ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

المفروض أنّه لا تصريح في الروايات بالنجاسة ، ولا بأنّها هي المقتضية للمنع ، لجواز أن يكون في غسالة الكافر باعتبار المعنى صفة اخرى غير النجاسة هي المقتضية لذلك المنع.

وممّا يشعر بذلك ما في ذيل رواية ابن جمهور من « أنّ الناصب أهون على الله من الكلب » فإنّه يومئ إلى أنّ الحكمة الداعية إلى المنع المذكور إنّما هي الإهانة على الكافر لما فيه من خبث الباطن ، ولا ينافي ذلك ما في تلك الرواية من الطعن على ولد الزنا من « أنّه لا يطهّر إلى سبعة آباء » لأنّ ذلك أيضا من جهة ما فيه من الخبث الباطني ، لا أنّ الطهارة هنا مراد بها ما يقابل النجاسة بالمعنى الشرعي ؛ فإنّ النجاسة بهذا المعنى ممّا لا سبيل إلى التزامه في ولد الزنا ـ كما تنبّه عليه بعض الأصحاب كصاحب الحدائق ـ قائلا : « بأنّه لم يقل بنجاسة ابن الزنا على هذا الوجه قائل من الأصحاب ، ولا دليل عليه من سنّة أو كتاب » (١).

نعم في بعض نسخ تلك الرواية الواصلة إلينا ـ كما قدّمنا ذكرها في جملة أخبار انفعال القليل ـ مكان قوله عليه‌السلام : « أنّ الله لم يخلق خلقا شرّا من الكلب الخ » ، قوله : « أنّ الله لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ، وأنّ الناصب لنا أهل البيت أنجس منه » ومثله ما في ذيل رواية العلل على ما وجدناه في الوسائل ، لكن بعد وقوع الاختلاف في النسخ لا يتعيّن علّيّة وصف النجاسة دون وصف آخر ، وغرضنا منع الدلالة ويكفي فيه مجرّد إبداء الاحتمال ، لابتناء الاستدلال على دعوى : الملازمة بين المنع والنجاسة ، أو دعوى : المنافاة بينه وبين زوال النجاسة ، والاحتمال يرفعهما.

إلّا أن يقال : بأنّ الغرض دعوى الملازمة أو المنافاة العرفيّتين ، والاحتمال لا يقدح فيهما ، لأنّ مبناهما حينئذ على الظهور العرفي وهو حاصل في المقام ، لأنّ المنساق من الروايات عرفا كون العلّة الداعية إلى المنع هي النجاسة في غسالة الكافر ، بل انفعال ما يمتزج هي معها من الغسالات الاخر بملاقاتها إيّاها.

وبعد كلّ هذه اللّتيّا والّتي ، فالإنصاف يقتضي عدم جواز الاستناد إلى تلك الروايات في هذا المقام لإثبات الحكم الشرعي ، من طهارة أو نجاسة ، لعدم سلامة أسانيد أكثرها من الضعف والإرسال معا ، أو أحدهما ، فإنّ المرسلة الاولى مع ضعفها بالإرسال ،

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٢.

٣٦١

مقدوحة بما في أبي يحيى الواسطي من الاشتباه ، لوقوعه ـ كما قيل ـ على إسماعيل بن زياد ، وهو من أصحاب الكاظم عليه‌السلام ولم نقف فيه على مدح ولا قدح ، حيث لم نجده معنونا بخصوصه في كتب الرجال ، وعلى زكريّا بن يحيى وهو من أصحاب الرضا عليه‌السلام وحاله كالأوّل ، نعم في الخلاصة : « زكريّا بن يحيى الواسطي ثقة روى عن أبي عبد الله » (١) والظاهر اتّحادهما ، ولكن قد يبعّده النسبة إلى الإمامين عليهما‌السلام ، إلّا أن يقال : بلقائه إيّاهما ، إلّا أنّ السند يأبى كونه هو لرواية « أحمد ابن محمّد » ، فإنّه بدليل رواية محمّد بن يحيى الظاهر في العطّار ـ بدليل رواية الكليني عنه ـ هو ابن عيسى المعروف الثقة الجليل ، ولم يعهد روايته عن زكريّا ، لما قيل : من أنّه يروي عنه إبراهيم بن محمّد بن إسماعيل ، نعم هو يروي عن سهل ابن زياد ، وهو ثالث من يقع عليهم أبو يحيى الواسطي ، ولكن السند يأبى أيضا عن كونه سهيلا ، لما قيل : من أنّه من أصحاب العسكري عليه‌السلام والمذكور في السند إنّما هو أبو الحسن الماضي عليه‌السلام ، وكونه ملاقيا له عليه‌السلام أيضا يستلزم ملاقاته خمسة وهو بعيد في الغاية ، مع أنّ سهل بن زياد ـ على فرض احتمال السند له ممّن لم يذكر بتوثيق.

نعم عن النجاشي : « أنّه شيخنا المتكلّم » (٢) ولكنّه لا يدلّ على وثاقته ، مع ما قيل فيه : « من أنّه لم يكن بكلّ الثبت » (٣) ، وما عن ابن الغضائري : « من أنّ حديثه نعرفه تارة وننكره اخرى ويجوز أن يخرج شاهدا » (٤) إلّا أن يقال : إنّ رواية أحمد عنه يعدّ عندهم من أمارات الوثاقة ، ومعه ليس علينا أن ننظر في أنّه أيّ رجل ، ومن أصحاب أيّ إمام ، وكيف كان فالسند لا يخلو عن اضطراب صالح للقدح فيه.

والمرسلة الثانية مع ما فيها من الإرسال أيضا ضعيفة جدّا بابن جمهور ، ضعّفه العلّامة في المنتهى (٥) ، والمحقّق في المعتبر (٦) ، ـ على ما حكي عنه في الحدائق (٧) ، ـ ومثله الكلام في المرسلة الثالثة ، فإنّها أيضا مضافا إلى الإرسال ضعيفة بجهالة حمزة بن أحمد ، كما اعترف به العلّامة في المنتهى (٨) ، وغيره في الرجال فلا يبقى في المقام إلّا

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ١٥٢.

(٢ و ٣) رجال النجاشي : ١٩٢.

(٤) مجمع الرجال ١ : ١٨٠.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

(٦) المعتبر : ٢٣.

(٧) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٩.

(٨) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

٣٦٢

موثّقة العلل ، والكلام في صحّة الاستناد إليها وعدمها يتبيّن بعد تبيّن عبارات الأعلام ، وتعيّن ما هو محلّ كلامهم في هذا المقام.

فنقول : قد اختلفت عباراتهم في ذلك ، فالعلّامة في المنتهى حكم بالطهارة ، قائلا ـ بعد نقل الخلاف في المسألة ـ : « والأقوى عندي أنّه على أصل الطهارة » (١) وإطلاق ذلك يقتضي عدم الفرق عنده بين صور العلم بملاقاة النجاسة ، أو الشكّ فيها ، أو العلم بعدمها.

وممّا يرشد إليه أنّه تمسّك على ذلك بمرسلة أبي يحيى الواسطي المتقدّمة (٢) ـ وهي عامّة ـ وبصحيحة حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب (٣) » ، وبما روي ـ في الحسن ـ عن الكليني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « في الماء الآجن يتوضّأ منه إلّا أن تجد غيره » (٤) ، وهما أيضا عامّان ، وحينئذ فغسالة الحمّام عنده مخرجة عن قاعدة نجاسة الغسالة ، بل قاعدة انفعال القليل بالملاقاة.

