الدلو الصغير والكبير مع أنّ الغالب التفاوت بين الدلاء بكثير.

وأمّا ما قد يؤيّد به القول بالإجزاء من أمنه من انصباب الماء النجس عن الدلو في البئر إلّا نادرا ، فليس بشي‌ء بعد ثبوت العفو عن ذلك قليله وكثير [ه] ، ومجرّد احتمال كون الأمر بالعدد واردا مورد الغالب لا يوجب اليقين بالبراءة الّذي يستدعيه اليقين بالاشتغال ، ولذا احتجّ المانعون عن الاجتزاء بأنّ الحكمة قد تعلّقت بالعدد ولا يعلم حصولها بغيره ، واحتجّوا أيضا بعدم الإتيان بالمأمور على وجهه.

وثانيهما : أنّ الأمر بالنزح وارد على الماء ، والدلاء مقدار ، فيكون القدر هو المراد ، وتقييده بالعدد لانضباطه وظهوره بخلاف غيره.

وجوابه : يظهر بملاحظة ما ذكرناه جوابا عن الأوّل ، ومحصّله : يرجع إلى منع المقدّمة الثالثة والرابعة معا ، فإنّ كلّا من ذلك أوّل المسألة وعين المدّعى ، فلا بدّ له من دليل آخر.

٧٢٣

وبالجملة : التعدّي عن مورد النصّ إلى ما هو خارج عنه ممّا لا وجه له سواء على القول بالتنجيس وغيره.

نعم ، على القول بالتنجيس لا يبعد القول بكفاية نزح العدد بإناء آخر من سطل أو آنية فخار أو نحوهما ممّا يسع ما يسعه الدلو المعتاد ، بدعوى : القطع الوجداني بعدم مدخليّة خصوصيّة إناء دون إناء آخر في التطهير إذا تساويا في السعة ، ولا ينافيه اختصاص ما ورد في النصوص بالدلو بعد ملاحظة كونه الآلة الغالبة في النزح ، فلا ينافي ثبوت الحكم في غير الغالب أيضا.

الثالثة : إذا غار ماء البئر قبل النزح ثمّ عاد فعلى القول بالوجوب تعبّدا لا إشكال في سقوط الأمر بالنزح ما دام غائرا ، ضرورة ارتفاع الأمر بانتفاء موضوعه ، وعوده بالعود غير معلوم فالأصل عدمه ، وعلى قياسه الكلام بناء على المختار من استحباب النزح ، وأمّا على القول بالنجاسة ففي منتهى العلّامة : « أنّ الأصل فيه الطهارة » (١) ، وهو محكيّ عن جملة من الأصحاب كما عن القواعد (٢) ، والدروس (٣) ، وظاهر المعالم (٤) ، وقيل : بل عن كثير من الأصحاب (٥) [و] احتجّوا بوجهين :

الأوّل : أنّ المقتضي للطهارة ذهاب الماء وهو كما يحصل بالنزح يحصل بالغور ، ولا يعلم كون الغائر هو العائد ، والأصل فيه الطهارة.

والثاني : أنّ النزح لم يتعلّق بالبئر ، بل بمائها المحكوم بنجاسته ، ولا يعلم بوجوده والحال هذه ، فلا يجب نزحه.

واجيب (٦) عن الأوّل : بمنع كون المقتضي للطهارة ذهاب [الماء] ، لجواز كونه النزح ، باعتبار أنّه يوجب جريان الماء فيطهّر به أرض البئر وماؤها ، ولا ريب أنّ هذا المعنى مفقود في الغور فلم يطهّر أرض البئر ، فكلّما ينبع منها الماء يصير نجسا لملاقاته النجاسة على القول بانفعال البئر بها.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٨.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ١٨٨.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٤) فقه المعالم ١ : ٢٨٣.

(٥) والقائل هو صاحب المعالم رحمه‌الله في فقه المعالم ١ : ٢٨٣.

(٦) المجيب هو المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس : ٢٤٤.

٧٢٤

وعن الثاني : بأنّ المفروض أنّ ماء كانت نجسة (١) ، ولم يعلم لها مزيل فيستصحب نجاستها ، وبه ينجّس كلّما ينبع من الماء.

ولا يخفى ضعف الجوابين ، وإن كان منع كون المقتضي للطهارة ذهاب الماء في محلّه ، فإنّ نجاسة أرض البئر لا قاضي بها إلّا الاستصحاب ، وكون النجاسة المستصحبة منجّسة غير مسلّمة لمكان كونها ظاهريّة.

ومع الغضّ عن ذلك ، فكما يحتمل تنجّس الماء المتجدّد بأرض البئر كذلك يحتمل تطهّر الأرض بذلك الماء فيحكم على الماء بالطهارة شرعا ، مع توجّه المنع إلى انفعاله على فرض كون النجاسة في الأرض يقينيّة لعدم الدليل عليه.

وتوهّم شمول أدلّة انفعال البئر له في محلّ المنع ، لعدم كون النابع حال نبعه ممّا يصدق عليه ماء البئر ، بل لا يبعد صدق الجاري عليه حينئذ ، كما يرشد إليه ما تقدّم في بعض ما يتعلّق من الكلام بصحيحة ابن بزيع من استظهار كون المطهّر لماء البئر في الحقيقة هو الماء المتجدّد والنزح مقدّمة لتجدّده ، وهو لا يلائم كونه مشمولا لأدلّة الانفعال ، مع أنّه لا حاجة لنا إلى إثبات هذه الدعوى بعد قيام منع كونه حال النبع من ماء البئر ، فإنّه يوجب اندراجه تحت الأصل العامّ المقتضي لطهارة كلّ ماء مشكوك في حاله ، وطهارته شرعا يستلزم تطهّر الأرض أيضا ، وعلى فرض عدم الاستلزام فبقاؤها على النجاسة مع الحكم على الماء بالطهارة الموجبة لعدم وجوب النزح غير قادح ـ ولو بعد دخول الماء ـ في صدق ماء البئر ، لمكان كون النجاسة المفروضة استصحابيّة فلا تندرج في أدلّة الانفعال ، لمكان ظهورها في عين النجاسة لا فيما هو بحكمها ، فالقول بأنّها توجب نجاسة الماء المتجدّد في غاية الضعف. وأضعف منه ما قيل بالنجاسة فيما لو طهرت أرض البئر بعد الغور بالشمس أو بالمطر ، تعليلا : بأنّ غور الماء النجس قد أوجب تنجّس عمق الأرض فينجّس الماء بوصوله إليه ، إلّا إذا طهر

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي مشارق الشموس هكذا : « وأمّا الثاني : فلأنّ تعلّق النزح بمائها لا دخل له في المقام ، إذ الكلام في أنّ أرض البئر كانت نجسة ولم يعلم لها مزيل ، إذ ما علم من الشرع أنّه مزيل لها إنّما هو النزح وقياس الغور عليه قياس مع الفارق كما ذكرناه ، فيستصحب نجاستها ، فكلّما ينبع منها الماء يصير نجسا الخ ».

