ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

وأمّا فساد الثالث : فلما عرفت من أنّ كلّا من الروايتين بالقياس إلى الاخرى خاصّ من جهة وعامّ من جهة اخرى ، ومعه لا يمكن العمل عليهما بعد مقابلة الفقرة الاولى من كلّ للفقرة الثانية من الاخرى لتخالفهما في الحكم.

وهاهنا وجه رابع يمكن كونه مناط قول الصدوق ، وهو ابتناؤه على طرح الرواية الاولى أوّلا وبالذات والإعراض عنها ابتداء ، لما بلغه من الخارج وكشف له عن عدم سلامة سندها ، فهو أعلم بما منعه.

لكنّا نقول : بأنّ شيئا من الروايتين لا يخلو سندها عن شي‌ء ـ ولا سيّما الثانية ـ من جهة ما فيها من الإرسال ؛ لكن عمل المشهور بهما جابر لضعفهما ، هذا مع ما تقرّر عندهم من جواز المسامحة في أدلّة السنّة كما صرّح به هنا بعض الأجلّة.

وأمّا قول السرائر : فقد يقال : بأنّ مستنده الجمع بين الروايتين بتقييد حكم السبع في إحداهما به في الاخرى ، مع بقاء الفقرة الثانية من الاولى على ظاهرها من إرادة خصوص فوقيّة البالوعة دون عدم فوقيّة البئر ، الشامل بعمومه لصورة التساوي.

وهو كما ترى جمع لا يجامع القواعد ، كيف وهو فرع التعارض ، ولا تعارض بين الروايتين بالقياس إلى حكم السبع لتوافق الحكمين ، غاية الأمر أنّ مقتضاهما ـ لكون كلّ أعمّ من الآخر من وجه بحسب المفهوم ـ اجتماع السببين للسبع في صورة سهولة الأرض مع فوقيّة البالوعة.

ولو فرض مستند هذا القول كونه جمعا بين الروايتين بتقييد كلّ من فقرتي الاولى بالفقرة الاولى من الثانية مع بقاء فقرتها الثانية على ظاهرها.

لدفعه : أنّ الفقرة الاولى من الثانية لا تعارض الفقرة الثانية من الاولى لما ذكر ، فلا وجه لاعتبار التقييد هنا ، مضافا إلى أنّ الفقرة الثانية من الثانية لا يلائم الفقرة الثانية من الاولى ، فلا بدّ من تقييد في إحداهما بالاخرى.

وأمّا قول التلخيص وإحدى نسختي الإرشاد : فقد عرفت أنّ مرجعهما إلى قول السرائر إلّا بنحو من الاعتبار الّذي قد يتكلّف ، وهو أن يراد بتحتيّة البئر مع رخاوة الأرض نقيض الفوقيّة ، وهو عدم فوقيّة البئر الشامل لصورتي التساوي مع الرخاوة أيضا ، بناء على أنّ المراد بها في عبارة السرائر معناه الظاهر ، وعليه يكون مستند هذا

٧٦١

القول الجمع بين الروايتين حسبما فهمه المشهور.

لكنّك خبير بأنّ هذا الفرق بين القولين تحكّم بحت ، فهما معا إمّا يوافقان المشهور أو يخالفانه ، بناء على أنّهما يهملان صورة التساوي مع رخاوة الأرض المحكوم عليها في كلام المشهور باعتبار السبع.

وأمّا قول الإسكافي : فمستنده ـ على ما حكاه العلّامة في المختلف (١) بعد ما حكى مذهبه المتقدّم ـ رواية محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه فقال [لي] : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : « عن البئر يكون إلى جنبها الكنيف؟ فقال : إنّ مجرى العيون كلّها مع (٢) مهبّ الشمال ، فإذا كانت [البئر] النظيفة فوق الشمال والكنيف أسفل منها لم يضرّها إذا كان بينهما أذرع ، وإن كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقلّ من اثنى [عشر] ذراعا ، وإن كانت تجاهها بحذاء القبلة وهما مستويان في مهبّ الشمال فسبعة أذرع ... » (٣).

بل الاستناد إلى تلك الرواية صريح عبارته المتقدّمة المذيّلة بقوله : « تسليما لما رواه ابن يحيى عن سليمان عن أبي عبد الله » عقيب ما تقدّم من العبارة.

وأورد عليه : بأنّ الرواية لا تنطبق على كلامه بشي‌ء من النقلين المتقدّمين ، أمّا على ما نقله العلّامة وغيره فلأنّهم نقلوا عنه التباعد بسبعة أذرع في صورة فوقيّة البئر ، مع أنّه ليس في الرواية لذلك أثر.

وأمّا على ما نقلوه من العبارة المتقدّمة ، فلأنّهم نقلوا عنه التفصيل في صورة علوّ البالوعة بالرخاوة والصلابة ، والرواية كما ترى لا تفصيل فيها بشي‌ء من ذلك.

وقد يعتذر له بما يدفع معه هذا الإشكال عن العبارة المنقولة عنه لو كان سديدا ، فيقال : « ولعلّه قدس‌سره فهم من إطلاق الأرض الرخوة ، لأنّها الغالب ، وتحديده البعد في الصلبة بسبع لرواية الحسن بن رباط ـ المتقدّمة ـ في اعتبار السبع مع فوقيّة البالوعة ، بناء على أنّ المراد بالفوقيّة أعمّ من العلوّ من حيث الجهة ، وحملها على الصلبة لكونها الفرد المتيقّن من الإطلاق كالرخوة في هذه الرواية ، فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر » (٤) انتهى.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٨.

(٢) وفي بعض النسخ : « من » بدل « مع » كما في الوسائل.

(٣) الوسائل ١ : ٢٠٠ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٢.

(٤) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٧٠.

٧٦٢

ولا يخفى بعده وخروجه عن السداد ، ومع [هذا] فأصل هذا القول لشذوذه وندرة القائل به ليس ممّا يلتفت إليه ليصرف النظر في تصحيح مستنده ، ويزيد على ضعف القول رأسا ضعف هذه الرواية بمحمّد بن سليمان الديلمي ، قال في المدارك : « فقد قيل : إنّ سليمان كان غاليا كذّابا ، وقال القتيبي : إنّه كان من الغلاة الكبار ، وقال النجاشي : أنّ ابنه محمّدا ضعيف جدّا لا يعوّل عليه في شي‌ء » (١).