إلّا أن يقال : بأنّ قوله بالنجاسة فيهما يقيّد كلامه هنا ، فيخصّصه بصورة عدم العلم بملاقاة النجاسة ، كما أنّ أدلّة القاعدتين تخصّص هذه الأخبار بالصورة المذكورة ، وهو مشكل ، لأنّ قوله بالنجاسة فيهما عامّ وكلامه هنا خاصّ ، وكيف يقيّد الخاصّ بالعامّ ، مع أنّ قاعدة الحمل ممّا لا يجري في فتاوي الفقهاء كما قرّر في محلّه ، والنسبة بين أدلّة الانفعال وهذه الأخبار عموم من وجه ، لاختصاص الاولى بصورة الملاقاة وعمومها بالقياس إلى غسالة الحمّام وغيرها ، واختصاص المرسلة من تلك الأخبار بغسالة الحمّام وعمومها بالقياس إلى صورة الملاقاة وغيرها ، وكيف يخصّص أحد العامّين من وجه بالآخر بلا شاهد خارجي.

نعم ، يجري هذا الكلام بالقياس إلى الحسنة في الآجن ، من حيث إنّها أعمّ من الغسالة وصورة الملاقاة أيضا ، ولكن دليله غير منحصر فيها ، وبالجملة كلامه رحمه‌الله هنا غير

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٩.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٧ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٦.

٣٦٣

خال عن الاضطراب ، مع ما في استدلاله على ما اختاره بصحيحة حريز من الفساد الواضح ، لأنّ هذه الرواية وإن كانت عامّة غير أنّها بملاحظة أدلّة انفعال القليل ـ الّتي يقول بموجبها ـ محمولة عنده على صورة الكرّ ، ومعه كيف يتمسّك بها هنا.

إلّا أن يقال : بأنّ محلّ النزاع هنا أعمّ من القليل والكثير ، وليس ببعيد.

وكيف كان : فالقول بالطهارة منسوب معه إلى جملة من المتأخّرين ومتأخّريهم ، وعدّ منهم الشيخ عليّ في جامع المقاصد (١) ، غير أنّ صريح كلامه المنقول عنه ـ يقتضي اختصاصه بصورة الشكّ ، لأنّه قال : « والّذي يقتضيه النظر أنّه مع الشكّ في النجاسة تكون على حكمها الثابت لها قبل الاستعمال ، وإن كان اجتنابها أحوط » (٢) ، وعن صاحب المعالم (٣) وقبله والده في الروض (٤) الميل إليه ، وعن العلّامة في الإرشاد (٥) أنّه قال : بالنجاسة ، وفي الحدائق : « ربّما تبعه فيه بعض من تأخّر عنه » (٦).

وعن الصدوق قال : « لا يجوز التطهير بغسالة الحمّام ، لأنّه يجتمع فيه غسالة اليهودي والمجوسي [والنصراني] والمبغض لآل محمّد وهو شرّهم » (٧) ، والظاهر أنّ ذلك فتوى بموجب موثّقة العلل ، وعن أبيه قريب من هذا الكلام في رسالته إليه ، وعن نهاية الشيخ : « غسالة الحمّام لا يجوز استعمالها على حال » (٨) وعن ابن إدريس أنّه جرى عليه قائلا : « غسالة الحمّام لا يجوز استعمالها على حال وهذا إجماع ، وقد وردت به عن الأئمة عليهم‌السلام آثار معتمدة ، قد اجتمع الأصحاب عليها ، لا أجد من خالف فيها » (٩) وعن المحقّق في المعتبر الاعتراض عليه قائلا ـ بعد نقل كلامه ـ : « وهو خلاف الرواية وخلاف ما ذكره ابن بابويه ، ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية ورواية مرسلة ذكرها الكليني قال : بعض أصحابنا عن ابن جمهور ، وهذه مرسلة وابن جمهور ضعيف جدّا ، ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال ، فأين الإجماع وأين الأخبار المعتمدة؟ ونحن نطالبه بما ادّعاه ، وأفرط في دعواه » (١٠) انتهى.

والظاهر أنّ مراده بالرواية المشار إليها الّتي حكم على كلام ابن إدريس بكونه على

__________________

(١ و ٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٣.

(٣) فقه المعالم ١ : ٣٥٠. (٤) روض الجنان : ١٦١.

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٠.

(٧) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٠.

(٨) النهاية ١ : ٢٠٣. (٩) السرائر ١ : ٩٠.

(١٠) المعتبر : ٢٣.

٣٦٤

خلافها مرسلة أبي يحيى الواسطي ، وكيف كان فعنه في المعتبر القول : « بأنّه لا يغتسل بغسالة الحمّام ، إلّا أن يعلم خلوّها من النجاسة » (١) ، وبه صرّح في النافع (٢) بعين تلك العبارة وعن العلّامة في القواعد (٣) نحوه.

وقضيّة الاستثناء في كلاميهما أنّهما يقولان بالنجاسة في غير صورة العلم بالخلوّ عنها ، حتّى مع الشكّ في الخلوّ وعدمه ، كما أنّ مقتضى ما عرفت عن الشيخ والحلّي أنّهما يقولان بالنجاسة مطلقا حتّى مع العلم بالخلوّ ولكن يبطله : أنّ الحكم بالنجاسة بلا علّة داعية إليه ـ وهي الملاقاة ـ ممّا لا يحوم حوله الجاهل ، فضلا عن الفقيه الكامل ، فلا بدّ من تنزيل إطلاق كلاميهما على غير صورة العلم بالخلوّ عن الملاقاة ، فيرجع قولاهما إلى قولي المعتبر والقواعد.

وأمّا ما عرفت عن المحقّق فلا يخلو عن إجمال ، من حيث إنّه خصّ المنع بالتطهير ، فلو أنّ الجهة هي النجاسة لم يتفاوت الحال بينه وبين سائر أنواع الاستعمال ، إلّا أن يحمل على إرادة المثال لنكتة تأدية المطلب بلفظ الرواية تيمّنا.

نعم ، يبقى الكلام في تعليله ، فلو أراد بما ذكره القضيّة الدائمة ، بدعوى : دوام اتّفاق اجتماع غسالة اليهوديّ وغيره في غسالة الحمّام ، فهو ممّا يكذّبه الضرورة ، ولو أراد به القضيّة الغالبة ، بدعوى : غلبة ذلك فيها بحكم العادة ، فهو أيضا بالنسبة إلى هذا الصنف غير مسلّم في غالب الحمّامات ، ولا سيّما أعصارنا هذه ، وبالنسبة إلى نوع النجاسة غير بعيد ، غير أنّ الكلام حينئذ يبقى في مستند الحكم ، وسيتّضح منع وجوده ، كما يتّضح عدم دلالة رواية العلل عليه ، وعلى أيّ تقدير فلو كان مراده القضيّة الاولى كان قوله مغايرا لقول الشيخ والحلّي والمعتبر والقواعد ، لاختصاصه بصورة العلم بالملاقاة ، غاية الأمر يحصل بينه وبينهم خلاف في الصغرى ، ولو كان مراده الثانية رجع قوله إلى قولهم.

