ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

البقاء لا يحتاج إلى دليل في نفسه ، إذ الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع وذلك معنى الاستصحاب ، لكن ربّما يتوجّه إليه مناقشة من حيث التعليل المذكور يظهر وجهها بالتأمّل.

وقد يستدلّ له بوجوه اخر :

منها : الرواية المتقدّمة في المسألة السابقة (١) إمّا بناء على ما قرّرناه من أنّ الخارج من ذلك حالة التغيّر فيدخل ما بعدها في العموم ، أو لأنّه إذا فرض الماء المتغيّر نصفين زال تغيّرهما فاجتمعا دخل تحت عموم الرواية ، وإذا ثبت فيه ثبت في غيره بالإجماع.

وفيه : أنّ الاستناد إلى تلك الرواية إنّما يصحّ لو كانت متعرّضة لحكم الزوال عقيب الحدوث خصوصا أو عموما وقد مرّ منعه في المسألة السابقة ، فإنّ العبارة قاصرة جدّا عن التعرّض للحكم المذكور نفيا وإثباتا ، وظاهرة في إعطاء حكم الدفع الّذي ليس المقام عنه ، ومع الغضّ عن ذلك فالتمسّك بالإجماع بناء على التقرير الثاني ضعيف جدّا ، إذ لا محمل له إلّا مركّب الإجماع وهو مع وجود القول بالفصل كما ترى ؛ وقد عرفت أنّ الحلّي العامل بالرواية فيما هو من قبيل المسألة الثانية أنكر الطهارة هنا.

وقد يجاب عنه (٢) أيضا : بأنّ الرواية مخصوصة بالنصّ والإجماع بالخبث الّذي لا يكون مغيّرا للماء ، فإذا ثبت النجاسة بالتغيّر كانت مستصحبة ، وبالتأمّل فيما قرّرناه في تحقيق دعوى الملازمة بين القولين تقدر على تزييف ذلك بأحسن وجه.

ومنها : قاعدة الطهارة بناء على عدم جريان استصحاب النجاسة ، لأنّ موضوع النجاسة هو المتلبّس بالتغيّر ، أو المردّد بين ما حدث فيه التغيّر في زمان وما تلبّس به ، وعلى التقديرين فلا يعلم بقاء الموضوع الّذي هو شرط في جريان الاستصحاب.

وفيه : منع كون موضوع النجاسة شي‌ء ممّا ذكر ، بل الموضوع هو الماء الملاقي للنجاسة المغيّرة ، بناء على أنّ الموجب للنجاسة هو الملاقاة المغيّرة دون الملاقاة مطلقة ولا التغيّر منفردا وهو باق جزما ، وسيلحقك زيادة توضيح في ذلك.

ومنها : الأخبار الظاهرة في اعتبار فعليّة التغيّر في النجاسة مثل قوله عليه‌السلام : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ [من الماء] واشرب » (٣) وقوله عليه‌السلام : « لا بأس إذا

__________________

(١) والمراد بها قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا ».

(٢) المجيب هو المحقّق الخوانساري رحمه‌الله في مشارق الشموس : ٢٠٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٧ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

٦٠١

غلب لون الماء لون البول » (١) ، وقوله عليه‌السلام : « إذا كان النتن الغالب على الماء فلا توضّأ ولا تشرب » (٢) ونحو ذلك.

وفيه : أنّ اعتبار فعليّة التغيّر في النجاسة ممّا لا ينكره أحد ، لكنّها تلاحظ تارة بالقياس إلى حدوث التغيّر فيراد بها حدوثه فعلا ، واخرى بالقياس إلى بقاء التغيّر فيراد بها بقاؤها فعلا ، والمطلب إنّما يثبت لو كان المستفاد من الأخبار اعتبار الفعليّة في كلّ من جهتي الحدوث والبقاء ، على معنى استفادة استناد النجاسة حدوثا وبقاء إلى التغيّر حدوثا وبقاء ، فحدوثها إلى حدوثه وبقاؤها إلى بقائه ، وقضيّة ذلك انتفائها عند انتفاء إحدى جهتي التغيّر ، فلا حدوث مع عدم حدوثه ولا بقاء لها مع عدم بقائه ، وهذا كما ترى موضع منع كلّ المنع ، لوضوح أنّ أقصى ما يستفاد منها اعتبار الفعليّة في جهة الحدوث فقط ، وأمّا جهة البقاء فهي إمّا دالّة على عدم اعتبار الفعليّة فيها أو ساكتة عن التعرّض لها نفيا وإثباتا ، فعلى كلّ من التقديرين يجب استصحاب النجاسة بعد زوال التغيّر إلى أن يقوم رافع يقيني ، وإن كان الاستصحاب على التقدير الأوّل يراد به معنى وعلى التقدير الثاني معنى آخر وسيأتي بيان المعنيين مع الفرق بينهما.

وممّا يفصح عمّا ذكرناه من أنّ المستفاد من الأخبار اعتبار الفعليّة في جهة الحدوث فقط ورد التعبير في الأخبار عن اعتبار التغيّر في النجاسة بصيغة الفعل ماضيا ومستقبلا الّتي هي باعتبار الوضع اللغوي ظاهرة في الحدوث ، وسيلحقك زيادة بيان في ذلك.

ومنها : الأمر بالنزح في البئر المتغيّر حتّى يزول التغيّر الوارد في صحيحة محمّد بن بزيع (٣) بناء على أنّ كلمة « حتّى » للتعليل أو للانتهاء ، مع استظهار كون ما بعدها علّة غائيّة نظير ما في قولك : « تفكّر في العبارة حتّى ـ أو إلى ـ أن تفهمها ».

وفيه أوّلا : منع كون كلمة « حتّى » تعليليّة لظهورها في الانتهاء ، ولو سلّم فليس ذهاب الريح وطيب الطعم علّة للطهر وإنّما هو علّة للنزح الّذي اعتبره الشارع لرفع المانع عن الطهر المقارن للطهر الحاصل بتجدّد الماء من المادّة ، فالمطهّر هو الماء المتجدّد دون زوال التغيّر ، لكون وجود التغيّر مانعا عن حصول الطهر.

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ و ٦.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ٧.

٦٠٢

وثانيا : منع دخولها على العلّة الغائيّة على تقدير كونها انتهائيّة ، لما تبيّن من أنّ الغاية المقصودة من النزح طهر البئر بتجدّد الماء من المادّة ، وذهاب الريح مع طيب الطعم مقصود بالتبع دفعا للمانع.

ولو سلّم كونه مقصودا بالأصالة فإنّما يقصد إحرازا لرفع المانع لا لأنّ المقصود إحراز المقتضي للطهارة ولا يكون إلّا زوال التغيّر.

ولو سلّم أنّ إحراز المقتضي أيضا مقصود بالأصالة فالمقتضي ليس إلّا الماء المتجدّد من المادّة المقارن تجدّده لزوال التغيّر فكلاهما مقصودان بالأصالة ، إلّا أنّ تجدّد الماء مقصود لإحراز المقتضي وزوال التغيّر مقصود لإحراز رفع المانع.

ولو سلّم أنّ عدم المانع له مدخليّة في ترتّب الأثر فغايته كونه جزءا للعلّة لا أنّه علّة تامّة ، فالجزء الآخر هو تجدّد الماء.