ثمّ عن جماعة من المتأخّرين القائلين بالمشهور أنّهم ألحقوا بالفوقيّة الحسّية الفوقيّة بالجهة ، فحكموا بالاكتفاء بالخمس مع استواء القرارين ورخاوة الأرض إذا كانت البئر في جهة الشمال ، بناء على أنّ جهة الشمال أعلى وأنّ مجاري العيون كما يدلّ عليه رواية سليمان المتقدّمة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « مجرى العيون كلّها مع مهبّ الشمال » ، وفي ذيل رواية قدامة أيضا إشارة إلى هذا المعنى حيث قال : « يجري الماء إلى القبلة » ـ إلى قوله ـ : « ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة » ، فإنّ المراد بالقبلة قبلة أهل العراق بقرينة أنّ الرواة منهم ، وهي كناية عن جهة الجنوب ، وإنّما عبّر عنها بها لمعروفيّتها عند عامّة الناس من العراقيّين ، فالمراد بدبر القبلة العراق وما يحاذيها ، لوقوعها في جهة الشمال ، فيمين القبلة ويسارها إشارة إلى الغرب والشرق.

وحاصل معنى الرواية : أنّ الماء بالأخرة يميل إلى جهة القبلة وهي الجنوب ، وإن مال أوّلا إلى يمين القبلة ، وعن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، وعن يسار القبلة إلى يمين القبلة ، بخلاف دبر القبلة فإنّ الماء لا يميل إليه بالطبع أصلا.

والسرّ في ذلك ، ما قيل : من أنّ كلّ شي‌ء يميل إلى مركزه ، ومركز الماء البحر ، وهو في طرف الجنوب ، فهو بالطبع (٢) مائل إلى الجنوب ليصل إلى البحر ، وما قد يشاهد من خلاف ذلك فليس من جهة الطبع ، بل هو لأجل العارض. وكيف كان : فمستند الإلحاق

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٤ ـ كما في رجال النجاشي : ١٨٢ ؛ وأيضا رجال النجاشي : ٣٦٥ وكذا في رجال الكشّي : ٣٧٥ وفيه : « محمّد بن مسعود،قال: قال عليّ بن محمّد : سليمان الديلمي من الغلاة الكبار ».

(٢) والسرّ في ذلك ـ على ما ذكروه ـ : أنّ الشمال مشرف على الجنوب بحسب وضع الأرض ، لأنّ كرة الأرض واقعة في البحر ، ثلثاها في الماء وثلثها خارج البحر ، وقبّة الأرض ورأسها محاز للقطب الشمالي ، فالماء بالطبع ـ يميل إلى الجنوب سواء كان فوق الأرض أو جاريا في أعماق الأرض. فليتأمّل (كذا في هامش الأصل بخطّ مصنّفه قدس‌سره).

٧٦٣

على ما في المدارك وغيره (١) رواية سليمان المتقدّمة ، وأورد عليه في الكتاب : « بأنّها غير دالّة عليه ».

أقول : وكأنّ المقصود بالاستناد إليها إثبات العلوّ لجهة الشمال بالقياس إلى الجنوب ، ليترتّب عليه الإلحاق ، بناء على ما استفادوه من النصوص من أنّ الغرض من التحديد الوارد فيها حفظ الماء عن نفوذ البالوعة إليه كما تقدّم الإشارة إليه ، وحينئذ فلا إشكال في أنّ البئر إذا كانت واقعة في جهة الشمال فلا تميل إليها البالوعة وإن تساوى قراراهما ، بخلاف ما لو كانت واقعة في جهة الجنوب ، فإنّ البالوعة حينئذ يميل إليها بالطبع.

ثمّ إنّ صور المسألة على ما ذكره الجماعة أربع وعشرون ، حاصلة من ضرب الجهات الأربع وهي الجنوب والشمال والمشرق والمغرب في الستّة المتقدّمة ، الحاصلة من ضرب الاثنين المتصوّرين من جهة الأرض في الثلاث المتصوّرة من حيث الوضع.

ومحصّل العمل : أنّ البعد فيما بين البئر والبالوعة إمّا أن يكون ممّا بين الجنوب والشمال ، أو ممّا بين المشرق والمغرب ، وكلّ من هذين صورتان ، وعلى التقادير الأربع فالأرض إمّا صلبة أو رخوة ، فهذه ثمان صور ، وعلى التقادير إمّا أن يستوي القراران حسّا ، أو يكون البئر أعلى ، أو البالوعة ، فالمرتفع أربع وعشرون صورة ، وإن لم يكن لبعضها تأثير في اختلاف الحكم.

وقد ذكروا : أنّ في سبع عشر منها يكون التباعد بخمس أذرع ، وفي سبع منها بسبع أذرع ، وهذه السبع بعض من الثمان المخرجة لصورتي استواء القرارين ، أو علوّ قرار البالوعة في الأرض الرخوة ، بناء على أنّ كلّ صورة من الصور الستّ المتقدّمة يتحصّل لها بملاحظة الجهة أربع صور ، فإذا اخرج من تلك الثمان صورة ما لو استوى القراران وكان البئر أعلى جهة من البالوعة بكونها في جهة الشمال والبالوعة [تحتها] وادخلت في صور الحكم بالخمس ، يبقى تحت حكم السبع سبع صور يعلم تفاصيلها بالتأمّل.

لكن في كلام شارح [الدروس] بعد ذكر الصور ما لفظه : « وفي صورة يقع التعارض بين الفوقيّتين يجعلونها بمنزلة التساوي » (٢) ، ومراده بالفوقيّتين فوقيّة البئر قرارا وفوقيّة البالوعة جهة ، أو بالعكس ، والمراد من كونها بمنزلة التساوي الحكم عليها بالسبع ، وحينئذ

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٣ ـ روض الجنان : ١٥٦.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٧.

٧٦٤

لا يتمّ العددان المذكوران حسبما ضبطوهما ، ولذا اعترض عليهم المحقّق المشار إليه عقيب الكلام المذكور بكثير قائلا : « وفي كلام جمع من الأصحاب هاهنا تأمّل ظاهر ، إذ ذكروا أنّ التباعد بسبع في سبع ، وبخمس في الباقي ، والاعتبار يقتضي أن يكون التباعد بسبع في ثمان أو ستّ ، لأنّ فوقيّة القرار إمّا أن تعارض فوقيّة الجهة وتصير بمنزلة التساوي أو لا ، فعلى الأوّل الأوّل ، وعلى الثاني الثاني ، وأمّا اعتبار الجهة في البئر دون البالوعة فتحكّم » (١)

وهذا الاعتراض كما ترى متّجه.

ووجهه واضح بالتأمّل ، وإن كان صاحب الحدائق تصدّى لدفعه قائلا : « بأنّ ما نقله [عنهم] من جعلهم صورة التعارض بمنزلة التساوي ممّا لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم ، بل صرّح غير واحد منهم أنّ الفوقيّة بالجهة إنّما تعتبر في الرخاوة مع تساوى القرارين ومقتضى ذلك اختصاص اعتبارها بالبئر دون البالوعة ، ولهذا صرّح في الروض (٢) ـ في صورة كون البئر في جهة الجنوب مع رخاوة الأرض وعلوّ قرار البئر ـ بأنّه : « يستحبّ التباعد بخمس أذرع نظرا إلى علوّ قرار البئر » ، وبمقتضى ما ذكره من تعارض الفوقيّتين مطلقا ينبغي أن يكون بسبع » (٣) انتهى.