٧٢٥

القدر من العمق الّذي علم بوصول الماء الغائر إليه.

ثمّ أنّه إذا اجريت البئر المتنجّس ماؤها عن تحتها فعن بعض القائلين بالطهارة في الغور أنّه نفاها هنا ، وليس بوجه لعدم الدليل على النجاسة حينئذ لخروج الماء المتنجّس عن مكانه بالجريان ؛ وتنجّس المتجدّد الجاري عن مكانه غير معلوم فيحكم عليه بالطهارة بتقريب ما تقدّم ، والاستصحاب مع عدم بقاء الموضوع الأوّلي غير معلوم ، وكون أرض البئر حال وجود الماء المتنجّس متنجّسة غير ضائر في طهارة الماء هنا بل طهارة نفسها كما تقدّم.

ومن هنا اعترض صاحب المعالم على القول المذكور : « بأنّ التوجيه المذكور في مسألة الغور جاء هنا أيضا ، ويزيد ذلك عليها بحصول الجزم بأنّ الآتي غير الذاهب ، فإنّ الجريان يذهب الموجود جزما ، وما يأتي بعده ماء جديد ، مضافا إلى أنّ الحكم بالنزح [معلّق] بالبئر والإجراء يخرجها عن الاسم » (١) انتهى ؛ وفي حكم الغور ما لو ثقبت البئر من التحت إلى أن خرج ماؤها أجمع من الثقبة ، فما لو نبع عليها من الماء ثانيا محكوم عليه بالطهارة ولا نزح للأصل.

المبحث الثاني : فيما يتعلّق بالنزح وآلاته ، والنازح وما يجب فيه وما لا يجب ، وهو يتضمّن مسائل :

الاولى : أطلق غير واحد القول بوجوب إخراج النجاسة قبل النزح ، وقد يدّعى عليه الإجماع ، وفي المنتهى ما يوهم اختصاص الإجماع بأصحاب القول بالتنجيس ، حيث قال : « النزح إنّما يجب بعد إخراج النجاسة ، وهو متّفق عليه بين القائلين بالتنجيس ، فإنّه قبل الإخراج لا فائدة فيه وإن كثر » (٢) انتهى.

وقد يحتمل الإجماع على القول بعدم التنجيس أيضا ، كما في حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني قائلا : « يجب إخراج النجاسة قبل الشروع في النزح ، والظاهر أنّه اتّفاق بين القائلين بالتنجيس ، بل لعلّه عند القائلين بعدمه أيضا كذلك » (٣) انتهى.

فإن تمّ الإجماع على القولين معا ، وإلّا أمكن المناقشة بدعوى : اقتضاء القواعد

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ٢٨٣.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.

(٣) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٤٨.

٧٢٦

اختصاص الحكم بالقول بالتنجيس دون غيره.

أمّا الأوّل : فلأنّ المستفاد من الروايات الآمرة بالنزح ـ على تقدير دلالتها على التنجيس ـ كون سبب النزح وقوع النجس من حيث استلزامه نجاسة ماء البئر ، فسبب النزح في الحقيقة هو نجاسة الماء وهي مترتّبة على وجود النجس فيه ، سواء كان ذلك الوجود حدوثيّا أو استمراريّا ، فإنّه ما دام موجودا في الماء كان مقتضيا لتنجّسه ، فالنزح الحاصل مع وجوده لا يجدي نفعا وإن بلغ في الكثرة ما بلغ ، حتّى فيما لو كان الواجب نزح الجميع ، فإنّ نزح الجميع حينئذ مع مقارنته لوجود النجاسة إلى الدلو الأخير لا يفيد تطهّرا ولو بالقياس إلى أرض البئر ، بل هو حينئذ نظير مسألة الغور ، فلو تجدّد الماء بعد ذلك فعلى القول بأنّه ينجّس لملاقاته الأرض النجسة لم يزل التنجيس وإن كان ذلك عندنا خلاف التحقيق.

وأمّا الثاني : فلأنّ المستفاد من الروايات حينئذ كون أوامر النزح معلّقة على وقوع النجس على معنى حدوث ملاقاته الماء ، استمرّت الملاقاة إلى أن يلحقها النزح أو زالت ، فإنّها سبب لماهيّة النزح في ضمن عدد معيّن ، فإذا استكمل العدد صدق عرفا حصول الماهيّة المقيّدة به في الخارج ، ومن المقرّر أنّ الأمر مقتض للإجزاء ومع سقوطه فلا نزح بعده وإن كان النجس موجودا ، وإلّا لزم وجوب الامتثال عقيب الامتثال وهو مع عدم تكرار الأمر غير معقول.

لا يقال : ومن المقرّر في مسائل الاصول تكرّر الأمر المشروط بتكرّر شرطه ، فلا معنى لالتزام سقوط الأمر مع وجود النجس الّذي هو في معنى التكرّر ، لأنّ ذلك غفلة عمّا قرّرناه أوّلا من أنّ سبب النزح على ما هو ظاهر الأدلّة حدوث الملاقاة ، ولا ريب أنّ الاستمرار ليس منه.

ألا ترى أنّ السيّد إذا قال لعبده : « إن دخل زيد في الدار فأضفه » ، لا يستفاد منه عرفا إلّا سببيّة حدوث الدخول للضيافة ، فلذا لو دخل وبقي فيها مستمرّا فأضافه العبد مرّة امتثل ، ولا يعاقب على ترك الضيافة ثانيا من جهة استمرار وجوده فيها ، وإنّما يعاقب عليه لو خرج بعد الدخول فدخل ثانيا على وجه صدق معه تكرّر الدخول ، فالاستمرار لا ينزّل في نظر العرف منزلة التكرار جزما.

٧٢٧

نعم ، على تقدير كون الوجوب هنا مرادا به الشرطي بالمعنى المتقدّم أمكن القول بتوقّف الامتثال على إخراج النجاسة ، لأنّ النزح حينئذ مقدّمة لارتفاع المنع عن الاستعمال ، وهو بالنزح قبل الإخراج غير معلوم الارتفاع فيستصحب.

