ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

الأدلّة القائمة بطهارة الماء إلّا ما علم منه بخروجه كما تقدّم ، والقاعدة العامّة المقتضية لكون كلّ شي‌ء مخلوقا لأجل الانتفاع ، واستصحاب الطهارة ، وأصالة البراءة عن الاجتناب عمّا يشكّ في نجاسته بالملاقاة ممّا يزيد على الرطل العراقي ، وإنّما ذكرنا ذلك لورود الاحتجاج في كلامهم بكلّ من هذه الوجوه المذكورة على الاستقلال كما تعرفه.

الثاني : ما حكاه في المناهل (١) : من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢) فإنّه يدلّ على عدم انفعال الماء بالملاقاة مطلقا ولو كان دون العراقي ، لكنّه خرج عن هذا العموم بالدليل ، ولا دليل على خروج العراقي ، فالأصل بقاؤه على العموم.

الثالث : ما حكاه في الكتاب (٣) أيضا من أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٤) ، يدلّ على أنّ اللازم الحكم بطهارة الماء في مقام الشكّ في طهارته ونجاسته ، ومحلّ البحث منه.

الرابع : ما حكاه في شرح الدروس (٥) وأنّ الأصل طهارة الماء ، لأنّه خلق للانتفاع والانتفاع بالنجس لا يصحّ.

الخامس : ما حكاه في المناهل (٦) أيضا من أنّ حدّ العراقي قبل ملاقاته النجس كان طاهرا ومطهّرا ، فالأصل بقاؤهما حتّى يثبت المزيل لهما ، ولم يثبت بالنسبة إليه.

والسادس : ما تمسّك به في المدارك (٧) وحكاه في الحدائق (٨) من أنّ الأقلّ متيقّن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل ، يعني أصل البراءة كما صرّح به عند التعرّض لدفعه ، كما سيأتي الإشارة إليه.

والسابع : ما حكاه في المناهل (٩) أيضا من أنّ قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) (١٠) إلخ ،

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١٠٦.

(٢) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ـ سنن الدارقطني ١ : ٢٨ ، كنز العمّال ٩ : ٣٩٦ ح ٢٦٦٥٢ ، مجمع الزوائد ١ : ٢١٤ باختلاف يسير ، نيل الأوطار ١ : ٣٥.

(٣ و ٦ و ٩) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١١٠.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٣ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الفقيه ١ : ٦ / ١.

(٥) مشارق الشموس : ١٩٦.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.

(٨) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٤.

(١٠) النساء : ٤٣.

١٤١

يدلّ بمفهومه على أنّه إذا وجد الماء لم يجب التيمّم فيجب الطهارة المائيّة ، وهو عامّ يشمل المفروض ، وخروج ما دون العراقي من العموم لا يمنع من التمسّك به بالنسبة إليه.

والثامن : ما حكاه فيه أيضا (١) ـ واعتمد عليه غير واحد ، منهم شيخنا في الجواهر (٢) ـ من شيوع إطلاق الرطل في كلامهم عليهم‌السلام وإرادة العراقي منه عند الإطلاق ، كما يشير إليه خبر الكلبي النسّابة (٣) أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن النبيذ؟ فقال : « حلال ، فقال : إنّا نبذه فنطرح فيه العكر ، وما سوى ذلك ، شه شه ، تلك الحمرة المنتنة ، قلت : جعلت فداك فأيّ نبيذ تعني؟ فقال إنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا ، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له ، فيعمد إلى كفّ من تمر فيقذف في الشنّ (٤) ، فمنه شربه ومنه طهره.

فقلت : وكم كان عدد التمر الّذي في الكفّ؟ فقال : ما حمل الكفّ ، قلت : واحدة أو اثنتين؟ فقال ربّما كانت واحدة وربّما كانت اثنتين ، فقلت : وكم كان يسع الشنّ ماء؟ فقال : ما بين الأربعين إلى الثمانين ، إلى ما فوق ذلك فقلت : بأيّ الأرطال؟ فقال : أرطال مكيال العراق » (٥).