وهذا الكلام عند التحقيق غير صالح لدفع الاعتراض ، كيف والتحكّم المذكور في كلام المعترض باق على حاله ، والاستشهاد بكلام الروض لا يجدي نفعا ، إذ الاعتراض على هذا الكلام ونظائره ، ووجه التحكّم : أنّ علوّ الجهة إمّا أن يصلح مؤثّرا في اقتضاء خلاف ما يلزم مع انتفائه أو لا ، فعلى الأوّل ينبغي أن يلاحظ في كلّ من البئر والبالوعة ويرتّب عليه أثره ، وعلى الثاني ينبغي أن لا يلاحظ في شي‌ء منهما ، والفرق بينهما في الاعتبار والعدم ليس إلّا تحكّما بحتا ، كما أنّ ما عساه أن يدّعي من أنّه صالح للتأثير في البئر دون البالوعة ليس إلّا مكابرة محضة ، بل ليس إلّا من الخرافات ، فالاعتراض بظاهر الحال في محلّه.

ثمّ إنّ في تحديد البعد بين البئر والبالوعة روايات اخر لم يعمل بها الأصحاب ، مثل ما حكاه في الحدائق (٤) عن الحميري في قرب الأسناد عن محمّد بن خالد الطيالسي

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٤٧.

(٢) روض الجنان : ١٥٧.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٣٨٥.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩٠.

٧٦٥

عن العلاء عن الصادق عليه‌السلام « قال : سألته عن البئر يتوضّأ منها القوم ، وإلى جانبها بالوعة؟

قال : إن كان بينهما عشرة أذرع وكانت البئر الّتي يستقون منها تلي الوادي ، فلا بأس » (١).

وما رواه في الكافي عن الفضلاء الثلاث زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير ، قالوا : قلنا له : بئر يتوضّأ منها ، يجري البول قريبا منها أينجّسها؟ قال فقال : « إن كانت البئر في أعلى الوادي ، والوادي يجري فيه البول من تحتها ، فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع ، أو أربعة أذرع ، لم ينجّس ذلك شي‌ء ، [وإن كان أقلّ من ذلك نجسها] (٢).

قال : وإن كانت البئر في أسفل الوادي ، ويمرّ الماء عليها ، وكان بين البئر وبينه سبعة أذرع لم ينجّسها ، وما كان أقلّ من ذلك لم يتوضّأ منه ».

قال زرارة : فقلت له : فإن كان مجرى البول يلزقها وكان لا يثبت على الأرض؟ فقال : « ما لم يكن له قرار فليس به بأس ؛ وإن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض ، ولا قعر له حتّى بلغ البئر ، وليس على البئر منه بأس ، فيتوضّأ منه ، إنّما ذلك إذا استنقع كلّه » (٣).

وهذه الرواية مذكورة في التهذيبين أيضا باختلاف يسير في بعض ألفاظها.

ويبقى الكلام في وجه استفادة ما أطبقوا عليه من استحباب التباعد بين البئر والبالوعة بأحد الأبعاد المتقدّمة على الخلاف ، مع ظهور النصوص الموجودة في هذا الباب في الوجوب ، فهو إمّا من جهة الإجماع الناهض قرينة على صرف النصوص عن ظاهرها ، ولا ينافيه الاختلاف مع التمسّك بتلك النصوص ، لأنّ ذلك اختلاف في مقدار المستحبّ واستعلام له.

أو من جهة اختلاف النصوص الواردة في التحديد ، نظرا إلى أنّه يصلح قرينة على إرادة الاستحباب الّذي يختلف مراتبه ، كما ذكروا نظيره في مواضع ، منها : ما تقدّم في روايات النزح من تصريحهم بكون اختلافها الشديد في التقادير قرينة على استحباب النزح ، أو من جهة تنزيل النصوص إلى الاستحباب الّذي يتسامح في دليله ، نظرا إلى ما فيها من الضعف المانع عن صلوحها دليلا على الوجوب.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٠ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ قرب الأسناد : ١٦.

(٢) الزيادة منّا بملاحظة متن الرواية ، ولعلّها سقطت من قلمه الشريف سهوا.

(٣) الوسائل ١ : ١٩٧ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٣.

٧٦٦

أو من جهة قيام قرينة عليه في نفس تلك النصوص ، كما تقدّم من رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة وأقلّ وأكثر يتوضّأ منها؟ قال : « ليس يكره من قرب ولا بعد ، يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء » (١) ، وممّن صرّح بالوجه الأخير الشيخ في الاستبصار قائلا : « هذا الخبر يدلّ على أنّ الأخبار المتقدّمة كلّها محمولة على الاستحباب دون الحظر والإيجاب » (٢).

* * *

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٠ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٤.

(٢) الاستبصار ١ : ٤٦ / ١٢٩.

٧٦٧

ينبوع

المضاف كلّ ما افتقر صدق اسم « الماء » عليه إلى تقييد ، كما في منتهى العلّامة (١) ، أو ما لا يتناوله إطلاق « الماء » كما في الدروس (٢) ، أو ما لا يتناوله الاسم بإطلاقه كما في نافع المحقّق (٣).

أو كلّ ما اعتصر من جسم أو مزج به مزجا يسلبه إطلاق الاسم كما في شرائعه (٤).

أو ما لا ينصرف إليه لفظ « الماء » على الإطلاق عرفا بل يحتاج في صدقه إلى القيد كما في الحدائق (٥).

أو كلّ مائع يصحّ إطلاق اسم « الماء » عليه لعلاقة المشابهة الصوريّة كما في كلام بعض مشايخنا العظام (٦).

ولا يخفى على البصير أنّ هذه التعاريف وغيرها ممّا هو مذكور في كلام الأصحاب كلّها لفظيّة يراد بها كشف المسمّى بأشهر اسميه ، على حدّ ما هو قانون أهل اللغة في بيان مسمّيات الألفاظ ، فلا ضير في عدم كون بعضها مطّردا بدخول الدم المعتصر من جسم ، أو منعكسا بخروج المصعّد من الأنوار أو الأوراق كماء الورد والهندباء ونحوهما ، فالمناقشة في ذلك بالقياس إلى تعريف الشرائع بعد وضوح الأمر ليست في محلّه.

ثمّ إنّ المضاف منه ما يحصل بالتصعيد كماءي الورد والهندباء ، وما يحصل بالعصر كماءي الحصرم والرمّان ، وما يحصل بمزج الماء بغيره على وجه زال عنه عنوان المائيّة في نظر العرف كماء الزعفران ونحوه ، وأمّا الممزوج بغيره لا على هذا الوجه فليس

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١١٤.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٣) المختصر النافع : ٤٣.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ١٥.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩١.

(٦) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٩٠.