فتلخّص من جميع ما ذكر : أنّ صورة العلم بالخلوّ عن ملاقاة النجاسة خارجة عن معقد هذه المسألة ، وأمّا الصورتان الباقيتان فكون إحداهما وهي صورة العلم بملاقاة النجاسة من معقد هذه المسألة محلّ شبهة ، حيث قد عرفت أنّه لا مصرّح بالنسبة إليها بالطهارة عدا ما كان يوهمه ظاهر عبارة العلّامة في المنتهى ، وقد عرفت ما فيه من

__________________

(١) المعتبر : ٢٣.

(٢) المختصر النافع : ٤٤.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

٣٦٥

الاضطراب والاختلال وعدم استقامة دليله.

فبقيت صورة الشكّ ، وفيها قولان : أحدهما : الطهارة وهو للعلّامة وغيره ممّن عرفتهم ، ويظهر من الأردبيلي (١) أيضا.

[وثانيهما] النجاسة : وهو للصدوق والشيخ والحلّي والمحقّق والعلّامة أيضا ، ولا ريب أنّ القول بالنجاسة هنا مخالف لقاعدتهم المشهورة المتسالم عليها ، من أنّ مدار الحكم بالنجاسة على العلم بتحقّق السبب ، ولا يكفي فيه مجرّد الشكّ والاحتمال بل الظنّ أيضا ، فمرجعه إلى التعويل على الظنّ المستند إلى الغلبة ولو نوعا ، كما أنّ مرجع القول بالطهارة إلى عدم العبرة بذلك الظنّ.

فالعمدة في المقام النظر في هذا المطلب ، وليس فيه من الأدلّة الخاصّة إلّا ما عرفت من الروايات ، مضافة إلى صحيحة محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره ، أغتسل من مائه؟ قال : « نعم ، لا بأس أن يغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فيه ، ثمّ جئت فغسلت رجلي ، وما غسلتهما إلّا ممّا لزق بهما من التراب » (٢)

وصحيحته الاخرى ، قال : رأيت أبا جعفر عليه‌السلام جائيا من الحمّام وبينه وبين داره قذر ، فقال : « لو لا ما بيني وبين داري ما غسلت رجلي ولا تجنّبت ماء الحمّام » (٣).

ورواية زرارة الموصوفة بالموثّقة ، قال : « رأيت الباقر عليه‌السلام يخرج من الحمّام فيمضي كما هو ، لا يغسل رجليه حتّى يصلّي » (٤).

حكى الاستدلال بها وبسابقتها عن الأردبيلي (٥) ولا بأس به ، بناء على ما أشرنا إليه آنفا من أنّ غسالة الحمّام ما يجتمع في البئر من سطوحه الجاري من خطوطها المياه إليها ، وفعل المعصوم حجّة كقوله إذا كشف عن حكم بعينه ، فلو لا سطح الحمّام مع ما فيه من المياه محكوما عليه بالطهارة ـ مع قيام الشكّ في نجاسته بحكم العادة ـ لما ترك المعصوم التجنّب عنه جزما ، ولا ضير في تركه الاحتياط الراجح ، لمكان كونه بذلك الفعل في مقام التعليم والارشاد ، ويخرج رواية أبي يحيى الواسطي شاهدة ، لعدم

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٩٠.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٢ و ٣ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ و ٣٧٩ / ١١٧٢ و ١١٧٣.

(٤) الوسائل ١ : ٢١١ ب ٩ من أبواب المضاف ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٣٧٩ / ١١٧٤.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٩٠.

٣٦٦

صلوحها دليلا مستقلّا بالإرسال الّذي لا جابر له ، وإن عمل بها العلّامة في المنتهى (١).

وأمّا الروايات الباقية فليس فيها أيضا ما يصلح للاستناد إليه بحكم الضعف والارسال إلّا موثّقة العلل ، والظاهر أنّها مستند الصدوق (٢) فيما عرفت عنه ، وهي عند التحقيق لا تعارض ما ذكر أصلا ، لعدم وضوح دلالتها على نجاسة ولا على طهارة ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « وفيها يجتمع غسالة اليهودي والنصراني » إمّا أن يكون قيدا للموضوع ، ليكون مفاد الرواية : المنع عن غسالة الحمّام حال كونها يجتمع فيها غسالة هؤلاء ، الموجبة لتنجّسها ، وحاصله اعتبار العلم بملاقاة النجاسة ، فلا تتناول صورة الشكّ.

أو يكون علّة للحكم ، فيكون المنع على الإطلاق لتلك العلّة الموجبة للنجاسة في مطلق الغسالة ، مع تعيّن حمل القضيّة على الغلبة دون الدوام ، صونا لها عن الكذب ، فتكون شاملة لصورة الشكّ أيضا ، غير أنّه لا يتعيّن الحمل على هذا المعنى بعد قيام احتمال آخر مساو له ، مع إمكان دعوى الظهور فيه كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى قوّة احتمال كون المقصود على الاحتمال الثاني تعليل الحكم بما يكون من مقولة الحكمة ـ وهي علّة التشريع ـ دون العلّة الحقيقيّة ، فيكون محصّل المعنى : أنّ غسالة الحمّام لكونها معرضا لأن يجتمع فيها غسالة هؤلاء وأهلا له ، فمن حكمها أن لا يغتسل بها ، وحينئذ كما ترى خرج عن الدلالة على النجاسة بالمرّة.

مضافا إلى احتمال النهي الوارد فيها لكونه تنزيهيّا احتمالا قويّا ، بقرينة ما سنذكر من رواية عليّ بن جعفر ، وإلى ما سبق آنفا من الكلام في دلالة هذه الرواية ونظائرها من جهات اخر.

فالإنصاف : أنّه لا دلالة ثابتة معتبرة على نجاسة غسالة الحمّام في غير صورة العلم بملاقاة النجاسة ، مع عدم سبق الكرّيّة ، فمقتضى الاصول ـ مضافة إلى الصحيحتين وغيرهما ـ الحكم عليها بالطهارة ، ولو مع الظنّ بتحقّق السبب ، ظنّا مستندا إلى العادة والغلبة.

وأمّا صورة العلم بتحقّق السبب مع عدم سبق الكرّيّة ، فعلى مقتضى القاعدة المتقدّمة في القليل الملاقي للنجس ، كما أنّ صورة التغيّر بالنجاسة مع سبق الكرّيّة على قاعدة التغيّر الموجب للنجاسة ، ولا مانع عن شي‌ء من ذلك في المقام ، إلّا ما عساه يقال : من

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

(٢) الفقيه ١ : ١٠.

٣٦٧

معارضة قاعدة الانفعال للصحيحتين المتقدّمتين وغيرهما ، ممّا يقضي بإطلاقه على عدم النجاسة حتّى مع الملاقاة والقلّة ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، غير أنّ الخطب فيه سهل ، لوجود المرجّح في جانب القاعدة ، مع عدم ظهور مخالف فيه ظاهرا كما عرفت.

هذا كلّه في حكمها بالقياس إلى الطهارة ، وأمّا حكمها من حيث الطهوريّة فمحلّ إشكال ، من حيث إنّ الموثّقة المذكورة تضمّنت المنع عن الاغتسال ، وهو شامل لكلا تقديري الدلالة على الطهارة وعدمها.