هذا كلّه إذا أردنا الأخذ بموجب القواعد الخارجة عن النصوص ، وإلّا ففي بعض النصوص ورد الأمر بالإخراج صريحا ، كما في صحيحتي الفضلاء (١) والفضل ٢ ، وإن لم نقف على من التفت أو استند إليه ، ففيهما معا قال : « يخرج ثمّ ينزح » إلى آخره ، وهذا كما ترى يتناول جميع المذاهب.

نعم ، على القول بوجوب النزح تعبّدا أمكن القول بكون وجوب الإخراج نفسيّا للأصل ، لا أنّه غيريّ حتّى يلتزم بكونه شرطا لصحّة النزح لكنّه بعيد عن السياق ، والعجب عن الأصحاب في عدم التفاهم إلى ذلك. فليتدبّر.

وفي حكم عين النجس الموجودة المانعة عن تأثير النزح إلى أن يخرج ـ على القول بالتنجيس أو مطلقا على القول المتقدّم ـ الشعر المنتشر في الماء إذا كان من نجس العين ، فيستعلم خروجه ولو بالنزح ثمّ ينزح المقدّر ، والظاهر قيام الظنّ مقام العلم في موضع تعذّره.

قال الشهيد في الدروس : « ولو تمعّط (٣) الشعر فيها كفى غلبة الظنّ بخروجه وإن كان شعرا [نجسا] ، ولو استمرّ خروجه استوعب فإن تعذّر واستمرّ عطّلت حتّى يظنّ خروجه أو استحالته » (٤).

وعنه في الذكرى : « [لو تمعّط الشعر في الماء] نزح الماء حتّى يظنّ خروجه ، [إن كان شعر نجس العين] فإن استمرّ الخروج استوعب ، فإن تعذّر لم يكف التراوح ما دام الشعر ، لقيام النجاسة ، والنزح بعد خروجها أو استهلاكها ، وكذا لو تفتّت اللحم.

وأمّا شعر طاهر العين فأمكن الإلحاق بمجاورته النجس مع رطوبته وعدمه لطهارته في أصله » (٥).

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٨٣ و ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٥ و ٦.

(٣) أى انبثّ وانتشر ، كما في شرحه (منه).

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٢ ، مع اختلاف يسير في بعض العبارات.

٧٢٨

الثانية : قال في الدروس : « ويعفى عن المتساقط من الدلو وعن جوانبها وحماتها » (١) وفي شرحه للخوانساري تقييد المتساقط بكونه بالقدر المعتاد قائلا : « وهذا الحكم ممّا لا خفاء فيه ، وكاد أن يكون من الضروريّات ، إذ لو لم يكن ذلك لما أمكن تطهير البئر بالنزح في المعتاد » (٢).

وفي حاشية المدارك للمحقّق المتقدّم ذكره : « والمتساقط من الدلو الأخير معفوّ عنه ، للمشقّة العظيمة ، ولأنّ الطهارة معلّقة على النزح وقد حصل ، ولكن الظاهر أنّ المعفوّ عنه هو المتساقط العادي ، فلو خرج عن العادة مثل أن يكون في الدلو خرق ومزق بما يزيد على العادة لم يكن معفوّا عنه ، بل لم يكن الدلو محسوبا من العدد ، وكذا لو تحرّك الدلو بما هو زائد على المعتاد فانصبّ منه كثير ، على أنّ في مطلق الخرق والتمزّق إشكالا ، لأنّ المتبادر من الدلو هو الصحيح السالم.

نعم ، ما يخرج من مسامّات (٣) الدلو ومخارق الإبر لا يضرّ إذا كان الدلو من الدلاء المتعارفة » (٤) انتهى.

والظاهر أنّ مرادهم بالعفو هنا ـ كما هو المصرّح به في الشرح المتقدّم ـ أنّ المتساقط وإن كان متنجّسا لكنّه لا يوجب انفعال ما في البئر بتجدّد أثر على الأثر الأوّل كما في غير الدلو الأخير ، أو تجدّده الرافع للطهارة الحاصلة بالنزح كما فيه.

ويشكل ذلك على القول بالتنجيس بأنّ المحقّق عندهم في تنجّس ماء البئر عدم الفرق بين النجس والمتنجّس ، ولا بين كثير كلّ منهما وقليله ، فكيف يلائم الحكم المذكور لمقالتهم هذا ، وكيف يعقل ذلك إذا كانت الماهيّة الصادقة على القليل والكثير في حكم الشرع مقتضية للتنجيس ، ولزوم العسر الشديد لا يقضي إلّا بنفي التكليف وهو ليس من المدّعى في شي‌ء ، إلّا بإرجاعه إلى تخصيص الأدلّة القاضية عندهم بالانفعال وهي الأوامر الواردة بالنزح.

وفيه : أنّ التزام التخصيص في جميع هذه الأوامر ليس بأولى من التزام التجوّز بإرادة الاستحباب.

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٤.

(٣) السمّ : الثقب ... ومسامّ الجسد : ثقبه. القاموس المحيط ؛ مادّة « ثقب » ٤ : ١٣٣.

(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٤٩.

٧٢٩

ولو سلّم أنّ التخصيص بنوعه أرجح من المجاز لا يلزم منه الأرجحيّة في جميع الأشخاص حتّى ما كان منها موهونا بمصادفة خارج كما في المقام ، لما تقدّم من اختلاف الروايات في تقديرات النجاسات حتّى ما كان منها نوعا واحدا ، واختلاف أفراد نوع واحد من النجاسات في مقدار النزح كثرة وقلّة ، مع انتفاء ذلك الاختلاف في غير ماء البئر ممّا يتنجّس بملاقاة النجاسة.

سلّمنا لكن يمكن التفصّي عنهما معا وإن استلزم القول بوجوب النزح تعبّدا ، نظرا إلى أنّ النجاسة في مفاد تلك الأوامر ليست من مقتضي الوضع اللغوي ولا العرفي الثابت على خلاف اللغة ، وإنّما هو لازم عرفي أو شرعي علم أو ظنّ به في غير المقام بملاحظة طريقته في الأوامر الواردة في المياه وغيرها ممّا يغسل ويتطهّر من الأواني والثياب وغيرها ، فغايته أنّه ظهور خارجي ثبت في الأوامر بالعرض ، وجعل الضرورة وغيرها بالقياس إلى حكم المتساقط قرينة على الخروج عن هذا الظاهر من جهة التخصيص ليس بأولى من جعلها كاشفة عن عدم اعتبار ذلك الظاهر رأسا في خصوص المقام.