٧٦٨

بمضاف وإن تغيّر وصفه لونا كالممتزج بالتراب ، أو طعما كالممتزج بالملح وإن اضيف إليهما ، والعبرة فيهما بالصدق العرفي وعدمه ، ولو اشتبه العرف أو اشتبه الأمر على العرف بتردّد الموضوع بين المطلق والمضاف يرجع في إحراز أحد العنوانين أو الأحكام المترتّبة عليهما إلى الاصول والقواعد المقرّرة ، وذلك يتأتّى في صور :

منها : ما لو وجد مائع وتردّد ابتداء بين المطلق والمضاف من غير تبيّن حالته السابقة ، وفي مثله لا أصل يحرز به العنوان ، وأمّا الأحكام فبالنسبة إلى انفعاله بملاقاة النجاسة فالأصل هو الانفعال إذا كان قليلا ، لأنّه إن كان في الواقع مطلقا فحكمه هذا وإن كان مضافا فأولى بذلك.

وإذا كان كثيرا فقد يتوهّم فيه الطهارة لأصالة عدم الانفعال ، وليس كما توهّم ، لما هو المعلوم من ضرورة المتشرّعة وتتبّع الأخبار الجزئيّة الواردة في الأبواب المتفرّقة من أنّ النجس معدّ لتنجيس ما يلاقيه كائنا ما كان عدا ما كان منه مخرجا بالدليل من المواضع المخصوصة الّتي ليس المقام منها ، فإنّ ذلك أصل كلّي مستفاد من الشرع وارد على الأصل المذكور ونظائره ، ومن علامات هذا الأصل أنّ المركوز في قاطبة الأذهان من عالم أو عامّي مطالبة من [يدّعي] (١) عدم التنجيس في مواضع ملاقاة الطاهر مع النجس مع تحقّق شرائط السراية الّتي منها الرطوبة.

ولو قيل : هذا الأصل يكذّبه ما استقرّ في الأذهان من مطالبة من يدّعي انفعال الماء القليل الراكد بالملاقاة ، فلو أنّ الأصل ثابت لكان كافيا في الدلالة.

لدفعه : أنّ ذلك إنّما هو من جهة مخالفة هذه الدعوى لأصل ثانوي ثابت في الماء خاصّة ، من أنّه بحسب الخلقة الأصليّة طاهر ، وأنّ الطبيعة المائيّة مقتضية للطهارة غير قابلة للنجاسة عدا ما خرج منه بالدليل وهو القليل الراكد عند من يقول بانفعاله ، فإنّ الماء بمقتضى هذا الأصل من جملة المخرجات عن الأصل المذكور.

مع إمكان أن يقال : إنّ الداعي إلى ذلك وإلى تجشّم الاستدلال على الانفعال بأدلّة خاصّة ، حدوث القول بعدم الانفعال استنادا إلى أدلّة خاصّة لو تمّت دليلا لما كان الأصل

__________________

(١) وفي الأصل : « مدّعي » والصواب ما أثبتناه في المتن.

٧٦٩

صالحا للمعارضة لها ، فالغرض من تجشّم الاستدلال دفع هذا القول وردّ أدلّته ، فليتأمّل.

وقد يستظهر هذا الأصل عن قوله عزّ من قائل : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (١) ، أو يؤيّد باستدلال الغنية (٢) على نجاسة القليل بالملاقاة بتلك الآية.

ولا يخفى وهنه ـ بعد تسليم كون الآية محمولة على المعنى المبحوث عنه ـ فإنّ أقصى ما يستفاد منها وجوب الاجتناب عن « الرجز » الّذي هو النجس أو المتنجّس أيضا ، وليس ذلك إلّا كبرى كلّيّة ، فإن اريد بصغرى تلك الكبرى كون ملاقي النجس رجزا فهو أوّل المسألة ، بل لا يكاد يستقيم ذلك إلّا بإثبات وصف الرجزيّة من الخارج ، وهو ليس استدلالا بالآية ، ولو اريد بها نفس النجس الّذي لاقاه الطاهر فالكبرى بالقياس إليه مسلّمة ، لكنّه لا يجدي نفعا في ثبوت دعوى سراية ما فيه من النجاسة إلى ملاقيه ، كما لا يخفى.

وأمّا حكمه بالنسبة إلى إفادته التطهير عن حدث أو خبث ، فمبنيّ على المباحث الآتية ، فإن ثبت فيها أنّ المضاف صالح لذلك مطلقا أو في الجملة يلزمه كون المقام صالحا له كذلك ، لأنّه إمّا مطلق أو مضاف والكلّ صالح له.

ومنها : ما لو امتزج المطلق بمضاف خاصّ على وجه يعلم معه بعدم صدق الاسمين عليه ، فتحقّق عنوان المضاف على الوجه الكلّي ممّا لا ريب فيه بنفس الفرض ، مع ملاحظة انتفاء الواسطة بحسب الشرع فيما بين المطلق والمضاف ، وعدم اندراج المفروض في اسم نوع خاصّ منه لا يوجب خروجه عن عنوانه الكلّي ، مع عدم اندراجه في اسم المطلق أيضا ، فهو مضاف لا اسم له بالخصوص.

وقضيّة ذلك عدم ترتّب أحكام الماء عليه كائنة ما كانت ، لأنّ الخروج عن الاسم كاف في العدم ، ولا يمكن استصحاب تلك الأحكام لتيقّن ثبوتها قبل هذه الحالة في هذا الموضوع الخارجي.

أمّا أوّلا : لتبدّل المشار إليه السابق بالامتزاج وإن اعتبرنا الشخص ، فإنّ الموجود بعد الامتزاج ليس بعين ما كان قبل الامتزاج ليترتّب عليه الأحكام السابقة.

__________________

(١) المدّثر : ٥.

(٢) غنية النزوع : ٤٦.

٧٧٠

وأمّا ثانيا : لكون الأحكام تابعة للعنوان الّذي هو ليس بباق بالفرض ، وعروضها لهذا الموضوع الموجود في الخارج لم يكن من جهة أنّه هو هذا الموجود في الخارج ، بل من جهة انطباقه على عنوان غير باق هنا.

ولا يفرّق فيما ذكرناه من عدم ترتّب أحكام الماء على ذلك ، بين ما لو تحقّق استهلاك أحدهما بالآخر في الواقع وبين ما لو لم يتحقّق استهلاك واقعي.