ولو سلّم عدم الدلالة على مدخليّة تجدّد الماء فلا نسلّم الدلالة على نفي المدخليّة أيضا ، ولازم ذلك قيام الاحتمال المتساوي ومعه يكون المقام من مجاري الاستصحاب الّذي لا قاطع له سوى تجدّد الماء ، فكون زوال التغيّر علّة غائيّة لا يستلزم كونه هو المطهّر ، فالاستدلال بالصحيحة على طهر الماء بمجرّد زوال التغيّر غير متّجه ، سواء جعل كلمة « حتّى » تعليليّة ، أو انتهائيّة داخلة على العلّة الغائية أو لا.

حجّة القول المشهور امور :

أحدها : ما اعتمد عليه المحقّق الخوانساري فإنّه قال ـ معرضا عن الوجوه الثلاث الآتية ـ : « والأولى أن يتمسّك بالروايات الدالّة على النجاسة بالتغيّر ، لأنّ فيها النهي عن الوضوء والشرب من هذا الماء ، والنهي للدوام والتكرار خرج ما بعد التطهير بالإلقاء ونحوه ممّا فيه إجماع أو دليل آخر بالدليل فيبقى الباقي » (١) ، وهذا كما ترى بمكان من الوهن ، ضرورة أنّ النهي هنا تابع للنجاسة لكونه ناشئا منها فدوامه موقوف على بقائها بعد زوال التغيّر ، فالتمسّك بدوامه على بقائها لا يخلو عن نوع مصادرة ، ولك أن تقول : بكونه مؤدّيا إلى الدور كما يعرف بأدنى تأمّل ، ومن هنا يعلم أنّ دعوى دوام النهي هنا إن لم تكن عن علم ببقاء النجاسة لا بدّ لها من وسط ، فمع وجوده لغى توسيط دوام

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٠٤.

٦٠٣

النهي وبدونه بقي المطلب موقوفا ، فالاستدلال بالأخبار إن كان ولا بدّ منه فلا بدّ وأن يقرّر بطريق آخر سنشير إليه.

وثانيها : ما اعتمد عليه العلّامة في المنتهى (١) من « أنّ النجاسة حكم شرعي ، فيتوقّف زواله على حكم آخر » وهذا أيضا لا يخلو عن نوع ضعف ؛ إذ كلّ من المقدّمتين مسلّمة لا إشكال فيها غير أنّ الحكم بزوال النجاسة يكفي فيه زوال علّة الحدوث ، ومع قيام شبهة العلّيّة في التغيّر المقطوع زواله لا يمكن العلم بعدم زوال العلّة ، فالعمدة في المقام نفي العلّيّة عن التغيّر لا الاقتصار على ما لا يجدي شيئا من ثبوت المطلوب ودفع كلام الخصم.

وثالثها : ما اعتمد عليه في الكتاب المذكور أيضا من أنّ « النجاسة تثبت بوارد ، فلا تزول إلّا بوارد ، بخلاف نجاسة الخمر ، فإنّها تثبت بغير وارد فتطهر بغير وارد » (٢) ، وهذا أضعف من سابقه.

ورابعها : ما اعتمد عليه غير واحد من فحول أصحابنا منهم العلّامة في الكتاب المذكور (٣) من أنّه كان نجسا قبل الزوال فيستصحب الحكم بعده أيضا ، وهذا هو الّذي لا محيص عنه في المقام ، ومحصّله يرجع إلى التمسّك بالاستصحاب وإن اختلفوا في المعنى المراد به هنا ، حيث إنّ ظاهر الأكثرين وصريح بعضهم أنّ المراد به معناه المعهود الّذي يعدّ عندهم من أدلّة الأحكام الظاهريّة واختلف في حجّيّته ، خلافا لصريح بعضهم في عدّه هنا من العمل بعموم الدليل وإطلاقه كما نقله صاحب الحدائق عن بعض من استدلّ بالوجه المذكور ، حيث أنّه بعد ما فرغ عن تقرير الاستدلال قال : « وليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه ، بل مرجعه إلى العمل بعموم الدليل » (٤).

والظاهر أنّ الاستصحاب بهذا المعنى هو الّذي يعبّر عنه في العمل بالأدلّة اللفظيّة بأصالة العموم ، أو الإطلاق ، وأصالة عدم التخصيص ، أو عدم التقييد ، ومن المصرّح به في كلامهم أنّ الاستصحاب عندهم يطلق على هذا المعنى.

قال في مقدّمات الحدائق : « واعلم أنّهم صرّحوا بأنّ الاستصحاب يقع على أقسام أربعة :

أحدها : نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمّة منه إلى أن يظهر دليله وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة.

__________________

(١ و ٢ و ٣) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٧ و ٥١.

٦٠٤

وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصّص وحكم النسخ إلى أن يرد الناسخ.

وثالثها : استصحاب إطلاق النصّ إلى أن يثبت القيد.

ورابعها : استصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، بمعنى أنّه يثبت في وقت ثمّ يجي‌ء وقت آخر لا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم فيه فيحكم ببقائه على ما كان استصحابا لتلك الحالة الاولى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا خلاف ولا إشكال في حجّيّته بالمعنى الثاني والثالث ، لأنّ مرجعهما إلى الاستدلال بعموم النصّ وإطلاقه وإنّما الإشكال والخلاف في معنى البراءة الأصليّة وقد تقدّم وفي المعنى الرابع » انتهى.

وقال في الكتاب المذكور بعد الفراغ عن نقل الاستدلال بالاستصحاب مع العبارة المصرّحة « بأن ليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه » في شرح هذا الكلام وتوضيحه : « وتحقيق القول في الاستصحاب وجملة أقسامه قد تقدّم في المقدّمة الثالثة.

فظاهر كلام المستدلّ هنا أنّ الاستصحاب المذكور من قبيل القسم الثالث المذكور هناك الّذي هو عبارة عن إطلاق النصّ ، دون القسم الرابع الّذي هو محلّ للنزاع ». ـ إلى أن قال ـ : « وتحقيق القول في ذلك أن يقال : إذا تعلّق حكم بذات لأجل صفة ـ كالماء المتغيّر بالنجاسة ، والماء المسخّن بالشمس ، والحائض أي ذات دم الحيض ـ فهل يحكم بمجرّد زوال التغيّر وزوال السخونة وانقطاع الدم بخلاف الأحكام السابقة ، أو يحكم بإجراء الأحكام السابقة إلى ظهور نصّ جديد؟ فيه إشكال ينشأ من أنّ الحكم في هذه النصوص الواردة في هذه الأفراد المعدودة ونحوها محتمل القصر على زمان وجود الوصف ، بناء على أنّ التعليق على الوصف مشعر بالعلّيّة ، وأنّ المحكوم عليه هو العنوان لا الفرد وقد انتفى ، وبانتفائه ينتفي الحكم ، ومحتمل للإطلاق بناء على أنّ المحكوم عليه إنّما هو الفرد لا العنوان ، والعنوان إنّما جعل آلة لملاحظة الفرد ، فمورد الحكم حقيقة هو الفرد.