وعلى أيّ حال كان فالعفوّ عن المتساقط بالقيد المتقدّم بناء على التنجيس ثابت لا شبهة فيه ، وبعض ما تقدّم في عبارة الحاشية موضع [منع] ؛ وما ادّعاه من تبادر الصحّة حتّى بالنسبة إلى خرق ومزق وثقبة لا يسلم عنها الدلاء غالبا غير مسلّم ، والعبرة بما هو الغالب والمعتاد.

ثمّ إنّ العفو عن المتساقط كما هو ثابت بالقياس إلى ماء البئر فكذلك ثابت بالقياس إلى جوانب البئر وجوانبها وطينتها فيما لو فرض السقوط عليها ، كما يتّفق في نزح الجميع.

وممّن صرّح بذلك العلّامة في المنتهى ، قائلا : « لا تنجس جوانب البئر بما يصبّها من المنزوح ، للمشقّة المنفيّة » (١). وتنزيل ما تقدّم عن الدروس (٢) إلى هذا المعنى ، كما احتمله الشارح فخدشه : « بأنّ هذا الحكم وإن لم يستبعد في الجدران ، لكن لا معنى له في الحماة » (٣) وهي الطينة ، في غاية البعد من هذه العبارة ، وإنّما هي ظاهرة في العفو بالمعنى المراد بالنسبة إلى المتساقط ، وهو أنّ الجدران والطينة وإن كانت نجسة بملاقاة

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٥.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٣) مشارق الشموس : ٢٤٤.

٧٣٠

الماء المتنجّس ، غير أنّ نجاستها لا تؤثّر في ماء البئر حال النجاسة ولا حال صيرورته طاهرا بالنزح ، وليت شعري لم لم يحكم بطهارتهما تبعا لطهارة الماء بعد كمال النزح؟كما ذكروه في المباشر ، والدلو ، والرشاء كما يأتي في المسألة الآتية ، فإنّه أقرب بظاهر الشرع ، ولعلّه المراد من العبارة ، وإن كانت غير ظاهرة فيه كما فهمه الشارح المتقدّم ، قائلا : « بأنّ المراد بالعفو أنّه بعد تمام النزح يصير طاهرا » (١) وكيف كان فالأقرب هو الطهارة.

الثالثة : جعل في شرح الدروس (٢) المتساقط الخارج عن المعتاد أعمّ من أن ينصبّ جميع الدلو المنزوح في الماء وعدمه ، وانصباب الدلو بأجمعه عندهم مسألة يستفاد منهم الخلاف فيها على قولين ، بل أقوال ثلاث :

الأوّل : ما صرّح به في الذكرى ـ على ما حكي ـ من أنّه : « لو انصبّ بأسره اعيد مثله ـ في الأصحّ ـ وإن كان الأخير ، للأصل » (٣) ، وهو الّذي يظهر من إطلاق المحقّق المتقدّم في حاشية المدارك بل صريحه من « أنّه لا يوجب إلّا نزح عوضه » (٤) ، ثمّ حكى الفرق عن منتهى العلّامة (٥) بإدخال ما يكون من الدلو الأخير فيما لا نصّ فيه ، فقال : « وفي الفرق تأمّل » (٦).

والثاني : ما يستفاد من الشرح المتقدّم من الميل إلى دخوله في غير المنصوص في كلّ من الدلو الأخير وغيرها ، حيث أخذ بالمناقشة فيما فصّله العلّامة بنفي الفرق ، تعليلا : « بأنّ وجه إدخال الدلو الأخير فيما لا نصّ فيه ـ على الظاهر ـ أنّه ماء نجس لاقى البئر فانفعل عنه كغيره من أنواع النجاسات ، ولم يرد له مقدّر ، فيكون من أفراد غير المنصوص ، وهو جار فيما عداه.

وتوهّم الفرق بأنّ البئر طاهرة في صورة انصباب الدلو الأخير ونجسة في غيرها.

يدفعه : أنّ ثبوت الانفعال بنوع من أسبابه لا يمنع من تأثير سبب آخر ، ألا ترى أنّ أهل القول بالتداخل أوجبوا نزح الأكثر ، وإن كان الموجب له متأخّرا في الوقوع عن موجب الأقلّ » (٧).

__________________

(١ و ٢) مشارق الشموس : ٢٤٤.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٩١.

(٤ و ٦) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٥١.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٠٨.

(٧) مشارق الشموس : ٢٤٤.

٧٣١

والثالث : ما فصّله العلّامة قائلا في المنتهى : « لو وجب نزح عدد معيّن ، فنزح الدلو الأوّل ثمّ صبّ فيها ، فالّذي أقوله تفريعا على القول بالتنجيس : أنّه لا يجب نزح ما زاد على العدد عملا بالأصل ، ولأنّه لم تزد النجاسة بالنزح والإلقاء ، وكذا إذا القي الدلو الأوسط ، أمّا لو القي الدلو الأخير بعد انفصاله عنها ، فالوجه دخوله تحت النجاسة الّتي لم يرد فيها نصّ ، وكذا لو رمى الدلو الأوّل في بئر طاهرة الحق بغير المنصوص » (١). انتهى ، وهذا القول بظاهر القواعد لا يخلو عن قوّة ، ففيما عدا الدلو الأخير ـ ولا سيّما الدلو الأوّل وما يقرب منه ـ لا دليل على وجوب الزيادة على ما في الذمّة أوّلا من تمام العدد ، كما في الدلو الأوّل أو ما بقي منه كما في غيره ، ودخوله في غير المنصوص إن اريد به في الاسم فقط فهو مسلّم ، لكنّه غير مجد في التزام أمر زائد.

وإن اريد به في الحكم أيضا ، فهو إنّما يسلّم إذا اقتضى انفعالا آخر في الماء غير ما هو حاصل قبل انصبابه ، وهو ـ مع كون نجاسته أثرا من الأثر الثابت أوّلا ـ في حيّز المنع ، فيدفع احتماله بالأصل ، وكونه مشمولا لعموم أدلّة الانفعال ممنوع ، لظهور الأدلّة في ملاقاة نجس أو متنجّس محلّا طاهرا ، ولا ريب أنّ هذه الصغرى منتفية هنا.