فما توهّم من احتمال ترتّب ثار المطلق على أجزاء المطلق الموجودة فيه ، وترتّب ثار المضاف على أجزاء المضاف الموجودة فيه ـ بناء على عدم الاستهلاك ـ فيصحّ ارتماس الجنب لانغماره بالأجزاء المائيّة الموجودة فيه بالفرض مقطوع بفساده ، لكون تلك الأحكام منوطة بما هو داخل في اسم « الماء » عرفا لا بما يعمّ هذه الأجزاء ، مع أنّ العلم بمباشرة تلك الأجزاء المتفرّقة لجميع أجزاء البشرة من أيّ شي‌ء حصل؟ بعد فرض كون كلّ من الأجزاء المائيّة والأجزاء المضافيّة بالقياس إلى مباشرة كلّ جزء من كلّ عضو ـ ولو على البدل ـ متساوي النسبة ، ولعلّ الرطوبة الموجودة في جزء غير معيّن من العضو من أثر الأجزاء المضافيّة خاصّة ، على معنى أنّ هذا الجزء لم يباشره جزء مائي أصلا.

ومنها : ما لو امتزج المطلق بمضاف أو مائع غير مضاف كالدبس ، أو جامد غير مضاف على وجه شكّ معه في سلب الإطلاق عنه ، فالظاهر بقاء الإطلاق بمقتضى الأصل الجاري هنا.

والقول بأنّ المفروض من باب الشكّ في اندراج هذا الجزئي الحقيقي تحت العنوان ، وهذا لم يكن متيقّنا في الآن السابق ، وما كان مندرجا في السابق تحت العنوان كان جزئيّا حقيقيّا خر متشخّصا بمشخّصات اخر.

واضح الدفع ، بأنّ الأحكام ليست مترتّبة على الجزئي الحقيقي ليكون التبدّل مضرّا في استصحاب بقائه ، وإنّما هي مترتّبة على العنوان الّذي هو مشكوك في بقائه بعد تيقّن ثبوته في الآن السابق ، ولا ريب أنّ مجرّد تبدّل الشخص لا يستلزم تبدّل العنوان ما لم يعلم بكون المتبدّل إليه من أشخاص عنوان خر غير العنوان المتيقّن ، والمقام ليس منه ، لجواز كون هذا الشخص من أشخاص العنوان الأوّل ، وإن غاير الشخص الأوّل بتغاير مشخّصاته الحادثة ، كيف لا ومعنى الشكّ في بقاء العنوان الأوّل هو هذا ، فالقطع بتبدّل

٧٧١

الشخص لا ينافي الشكّ في بقاء العنوان وهو المستصحب المتيقّن الثبوت المشكوك البقاء ، فالاستصحاب في محلّه.

وإذا تمهّد هذا ، فاعلم أنّه لا إشكال ولا كلام في طهارة المضاف بنفسه إذا كان أصله طاهر ، أو لم يطرأه ما يقتضي تنجّسه ، ونقل الإجماعات عليه ونفي الخلاف فيه في حدّ الاستفاضة ، مضافا إلى أنّ الطهارة هي الأصل في الأشياء والنجاسة طارئة فيحتاج إلى سبب ، فهذا الحكم ليس بمقصود المقام ، بل المقصود البحث عن امور اخر يلحقها من جهة قبوله الانفعال وعدمه ، وصلوحه رافعا للحدث وعدمه ، مزيلا للخبث وعدمه ، وقبوله التطهير على فرض الانفعال وطريق تطهيره ، وغير ذلك ممّا يتلى عقيب ذلك ، فينبغي إيراد الكلام في مباحث :

المبحث الأوّل : المشهور القريب من الإجماع أنّ المضاف مطلقا لا يرفع حدثا مطلقا اختيارا ولا اضطرارا ، بل هو إجماع من أصحابنا حقيقة كما يفصح عنه نقل الإجماعات في كلام غير واحد ، بناء على أنّ مخالفة معلوم النسب لا تقدح في انعقاد الإجماع ، أو أنّها منقرضة بتأخّر الإجماع ، والمخالف من أصحابنا الصدوق على ما حكي عنه في الفقيه قائلا : « ولا بأس بالوضوء والغسل من الجنابة والاستياك بماء الورد » (١) ، وعن الشيخ في الخلاف (٢) أنّه حكى عن قوم من أصحاب الحديث منّا أنّهم أجازوا الوضوء بماء الورد ، وعن ظاهر ابن أبي عقيل العماني (٣) أنّه جوّز الوضوء حال الضرورة فيقدّم على التيمّم.

والمعتمد : الأوّل ، لأصالة بقاء الحدث ، والمنع عن الدخول في الصلاة إلى أن يتحقّق رافع يقيني ومبيح شرعي ، مضافا إلى جملة ممّا احتجّ به الأكثر وهو امور :

منها : قوله عزّ من قائل : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٤) حيث أوجب التيمّم عند فقد الماء ، ولا ريب أنّ الماء بإطلاقه لا يتناول المضاف ، فعلم منه سقوط الواسطة ، إذ اللفظ يحمل على حقيقته ، فلو كان الوضوء سائغا بغير الماء لم يجب التيمّم عند فقده.

ومنها : ما اعتمد عليه العلّامة في المختلف (٥) من قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ

__________________

(١) الفقيه ١ : ٦.

(٢) الخلاف ١ : ٥٥ ، المسألة : ٥.

(٣) حكاه عنه في مختلف الشيعة ١ : ٢٢٢.

(٤) النساء : ٤٣.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٢.

٧٧٢

السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١) بتقريب : أنّه خصّ التطهير بالماء بقرينة وروده مورد الامتنان ، فلو وقع بغيره لكان الامتنان بالأعمّ أولى ، ولم تكن للتخصيص فائدة ، وقضيّة ذلك كلّه أن لا يقع بغيره ، ولا يخفى وهنه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الامتنان معلّق على حيثيّة الإنزال من السماء لأجل فائدة التطهير لا على مجرّد جعل تلك الفائدة في الماء ، ولا ريب أنّ هذه الحيثيّة المحقّقة للامتنان مختصّة بالماء.

وحاصل معنى الآية : « أنّ إنزال الماء من السماء إنّما هو لأجل تطهيركم به » ولا ريب أنّ هذا المعنى لا ينافي حصول التطهير بغير الماء أيضا ، وإلّا يرد النقض بالصعيد الّذي يحصل به التطهير أيضا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المضاف أيضا بجميع أقسامه أصله من الماء كما يظهر بأدنى التفات ، فحصول التطهير به لا ينافي قصد الامتنان بكون الماء منزّلا لحصول التطهير به ، لرجوعه بالأخرة إليه من جهة استناده إليه بحسب أصله.

واعترض أيضا : بأنّه يجوز أن يخصّ أحد الشيئين الممتنّ بهما بالذكر ، لكونه أبلغ وأكثر وجودا وأعمّ نفعا.

ومنها : رواية أبي بصير المرويّة في التهذيبين عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون معه اللبن ، أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : « لا إنّما هو الماء والصعيد » (٢) بتقريب : أنّ كلمة « إنّما » للحصر ، فتفيد انتفاء التطهّر بغير الماء والصعيد.

وعن الصدوق الاحتجاج بما رواه في التهذيب عن محمّد بن عيسى عن يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضّأ به للصلاة؟ قال : « لا بأس بذلك » (٣).