فعلى الاحتمال الأوّل يكون من القسم الرابع ، وإن تغيّر الماء بالنجاسة نظير فقد

٦٠٥

الماء في مسألة المتيمّم الداخل في الصلاة ثمّ يجد الماء ، فكما أنّ وجود الماء هناك حالة [اخرى] مغايرة للأولى ؛ فتعلّق النصّ بالاولى لا يوجب استصحابه في الثانية لمكان المخالفة فكذا هنا زوال الوصف حالة ثانية مغايرة للأولى لا يتناولها النصّ المتعلّق بالاولى.

وعلى الاحتمال الثاني يكون من قبيل القسم الثالث » (١) انتهى.

ومحصّل كلامه رفع مقامه : أنّ كون الاستصحاب هنا مرادا به المعنى المعروف المتنازع فيه أو المعنى الآخر المعبّر عنه بإطلاق الدليل مبنيّ على كون حكم النجاسة بالتغيّر متعلّقا بالعنوان دون الفرد ، أو بالفرد دون العنوان ، لكن فيه فساد المبنى في وجه وفساد الابتناء في وجه آخر ؛ وذلك لأنّ العنوان والفرد إن اريد بهما معناهما الظاهر المتعارف وهو المفهوم الكلّي في الأوّل والفرد الخارجي المنطبق عليه في الثاني.

ففيه : فساد المبنى ، لأنّ الفرد لا يتخلّف عن عنوان ولا يخالفه وإلّا لا يكون فردا له ، فكلّ ما اعتبر في العنوان من القيود والصفات لا بدّ من اعتباره في الفرد المطابق له إحرازا لقضيّة الانطباق ، فإذا فرض أنّ منشأ فقد الإطلاق في دليل الحكم كون موضوعه مأخوذا فيه وصف مشعر بالعلّيّة فلا يفترق الحال فيه بين القول بتعلّقه بأصل العنوان مع قطع النظر عن أفراده الموجودة في الخارج وبين القول بتعلّقه بالفرد المنطبق عليه ، لقيام الموجب في كلّ منهما ، فلا يحصل في دليل الحكم على التقدير الثاني إطلاق أيضا بالقياس إلى حالتي وجود الوصف وزواله ليتمسّك به عند طروّ حالة الزوال ، وإلّا لزم كون الفرد المنطبق على العنوان أعمّ من العنوان وهو محال.

هذا مع أنّ المحقّق أنّ الأحكام كائنة ما كانت إنّما تتعلّق بالعناوين دون الأفراد المنطبقة عليها ، والفرد لا مدخل له في متعلّق الحكم إلّا باعتبار الوجود الخارجي من حيث إنّ وجوده في الخارج يتضمّن وجود العنوان ، ومن هنا يظهر فساد ما لو قرّر الاستصحاب بالمعنى المعروف ـ فرارا عن شبهة ارتفاع الموضوع المتقدّم إلى رفعها الإشارة ـ بأنّ : هذا الماء الموجود في الخارج المشار إليه بالإشارة الحسّيّة كان نجسا قبل زوال التغيّر فيحكم عليه بالنجاسة أيضا بعده استصحابا للحالة السابقة في موضوع

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٨.

٦٠٦

نقطع ببقائه وهو هذا الماء ، فإنّ ذلك من أبده المفاسد.

ضرورة أنّ الحكم الشرعي الأصلي لم يكن متعلّقا بهذا الفرد من حيث أنّه هذا الفرد ، ولا باعتبار عنوان صادق عليه حين زوال التغيّر ، بل باعتبار عنوان التغيّر الّذي لم يكن باقيا فيه جزما ومعه لا يعقل الاستصحاب ، فعلى القول بمدخليّة الوصف في موضوع الحكم لا يمكن له البقاء بعد زوال ذلك الوصف.

وإن اريد بهما الذات الموصوفة والذات المجرّدة عن الوصف ، بمعنى تعلّق الحكم على الأوّل بالماء بوصف أنّه متغيّر على أن يكون وصف التغيّر جزء للموضوع : وتعلّقه على الثاني بالذات المعرّاة عن ذلك الوصف وبالماهيّة لا بشرط هذا الوصف ، ولا ينافي ورود اعتباره في الأدلّة معه لأنّه معتبر معه من باب المرآتيّة لا الموضوعيّة على معنى كونه علامة لمعرفة موضوع الحكم وهو الّذي يطرأه ذلك الوصف ، فإذا عرفناه بذلك الوصف نحكم عليه بهذا الحكم إلى أن يظهر له رافع سواء بقي فيه الوصف أم لا.

ففيه : فساد الابتناء لعدم انحصار وجه المسألة في الاحتمالين المذكورين ، بل هاهنا احتمال ثالث يجري معه الشبهة والإشكال ، وهو أنّ الوصف ليس بداخل في الموضوع ولا أنّه معتبر لمجرّد العلاميّة ، وإنّما هو علّة للحكم مؤثّر في حدوثه كما هو الحقّ الّذي لا محيص عنه.

وتوضيح ذلك ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ : أنّ موضوع النجاسة هنا هو الماء الملاقي للنجاسة المغيّرة ، على أن يكون كلّ من الملاقاة والتغيّر جزء للعلّة والمجموع منهما علّة تامّة لا جزء للموضوع ، فلا يكفي مجرّد الملاقاة ولا التغيّر بدون الملاقاة كما سبق تحقيقه في مسألة أنّ التغيّر الحاصل بمجاورة النجاسة لا يوجب نجاسة الماء ؛ والوجه في عدم كون التغيّر جزء للموضوع ورود اعتباره في أخبار الباب بعبارة القضيّة الشرطيّة المفيدة للسببيّة كما لا يخفى على المتتبّع ، وقد حصلت هاهنا شبهتان :

إحداهما : ما نشأ منها الخلاف في أنّ زوال التغيّر بنفسه هل يوجب زوال النجاسة عن الماء أو لا؟

واخراهما : ما نشأ منها الخلاف بين القائلين بعدم طهر الماء بمجرّد زوال التغيّر في أنّ ثبوت النجاسة في الحالة الثانية هل هو من مقتضى الخطاب الأوّل أو من مقتضى

٦٠٧

الاستصحاب بالمعنى المعروف؟

ومرجع الشبهة الاولى إلى أنّ المستفاد من أدلّة التغيّر هل هو علّيّة حدوث التغيّر فقط أو علّيّة حدوثه وبقائه معا ، كما أنّ مرجع الشبهة الثانية إلى أنّ الأدلّة الدالّة على علّيّة حدوث التغيّر فقط هل هي بالقياس إلى ما بعد التغيّر دالّة على ثبوت الحكم أيضا إلى أن يقوم له رافع يقيني فيكون المقام من مجاري استصحاب حكم الإطلاق المتّفق على حجيّته ، أو ساكتة عنه نفيا وإثباتا ، فيكون المقام من مجاري الاستصحاب بالمعنى المعروف المختلف في حجّيّته؟

ونحن قد تخلّصنا عن الشبهة الاولى بدعوى ظهور الأخبار الواردة في الباب في علّيّة الحدوث فقط من غير تعرّض فيها لجهة البقاء ، وإن شئت لاحظ ما في النبوي من قوله : « إلّا ما غيّر لونه » (١) أي أحدث فيه تغيّر اللون ، وما في خبري دعائم الإسلام من قوله : « ما لم يتغيّر أوصافه » (٢) كما في أوّلهما ، أي ما لم يحدث فيه تغيّر الأوصاف.