نعم ، هذا الكلام متّجه في الدلو الأخير بعد انفصاله عن المحلّ الموجب لطهارته ، فإنّه بعد الانصباب داخل في الصغرى المذكورة ، فيترتّب عليها الكبرى وهي انفعال المحلّ ثانيا ، ولمّا لم يرد بالنسبة إليه نصّ بالخصوص فيلحقه حكم غير المنصوص.

لكن المتعيّن في نزحه هنا في بادئ النظر ما صار إليه صاحب المعالم (٢) ـ على ما حكي عنه ـ من الاكتفاء بنزح أقلّ الأمرين من مقدّر النجاسة المقتضية للنزح ومنزوح غير المنصوص حسبما يترجّح فيه ، ولمّا ثبت أنّ الأرجح عندنا في ذلك نزح الجميع فالمتعيّن حينئذ نزح المقدّر ، للقطع بأنّ نجاسته فرع من هذا الأصل ، وأنّها أضعف منها بمراتب ، فلا يزيد حكمها على حكم الأصل.

وإلى ذلك يرجع الأولويّة الّتي ادّعاها في المعالم (٣) لصورة الاكتفاء بالمقدّر ، والمناقشة فيها بمنع الأوّليّة ـ كما في كلام الخوانساري شارح الدروس ـ (٤) لا يلتفت إليها.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٨.

(٢ و ٣) فقه المعالم ١ : ٢٨١.

(٤) مشارق الشموس : ٢٤٤.

٧٣٢

الرابعة : قال في الدروس : « وبطهرها يطهر المباشر والرشاء » (١) والظاهر أنّ مراده من المباشر ما يعمّ بدنه وثيابه ، لكن بشرط كون النجاسة الحاصلة فيهما مستندة إلى ما يلزمه النزح من مباشرة الماء المتنجّس ، وهذا الحكم لم يرد لبيانه نصّ بالخصوص غير أنّه يستفاد من غير واحد كونه اتّفاقيّا ، ويجوز للفقيه أن يستند فيه إلى ظهورات يستظهرها من الروايات بدلالاتها الغير المقصودة ، مثل سكوتها عن إيجاب غسل هذه الأشياء بعد كمال النزح ، وخلوّها عمّا يدلّ على بقائها على نجاسة ، مع أنّها لا ينفكّ عنها النزح ، واستحباب الزائد على المقدّر في بعض المنزوحات من دون إشارة إلى تبديل الدلو والرشاء ولا تطهيرهما وتطهير المباشرة ، مع أنّه لو بقي أحد هذه الأشياء على نجاسة لسرت إلى ماء البئر لضرورة الملاقاة عادة.

وأقوى ما يستظهر منه ذلك الحكم صحيحة الفضلاء وصحيحة الفضل المتقدّمتان في الأبواب السابقة ، القائلة اولاهما بأنّه : « يخرج ، ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ اشرب منه وتوضّأ » (٢).

وثانيتهما : بأنّه « يخرج ، ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ يشرب ويتوضّأ » (٣) فلو أنّ الدلو وغيره لا يطهّر بطهر الماء لكان عليه أن يقول بعد قوله عليه‌السلام : « ثمّ ينزح » ، « ثمّ يغسل الدلو ، والرشاء ، ويد المباشر ، ثمّ يشرب ويتوضّأ » وإلى بعض ما ذكرناه هنا أشار المحقّق في محكيّ المعتبر قائلا : « بأنّه لو كان نجسا لم يسكت عنه الشرع ، ولأنّ الاستحباب في النزح (٤) يدلّ على عدم نجاستها ، وإلّا لوجب نجاسة ماء البئر عند الزيادة عليه (٥) قبل غسلها ، والمعلوم من عادة الشرع خلافه » (٦).

الخامسة : وجوب النزح على القولين توصّلي ولو من جهة الأصل فيه ، ولازمه أن لا يعتبر فيه نيّة ولا قصد القربة ولا مباشرة نفسيّة ، فلو انعقد في الخارج على العدد المقدّر لا بنيّة ، أو بنيّة جهة اخرى ، أو بنيّة نزح المقدّر لكن رياء ، كان كافيا في سقوط

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٨٣ و ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٥ و ٦.

(٤) يعني النزح الزائد على المقدّر في بعض النجاسات (منه).

(٥) يعني المقدّر (منه).

(٦) المعتبر : ١٩.

٧٣٣

الأمر ، كما أنّه كذلك لو حصل من غير المكلّف بالغا أو غيره ، مسلما أو غيره بشرط عدم المباشرة المنجّسة ، بل يكفي نزح المقدّر لو حصل من غير إنسان كالثور ونحوه ، وقد صرّح بأكثر ما ذكرناه غير واحد من أصحابنا ، منهم العلّامة في المنتهى (١).

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بما ينزح له من النجاسات الموجبة له ، وفيه : مسائل ثلاث :

الاولى : قال المحقّق في شرائعه : « حكم صغير الحيوان في النزح حكم كبيره في النزح » (٢) ولعلّه أخذ بما يوجب اليقين بالبراءة ، وإلّا فلمنع انصراف أدلّة العناوين الموجبة للنزح إلى ما عدا الكبير ـ ولا سيّما ما كان من الصغير في أوائل تولّده ـ مجال واسع ، وعليه دخول الصغير في غير المنصوص لا يخلو عن قوّة ، غير أنّه لو قيل في غير المنصوص بما يزيد على مقدّر هذا النوع من الحيوان فالقطع حاصل بأنّ منزوح صغيره لا يزيد على منزوح كبيره ، ولو قيل بما يقصر عنه فالاكتفاء به له غير بعيد ، وإن كان الاحتياط في الأخذ بمقدّر النوع ، ويعضده استصحاب النجاسة.

الثانية : قال في المنتهى : « لو وقع جزء الحيوان في البئر ، كيده ورجله ، يلحق بحكمه ، عملا بالاحتياط الدالّ على المساواة ، وأصالة البراءة الدالّة على عدم الزيادة » (٣) وهو الظاهر من شرائع المحقّق حيث قال : « إلّا أن يكون بعضا من جملة لها مقدّر فلا يزيد حكم أبعاضها عن جملتها » (٤).

وعن المحقّق الشيخ عليّ (٥) احتمال إلحاقه بغير المنصوص لعدم تناول اسم الجملة له ، وعن صاحب المعالم التفصيل قائلا : « بأنّه إن كان مقدّر الكلّ أقلّ من منزوح غير المنصوص اكتفى به للجزء ، لأنّ الاجتزاء به في الكلّ يقتضي الاجتزاء به في الجزء بالطريق الأولى ، وإن كان المقدّر زائدا فالمتّجه عدم وجوب نزح الزائد » (٦) انتهى.