ويدفعه : أيضا ابتناء ثبوت المنع عن الطهوريّة ـ كالطهارة ـ على جعل ما سبق علّة للحكم لا قيدا لموضوعه ، وإلّا خرج عن دلالته عليه في صورة الشكّ ، لكن الأحوط الاجتناب عنه في مقام الطهوريّة ، كما أنّ الأحوط الجمع بين استعماله في رفع الحدث وبين التيمّم مع الانحصار.

نعم ، الظاهر أنّ كراهة التطهير بها في رفع الحدث مع الاختيار ممّا لا ينبغي إنكاره ، لما في الوسائل عن الكافي ، عن عليّ بن جعفر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : « من اغتسل من الماء الّذي قد اغتسل فيه ، فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلّا نفسه ، فقلت ـ لأبي الحسن عليه‌السلام ـ : أنّ أهل المدينة يقولون : إنّ فيه شفاء من العين ، فقال : كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام ، والزاني ، والناصب الّذي هو شرّهما وكلّ من خلق الله ، ثمّ يكون فيه شفاء من العين؟ » الحديث. (١) فإنّها وإن كانت ظاهرة في غير محلّ البحث ، غير أنّ الحكم يتعدّى إليه بالأولويّة ، ولا يقدح ما في سندها من الضعف والجهالة في صحّة الاستناد إليها هنا ، تسامحا في أدلّة السنن ، وهذه الرواية لو كانت جامعة لشرائط الحجّيّة من حيث السند ، لكانت صالحة لصرف الروايات المتقدّمة المانعة عن الاغتسال بغسالة الحمّام عن ظواهرها ، بحمل نواهيها على الكراهة والتنزيه ، ولذا احتملناها سابقا فيها ، والله العالم بحقائق أحكامه.

الثالث

في الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر، وهذا أحد أقسام المستعمل ، الّذي ينقسم عندهم إلى ما يكون مستعملا في إزالة حدث ، أو خبث ، أو مطلقا ، والأوّل إمّا في

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٥٠٣ / ٣٨.

٣٦٨

حدث أصغر أو أكبر ، والثاني إمّا في الاستنجاء أو غيره ، والثالث هو غسالة الحمّام.

فالمستعمل في الحدث الأصغر ما حكي فيه عن العامّة في منتهى العلّامة (١) اختلافا عظيما وأقوالا متشتّتة ، القول : بأنّه طاهر مطهّر ـ كما عليه أصحابنا ـ وهو لأكثرهم ، وبأنّه : طاهر غير مطهّر ، وهو لمحمّد بن [الحسين] (٢) ، وحكي عن الشافعي في الجديد ، وعن المالك أيضا ، وغيره.

وبأنّه : نجس نجاسة مغلّظة ، كالدم والبول والخمر ، حتّى إنّه إذا أصاب الثوب أكثر من درهم منع أداء الصلاة ، وهو لأبي حنيفة ، وبأنّه : نجس نجاسة ضعيفة ، حتّى إنّه إذا أصاب الثوب أكثر من درهم لم يمنع الصلاة ، وهي لأبي يوسف.

وبأنّه : إن كان المتوضّئ محدثا ، فهو كما قال محمّد ، وإن كان غير محدث فهو طاهر وطهور ، وهو لزفر ، وقيل : إنّه قول للشافعي ، وعنه أيضا أنّه توقّف فيه.

وعن أبي حنيفة الاحتجاج على ما اختاره ، ومثله أبو يوسف « بأنّ هذا الفعل يسمّى طهارة ، وذلك يستدعي نجاسة المحلّ ، فشارك الّذي ازيلت به النجاسة » (٣). وكأنّه اشتباه في القياس ، وإلّا فالحكم بالقياس إلى أنفسهم لعلّه في محلّه ، فإنّ المستعمل في وضوئهم بملاحظة تلك النسبة لا يقصر بحسب الحقيقة عن المستعمل في إزالة البول ، وهذا القياس هو اللائق بالمقام ، لكمال المناسبة بين المقيس والمقيس عليه دون ما ذكر ، لكمال وضوح الفرق بينهما على هذا البيان ، إذ إطلاق الطهارة لا يقتضي مقابلة النجاسة على التعيين ، بل مقابلة أحد الأمرين منها ومن الحدث ، وهما في الشريعة موضوعان متغايران لا يدخل أحدهما في مسمّى الآخر ولا في حكمه ، ولذا لا يسمّى المحدث نجسا ، ولا أنّ ملاقاة المحدث توجب نجاسة الملاقي ، والتفكيك بين أنحاء الملاقاة غير معقول في النجاسات ، فلو أنّ ملاقاة الماء له حال التوضّي تؤثّر نجاسة الماء فملاقاته له في سائر الأحوال أولى بذلك ، والتسمية بالطهارة في الأوّل دون الثاني لا تصلح فارقة بينهما في الحكم بعد ما كان سبب الحكم هو الاستعمال والملاقاة.

فالحقّ : أنّه طاهر في نفسه مطهّر عن الحدث والخبث بلا خلاف يعرف بين أصحابنا ، وعليه نقل الإجماعات في حدّ الاستفاضة ، منها : ما في المنتهى (٤) ، وما عن المعتبر (٥).

__________________

(١ و ٤) منتهى المطلب ١ : ١٢٨.

(٢) كما في الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٨).

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٣٢.

(٥) المعتبر : ٢١.

٣٦٩

لنا : على الطهارة ـ مضافا إلى ما ذكر من القواعد ـ أنّ عروض النجاسة له ـ بعد قيام الدليل عموما وخصوصا على أنّ الماء من حكمه بحسب خلقته الأصليّة الطهارة ، وعلى انحصار سبب عروض النجاسة في التغيّر مطلقا ، والملاقاة للنجاسة مع القلّة ـ ممّا لا يعقل بلا تحقّق سببه ، والمفروض منه.

وعلى المطهّريّة من القواعد القاعدة المستفادة من الأدلّة الشرعيّة عموما وخصوصا ، القاضية بأنّ ما جامع وصفي الإطلاق والطهارة مطهّر عن الخبث والحدث صغيرا وكبيرا ما لم يصادفه مانع كالمغصوبيّة ونحوها وهذا منه ، لعدم قيام الدلالة الشرعيّة من كتاب ولا سنّة ولا غيرهما على مانعيّة عروض الاستعمال ورفع الحدث الأصغر له ، من غير فرق في ذلك بين المستعمل في المرّة الاولى ، والمستعمل في المرّة الثانية المستحبّة ، أو في المضمضة ، والاستنشاق ، أو التجديد ، خلافا في الثاني والثالث والرابع للشافعيّة (١) ، المنسوب إليهم أنّ لهم فيها وجهين :

أحدهما : ذلك لأنّه لم يؤدّه فرضا ، والثاني : المنع لأنّه مستعمل في الطهارة ، فإنّ فساد المدرك يقضي بفساد المذهب ، وتأديته فرضا أو ندبا ممّا لا حكم له في الشريعة ، كما أنّ الماء لم يحدّد له في الشرع فعل فضلا عن انحصاره في فعلين.