ويضعّف : باشتمال سنده على سهل بن زياد وهو عامّي ، ومحمّد بن عيسى عن يونس ، وقد نقل الصدوق عن شيخه محمّد بن الوليد أنّه لا يعتمد على حديث محمّد بن

__________________

(١) الأنفال : ١١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٠١ ب ١ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ١٨٨ / ٥٤٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢٠٤ ب ٣ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٨ / ٦٢٧.

٧٧٣

عيسى عن يونس ، وحكم الشيخ في كتابي الأخبار (١) بشذوذ هذه الرواية ، وأنّ العصابة أجمعت على ترك العمل بظاهرها قائلا : « بأنّه خبر شاذّ شديد الشذوذ ، وإن تكرّر في الكتب والاصول ، فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن ولم يروه غيره ، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره ، وما هذا [يكون] حكمه لا يعمل به.

ولو سلّم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء الّذي هو التحسين ، وقد بيّنّا فيما تقدّم أنّه يسمّى وضوء ».

ثمّ قال : « وليس لأحد أن يقول : إنّ في الخبر أنّه سأله عن ماء الورد يتوضّأ به للصلاة؟ فإنّ ذلك لا ينافي ما قلناه ، لأنّه يجوز أن يستعمل للتحسين ومع هذا يقصد به الدخول في الصلاة من حيث أنّه متى استعمل الرائحة الطيّبة لدخوله في الصلاة ولمناجاة ربّه كان أفضل من أن يقصد به التلذّذ حسب دون وجه الله ، وفي هذا إسقاط ما ظنّه السامع.

ويحتمل أن يكون أراد بقوله : « ماء الورد » الّذي وقع فيه الورد ، لأنّ ذلك يسمّى « ماء ورد » وإن لم يكن معتصرا منه ، لأنّ كلّ شي‌ء جاور غيره فإنّه يكسب اسم الإضافة إليه » (٢) انتهى.

وفي حاشية المدارك : « وربّما وجّه بأنّ المراد ماء الورد » (٣) بكسر الراء.

وبجميع ما ذكر يظهر ضعف قول العماني أيضا ، ولم يذكر له مستند فيما حضرنا من كتب الأصحاب.

وظاهر النقل عنه أنّه يجوز التطهير بكلّ مضاف من غير اختصاص له بماء الورد ولا موافق له وللصدوق فيما ادّعياه.

نعم ، ربّما يحكى عن المحدّث الكاشاني في المفاتيح والوافي ما يوهم ميله إلى موافقة الصدوق ، حيث قال في الأوّل : « ويحتمل قويّا الجواز لصدق الماء على ماء الورد ، لأنّ الإضافة ليست إلّا لمجرّد اللفظ كماء السماء ، دون المعنى كماء الزعفران والحناء والخليط بغيره ، مع تأيّد الخبر بعمل الصدوق وضمانه صحّة ما رواه في الفقيه

__________________

(١). التهذيب ١ : ٢١٩ ـ الاستبصار ١ : ١٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢١٩.

(٣) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٧٤.

٧٧٤

وعدم المعارض النافع » (١).

وقال في الثاني ـ بعد نقل خبر يونس المتقدّم ـ : « وأفتى بمضمونه في الفقيه ، ونسبه في التهذيبين إلى الشذوذ ، ثمّ حمله على التحسين والتطيّب للصلاة دون رفع الحدث مستدلّا بما في الخبر الآتي إنّما هو الماء والصعيد.

أقول : هذا الاستدلال غير صحيح ، إذ لا منافاة بين الحديثين ، فإنّ ماء الورد ماء مستخرج من الورد » (٢) انتهى.

ومرجعه إلى إنكار الإضافة المخرجة عن الإطلاق ، فماء الورد ماء وإن اضيف إلى الورد كماء البئر ونحوه ، فما لم يكن الإضافة مؤثّرة في سلب الإطلاق لم يكن منافاة بين الخبر وما دلّ على انحصار الطهور في الماء والصعيد.

وهذا الكلام كما ترى يرجع إلى إنكار الصغرى ، فلا مخالفة بينه وبين المشهور في منع التطهّر بغير الماء ، وإنّما خالفهم في خصوص المقام في دعوى كون المتّخذ من الورد ماء وإن أطلق مضافا إلى الورد.

فدفع كلامه حينئذ إنّما هو بدفع هذه الدعوى ، لا بإقامة الدليل على أنّ المضاف لا يرفع الحدث ، كما قد يوجد في بعض العبائر.

المبحث الثاني : المشهور أنّ المضاف كما لا يرفع الحدث لا يرفع الخبث أيضا ، وعن الروض (٣) الإجماع عليه ، خلافا للمفيد في المسائل الخلافيّة (٤) ، والمرتضى في شرح الرسالة قائلا فيه : « يجوز عندنا إزالة النجاسة بالمائع الطاهر غير الماء » (٥) ونقل عنه أيضا في المسائل الناصريّة (٦) جواز ذلك بكلّ مائع ، وعن المعتبر (٧) أنّه أضاف ذلك إلى مذهبنا ، وعن ابن أبي عقيل (٨) أيضا القول بجواز ذلك حال الضرورة خاصّة ، والمعتمد الأوّل للأصل المتقدّم ، حجّة المشهور امور :

منها : ورود الأمر بغسل الثوب والبدن بالماء في أخبار كثيرة ، وهو حقيقة في

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ١ : ٤٧ ـ وفيه : « وعدم المعارض الناصّ ».

(٢) الوافي ٦ : ٣٢٥.

(٣) روض الجنان : ١٣٢.

(٤ و ٥) حكاه عنهما في المعتبر : ٢٠.

(٦) المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٤٨).

(٧) لم نجده في المعتبر ، ولكنّه موجود في المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّي ـ : ٢١٦ ـ ٢١٥)

(٨) حكاه عنه في المختلف ١ : ٢٢٢.

٧٧٥

المطلق فيجب حمله عليه ، ولا ينافي ذلك إطلاق الأمر بالغسل في بعضها أيضا ، لأنّ المقيّد يحكم على المطلق كما هو مقرّر في الأصول.

واعترض عليه تارة : بأنّ الأوامر المذكورة مخصوصة بنجاسات معيّنة والمدّعى عامّ.

فأجاب عنه المحقّق ـ بما حكي عنه في بعض مسائله ـ : « من أنّه لا قائل هنا بالفرق » (١) واخرى بما عن الذخيرة : من أنّه كما يمكن الجمع بحمل المطلق على المقيّد ، كذا يمكن بالحمل على الاستحباب ، أو على ما هو الغالب من أنّه لا يستعمل في الإزالة غير الماء (٢).

والجواب عن الأوّل : مقرّر في الاصول.