وهذا هو الأقرب وإن كان الأحوط المتأيّد بالاستصحاب على القول بالنجاسة اعتبار مقدّر الكلّ مطلقا.

نعم ، على القول بوجوب النزح تعبّدا رجع الشكّ إلى ثبوت التكليف بالزائد والأصل ينفيه ، ولا يعارض هنا باستصحاب الأمر ولا اشتغال الذمّة ، مع إمكان المنع

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٥. (٢ و ٤) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.

(٥) حكى عنه في مدارك الأحكام ١ : ٩٨.

(٦) فقه المعالم ١ : ٢٧٧.

٧٣٤

عن أصل الاشتغال على هذا القول بالنسبة إلى غير المنصوص.

وهذا المنع قويّ متّجه ، وعليه يختصّ ما تقدّم من حكم غير المنصوص واخترنا فيه لزوم نزح الجميع بالقول بالانفعال ، لأنّ الاشتغال على هذا القول تابع لعروض النجاسة للبئر وهو قدر مشترك بين المنصوص وغيره ، وإن كان إتمامه في غاية الإشكال إلّا من جهة الإجماع على عدم الفرق ، ولعلّه ثابت. فتأمّل.

هذا كلّه إذا اتّحد الجزء أو تعدّد وعلم بكونه من حيوان واحد ، وأمّا مع الاشتباه في كونه من واحد أو اثنين ففي المدارك : « الأقرب عدم التضاعف ، لأصالة عدم التعدّد » (١) وهو واضح الضعف ، لأنّ التعدّد بالنسبة إلى الجزءين محرز فلا يعقل نفيه بالأصل ، وبالنسبة إلى الكلّ محتمل ككون الاتّحاد محتملا فلا يقين بشي‌ء منهما لاحقا ولا سابقا.

وعن الشهيد : « أنّ الأجود التضاعف » (٢) وكأنّ مستنده الاستصحاب ، لكن بناء على عدم التداخل ولو من جهة الاستصحاب.

وعن صاحب المعالم : « الوجه عندي نزح أقلّ الأمرين من مقدّر الكلّ من كلّ منهما ومن منزوح غير المنصوص » (٣) ، وهذا جيّد وإن كان الاحتياط واستصحاب النجاسة يقتضي اعتبار مقدّر الكلّ بل القول بالتضاعف.

ولو اشتبه الجزء بين حيوانين مقدّر أحدهما أكثر من الآخر ، فمقتضى الاستصحاب اعتبار مقدّر الأكثر ، ومنه يعلم الحال في الجزءين المشتبهين بين حيوانين مختلفين في المقدّر.

الثالثة : قال في الدروس : « ولو تضاعف المنجّس تضاعف النزح ، تخالف أو تماثل في الاسم أو في المقدّر » (٤) وعزاه الخوانساري في الشرح (٥) إلى جماعة من المتأخّرين ، منهم المحقّق والشهيد الثانيين (٦) ، وهو محكيّ عن المعالم أيضا (٧) ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه بعدم التداخل مطلقا ، وعن العلّامة في جملة من كتبه كالقواعد (٨) ، والمنتهى (٩) المصير إلى تداخل النجاسات مطلقا ، متخالفة كانت كالإنسان والكلب ، أو متماثلة في

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٩٩.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٩١. (٣) المعالم ١ : ٢٧٨.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٥) مشارق الشموس : ٢٤٣.

(٦) كما في جامع المقاصد ١ : ١٤٧ ، ومسالك الأفهام ١ : ٢٠.

(٧) فقه المعالم ١ : ٢٧٥.

(٨) قواعد الأحكام ١ : ١٨٨ حيث قال : « ولو تكثّرت النجاسة تداخل النزح مع الاختلاف وعدمه ».

(٩) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.

٧٣٥

الاسم كإنسانين ، أو في المقدّر كالكلب والسنّور.

قال في المنتهى : « إذا تكثّرت النجاسة ، فإن كانت من نوع واحد فالأقرب سقوط التكرير في النزح ، لأنّ الحكم معلّق على الاسم المتناول للقليل والكثير لغة ؛ أمّا إذا تغايرت فالأشبه عندي التداخل.

لنا : أنّه بفعل الأكثر يمتثل الأمرين فيحصل الإجزاء ، وقد بيّنّا أنّ النيّة غير معتبرة ، فلا يقال : إنّه يجب عليه النزحان ، لكلّ نجاسة مقدار مغاير » (١) انتهى.

وتبعه في ذلك شارح الدروس (٢) ، وعن المحقّق في المعتبر القول بعدم التداخل إذا كانت الأجناس مختلفة كالطير والإنسان ، وإن تماثلت في المقدّر ، لأنّ الأصل في الأسباب أن تعمل عملها ولا يتداخل مسبّباتها ، وتردّد إذا كانت متساوية ، لأنّ النجاسة من الجنس الواحد لا تتزايد ، إذ النجاسة الكلبيّة موجودة في كلّ جزء ، فلا يتحقّق زيادة توجب زيادة النزح ، وأنّ كثرة الواقع تؤثّر كثرة في مقدار النجاسة فتؤثّر شياعا في الماء زائدا ، ولهذا اختلف النزح بتعاظم الواقع.

وربّما يحكى عن ابن إدريس (٣) التصريح بالفرق من دون تردّد.

حجّة القول الأوّل : ما تقدّم في أوّل شقّي المعتبر ، وقد يقرّر : بأنّ مقتضي دليل كلّ نوع سببيّة وقوعه لاشتغال الذمّة بنزح المقدّر ، فتعدّد السبب يقضي بتعدّد الاشتغال ، وهو يقضي بتعدّد الامتثال.

وهذا القول هو الأقوى على ما قرّرناه في كتبنا الاصوليّة ، والحجّة المذكورة ممّا لا دافع لها ، من غير فرق في ذلك بين القول بالتنجيس والقول بوجوب النزح تعبّدا ، وإن كان على الثاني أظهر.

فإن قلت : نمنع استفادة السببيّة عن أدلّة أنواع النجاسة ، لجواز كونها معرّفات كما في سائر العلل الشرعيّة للأحكام ، فلا مانع من تعدّدها على معلول واحد.

قلت : مع أنّه لا يجري على القول بالتنجيس ، لضرورة كون وقوع كلّ نوع سببا لنجاسة البئر ، إن اريد به كونه مجرّد احتمال فهو ممّا لا يصغى إليه في إخراج الخطاب عن ظاهره ، ولا يقدح في وجوب الأخذ بالظاهر ، حيث إنّ الاستدلال ليس بعقلي صرف.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٣.