فما عن الشافعيّة ـ أيضا ـ في إزالة الخبث بماء الوضوء من الوجهين ، « أحدهما : جواز ذلك ، لأنّ للماء فعلين رفع الحدث وإزالة الخبث ، فإذا رفع الحدث بقي تطهير الخبث.

والثاني : المنع وهو المشهور عندهم ، لأنّه مائع لا يزيل الحدث فلا يرفع الخبث كسائر المائعات ، وليس للماء فعلان بل فعل واحد ، وهو رفع أحدهما ، إمّا الحدث أو الخبث لا بعينه ، فأيّهما حصل زالت طهوريّته » (٢) متّضح البطلان لابتناء كلّ ذلك على قياس أو استحسان ، ولا نقول بشي‌ء منهما.

مضافا إلى أنّ القول بأنّ الماء له فعلان ، إن اريد به المرّة فهو دعوى يبطلها ظواهر النصوص كتابا وسنّة ، القاضية بأنّ له وصف الطهوريّة بحسب الماهيّة ، فإنّ إطلاق قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٣) يقضي بأنّ الثابت له إنّما هو ماهيّة وصف الطهوريّة ، وصرف ذلك إلى إثبات فرد من هذا الوصف له يحتاج إلى دلالة معتبرة من

__________________

(١ و ٢) منتهى المطلب ١ : ١٣٢.

(٣) الفرقان : ٤٨.

٣٧٠

الخارج ترفع هذا الإطلاق وليست بموجودة ، وإن اريد به الماهيّة بمعنى أنّه ما قام به هذا الوصف بحسب الماهيّة فهي لا ترتفع بالمرّة ، لأنّ الثابت بالأدلّة حينئذ أنّ ماهيّة هذا الوصف في ثبوتها له تتبع الماهيّة المائيّة ، وهي لا تزول بعروض الاستعمال جزما ، فكذلك ما يتبعها لوجود المقتضي وفقد المانع.

هذا مضافا إلى أنّ الأوامر الواردة في دفع الحدث وإزالة الخبث لم ترد إلّا مطلقة ، والأمر ممّا يفيد الإجزاء ، فلو استعمل المستعمل ثانيا في رفع حدث أو إزالة خبث كان إتيانا بالمأمور به على وجهه فيجب إجزاؤه.

وفي حكمه من حيث الطهارة والمطهّرية المستعمل في تعبّد غير حدثي ولا خبثي ، كغسل اليد من نوم الليل أو للتغذّي متقدّما ومتأخّرا ، فإنّه أيضا طاهر ومطهّر للقاعدة الشرعيّة.

فما عن أحمد ـ من العامّة ـ في الحكم الثاني من الروايتين ، أحدهما : المنع ، « لأنّه مستعمل في طهارة تعبّد أشبه المستعمل في رفع الحدث » ليس بشي‌ء ، لبطلان الأصل عندنا ـ كما في المنتهى (١) ـ مع بطلان الصغرى أيضا ، لعدم دخول المفروض في مسمّى الطهارة شرعا.

وقد شاع الاحتجاج على الحكمين معا ، بما في التهذيب عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لا بأس أن يتوضّأ بالماء المستعمل ، وقال : الماء الّذي يغسل به الثوب ويغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضّأ به ، وأشباهه ، وأمّا الماء الّذي يتوضّأ به الرجل ، فيغسل به يده ووجهه في شي‌ء نظيف ، فلا بأس أن يأخذه غيره ، ويتوضّأ به » (٢).

وما فيه أيضا عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا توضّأ اخذ ما يسقط من وضوئه ، فيتوضّئون به » (٣) وهو في محلّه لو لا قصور سندها بأحمد بن هلال العبرتائي ، المحكوم عليه بالضعف تارة ، وبالغلوّ اخرى ، إلى غير ذلك ممّا قيل فيه وورد في ذمّه ، ويمكن التعويل على روايته الثانية لما عن الغضائري (٤) من أنّه توقّف في

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٣٣.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢٠٩ ب ٨ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣١.

(٤) راجع منتهى المقال ١ : ٣٦٢.

٣٧١

حديثه ، إلّا فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة ، ومحمّد بن أبي عمير من نوادره ، وقيل : وقد سمع هذين الكتابين جلّ أصحاب الحديث ، واعتمدوه فيهما.

وقيل فيه : لعلّ قبول الغضائري والجماعة لما يرويه من الكتابين لتواترهما عندهم وشهرتهما ، وحينئذ فلا يضرّ ضعف الطريق إليهما ، ويحتمل أن يكون قد صنّفهما في حال استقامته ، وهذه الرواية قد رواها عن الحسن بن محبوب ، ولو ثبت عمل الأصحاب كلّا أو جلّا بهما على نحو الاستناد ارتفع الإشكال.

وأضاف إليهما في المنتهى (١) صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب » (٢) ، وذكر أنّ الاستدلال بها من وجهين :

أحدهما : عموم جواز الاستعمال ، سواء استعمل في الوضوء أم لا.

الثاني : أنّه إذا لاقى النجاسة العينيّة كان حكمه جواز الاستعمال ما دام وصف الماء باقيا ، فالأولى إنّه إذا رفع به الحدث مع عدم ملاقاة النجاسة جاز استعماله ، وليس في محلّه لضعف ما ذكره من الوجهين.

أمّا الأوّل : فلمنع ما ادّعاه من العموم ، إذ ليست الرواية إلّا في معرض بيان أنّ غلبة الماء على ريح الجيفة توجب عصمته عن الانفعال بها ، فجاز التوضّي به لأجل ذلك ، فكانت ساكتة عن الجهات الاخر الّتي منها المبحوث عنه.

ولذا لا يقول أحد بجواز استعماله ثانيا بعد ما استعمل في إزالة الخبث ، استنادا إلى تلك الرواية ، مع جريان ما قرّره من العموم فيه أيضا.

وأمّا الثاني : فلمنع الأولويّة بعد البناء على حمل الرواية على الكرّ ، دفعا للمنافاة بينها وبين روايات الانفعال بالملاقاة ، فإنّ الكرّيّة إذا كانت عاصمة له عن ظهور أثر النجاسة فيه فالأولى كونها عاصمة له عن ظهور أثر الحدث فيه ، وأمّا مع القلّة كما ـ هو محلّ البحث ـ فلا عاصم له عن الانفعال ، ومعه كيف يقاس عليه غيره في نقيض هذا الحكم ويدّعي عليه الأولويّة.

نعم ، يمكن الاستناد إلى الأولويّة بالقياس إلى رافع الحدث الأكبر لو قيل فيه

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٣١.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٧ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥.

٣٧٢

بالطهارة ـ كما ادّعى عليه الإجماع ـ والمطهّريّة ـ كما عليه جماعة من فحول الأصحاب ـ فإذن يكون ذلك دليلا آخر مضافا إلى ما قرّرناه من القاعدة.

وعن المفيد في المقنعة (١) القول باستحباب التنزّه منه ، بل عنه (٢) ذلك أيضا في ماء الاغسال المستحبّة ، بل الغسل المستحبّ كغسل اليد للأكل ، ومستنده غير واضح.