وقوله : « فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه » (٣) كما في ثانيهما ، أي حدث فيه تغيّر الطعم.

وما في المرويّ عن الفقه الرضوي من قوله : « إلّا أن يكون فيه الجيف فتغيّر لونه » (٤) أي حدث به تغيّر اللون.

وما في المرسل المروي في المختلف من قوله : « إذا غلبت رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه ، وإن لم يغلب عليه فاشرب منه » (٥) أي حدث فيه غلبة الرائحة ولم يحدث الغلبة ، وما في خبر بصائر الدرجات من قوله : « إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن » (٦) أي يحدث غلبة الريح على الماء فيحدث من جهة النتن في الماء.

وعلى هذا القياس ما في خبر العلاء من قوله : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٧) ، وخبر أبي خالد القمّاط من قوله : « إن كان الماء قد تغيّر ريحه » (٨) ، وخبر

__________________

(١) رواه في المعتبر مرسلا عن الجمهور ، لاحظ المعتبر : ٨ ـ الوسائل ١ : ١٣٥ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩.

(٢ و ٣) دعائم الإسلام ١ : ١١١ و ١١٢.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨.

(٦) بصائر الدرجات : ٢٣٨ / ١٣ ـ الوسائل ١ : ١٦١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(٧ و ٨) الوسائل ١ : ١٣٩ و ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ و ٤.

٦٠٨

حريز من قوله : « فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم » (١) ، وخبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع من قوله : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه » (٢) ، وخبر زرارة من قوله : « إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء » (٣) ، وخبر عبد الله بن سنان من قوله : « إذا كان الماء قاهرا ولم يوجد فيه الريح فتوضّأ » (٤) ، وخبر معاوية بن عمّار من قوله : « لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب » (٥) ، وخبر أبي بصير من قوله عليه‌السلام : « إن تغيّر [الماء] فلا تتوضّأ منه وإن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه » (٦) ، والخبر الآخر لمحمّد بن إسماعيل من قوله : « لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر » (٧) ، وخبر محمّد بن القاسم من قوله : « ما لم يتغيّر » (٨) ، وهذه كما ترى كلّها ظاهرة في علّيّة الحدوث من غير دلالة فيها على إناطة بقاء النجاسة على بقاء التغيّر على وجه يكون مفادها نفي الحكم مع انتفاء التغيّر مطلقا.

نعم ، في جملة من أخبار الباب ما يوهم ذلك كما في ذيل خبر البصائر المتقدّم ذكره من قوله عليه‌السلام : « وجئت تسأل عن الماء الراكد فإن لم تكن فيه تغيّر وريح غالبة فتوضّأ منه » (٩) ، وخبر سماعة من قوله عليه‌السلام : « إن كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضّأ ولا يشرب » (١٠) ، والمرسل الآخر في مختلف العلّامة من قوله : « إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضّأ منه ، وإن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه واغتسل » (١١) ، بملاحظة أنّ لفظة « كان » من أفعال الناقصة لتقرير الصفة ، فتدلّ على أنّ العبرة في النجاسة وعدمها بثبوت التغيّر والغلبة وعدمهما.

ولا ينبغي لأحد توهّم عدم الفرق بين التركيبين في المعنى لأنّه من ضروريّات الوجدان ، كما يفصح عنه ملاحظة قولنا : « إن قام زيد فأكرمه » ، وقولنا : « إن كان زيد

__________________

(١ ـ ٣ و ١٠) الوسائل ١ : ١٣٧ ـ ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ١٢ و ٨ و ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١١ مع اختلاف يسير في العبارة.

(٥ و ٨) الوسائل ١ : ١٧٣ و ١٧١ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ و ٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٣.

(٧) الوسائل ١ : ١٧٠ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ وفيه : « إلّا أن يتغيّر به ».

(٩) بصائر الدرجات : ٢٣٨ / ١٣ ـ الوسائل ١ : ١٦١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(١١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.

٦٠٩

قائما فأكرمه » ؛ لظهور الثاني في اعتبار فعليّة التلبّس حدوثا وبقاء بخلاف الأوّل. ولكن يمكن رفعه بأنّ الثبوت في جانب المنطوق وإن كان أعمّ من التلبّس المسبوق بالوجود وهو العدم الابتدائي ، وأمّا عدم التلبّس المسبوق بالوجود الّذي هو من قبيل محلّ البحث فخارج عن مدلول اللفظ منطوقا ومفهوما ، فلا دلالة في هذه الجملة من الأخبار أيضا على زوال النجاسة بمجرّد زوال التغيّر.

وأمّا الشبهة الثانية : فإنّما نتفصّى عنها بالتزام دخول محلّ البحث في مناطيق المتقدّم إليها الإشارة ، فتكون النجاسة في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره ثابتة بإطلاق الدليل إلّا في وجه ضعيف نشير إليه ، ضرورة أنّ الأخبار الدالّة على علّيّة حدوث التغيّر مطلقة بالقياس إلى حالتي بقاء التغيّر وزواله ، وكما أنّ قولك : « إن قام زيد فأكرمه » يدلّ في متفاهم العرف على وجوب الإكرام بمجرّد حدوث التلبّس بالقيام وبقاء ذلك الواجب على الذمّة إلى أن يحصل أداؤه في الخارج ولو بعد زوال التلبّس ، ولا ينافي ذلك مفهوم الشرطيّة وهو عدم وجوب الإكرام عند انتفاء التلبّس رأسا ، فكذلك أخبار الباب في دلالتها على علّيّة حدوث التغيّر للنجاسة ، فإنّها أيضا بإطلاقها تنفي شرطيّة البقاء وتدلّ على بقاء النجاسة إلى أن يحصل رافعها ولو بعد زوال التغيّر ، فمن أنكر ذلك فقد كابر وجدانه.

نعم ، يشكل الحال بالقياس إلى جملة من تلك الأخبار المتقدّم إليها الإشارة أيضا ، لما عرفت فيها من أنّ عدم التلبّس المسبوق بالتلبّس غير داخل فيها منطوقا ولا مفهوما ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّه لا إطلاق فيها منطوقا بالقياس إلى حالتي بقاء التلبّس وزواله ، لكن قد عرفت أنّها باعتبار المفهوم ظاهرة في نفي النجاسة عند انتفاء التغيّر رأسا من غير تعرّض فيها مفهوما لحكم زوال التغيّر ، فإن تمّ ذلك الظهور سهل الذبّ عن هذا الإشكال ، ضرورة أنّ هذا الظهور لاختصاصه بانتفاء التغيّر رأسا ممّا يحرز به بالقياس إلى زوال التغيّر بعد حدوثه موضوع الاستصحاب بالمعنى المعروف ، ولمّا كان الاستصحاب بهذا المعنى ممّا لا يعارض الدليل فيكون إطلاق المنطوق في الأخبار الاخر واردا عليه رافعا لموضوعه.