فإنّه عليه‌السلام أطلق وأراد به العراقي قبل أن يسأله السائل ، ولو لم يسأله لأعتمد على ذلك الإطلاق.

والتاسع : ما اعتمد عليه في المدارك (٦) ، من أنّ ذلك هو المناسب لرواية الأشبار الثلاثة ، وقرّره في المختلف ـ معتمدا عليه ـ : « بأنّ الأرطال العراقيّة تناسب رواية

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١١٠.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٣٤١.

(٣) الكلبي النسّابة : مشترك بين هشام بن محمّد بن السائب بن بشر بن زيد ... بن كلب بن مرّة الناسب ، العالم بالأيّام ، المشهور بالفضل والعلم ، وكان يختصّ بمذهبنا وكان أبو عبد الله عليه‌السلام يقرّبه ، المتوفّى سنة (٢٠٦ ه‍) وقيل : سنة (٢٠٤ ه‍) ، وبين أبيه محمّد بن السائب الّذي عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، المتوفّى سنة (١٤٦ ه‍) والغالب التعبير عن هشام بابن الكلبي وأيضا المناسب لترك لفظة « الابن » أن يكون الراوي هو الأب دون الابن. والله العالم. رجال النجاشي : ٤٣٤ ـ تاريخ بغداد ١٤ : ٤٦ ـ رجال الطوسي : ١٣٦ ، ٢٨٩.

(٤) الشّنّ : القربة الخلق. الصحاح : مادّة « شنن ».

(٥) الوسائل ١ : ٢٠٣ ، ب ٢ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ الكافي ١ : ٢٨٣ / ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٠ / ٦٢٩ ـ الاستبصار ١ : ١٦ / ٢٩.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.

١٤٢

الأشبار بخلاف المدنيّة فإنّها تفضل عليها ، ومن المستبعد تحديد مقدار الشي‌ء الواحد بأمرين متفاوتين » (١).

والعاشر : ما تمسّك به في المدارك أيضا واعتمد عليه في المختلف ، فقال الأوّل : « ولما في ذلك من الجمع بين هذه الرواية وبين صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والكرّ ستّمائة رطل (٢) بحملها على أرطال مكّة ، إذ لا يجوز حملها على غيرها من الأرطال العراقيّة أو المدنيّة ؛ لأنّ ذلك لم يعتبره أحد من الأصحاب كما ذكره الشيخ في التهذيب (٣) » (٤).

وفي المختلف : « قال الشيخ (٥) وهذا يرجح اعتبار العراقيّة ووجهه أن يكون المراد به رطل مكّة لأنّه رطلان ، ولا يمتنع أن يكونوا عليهم‌السلام أفتوا السائل عن عادة بلده ؛ لأنّه لا يجوز أن يكون المراد به رطل أهل العراق ، ولا أرطال أهل المدينة ؛ لأنّ ذلك لم يعتبره أحد من أصحابنا فهو متروك بالإجماع » (٦) انتهى.

وممّا يقرّب مقالة الشيخ إلى الواقع شهادة حال الراوي ، فإنّ محمّد بن مسلم على ما في نقد الرجال (٧) عن رجال الشيخ طائفي ، فكونه من أهل الطائف الّذي هو من أتباع مكّة ممّا يقرب كون الإمام عليه‌السلام قد تكلّم باصطلاحه ، لما عرفت من امتناع حمله على اصطلاح آخر.

الحادي عشر : ما في المناهل : « من أنّ الظاهر أنّ الراوي لابن أبي عمير تحديد الكرّ بألف ومائتا رطل عراقي ، لأنّ الظاهر أنّه من مشايخه ، وهم من أهل العراق فيجب أن يكون الرطل فيما رواه العراقي ، لأنّ الحكيم لا يخاطب إلّا بما هو المصطلح عليه عند المخاطب » (٨).

قال شيخنا في الجواهر ـ مستدلّا على ما اختاره من مذهب المشهور ـ : « لكون المرسل ابن أبي عمير ومشايخه من أهل العراق ، مع قوله فيها : « عن بعض أصحابنا »

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٥.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٨ ، ب ١٢ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٣ / ١١٩ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٦.