نعم ، ربّما يعزى إلى شيخنا البهائي في الحبل المتين الاستدلال بما في الكافي عن محمّد بن عليّ بن جعفر عن الرضا عليه‌السلام قال : « من اغتسل فيه فأصابه الجذام ، فلا يلومنّ إلّا نفسه » (٣) قائلا ـ بعد إيراد الخبر ـ : « وإطلاق الغسل في هذا يشمل الغسل الواجب والمندوب وفي كلام المفيد في المقنعة تصريح بأفضليّة اجتناب الغسل والوضوء بما استعمل في طهارة مندوبة ، ولعلّ مستنده هذا الحديث ، وأكثرهم لم يتنبّهوا له » (٤) انتهى.

أقول : وكان ما نقله رحمه‌الله خبر آخر عثر عليه مخصوص بما استعمل في الوضوء ، وإلّا فلو كان إشارة إلى الخبر المتقدّم في ذيل مسألة غسالة الحمّام فالاستناد إليه في هذا المقام ليس من شأن العامي فضلا عنه ومن هو دونه ، لاختصاص هذا الخبر على ما هو صريح صدره وذيله بالماء الّذي يغتسل فيه.

ومن هنا أورد عليه في الحدائق : « بأنّ عجز الرواية المذكورة يدلّ على أنّ مورد الخبر المشار إليه إنّما هو ماء الحمّام » ، إلى أن قال : « وهذا أحد العيوب المترتّبة على تقطيع الحديث ، وفصل بعضها عن بعض ، فإنّ بذلك ربّما تخفى القرائن المفيدة للحكم كما هنا » (٥) انتهى ، كما أنّه كذلك لو كان إشارة إلى ما عن الكافي ، عن محمّد بن عليّ بن جعفر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « من أخذ من الحمّام خرقة فحكّ بها جسده فأصابه البرص ، فلا يلومنّ إلّا نفسه ، ومن اغتسل من الماء الّذي قد اغتسل فيه ، فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلّا نفسه » (٦) نعم لو قيل بجريان قاعدة التسامح وأدلّة السنن في مثل فتوى فقيه واحد كان استحباب الاجتناب متّجها من غير إشكال ، كما لا يخفى.

__________________

(١ و ٢) المقنعة : ٦٤.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٥٠٣ / ٣٨.

(٤) الحبل المتين : ١١٦.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٦) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٥٠٣ / ٣٨.

٣٧٣

والرابع

في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ، وقد اختلفت كلمة جماعة من المتأخّرين في تفسيره على ما هو محلّ نزاعهم الآتي ، ففي المدارك : « والمراد بالمستعمل : الماء القليل المنفصل عن أعضاء الطهارة » (١) وإنّما عبّر بالطهارة ليشمل المستعمل في الوضوء أيضا ، واعتبار القلّة لأنّ الكثير إذا حصلت الطهارة به لا يدخل في مسمّى المستعمل عندهم ، وليس من محلّ كلامهم على ما يظهر من تتبّع تضاعيف عباراتهم ، واعتبار الانفصال يقضي بأنّه ما لم ينفصل عن العضو لا يسمّى مستعملا ، وستعرف أنّ ذلك ليس بمحلّ وفاق بينهم.

وعن العلّامة في النهاية : « أنّه الّذي جمع من المتقاطر من الأعضاء » (٢) وذلك تقضي بأنّ النزاع فيما يحصل به الغسل الترتيبي دون الارتماسي ، وستعرف إن شاء الله أنّه غير مختصّ به.

وعن صاحب المعالم : « أنّه يفهم من كلامه أنّ النزاع في الماء المنفصل عن جميع البدن أو أكثره » (٣).

وفي شرح الدروس : « أنّه القدر المعتدّ به الّذي يكون زائدا على القطرة والرشحة ، إمّا بأن ينفصل مرّة عن البدن أو لا ، بل اجتمع ممّا انفصل عنه مرارا » (٤). وإنّما اعتبر القدر المعتدّ به ليعمّ ما ينفصل عن جميع البدن أو أكثره ، أو ما دون الأكثر ممّا زاد على القطرة والرشحة ، وقد نبّه بذلك على أمرين :

أحدهما : خروج القطرة ونحوها عن موضع النزاع ، كما صرّح به أيضا فيما تقدّم على تلك العبارة.

وثانيهما : دفع كلام صاحب المعالم فيما عرفت منه ، الظاهر في الاقتصار على القسمين الأوّلين ، القاضي بخروج القسم الثالث عن النزاع.

واحتجّ على الأمر الأوّل بكلام الصدوق المشعر بذلك ، فإنّه ـ مع منعه التطهير بغسالة الجنب ـ قال : « وإن اغتسل الجنب فنزا الماء من الأرض فوقع في الإناء ، أو سال

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٧.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٤١.

(٣) حكى عنه في مشارق الشموس : ٢٤٩.

(٤) مشارق الشموس : ٢٤٩.

٣٧٤

من بدنه في الماء ، فلا بأس » (١) قائلا : « بأنّ هذا يشعر بما ذكرنا ، ولا يخفى أنّه لو كان النزاع فيه ـ يعني في مثل القطرة أيضا ـ يكون الروايات المتقدّمة آنفا ـ يعني ما أقامه من الأخبار دليلا على طهارة هذا الماء ، وسيأتي بيانها ـ من روايتي الفضل ، ورواية شهاب ، ورواية سماعة ، ورواية عمر بن يزيد ، دالّة على ما اخترناه من جواز رفع الحدث (٢) الخ ».

وأنت خبير بما فيه من اعتماده في تشخيص محلّ النزاع على مجرّد الإشعار ، إن أراد به ما دون الدلالة المعتبرة ، وإلّا فأصل الإشعار ممنوع ، إذ لا منافاة بين اعتقاد الصدوق بكون مثل القطرة من محلّ النزاع وبين ما ذكره في الفرع المتقدّم ، لجواز ابتناء ذلك الفرع على حصول الاستهلاك ، وخروج القطرة الواقعة في الإناء عن عنوان المستعمل بذلك الاستهلاك ، مع كونها في حدّ ذاتها من محلّ النزاع.

وإنّما يظهر الفائدة فيما لو كانت القطرة ممتازة غير مستهلكة في شي‌ء ، فحينئذ لو أخذت من محلّها وجعلت جزءا من ماء الغسل ، بأن يغسل بها جزء من أعضاء الطهارة ، كان منع المانعين عن التطهير بغسالة الجنب مثلا شاملا له ، على تقدير دخولها في محلّ النزاع.

ومن هنا ينقدح ضعف ما ذكره بالنسبة إلى الروايات من دلالتها على مختاره ، فإنّ الدلالة على جواز التطهير فرع المنافاة بين القول بعدم جوازه ومفاد تلك الروايات ، وقد بيّنّا انتفاء المنافاة.

وبذلك أيضا يظهر وهن ما احتجّ به ثانيا ـ على ما زعمه من خروج مثل القطرة عن محلّ النزاع : « من أنّ الشيخ رحمه‌الله مع كونه من المانعين روى أكثر هذه الروايات في التهذيب ، ولم يتعرّض لردّ أو تأويل وإيراد معارض ، فهذا أيضا يشعر بعدم الخلاف فيه » (٣) فإنّ تجشّم هذه الامور إنّما هو بعد المنافاة ، وهذه الروايات قد وردت في مورد خرج عن مسمّى المستعمل بالاستهلاك ، وإنّما يقول الشيخ بالمنع في المستعمل ما دام هذا الوصف لا مطلقا ، فالموضوع متعدّد ومعه لا يعقل التنافي ليوجب تجشّم أحد الامور المذكورة.