وعليه يكون مدرك النجاسة هو الاستصحاب بالمعنى الثالث ممّا تقدّم وهو العمل بإطلاق النصّ ؛ وإلّا وقع التعارض بين مفهوم هذه الجملة من الأخبار ومنطوق الأخبار

٦١٠

الاخر على طريق تعارض العامّين من وجه ؛ حيث إنّ المنطوق بإطلاقه يقضي بنجاسة ما حدث فيه التغيّر سواء بقي على حاله أو لم يبق ، والمفهوم بإطلاقه يقضي بطهارة ما انتفى عنه التغيّر سواء حدث فيه أوّلا أو لم يحدث أصلا ، فلا بدّ حينئذ إمّا من الترجيح بتقديم العمل بالمنطوق أخذا بالكثرة وقوّة الدلالة ونحوها ، فيكون العمل أيضا بالاستصحاب بالمعنى الثالث ، أو القول بالتساقط ، فيندرج المقام حينئذ في موضوع الاستصحاب بالمعنى المعروف ؛ وعليه يتعيّن العمل بهذا المعنى من الاستصحاب.

فنتيجة الكلام : أنّ النظر في أخبار التغيّر يقضي بنجاسة المتغيّر الّذي زال تغيّره إمّا للاستصحاب بمعنى العمل بإطلاق النصّ كما في وجه قويّ ؛ أو للاستصحاب بالمعنى المعروف كما في وجه ضعيف.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه ينقدح أنّ جريان الاستصحاب بهذا المعنى لا يتوقّف على القول بعدم حجّيّة مفهوم الوصف.

فما يقال ـ في دفع مقالة من فسّر الاستصحاب هنا بالعمل بعموم الدليل ـ من : أنّ الظاهر من الأدلّة أنّ القضيّة دائمة عرفيّة ما دام الوصف ، يعني كلّ ماء متغيّر نجس ما دام متغيّرا فلا تفيد العموم المذكور ، فانحصر الدليل حينئذ في الاستصحاب الممنوع عنده ؛ وتقريره حينئذ : أنّ القضيّة المذكورة وإن كانت دائمة ما دام الوصف في صورة الإثبات إلّا أنّها لا تدلّ على نفي الحكم عند نفيه كما هو المحقّق في مفهوم الوصف ، فيبقى الحكم في ثاني الحال مشكوكا فيه فيتمسّك لثبوته بالاستصحاب حتّى يحصل الرافع اليقيني.

ففيه أوّلا : أنّ القضيّة بالعبارة المذكورة غير موجودة في شي‌ء من أخبار الباب ، وإنّما هي شي‌ء يجري في لسان الفقهاء انتزعوه عن الأخبار فلا يصلح ميزانا لحكم الشرع الّذي يختلف باختلاف مؤدّى العبارات الصادرة من الشارع ، والموجود في خطاباته هنا إنّما هو إعطاء الحكم بعبارة القضيّة الشرطيّة كما عرفت ، ومفهوم الشرط حجّة مضافا إلى ذكر المفهوم في كثير من الأخبار صريحا كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ ثبوت المفهوم هنا فيما له مفهوم لا ينافي جريان الاستصحاب بهذا المعنى ، لما عرفت من أنّ أقصى ما فيه الدلالة على نفي الحكم على تقدير انتفاء

٦١١

حدوث التغيّر ، وأمّا انتفاء بقائه بعد الحدوث فالمفهوم أيضا ساكت عن حكمه إلّا في وجه ضعيف تقدّم الإشارة إليه.

والظاهر أنّ طهره بإلقاء كرّ عليه ، أو إجراء جار آخر إليه ، أو نزول الغيث عليه ، مع مراعاة سائر الشروط المتقدّمة ـ الّتي منها زوال التغيّر في الجميع ، والدفعة في الأوّل والممازجة فيه وفي الباقيين أيضا ـ ، ممّا لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ، لأنّ مناط الطهر بهذه الامور على التفصيل المتقدّم واحد يجري في الجميع ، وليس في عدم تعرّض الفقهاء إلّا لبيان ما سيأتي من العنوان دلالة على خلاف ما ذكرناه لأنّ إثبات الشي‌ء لا ينفي ما عداه ، ووجه الاقتصار عليه التعرّض لذكر ما لا يجري في غير الجاري.

ومن هنا ترى جماعة من فحول الأصحاب أنّهم بالنسبة إلى العنوان الآتي فرّعوا على القول باشتراط الكرّيّة في عدم انفعال الجاري أنّ من لوازمه أن لا يطهّر ذلك الماء إلّا بمطهّر خارجي وإن كان عينا عظيما ما لم يكن الخارج من المنبع في كلّ نبع كرّا فما زاد.

وكيف كان فقد ذكروا أنّه « يطهّر بكثرة الماء الطاهر عليه ـ متدافعا ـ حتّى يزول التغيّر » كما في الشرائع (١) « أو إنّما يطهّر باكثار الماء المتدافع حتّى يزول التغيّر » كما في المنتهى (٢) ؛ « أو طهره بتدافعه حتّى يزول التغيّر » كما في الدروس (٣) ؛ والتصريح « بتدافع الماء من المادّة وتكاثره » محكيّ أيضا عن المبسوط (٤) والسرائر (٥) والوسيلة (٦) والمعتبر (٧) والتذكرة (٨) ، وكونه مع زوال التغيّر في الجملة مطهّرا ممّا لا خلاف فيه أيضا.

المسألة الثانية : في تطهير الجاري.

نعم ربّما يتوهّم الإشكال في أمرين :

أحدهما : طهره بمجرّد زوال التغيّر ، وقد صرّح غير واحد من أصحابنا المتأخّرين

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٩.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٤) المبسوط ١ : ٦.

(٥) السرائر ١ : ٦٢حيث قال:« والطريق إلى تطهيرها تقويتها بالمياه الجارية ، ودفعها حتّى يزول عنها التغيّر ».

(٦) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤) حيث قال : « ويمكن تطهيره بإكثار الماء إلى حدّ يزيل حكم الاستيلاء ... ».

(٧) المعتبر : ٨.

(٨) تذكرة الفقهاء ١ : ١٦.

٦١٢

ـ تبعا لصاحب المدارك ـ (١) أنّ اعتبار التدافع حتّى يزول التغيّر إنّما هو على رأي من يعتبر الممازجة كالمحقّق وغيره ؛ وأمّا من يكتفي بالاتّصال فالظاهر على رأيه كفاية زوال التغيّر وإن لم يحصل التدافع.

وهو كما ترى فإنّ العلّامة في المنتهى (٢) ـ على ما عرفت ـ ممّن يكتفي بالاتّصال وهو مصرّح هنا بالتدافع كما عرفت.

وقال في موضع آخر قبل ذلك : « لو كان الحوض الصغير من الحمّام إذا نجس لم يطهّر بإجراء المادّة إليه ما لم يغلب عليه بحيث يستولي عليه ، لأنّ الصادق عليه‌السلام حكم بأنّه بمنزلة الجاري ، ولو نجس الجاري لم يطهّر إلّا باستيلاء الماء عليه بحيث يزيل انفعاله » (٣).

ومن هنا علم أنّه ليس لأحد أن يحمل ورود التدافع في كلامه وكلام غيره ممّن تقدّم على إرادة كونه أسهل أسباب زوال التغيّر وأغلبها في الجاري ؛ على معنى أنّ ذكره ليس من جهة أنّه معتبر في التطهير ؛ بل من جهة أنّه مقدّمة لإحراز زوال التغيّر الّذي هو مانع عن الطهر ، بل الظاهر أنّه لا خلاف في اعتبار التدافع إلّا ما يوهمه عبارة اللمعة (٤) كما عن الجعفريّة أيضا من : « أنّه يطهّر بزوال التغيّر » (٥).