(٣) السرائر ١ : ٧٧.

٧٣٦

وإن اريد به كونه مع ذلك ظاهرا ، فمنعه أوضح ممّا مرّ ، لوضوح ظهور الخطاب في السببيّة ولو من جهة دلالته التنبيهيّة ، كما هو الحال في محلّ المقال.

مع أنّ الظاهر أنّ فرض المعرّفية غير مجد في حسم مادّة الإشكال ، حيث لا فرق بين العلّة والمعرّف إلّا في أنّ الاولى واسطة في الثبوت والثاني واسطة في الإثبات ، على معنى كونه علّة للعلم بالثبوت ، فالمعرّف ما كان علّة تامّة لوجود شي‌ء في الذهن ، وكما أنّه يستحيل استناد وجود شي‌ء في الخارج إلى أكثر من علّة تامّة واحدة ، فكذلك يستحيل استناد وجوده الذهني إلى أكثر من علّة تامّة ، وجواز اجتماع أكثر من دليل واحد في مسألة واحدة لا يقضي بكون العلم الحاصل فيها معلولا لكلّ واحد ، بل العلّة حينئذ إمّا المجموع أو أحدها الغير المعيّن ، مع انتفاء سبق البعض البالغ في العلّيّة أو كونه بالقياس إلى غيره أقوى في التأثير.

فحينئذ ينبغي أن يقال ـ في نظائر المقام مع فرض الاجتماع ـ : بأنّ وقوع كلّ معرّف سبب للعلم بوجود معرّفه الواقعي وإن لم نعرفه بعينه ، سواء كان نفس الحكم الشرعي أو ما هو علّة له في الواقع ، حتّى أنّه إذا اجتمع هناك معرّفان نقول : بتحقّق معلومين وهكذا ، بل هذا ممّا لا بدّ منه على قياس ما هو الحال على فرض العلّيّة الواقعيّة ، نظرا إلى أنّ كلّ واسطة في الثبوت واسطة في الإثبات أيضا ، فبتعدّد العلّة يتعدّد المعلوم الّذي هو المعلول الواقعي.

ولا ريب أنّ المعلوم بعنوان كونه معلولا لا يتعدّد إلّا إذا أثّر كلّ علّة بوجودها في وجود معلولها ، وهو ملزوم للعلم بالوجود ، وهكذا يقال في المعرّف وإن لم يكن المعلوم المتعدّد معلولا له.

وبالجملة تعدّد المعرّف بظاهر الخطاب بتعدّد التعريف ، وهو لا يعقل إلّا مع تعدّد المعرّف ، والقول بكون الكلّ للتعريف إلى معرّف واحد خلاف ظاهر الخطاب القاضي بكون كلّ معرّفا تامّا.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يندفع ما يقال ـ في تأييد الحمل على التعريف من ـ : أنّه إذا كان ظاهر الدليل اتّحاد المسبّب ـ ولو نوعا ـ كما هو المفروض ، فلا حاجة إلى ارتكاب تعدّده الشخصي بتعدّد الأشخاص ، بل ينبغي حمل السبب على المعرّف.

٧٣٧

ويشهد له أنّه لا يفهم عرفا فرق بين ورود الأسباب المتعدّدة لحكم شخصي ، مثل قوله : « إن زنى زيد فاقتلوه ، وإن ارتدّ فاقتلوه » ، وبين ورودها لحكم واحد بالنوع قابل للتعدّد الشخصي ، مثل قوله : « إن قدم زيد من السفر فأضفه ، وإن زارك في بيتك فأضفه ».

ووجه الاندفاع : أنّ الاتّحاد والتعدّد الملحوظين في المقام إنّما يعتبران في إيجاد النوع ، بل في إيجاب إيجاده لا في نفسه ، فكون المسبّب واحدا بالنوع لا ينافي تعدّد إيجاداته إذا قضت به السببيّة المستفادة عن دليل كلّ نوع ، ولا أنّه يوجب اعتبار التعدّد الشخصي في مورد الدليل ، ليكون ارتكابا لخلاف ظاهر فيه ، إذ الشخصيّة الملحوظة هنا من لوازم الامتثال بالنوع ، لا من مقاصد دليل ذلك النوع ولا من محتملاته المخرجة له عن ظاهره ، فإذا كان ظاهر الدليل سببيّة كلّ نوع أو كلّ وقوع لإيجاد نوع المسبّب وهو النزح ، فقضيّة تعدّد الأنواع أو تعدّد الوقوعات تعدّد الإيجادات بتعدّد إيجابات إيجاده على حدّ الأوامر الواردة بإيجاد طبيعة واحدة في غير مورد التأكيد ، فالحاجة ماسّة إلى اعتبار التعدّد لكن في الامتثال بنوع المسبّب لا في أشخاصه.

وأمّا التفرقة بين المثالين بكون الأوّل من باب ورود الأسباب المتعدّدة لحكم شخصي ، والثاني من باب ورودها لحكم واحد بالنوع ، فضعفها واضح ، بعد ملاحظة أنّ مجرّد إضافة « القتل » إلى « زيد » لا توجب كونه واحدا بالشخص ، لما اعتبر في الشخصيّة من انضمام خصوصيّات اخر من جهة الفاعل وزمان الفعل ومكانه ونحوه ، [و] كلّها ملغاة في المثال ، فقتل « زيد » كضيافته أمر كلّي ، غير أنّ الأوّل غير قابل لتعدّد اشخاصه في ظرف الخارج لا في وعاء الذهن ، والثاني قابل له.

ولعلّ ذلك الفرق أوجب توهّم كون الأوّل واحدا بالشخص والثاني واحدا بالنوع.

وأنت خبير بأنّ ما هو من لوازم الوجود لا يؤخذ فيما هو من مقاصد الخطاب ، وعدم قابليّة التعدّد في الخارج لا ينافي إمكان فرض التعدّد.

ومن هنا نقول ـ في مثال القتل أيضا ـ : إنّ توارد الأسباب المتعدّدة عليه يقضي بتعدّد الأمر به على نحو التكاليف المتعدّدة ، ولا ينافيه عدم بقاء التكليف بعد حصول امتثال واحد منها ، لأنّ ذلك من جهة سقوط الباقي بارتفاع موضوعه لا من جهة أنّ الثابت بالدليل فيه تكليف واحد ، أو من جهة كفاية امتثال واحد عن اشتغالات عديدة.