ثمّ ، إنّه احتجّ على الأمر الثاني : « بأنّه لا دليل على ذلك ، إذ عباراتهم مطلقة في

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦.

(٢ و ٣) مشارق الشموس : ٢٤٩.

٣٧٥

المنع عن الماء الّذي اغتسل به ، غايته أنّه يفهم من بعض كلماتهم ـ كما نقلنا ـ عدم المنع من القطرة والرشحة ، وهذا لا يستلزم كون النزاع فيما ذكره ، بل الظاهر ما ذكرناه » (١)

وفيه : ما فيه ممّا مرّ ، ومن أنّه قائل لنفسه.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر هذا الكلام ، ذكر : « أنّ ما ذكره العلّامة في النهاية من التفسير المتقدّم يؤيّده ما ذكرناه » (٢) وهو أيضا كما ترى فإنّ كلام العلّامة ظاهر في اعتبار أمرين ، أحدهما : الانفصال عن جميع البدن ، لمكان تعبيره بالأعضاء الظاهر في العموم ، وثانيهما : اعتبار الجمع بين ما انفصل عن كلّ واحد من الأعضاء ، وبذلك يفارق ما عرفت عن المدارك عنه ، فإنّه ظاهر في اعتبار القطرة أيضا ، لأنّ كلّ واحد من القطرات المنفصلة عن الأعضاء ماء قليل منفصل عن عضو الطهارة.

فتلخّص بما ذكر : أنّ التفاسير الأربع المذكورة بينها شي‌ء هو ما به اشتراكها ، وشي‌ء آخر هو ما به امتيازها.

أمّا الأوّل : فأمران ، أحدهما : الدلالة على اعتبار الانفصال عن العضو ، وثانيهما : الدلالة على خروج فضل الماء الّذي يتطهّر به عن المتنازع فيه ، وهو كذلك وإن كان الأوّل منظورا فيه ، لما أشرنا إليه وستعرف تفصيله.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما في المدارك ظاهر في كون القطرة بانفرادها أيضا من محلّ النزاع بخلاف الثلاث الباقية ، غير أنّها أيضا تمتاز بأنّ ما في النهاية ظاهر في اعتبار الانفصال عن جميع البدن بخلاف الباقيين ، فإنّ ما عن صاحب المعالم ظاهر في اعتبار أحد الأمرين من الانفصال عن جميع البدن والانفصال من أكثره ، وما في شرح الدروس ظاهر بل صريح في اعتبار أحد الامور الثلاث من الانفصال عن جميع البدن أو أكثره أو ما دون الأكثر ممّا زاد على القطرة.

فما في المدارك أعمّ من الجميع لظهوره في اعتبار أحد الامور الأربع ، الّتي منها القطرة المنفصلة ، وهو الأظهر بملاحظة بعض أدلّة الطرفين ، فإنّ المجوّزين للتطهير بذلك يستدلّون بأنّه ماء مطلق ولم يسلبه الاستعمال إطلاق الاسم ، فيجب أن يكون مجزيا في التطهير المعلّق على الماء المطلق ، وهو كما ترى متناول للقطرة أيضا ، إذا

__________________

(١ و ٢) مشارق الشموس : ٢٤٩.

٣٧٦

حصل بها غسل جزء من العضو ، والمانعون يستدلّون بأنّ استعمال هذا الماء في التطهير ممّا لا يحصل معه تيقّن البراءة ، فيجب أن لا يكون مجزيا ، وهو أيضا شامل للقطرة الّتي يحصل بها غسل الجزء من العضو.

وكيف كان فالكلام في هذا الماء تارة في طهارته ، واخرى في طهوريّته.

أمّا الأوّل : فهو مفروغ عنه بين أصحابنا ، إذ لا خلاف لأحد في الطهارة ، ونقل عليه الإجماع في حدّ الاستفاضة ، نعم أسند الاختلاف فيه إلى العامّة في المنتهى (١) على حذو اختلافهم في ماء الوضوء ، ويكفينا في إثبات الطهارة ـ مضافا إلى ما أشرنا إليه ـ ما قدّمناه من القاعدة ، فإنّ سبب الانفعال هو الملاقاة للنجاسة وهو غير متحقّق هنا ، وكون مجرّد الاستعمال رافعا للطهارة الأصليّة ممّا لم يقم عليه دلالة معتبرة ، وإلى ذلك أشار العلّامة في المنتهى بقوله : « ولأنّ التنجيس حكم شرعي ، فيتوقّف ثبوته على الشرع ، وليس في الشرع دلالة عليه » (٢) ، وأضاف إليه وجها آخر وهو : « أنّ القول بالتنجيس مع القول بطهارة المستعمل في الوضوء ممّا لا يجتمعان إجماعا ، والثاني ثابت إجماعا ، فينتفي الأوّل ، وإلّا لزم خرق الإجماع » (٣).

ويدلّ عليه أيضا روايات مستفيضة قريبة من التواتر ، بل متواترة هي بين صحاح وموثّقات وغيرهما.

منها : ما في التهذيب ـ في صفة الوضوء ـ عن الفضيل قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يغتسل فينتضح الماء من الأرض في الإناء؟ فقال : « لا بأس ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) » (٤) (٥).

ومنها : ما في الكافي ـ في باب اختلاط ماء المطر بالبول ـ عن شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء ، وينتضح الماء من الأرض ، فيصير في الإناء ، أنّه لا بأس بهذا كلّه » (٦).

ومنها : ما في التهذيب ـ في الباب المذكور ـ عن عمّار بن موسى الساباطي ، قال :

__________________

(١ و ٢) منتهى المطلب ١ : ١٣٣.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٣٤.

(٤) الحج : ٧٨.

(٥) الوسائل ١ : ٢١١ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٨٦ / ٢٢٥.

(٦) الوسائل ١ : ٢١٢ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٦ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٦.

٣٧٧

سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يغتسل من الجنابة ، وثوبه قريب منه ، فيصيب الثوب من الماء الّذي يغتسل منه؟ قال : « نعم ، لا بأس به » (١).

ومنها : ما فيه في الباب المذكور عن بريد بن معاوية ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام اغتسل من الجنابة ، فيقع الماء على الصفاء ، فينزو ، فيقع على الثوب؟ فقال : « لا بأس به » (٢).

ومنها : ما تقدّم في غسالة الحمّام ، من مرسلة أبي يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (٣).

ومنها : ما سبق ذكره في بحث القليل ، في جملة الأخبار المستدلّ بها على عدم الانفعال ، من رواية عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أغتسل في مغتسل يبال فيه ، ويغتسل من الجنابة ، فيقع في الإناء ماء ينزو من الأرض؟ فقال : « لا بأس به » (٤).

ومنها : ما في التهذيب في باب حكم الجنابة ، عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا أصاب الرجل جنابة ، فأراد الغسل فليفرغ على كفّيه ، فليغسلهما دون المرفق ، ثمّ يدخل يده في إنائه ، ثمّ يغسل فرجه ، إلى أن قال ـ : « فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس » (٥).