ويمكن الذبّ عنه : بدعوى ابتناء الاكتفاء بمجرّد زوال التغيّر في مثل هذه العبارة على فرض كون اعتبار التدافع مفروغا عنه وممّا لا بدّ منه ، والسرّ في عدم التصريح به ـ مع أنّ الطهر بناء على اشتراطه بالتدافع لا يتأتّى إلّا بعد إحراز مقتضيه وفقد مانعه ـ أنّ العمدة في المقام المحتاج إلى التنبيه عليه والتصريح به إنّما هو اعتبار زوال التغيّر الّذي هو مانع إحرازا لفقد المانع ، وأمّا المقتضي فهو دائم الوجود ، إذ الجاري لا يكون إلّا بتدافع أجزائه من المادّة بعضها بعضا كما لا يخفى ، فكلّما يحرز زوال التغيّر فالتدافع من المادّة موجود معه مقارن له.

ومن هنا ظهر : أنّ التعرّض لهذا البحث ـ كما في كلام جمع كثير من متأخّري المتأخّرين ـ ليس فيه كثير فائدة ؛ وعلى فرض جواز الانفكاك بينهما فليس في عدم اكتفاء العلّامة ونحوه بالاتّصال بالمادّة هنا منافاة لاكتفائه بالاتّصال في الغديرين

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٣.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٣٣.

(٤) اللمعة الدمشقيّة : ١٥.

(٥) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣).

٦١٣

المتواصلين ، لوضوح الفرق بين المقامين بصيرورة الماءين في الغديرين عنده ماء واحدا بالاتّصال في نظر العرف دون ما يتّصل من الجاري بالمادّة ، لأنّها ما لم يبرز منها شي‌ء في الخارج لا تعدّ في نظر العرف من الماء المتّحد مع ما برز في الخارج ، والحاصل : أنّ الوحدة الّتي هي مناط التطهير في المياه الحاصلة في نظره بمجرّد الاتّصال غير محرزة هنا ، ومن هنا ظهر بطلان توهّم التلازم بين الاكتفاء بالاتّصال وعدم اشتراط التدافع رأسا.

وأمّا ما قيل في وجه التفرقة بين المسألتين : من أنّ الاتّصال الّذي يكتفى به في التطهير هو الحاصل بطريق العلوّ أو المساواة وليس بمتحقّق هنا ، لأنّ المادّة باعتبار خروجها من الأرض لا تكون إلّا أسفل منه.

ففيه : مع أنّه لا يتمّ إلّا في بعض الصور ، بل الغالب في موادّ المياه الجارية ارتفاعها بالقياس إلى ما يجري منها على الأرض ، أنّه لا يلائم ما عرفت عن العلّامة القائل بكفاية الاتّصال ، وغيره من التصريح في مسألة تطهير القليل بما يقضي بعدم الفرق بين الأحوال الثلاث ، فراجع وتبصّر.

وثانيهما : اعتبار الكرّيّة وعدمه في المطهّر هنا ، فإنّ إطلاق أكثر العبائر يقضي بعدم اعتبارها ، وهو صريح كلّ من وقفنا على كلامه من متأخّري المتأخّرين ، بل هو لازم ما يراه المعظم من عدم انفعال قليل الجاري بمجرّد الملاقاة ، وليس في تعبير المحقّق في الشرائع (١) بـ « كثرة الماء الطاهر » ـ على ما تقدّم ـ منافاة لذلك كما سبق إلى بعض الأوهام ، إذ ليس المراد بالكثرة هنا ما يقابل القلّة بالمعنى المصطلح عليه ، بل المراد بها كثرة التدافع ، فهي في المعنى قيد للتدافع وإن قدّمت عليه لفظا ، فهذا التعبير نظير تعبيرهم في تطهير الكثير المتغيّر بإلقاء كرّ فما زاد أو فصاعدا عليه حتّى يزول التغيّر ، فكما أنّ الزيادة هنا أمر زائد على الكرّيّة معتبر معها حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر لا مطلقا ، فكذلك الكثرة في المقام أمر زائد على أصل التدافع ، فاعتبارها إنّما هو حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر ، وإلّا فالمطهّر هو خروج الماء الجديد من المادّة ولو في آن واحد بشرط تحقّق زوال التغيّر في هذا الآن مع مراعاة شرط الممازجة أيضا حسبما تقدّم.

نعم ، ربّما يستشكل في ذلك بالنظر إلى مذهب العلّامة لقوله في عدم انفعال الجاري

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٩.

٦١٤

باشتراط الكرّيّة (١) ، ومن هنا نشأ توهّم المدافعة بين مذهبه هذا واحتجاجه في المنتهى ـ على ما تقدّم ـ عنه من القضيّة بأنّ : « الحكم تابع للوصف فيزول بزواله ، ولأنّ الطارئ لا يقبل النجاسة لجريانه والمتغيّر مستهلك » (٢) ، وهو في محلّه ظاهرا وإن نقل عن كاشف اللثام ما يدفعه في زعمه من « أنّ ذلك مبنيّ على اعتبار الدفعة في إلقاء الكرّ المطهّر ، وقد عرفت أنّ معناها الاتّصال وهو متحقّق في النابع ، وأمّا منبع الأنهار الكبار الّذي ينبع الكرّ أو أزيد منه دفعة فلا إشكال فيه.

نعم ينبغي التربّص في العيون [الصغار] وفيما لا ينبع الكرّ فصاعدا [متّصلا] ، إذ ربّما ينقطع في البين فينكشف عدم اتّصال الكرّ » (٣) إلى آخره ، فإنّ ذلك ـ مع ما فيه من الحزازات الّتي يظهر بعد التأمّل ـ توجيه لما ذكر بما لا يرضى به صاحبه ، كيف وقد عرفت عن العلّامة التصريح بما يقضي بعدم كفاية مجرّد الاتّصال هنا.

وعلى أيّ حال كان فدليل طهر الماء بما عرفت من التدافع المزيل للتغيّر المحصّل للممازجة هو ما تقدّم من الملازمة المجمع عليها.

وقد يستدلّ عليه بمرسلة الكاهلي : « ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٤) وقد سمعت منع ذلك غير مرّة ، وبصحيحة محمّد بن بزيع « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا ما غيّر طعمه أو ريحه ، فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب الطعم ، لأنّ له مادّة » (٥) بناء على حجّيّة العلّة المنصوصة القاضية هنا بتعدّي الحكم إلى كلّ ذي مادّة ، وإنّما يستقيم ذلك لو لم يكن العلّة راجعة إلى زوال التغيّر المقصود بها بيان الملازمة بينه وبين النزح وقد تقدّم منعه.

المرحلة الثالثة : (٦) في تطهير البئر وهو على المختار من عدم انفعاله بمجرّد الملاقاة ممّا لا يحتاج إليه إلّا في صورة التغيّر ، فطهرها حينئذ بنزحها إلى أن يزول

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٨ حيث قال : « لا فرق بين الأنهار الكبار والصغار ، نعم ، الأقرب اشتراط الكرّيّة ، لانفعال الناقص عنه مطلق ... ».