وعن الثاني : بأنّ الغلبة المدّعاة إن اريد بها ما هو في جانب المطلق ، على معنى أنّ الأمر بمطلق الغسل ينصرف إليه بالماء لأنّه الغالب ، فهو تأييد لقول المشهور ، ودفع لما ورد على تمسّكهم بالأوامر المقيّدة من وجود الأوامر بالمطلق أيضا ، ورفع للحاجة إلى تجشّم حمل المطلق على المقيّد دفعا للمعارضة بينهما ، إذ مبنى هذا الكلام على منع المعارضة بينهما من طريق خر غير قاعدة الحمل.

فإن اريد بها ما هو في جانب القيد الوارد في المقيّد ، على معنى كون قيد « الماء » واردا مورد الغالب فلا يكون مفهومه حجّة.

ففيه : منع ابتناء قاعدة الحمل على أن يكون للقيد الوارد في الكلام مفهوم كما هو مقرّر في الاصول ، وإنّما هو مبتن على التنافي بين إطلاق المطلق وتقييد المقيّد ، وهو حيثما حصل كان من مقتضيات منطوق المقيّد وإن لم يكن له مفهوم ، حيث إنّ إطلاق المطلق يقتضي تخيير الوجوب ، والتقييد يقتضي تعيينه رأسا وهما متنافيان ، ومن هنا كان الحمل ممّا يقول به من لا يقول بالمفهوم رأسا.

ويمكن المناقشة في هذا الحمل بأنّ : من شرائطه المقرّرة في محلّه اتّحاد موجب الخطابين ، بأن يكون علّة الحكمين متّحدة ، وهذا الشرط ليس بمحرز في المقام ، حيث إنّ علّة الحكم في المقيّد النجاسة البوليّة ونحوها ، وهي في المطلق سائر النجاسات ، ولعلّه إلى هذا البيان يرجع ما تقدّم في الاعتراض الأوّل. فجوابه : حينئذ ما عرفت عن

__________________

(١) المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّي ـ : ٢١١).

(٢) ذخيرة المعاد : ١١٢.

٧٧٦

المعتبر (١) ، ومرجعه على هذا البيان إلى منع انحصار الشرط في اتّحاد ذات الموجب ، بل هو أحد الأمرين من اتّحاد الذات واتّحاد الأثر وإن تعدّدت الذات ، ويعلم ذلك عند تعدّد ذات الموجب بقيام دليل من الخارج ، على أنّ هذه الموجبات متّحدة في الاقتضاء والأثر ، والمقام من هذا الباب ، والدليل الخارج هو عدم القول بالفرق بين أنواع النجاسات في اقتضاء الغسل بما يوجب زوالها ، إن ماء ففي الجميع وإن أعمّ منه ففي الجميع.

نعم ، إن كان المقام ولا بدّ من المناقشة فيه ، فالأولى أن يقال : إنّ من شروط قاعدة الحمل كون المطلق والمقيّد تكليفيّين إلزاميّين ، دون وضعيّين ، أو تكليفيّين غير إلزاميّين ، ولعلّه منتف في المقام ، لما هو المقرّر من أنّ الأوامر والنواهي الواردتين في نظائره يراد بها الإرشاد دون الطلب والإلزام ، فهي إرشاد ورد بصورة الطلب ، فتكون مساقها مساق القضايا الوضعيّة ، وهي في الحقيقة قضايا إخباريّة ، ومعه لا تنافي بين مطلقاتها ومقيّداتها ليوجب الاضطرار إلى الحمل.

فالأولى في طريق الاستدلال منع إطلاق الغسل بالقياس إلى ما يحصل منه بالمضاف ، بدعوى : كونه باعتبار اللغة والعرف حقيقة فيما يحصل بالماء ، كما هو مذكور في كلام جماعة من الأصحاب ، فحينئذ لا تنافي بين المطلقات والمقيّدات ، بل المقيّدات على ذلك معتبرة بالقياس إلى المطلقات من باب القرائن المؤكّدة ، بل لا تقييد حينئذ ولا إطلاق ، بل الكلّ مجتمعة على مدلول واحد ، غاية الأمر أنّ الدلالة في البعض من باب النصوصيّة وفي الباقي من باب الظهور لابتنائها فيه على إعمال أصالة الحقيقة كما لا يخفى.

ولعلّه إلى هذا المعنى يشير ما ورد في بعض المعتبرة كقوله : « ولا يجزي في البول غير الماء » (٢) وقوله : « كيف يطهّر من غير ماء » (٣) بناء على كون المراد أنّ الحكم معلّق على الغسل وهو لا يتأتّى بغير الماء ، وقوله : « كيف يطهّر من غير ماء »؟ مبالغة في إنكار تأتّيه بغير الماء ، وليس ذلك إلّا من جهة كمال البعد بين الغسل المعلّق عليه الحكم وما يحصل بغير الماء.

__________________

(١) والصواب : « ما عرفت عن المحقّق » ، لأنّ ما ذكره المحقّق رحمه‌الله من الجواب بقوله : « أنّه لا قائل هنا بالفرق » ليس موجودا في المعتبر ، بل يكون في المسائل المصريّة كما أشرنا إليه في محلّه.

(٢) الوسائل ١ : ٣١٦ ب ٩ من أبواب الخلوة ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٥٠ / ١٤٧.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٥٣ ب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٧٣ / ٨٠٥.

٧٧٧

ويؤيّده ما عن الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام عن رجل أجنب في ثوب وليس معه غيره؟ قال : « يصلّي فيه إلى حين وجدان الماء » (١).

فإنّ قضيّة الجمع بين الجواب والسؤال أنّ الرجل كان في حالة الاضطرار لمجرّد انحصار ثوبه في ثوب الجنابة وعدم وجدانه الماء ، فلو أنّ الغسل أو إزالة الخبث يتأتّى بغير طريق استعمال الماء لم يكن هناك حالة اضطرار ، وليس في الرواية تعرّض لعدم وجدانه غير الماء من أنواع المضاف ، ولا أقلّ من الريق ، مع ما قيل من أنّ أهل الحجاز كان في بيوتهم الخلّ وماء الورد وأمثالهما ، أو كان هذه الأشياء موجودة في بلادهم مكّة والمدينة ونحوهما ، فكيف يفرض في حقّهم عدم التمكّن عن المضاف.

ومنها : قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٢) وقوله عليه‌السلام في حديث « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة البول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسّع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض ، وجعل لكم الماء طهورا » (٣) فإنّ قصر الحكم في مقام الامتنان يدلّ على انحصار المطهّر فيه ، وهذا موهون بما ذكرنا في المسألة السابقة فلاحظ بعين الدقّة.

ومنها : أنّ ملاقاة المائع للنجاسة يقتضي نجاسته ، والنجس لا يزال به النجاسة ، وهو كما ترى لا يتمّ على القول بطهارة الغسالة ، وعلى قول المرتضى (٤) بالفرق بين الورودين ، بل على قول الآخرين بنجاسة الغسالة أيضا ، كيف وهو منقوض على هذا القول باستعمال المطلق القليل في إزالة النجاسة ، فإنّه ينجّس بالملاقاة ومع هذا يفيد طهارة المحلّ.