وهذه الأخبار هي الّتي توهّم منها المحقّق الخوانساري الدلالة على عدم المنع عن التطهير بماء الغسل ، على فرض كون القطرة أيضا من محلّ النزاع ، وقد عرفت منع هذه الدلالة ، فإنّها غير دالّة على حكم التطهير إثباتا ونفيا كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : ففيه خلاف بين أصحابنا على قولين ، بل أقوال إن صحّ عدّ التوقّف قولا في المسألة.

أحدهما : جواز التطهير به وهو الأقوى ، وفاقا للمنتهى (٦) والمختلف (٧) ، والدروس (٨) ، والمدارك (٩) والحدائق (١٠) ، والرياض (١١) ، والمحكيّ عن

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ٢١٤ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١١ و ١٢ ـ التهذيب ١ : ٨٦ و ٨٧ / ٢٢٦ و ٢٢٩.

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٩ و ٧ ـ الكافي ٣ : ١٥ و ١٤ / ٤ و ٨.

(٥) الوسائل ٢ : ٢٣١ ب ٢٦ من أبواب الجنابة ح ٨ ـ التهذيب ١ : ١٣٢ / ٣٦٤.

(٦) منتهى المطلب ١ : ١٣٣. (٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٤.

(٨) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢. (٩) مدارك الأحكام ١ : ١٢٧.

(١٠) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٨. (١١) رياض المسائل ١ : ١٧٧.

٣٧٨

الغنية (١) ، والقواعد (٢) ، والإرشاد (٣) ، والذكرى (٤) ، والتنقيح (٥) والروض (٦) ، والجعفريّة (٧) ، وجامع المقاصد (٨) ، ومجمع الفائدة (٩) ، ونسب إلى محكيّ جمل العلم (١٠) ، والناصريّات (١١) ، والمراسم (١٢) ، والسرائر (١٣) ، وبعض مصنّفات المحقّق (١٤) والتذكرة (١٥) ، ونهاية الإحكام (١٦) ، والبيان (١٧) وشرح القواعد للسيّد عميد الدين (١٨) والمعالم (١٩) والذخيرة (٢٠) ، والحبل المتين (٢١) ، وفي الحدائق : « أنّه المشهور بين المتأخّرين » (٢٢) ، وفي المدارك : « ذهب إليه المرتضى ، وابن إدريس وأكثر المتأخّرين » (٢٣).

وثانيهما : المنع عن التطهير به ، وهو المحكيّ عن الصدوقين (٢٤) ، والشيخين (٢٥) ، وابني حمزة (٢٦) والبرّاج (٢٧) ، وعن الشيخ في الخلاف (٢٨) نسبته إلى أكثر الأصحاب ، ويظهر من المحقّق في كتبه الثلاث المعتبر (٢٩) والشرائع (٣٠) والنافع (٣١) التوقّف ، بل صرّح بالتردّد في الشرائع (٣٢) ، وإن جعل المنع أحوط.

وربّما يستشمّ من الشيخ أنّه قائل بجواز الاستعمال في حال الضرورة ، حيث إنّه

__________________

(١) غنية النزوع : ٤٩.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٣) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٣. (٥) التنقيح الرائع ١ : ٥٨.

(٦) روض الجنان : ١٥٨. (٧) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).

(٨) جامع المقاصد ١ : ١٢٧. (٩) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٤.

(١٠) الجمل والعلم (رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٢٢).

(١١) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ، ١ : ١٣٨).

(١٢) المراسم (سلسلة الينابيع الفقهيّة ، ١ : ٢٤٥).

(١٣) السرائر ١ : ٦١. (١٤) لم نعثر عليه.

(١٥) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٥. (١٦) نهاية الإحكام ١ : ٢٤١.

(١٧) البيان : ١٠٢. (١٨) حكى عنه في المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٦.

(١٩) فقه المعالم ١ : ٣٣٢. (٢٠) ذخيرة المعاد : ١٤٢.

(٢١) الحبل المتين : ١١٦. (٢٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٨.

(٢٣) مدارك الأحكام ١ : ١٢٦. (٢٤) حكى عنهما في مختلف الشيعة ١ : ٢٣٣ ـ ١ : ١٠.

(٢٥) المفيد في المقنعة : ٦٤ والطوسي في المبسوط ١ : ١١. (٢٦) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ، ١ : ٤١٤). (٢٧) جواهر الفقه : ٨ المسألة ٤.

(٢٨) الخلاف ١ : ١٧٢ المسألة ١٢٦.

(٢٩) المعتبر : ٢١. (٣٠ و ٣٢) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٣١) المختصر النافع : ٤٤.

٣٧٩

في كتابيه التهذيب (١) والاستبصار (٢) ـ بعد ما أورد فيهما الرواية الآتية عن عليّ بن جعفر المؤذنة بالجواز ـ أخذ بحملها على الضرورة المستفادة من سياقها أيضا ـ على ما قيل ـ ولكن كون ذلك مذهبا له محلّ إشكال ، حيث إنّ التأويل لدفع التنافي لا يستلزم اختياره مذهبا ـ كما تنبّه عليه في الحدائق (٣) ـ ونظيره كثير الوقوع في كلامه في الكتابين كما لا يخفى على المتتبّع.

وبالجملة : فحجّة القول الأوّل ـ من المحصّل ، والمحكيّ ، والمزيّف ، والصحيح ـ وجوه :

أوّلها : الإجماع المحكيّ عن الناصريّات (٤) ، المعتضدة بالشهرة المتأخّرة ، المحكيّة في كلام جماعة ، وهو لمن يراه حجّة بالخصوص في محلّه ، إن لم يكن موهونا بمصير جماعة من أعاظم القدماء إلى خلافه.

وثانيها : أصالة بقاء المطهّريّة الثابتة قبل الاستعمال ، ولا يعارضها أصالة بقاء الحدث الثاني على ما قرّر في محلّه ، كما أنّه بالاستعمال لا يخرج عن موضوعه الأوّل ، وهو أيضا في محلّه إن لم يكن في مقابله ما يرفع موضوعه.

وثالثها : أصالة بقاء الأمر بالغسل الثابت قبل انحصار الماء في المفروض ، وهو فاسد لرجوعه بالقياس إلى إثبات المطهّريّة لهذا الماء إلى الأصل المثبت ، ضرورة أنّ المطهّريّة له ليست من الأحكام الثابتة للمستصحب في الحالة السابقة حتّى يحكم ببقائها في الحالة اللاحقة ، لكونها مشكوكا فيها في كلتا الحالتين كما لا يخفى ، وبذلك يستغني عن تجشّم معارضة ذلك بأصالة بقاء الحدث.

ورابعها : إطلاق الأمر بالغسل ، لصدق امتثاله باستعمال الماء المفروض ، وحاصله : أنّ استعمال هذا الماء في رفع الحدث ونحوه غسل ، وكلّ غسل موجب لامتثال الأمر به ومقتض للإجزاء ، أمّا الصغرى : فواضحة ، وأمّا الكبرى : فلإطلاق الأوامر الواردة بالغسل كتابا وسنّة ، والمناقشة فيه : بخروج الماء المفروض بسبب الاستعمال عن كونه مطهّرا ، مصادرة لا يعبأ بها.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٧ ح ١٣١٨ ـ واكتفى فيه بنقل الرواية فقط من دون حملها على الضرورة.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٨ ب ١٤ ذيل حديث ٢.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٤٠.

(٤) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٩).

٣٨٠