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٣) كشف اللثام ١ : ٣١٤.

(٤) والصواب ، « رواية ابن أبي يعفور » المرويّة في الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٦) تقدّمت المرحلة الثانية في ص ٥٩٨.

٦١٥

التغيّر بتجدّد الماء من المادّة ، فيعتبر فيه النزح ثمّ تجدّد الماء ثمّ زوال التغيّر ، فلا يكفي الأوّل بدون الأخيرين ، ولا الأوسط بدون الطرفين ، ولا الأخير بدون الأوّلين ، خلافا لما حكي من القول بكفاية زوال التغيّر بالنزح وإن لم يتجدّد الماء تعويلا على إطلاق قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بزيع « فينزح حتّى يذهب اللون ويطيب الطعم » (١) ، والمحكيّ الآخر من القول بعدم اعتبار النزح وكفاية زوال التغيّر لاتّصاله بماء المادّة ، بناء على أنّ علّة النزح في الصحيحة زوال تغيّره فهو المقصود دونه ، وذكره في الصحيحة لكونه مقدّمة له في الغالب.

لنا : الصحيحة المذكورة المذيّلة بقوله : « لأنّ له مادّة » (٢) بناء على رجوعه علّة للملازمة بين النزح وزوال التغيّر كما هو الظاهر ، لا لأنّ المطهّر هو زوال التغيّر مستقلّا ، بل لأنّه الماء المتجدّد أو هو وزوال التغيّر معا.

ولا ينافيه عدم التصريح به في العبارة ، لأنّ تعليل زوال التغيّر بوجود المادّة نظرا إلى انتفاء الملازمة بينهما لا يظهر له أثر بدون التجدّد فهو مذكور بحكم تلك الملازمة ، ويمكن اعتبار كونه مذكورا بحكم ملازمة النزح لزوال التغيّر مع ملاحظة أنّ النزح بنفسه لا يؤثّر في الزوال وإن بلغ إلى إخراج الكلّ.

وقد يستند في ذلك إلى الغلبة نظرا إلى أنّ الغالب في زوال التغيّر بالنزح تحقّقه بالتجدّد لا مطلقا.

وبكلّ من هذه التقادير يندفع أوّل القولين المذكورين ومستنده ، وأمّا ثانيهما فضعفه مع مستنده يظهر بملاحظة ظهور كلمة « حتّى » في الانتهاء.

نعم ، ربّما يشكل إثبات الدلالة على مدخليّة تجدّد الماء في حصول الطهر وإن سلّمنا الدلالة على اعتبار وجوده ، لجواز كون اعتباره من جهة أنّه مقدّمة دائميّة أو غالبيّة لزوال التغيّر بالنزح.

ولكن يمكن دفعه : بأنّه كما لا يدلّ على المدخليّة على نحو يوجب الاطمئنان فكذلك لا يدلّ على المقدّميّة بهذا العنوان ، فيبقى احتمال المدخليّة مقتضيا لجريان الاستصحاب وفيه الكفاية حتّى بالقياس إلى اعتبار النزح وإن فرضنا عدم ورود النصّ

__________________

(١ و ٢) المصدر السابق.

٦١٦

به ؛ وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك في بحث زوال التغيّر بنفسه عن الكرّ المتغيّر.

وفي معنى الصحيحة المذكورة صحيحة أبي اسامة الشحّام الواردة في التهذيبين عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الفأرة والسنّور والدجاجة والكلب والطير؟ قال : « فإذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء ، وإن تغيّر الماء فخذ منه حتّى يذهب الريح » (١) ، وموثّقة سماعة الواردة فيهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال : « إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء ـ إلى أن قال ـ : وإن أنتن حتّى توجد ريح النتن في الماء نزحت البئر حتّى يذهب النتن من الماء » (٢).

وصحيحة أبي بصير ـ المرويّة في الكافي ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّا يقع في الآبار؟ ، فقال : « أمّا الفأرة وأشباهها فتنزع منها سبع دلاء إلّا أن يتغيّر الماء فينزح حتّى تطيب » (٣).

ورواية زرارة ـ المرويّة في التهذيبين وإن كانت غير نقيّة السند ـ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر؟ قال : « الدم والخمر والميّت ولحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ، ينزح منه عشرون دلوا ، فإن غلبت الريح نزحت حتّى تطيب » (٤).

وأمّا ما يتوهّم من منافاة صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب ، وأعاد الصلاة ، ونزحت البئر » (٥) لتلك الأخبار حتّى عن الشيخ الاستناد إليها على نزح الجميع.

ففيه : منع واضح ، ضرورة أنّ قوله : « نزحت البئر » قضيّة كما تحتمل تقييدها بالجميع كذا تحتمل التقييد بالبعض الّذي يزول معه التغيّر ، ولا ريب أنّ الأوّل ليس بأولى من الثاني ، فهي في الحقيقة قضيّة مجملة تبيّنها الأخبار المذكورة ومعه لا يعقل التعارض.

نعم ، في بعض الروايات كرواية منهال بن عمرو المرويّة في التهذيب ، وصحيحة

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٨٤ و ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ و ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ و ٢٣٦ / ٦٨٤ و ٦٨١ ـ الاستبصار ١ : ٣٧ و ٣٦ / ١٠٢ و ٩٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٨٥ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ الكافي ٣ : ٦ / ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٧ ـ الاستبصار ١ : ٣٥ / ٩٦.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٢٣٢ / ٦٧٠ ـ الاستبصار ١ : ٣٠ / ٨٠.

٦١٧

أبي خديجة المرويّة في الاستبصار ما ينافيها.

ففي أولاهما : قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : العقرب تخرج من البئر ميتة؟ قال : « استق عشرة دلاء » قال : فقلت : فغيرها من الجيف؟ فقال : « الجيف كلّها سواء إلّا جيفة قد أجيفت [فإن كانت جيفة قد أجيفت] فاستق منها مائة دلو ، فإن غلب عليها الريح بعد مائة دلو فانزحها كلّها » (١).

وفي ثانيتهما : قال : سئل عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : « إذا ماتت ولم تنتن فأربعين دلوا ، وإذا انتفخت فيه ونتنت نزح الماء كلّه » (٢).

لكن يدفعهما : مع عدم صلوح الاولى بجهالة المنهال لمعارضة ما سبق ، أنّهما محمولان على ما لو توقّف زوال التغيّر على نزح الجميع ، كما يومئ إليه ما في الرواية الاولى من قوله عليه‌السلام : « فإن غلب عليها الريح بعد مائة دلو » فإنّ التقييد ببعديّته بالقياس إلى المقدّر المذكور تقضي بأنّه في الفرض تغيّر لا يزول بنزح ما عدا الجميع ، مع إمكان حملهما على الاستحباب كيف وأنّا في الرواية الثانية نحمل نزح الأربعين المقدّر لغير صورة النتن بقرينة ما سبق على الاستحباب فكيف بنزح الجميع المقدّر لصورة النتن ، مع احتمال كون المراد بالبئر الواقع فيهما المصنع الّذي لا مادّة له ولا يزول تغيّره إذا توقّف على النزح إلّا بنزح الجميع.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فما تقدّم من الأخبار تترجّح عليهما لكثرتها وقوّة دلالتها لسلامتها عمّا يوهنها من الاحتمالات المذكورة الجارية فيهما دونها.