وأمّا ما قيل في دفعه ـ كما عن المعتبر ـ : « من أنّ مقتضى الدليل التسوية بينهما ، لكن ترك العمل به في المطلق للإجماع ولضرورة الحاجة إلى الإزالة ، والضرورة تندفع بالمطلق ، ولا يسوّى غيره لما في ذلك من تكثير المخالفة للدليل » (٥).

ففيه : ما لا يخفى من الغفلة عن حقيقة المقصود بالنقض ، فإنّه عند التحقيق حلّ وردّ بصورة النقض.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٨٤ ب ٤٥ من أبواب النجاسات ح ١ ـ مع اختلاف يسير ـ التهذيب ١ : ٢٧١ / ٧٩٩.

(٢) الفرقان : ٤٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٣ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٤.

(٤) المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦) ـ وأيضا حكاه عنه في المعتبر : ٢٠.

(٥) المعتبر : ٢٠ ، نقلا بالمعنى.

٧٧٨

وملخّصه : منع ما استحاله المستدلّ من إفادة المتنجّس طهر متنجّس غيره ، وسنده عدم المنافاة بين نجاسة المطهّر المكتسبة عن المتنجّس الّذي يطهّره وبين طهارة ذلك المتنجّس بهذا المطهّر ، كما كشف عنه الشرع في القليل المطلق المستعمل في إزالة النجاسة ، ومعه انهدم بنيان الاستدلال الّذي مبناه على الاستحالة العقليّة ، وإن لم يوجب بنفسه ثبوت مدّعى الخصم ، نظرا إلى أنّ الاحتمال مبطل لمثل هذا الاستدلال.

ومنها : أنّها طهارة تراد لأجل الصلاة ، فلا تجوز إلّا بالماء كطهارة الحدث ، بل اشتراط الماء هنا أولى ، لأنّ اشتراطه في النجاسة الحكميّة يعطي أولويّة اشتراطه في النجاسات الحقيقيّة.

وضعفه واضح ، وإن قال العلّامة في توجيهه : بأنّه استدلال بالاقتضاء ، فإنّ التنصيص على الأضعف يقتضي أولويّة ثبوت الحكم في الأقوى ، كما في دلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب ، لمنع كونه أقوى بعد ملاحظة أنّه يعتبر في النجاسة الحكميّة ما لا يعتبر في الحقيقيّة كالنيّة وغيرها من الشرائط المقرّرة في محالّها.

ومنها : أنّ منع الشرع في استصحاب الثوب النجس مثلا في الصلاة ثابت قبل غسله بالماء ، فيثبت بعد غسله بغير الماء أيضا بحكم الاستصحاب ، وهذا أمتن وإليه يرجع ما اعتمدنا عليه من الأصل ، وإن اعترض شارح الدروس : « بأنّ الاستصحاب إنّما يكون حجّة إذا كان دليل الحكم غير مقيّد بوقت دون وقت وليس المقام كذلك ، إذ العمدة في إثبات المنع المذكور بطريق العموم الإجماع ، وهو في منع استصحاب النجس قبل الغسل مطلقا ، لا قبل الغسل بالماء » (١) فإنّ هذا التشكيك مدفوع بما قرّر في الاصول.

وعن المرتضى الاحتجاج بوجوه :

الأوّل : الإجماع ، وضعفه بعد ملاحظة مصير المعظم إلى المخالفة واضح ، وأمّا نسبة ذلك إلى مذهبنا فعن المحقّق أنّه وجّهه : « بأنّ مذهبنا العمل بالبراءة الأصليّة ما لم يثبت الناقل ، وهنا لم يثبت » (٢) قيل : ولو لا هذا التوجيه لظنّنا موافقة بعض من تقدّم عليهما

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٦٠.

(٢) المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّي ـ ٢١٦) ، ... انظر كتاب طهارة للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٢٩٧.

٧٧٩

لهما في هذه المسألة (١).

الثاني : قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٢) ، بتقريب : أنّه تعالى أمر بتطهير الثوب من دون استفصال بين الماء وغيره ، وعنه ـ على ما في المختلف ـ (٣) أنّه اعترض على نفسه بالمنع من تناول الطهارة للغسل بغير الماء.

فأجاب : بأنّ تطهير الثوب ليس بأكثر من إزالة النجاسة منه ، وقد زالت بغسله بغير الماء مشاهدة ، لأنّ الثوب لا يلحقه عبادة.

وأجاب عنه في المختلف : « بأنّ المراد ـ على ما ورد في التفسير ـ لا تلبسها على معصية ولا على غدر ، فإنّ الغادر [و] الفاجر يسمّى دنس الثياب.

سلّمنا : أنّ المراد الطهارة المتعارفة شرعا ، لكن لا دلالة فيه على أنّ الطهارة بأيّ شي‌ء تحصل ، بل دلالتها على [ما قلناه : من] أنّ الطهارة إنّما تحصل بالماء أولى ، إذ مع الغسل بالماء يحصل الامتثال قطعا ، وليس كذلك لو غسل بغيره.

وقوله : « النجاسة قد زالت حسّا » ، قلنا : لا يلزم من زوالها في الحسّ زوالها شرعا ، فإنّ الثوب لو يبس بلله بالماء النجس ، أو بالبول لم يطهر وإن زالت النجاسة عنه ، مع أنّه أجاب حين سئل « عن معنى نجس العين ونجس الحكم » بأنّ : الأعيان ليست بنجسة لأنّها عبارة عن جواهر مركّبة وهي متماثلة ، فلو نجس بعضها نجس سائرها ، وانتفى الفرق بين الخنزير وغيره ، وقد علم خلافه ، وإنّما التنجيس حكم شرعي.

ولا يقال : نجس العين إلّا على وجه المجاز دون الحقيقة ، وإذا كانت النجاسة حكما شرعيّا لم يزل عن المحلّ إلّا بحكم شرعي ، فحكمه رحمه‌الله بزوالها عن المحلّ لزوالها حسّا ممنوع » (٤) انتهى.

ولا يخفى لطف هذا الجواب خصوصا بعض وجوهه ، وهو منع دلالة الآية على أنّ الطهارة بأيّ شي‌ء تحصل ، فإنّ ذلك في كمال المتانة.

ووافقه على هذا الجواب المحقّق ـ فيما حكي عنه ـ (٥) من « منع دلالتها على ،

__________________

(١) والقائل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٩٧.

(٢) المدّثّر : ٤.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٤.

(٤) المختلف ١ : ٢٢٥ ـ ٢٢٤.

(٥) الحاكي هو المحقّق الخوانساري رحمه‌الله في مشارق الشموس : ٢٦١.

٧٨٠