٧٣٨

ومن هنا يندفع اعتراضان آخران أوردا على التقرير المتقدّم في الاحتجاج :

أحدهما : منع قضاء تعدّد المسبّب بتعدّد الواجب ، فإنّ المسبّب اللازم تعدّده بتعدّد أسبابه إنّما هو الوجوب ، ولا ريب أنّ تعدّد الوجوب لا يقتضي تعدّد الواجب ، بل من الجائز اجتماع إيجابات متعدّدة في واجب واحد للتأكيد أو لجهات اخر.

وثانيهما : ما يرجع إلى منع اقتضاء تعدّد الواجب تعدّد الامتثال ، بل يكفي فعل واحد عن فعلين ، لصدق الامتثال مع الواحد أيضا على قياس ما هو الحال في الأغسال وغيرها من الأحداث المقتضية للوضوء أو الغسل.

وجه اندفاع الأوّل : أنّ الوجوب إن اريد به التكليف الفعلي المتوقّف فعليّته على العلم بتحقّق سببه الّذي منه صدور الخطاب الكاشف عن انقداح الطلب النفساني صدورا ، المتوقّف تعلّقه على العلم بتحقّق جهة صدوره ، فلا ريب أنّ تعدّده يقضي بتعدّد الواجب ، كيف لا وكلّ عرض لا بدّ له من معروض ، ومقايسة ذلك على مقام التأكيد غير سديدة ، ضرورة أنّ الحادث في التأكيد ليس إيجابات حقيقيّة متعدّدة ، بل إيجاب واحد مبيّن بعبارات متعدّدة ، وحمل المقام على نظير ذلك خروج عن الظاهر بلا داع إليه.

ووجه اندفاع الثاني : أنّ معنى تعدّد الواجب تعدّد الاشتغال بأفعال متعدّدة أو فعل واحد بالنوع ، ولا ريب أنّ تعدّد الأفعال ممّا يستدعي في حكم العقل تعدّد الامتثال ما لم يقم دليل على كفاية الواحد ، ومع قيامه خرج المورد عن المبحث.

فمنه يتبيّن فساد التمثيل بالأغسال وغيرها ، فإنّ الاكتفاء بالواقع هناك اتّباع للدليل الغير الموجود هنا ، ولو سلّم عدم قضاء العقل بلزوم التعدّد في الامتثال عند تعدّد الاشتغال فلا أقلّ من الشكّ في اعتباره ، وهو محرز للأصل المقتضي لبقاء الاشتغال بغير ما امتثل به ، ولا رافع له في جانب اللفظ ولو من جهة الإطلاق كما لا يخفى.

وممّا يعترض في المقام : إنّ القاعدة وإن اقتضت عدم التداخل ، إلّا أنّ من المعلوم في خصوص المقام أنّ النزح لإزالة النجاسة الحاصلة من ملاقاة ما وقع فيه ، والنجاسة وإن تعدّدت أفرادها ـ كما يكشف عن ذلك اختلاف كيفيّة إزالتها ـ إلّا أنّ الثابت من ذلك كفاية مزيل أحد الأفراد لإزالة الفرد الآخر المساوي له في الكيفيّة ، فيكفي مزيل واحد للنجاسة الحاصلة من وقوع شاة وكلب ، لأنّ الفرض اتّحاد نجاستهما لاتّحاد مزيلهما ،

٧٣٩

وكفاية مزيل الأشدّ لإزالة الأضعف ، فيتداخل الأقلّ مقدارا في الأكثر.

وفيه : منع ثبوت هذا المعنى من أدلّة المقام ، فالكفاية المدّعاة من كلّ من القسمين مبنيّة على أحد الأمرين ، من أصالة التداخل في مسبّبات الأسباب ، أو قيام القرينة عليه في خصوص المقام ، والكلّ محلّ منع ، بل الأصل المستفاد من الأدلّة يقتضي خلافه ولا مخرج عنه هنا.

فإن قلت : لا ريب أنّ السبب المقتضي للنزح على القول بانفعال البئر بالملاقاة إنّما هو النجاسة العارضة للماء بسبب وقوع ما يقع فيها من أنواع النجاسات لا نفس الوقوع ، فلا عبرة بتعدّد الوقوع ولا الواقع ، بل المعتبر في عدم التداخل هنا ـ على ما يقتضيه الإنصاف ـ إحراز أحد الأمرين ، من تعدّد الحدوث لصفة النجاسة على حسب تعدّد ما يقع فيها ، بأن يحدث بوقوع كلّ واقع من صفة النجاسة فرد ممتاز ولو في علم الله سبحانه مقتض لمقدّره المعلوم له من الشرع ، زاد على مقدّر الفرد الآخر أو ساواه أو قصر عنه ، أو بلوغ الصفة الحادثة بكثرة الواقع وتلاحقه في القوّة وتأكّد التأثير حدّا لا ترتفع معه إلّا بنزح مجموع المقدّرين أو المقدّرات المساوية أو المتخالفة ، بدعوى : أنّ الصفة الحادثة مرتبة بالغة من مراتب النجاسة ، بناء على أنّها تتأكّد وتتضاعف ، وأنّ مجموع المقدّرين أو المقدّرات كأنّه في نظر الشارع مقدّر لتلك المرتبة ، وكلّ من هذين الأمرين وإن كان ممكنا في نظر العقل لكن ليس في حكمه ولا في النصوص الواردة في الشرع ما يقتضي أحدهما.

غاية الأمر قيام احتمال في ذلك وهو لا يعارض الأصل الجاري في المقام ، فإنّ الأصل عدم حدوث ما زاد على فرد واحد ، كما أنّ الأصل عدم بلوغ الصفة الحادثة إلى ما ذكر من المرتبة.

ولا ينبغي معارضة ذلك الأصل باستصحاب النجاسة ، كما تمسّك به بعضهم على عدم التداخل ، لعدم كون ذلك الاستصحاب في مجراه ، إمّا لانتفاء الحالة السابقة إن قرّر بالقياس إلى ما لم ينزح مقدّره ، أو لتيقّن ارتفاع الأثر إن قرّر بالقياس إلى ما ينزح مقدّره.

ولا يقاس ذلك الاستصحاب على استصحاب القدر المشترك المتيقّن المردّد بين الأقلّ والأكثر ، لوضوح الفرق بينهما بكون القدر المشترك المتيقّن من أوّل الأمر مردّدا ، فهو في الحقيقة كسائر مواقع الاستصحاب أمر واحد طرأه حالة يقين سابقة وحالة

٧٤٠