هذا كلّه على القول المختار من عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة.

وأمّا على القول بالانفعال فاختلفت أقوالهم وتشتّت آرائهم في تطهير المتغيّر ، وهي على ما حكاه غير واحد تبلغ ثمانية :

أحدها : ما عن أبي الصلاح (٣) ، والشهيد في البيان ، (٤) وظاهر المفيد (٥) من أنّه ينزح حتّى يزول التغيّر ، وإطلاق هذا القول كما ترى يشمل ما لو كان للنجاسة المغيّرة مقدّر

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٩٦ ب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣١ / ٦٦٧ ـ الاستبصار ١ : ٢٧ / ٧٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٨ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ الاستبصار ١ : ٤٠ / ١١١ ـ التهذيب ١ : ٢٣٩ / ٦٩٢.

(٣) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٤) البيان : ٩٩.

(٥) المقنعة : ٦٦.

٦١٨

وغيره ، قصر المقدّر عمّا يزول به التغيّر أو ساواه أو زاد عليه ؛ ومستنده إطلاق ما تقدّم من الأخبار المستدلّ بها على المختار.

ويشكل ذلك في صورة زوال التغيّر قبل استيفاء المقدّر فيما له مقدّر ، فإنّ الاكتفاء به مطلقا ترك للعمل بأخبار المقدّرات.

وكونه من باب تخصيص تلك الأخبار بغير صورة التغيّر ، يدفعه : المعارضة بإمكان ذلك في الأخبار المذكورة بحملها على غير ما له مقدّر نظرا إلى أنّ النسبة بين النوعين عموم من وجه ، ولا ريب أنّ مورد الاجتماع وهو التغيّر الحاصل بذي التقدير قابل لأن يخرج عن كلّ منهما ، فإخراجه عن أحدهما ليس بأولى من إخراجه عن الآخر.

وما عساه أن يتوهّم من أنّ تخصيص أخبار المقدّرات بإخراج مورد الاجتماع عنها مطلقا عمل بما في سوى صحيحة ابن بزيع من أخبار زوال التغيّر من الانتقال عن إيجاب نزح المقدّر إلى إيجاب نزح المزيل للتغيّر المفروض عروضه ، نظرا إلى قضاء ذلك بكون إيجاب نزح المقدّر مشروطا بعدم التغيّر ، وأمّا معه فالمتّبع إزالة التغيّر مطلقا ، ثمّ هذا التفصيل المقتضي للاشتراط المذكور ينهض قرينة على تقييد الأخبار المطلقة من المقدّرات الغير المشتملة على التفصيل المذكور.

يدفعه : منع ابتناء هذا التفصيل على إرادة الاشتراط ، وإنّما هو لبيان عدم كفاية نزح المقدّر الوارد تقديره في الأخبار المفصّلة في تحقّق موضوع زوال التغيّر ، ضرورة عدم زواله بالخمس والسبع بل العشرين أيضا في الغالب ، والاكتفاء بنزح ذلك مع بقاء التغيّر ممّا لا معنى له ، لا أنّه يفيد تقييد اعتبار نزح المقدّر بغير صورة التغيّر كما هو مفاد التوهّم المذكور.

مع أنّ هذا كلّه مبنيّ على تعارض هذين النوعين من الأخبار الّذي هو ضروري المنع في المقام ، لمكان كونهما مثبتين متوافقين في المدلول فيمكن العمل بهما معا في كلّ من مادّتي الافتراق والاجتماع ، كما في قولك : « أكرم العلماء » « وأكرم الشعراء » ، فلا سقوط في شي‌ء من العامّين في شي‌ء من الأحوال الثلاث الجارية في كلّ منهما من النقصان والمساواة والزيادة الّتي يشملها العموم الإطلاقي ، غاية الأمر أنّ ذلك يقضي بلزوم نزح الأكثر ممّا يحصل به زوال التغيّر واستيفاء المقدّر عملا بهما معا في جميع

٦١٩

الأحوال الثلاث المذكورة لمورد الاجتماع في كلّ من الجانبين ، ضرورة أنّ الأخذ بالأكثر في كلّ من الجانبين أخذ بأقلّ الجانب الآخر لاندراج الأقلّ تحت الأكثر ، بناء على أنّه في مفاد أخبار المقدّرات ليس مأخوذا بشرط عدم الزيادة ، فمورد في كلّ من العامّين باق على إطلاقه ، فلا داعي إلى التخصيص لا بالنظر إلى أحد العامّين ولا بالنظر إلى مورد اجتماعهما ، هذا.

لكنّ الإنصاف : أنّ دعوى تناول أخبار المقدّرات لصورة التغيّر على وجه يكون مفادها إعطاء حكم المقدّر وكفايته مع التغيّر وعدمه في غاية الإشكال ، بل هو عند التأمّل الصادق في حيّز المنع ، بل الحكم في المقدّرات يختصّ بغير حالة التغيّر.

أمّا أوّلا : فلأنّ كثيرا ممّا ورد له تقدير بالخصوص من النجاسات ليس صالحا لتغيير الماء كبول الفطيم وقطرة خمر أو بول وما أشبه ذلك ، فكيف يكون حكمه لما يعمّ حالة التغيّر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ من تتبّع آثار تلك الديار وأنصف ملاحظا لمساق ما ورد في حكم المقدّرات من الأخبار يجد جازما أنّ مفروض الأسئلة ومصبّ الأجوبة المنطبقة عليها إنّما هو حيثيّة وقوع النجاسات الّتي ورد فيها المقدّرات وملاقاتها البئر من غير نظر للسائل ولا المسئول إلى حيثيّة التغيّر ؛ بل يعلم أنّ مورد كلّ من السؤال والجواب إنّما هو مجرّد الوقوع والملاقاة لا هما أعمّ من التأثير في التغيّر وعدمه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما عرفته في جملة من أخبار اعتبار إزالة التغيّر من استفصال المسئول بين حالة التغيّر وحالة عدمها وتخصيصه المقدّر بحالة العدم قرينة واضحة على أنّ الأجوبة الوارد في الأخبار المطلقة للمقدّرات ليست على إطلاقها بحيث تشمل في الدلالة على كفاية المقدّر كلتا حالتي التغيّر وغيرها ، بل إنّما هي مخصوصة بما عدا حالة التغيّر ، ولا ينافيه التنبيه مع ذلك على عدم كفاية مثل الخمس والسبع والعشرين من المقدّرات في تحقّق الزوال عند قيام مقتضي اعتباره.

وأمّا رابعا : فلأنّ التقدير في المقدّرات المطلقة لو كان مطلقا شاملا إطلاقه في الدلالة على كفاية المقدّر في التطهير حالة التغيّر أيضا لقضى به ولو حصل استيفاء المقدّر قبل زوال وهو ضروري البطلان ، لا لما يقال : من أنّه نظير ما إذا استوفى المقدّر أو بعضه قبل إخراج عين النجاسة لأنّ بقاء التغيّر دليل بقاء العين ، حتّى يتوجّه إليه المنع

٦٢٠