(٣) التهذيب ١ : ٤٣ في ذيل الحديث ١١٩.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.

(٥) الاستبصار ١ : ١١ في ذيل الحديث ٦.

(٦) مختلف الشيعة ١ : ١٨٥. (٧) نقد الرجال ٤ : ٣٢٣.

(٨) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٠٧.

١٤٣

وظاهر الإضافة كونه من أهل العراق ، وعرف السائل في الكلام مع الحكيم العالم بعرف المخاطب مقدّم على عرف المتكلّم والبلد ، على أنّه لم يعرف كونه عليه‌السلام قال ذلك وهو في المدينة ، قيل ولذلك اعتبر العراقي في الصاع » ـ إلى أن قال ـ : « وربّما يؤيّده ما قيل إنّ الكرّ في الأصل كان مكيال أهل العراق ، وأنّهم قدّروا بالكرّ من جهة أنّ مخاطبهم كان من أهل العراق » (١) انتهى.

وقيل أيضا (٢) ـ في جواب الاحتجاج الحاملين على المدني ، بأنّه عليه‌السلام كان من اهل المدينة فالظاهر أنّه عليه‌السلام أجاب بما هو المعهود عنده ـ : « بأنّ المهمّ في نظر الحكيم هو رعاية ما يفهمه السائل ، وذلك إنّما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاحه ، ولم يعلم أنّ السائل كان مدنيّا ، وغالب الرواة عنه عليه‌السلام كانوا من أهل العراق ، فلعلّ السائل كان منهم حملا على الغالب ».

قال في الحدائق ـ عقيب هذا الكلام ـ : قلت : « ويؤيّد بأنّ المرسل وهو ابن أبي عمير كان عراقيّا » (٣) وعن الآخرين الاحتجاج أوّلا بالإجماع ، حكاه في المناهل (٤) عن السيّد في الناصريّات ، قائلا : « وأمّا الكلام في تصحيح ما ذكرناه من الكرّ وتعيينه بالأرطال فالحجّة في صحّته إجماع الإماميّة وإجماعنا حجّة » (٥).

وفيه : ما لا يخفى بعد ملاحظة أنّ القول بما صار إليه منحصر فيه وفي الصدوق.

وثانيا : أنّ الصادق عليه‌السلام كان مدنيّا فيجب حمل كلامه على المصطلح عليه بين أهل المدينة ، لأنّ كلّ قوم يحاورون بما هو المصطلح عليه بينهم ، وثالثا : الاحتياط.

وأنت إذا تأمّلت في المسألة علمت بما في أكثر أدلّة الأوّلين مع بعض أدلّة الآخرين ، فإنّها ليست إلّا اجتهادات وردت على خلاف التحقيق واستنباطات خرجت غير مطابقة لمقصود المقام ، فإنّ الشبهة لفظيّة والغرض المهمّ تحصيل ما يوجب الخروج عن تلك الشبهة ، ويجدينا في رفع إجمال الاشتراك بالكشف عن حقيقة المراد من اللفظ ، وأيّ ربط في عمومات الطهارة والمطهّريّة وخلقة الماء لجهة الانتفاع ، والاصول

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٣٤١.

(٢) نقله في الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٨.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٨.

(٤) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١٠٧.

(٥) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦).

١٤٤

العمليّة من الاحتياط والاستصحاب والبراءة بذلك.

فإنّ أقصى ما يفيده العمومات أنّ عند عدم العلم بالنجاسة يجب البناء على الطهارة ، وهو غير العلم أو الظنّ بأنّ المراد بالرطل الوارد في الرواية العراقي ، الملازم لطهارة ما زاد عليه ، كيف ومن المقرّر في محلّه أنّ إجمال المخصّص ولو في الجملة يسري إلى العامّ ، فيصير مجملا في القدر الّذي كان المخصّص مجملا بالنسبة إليه ، ولا ريب أنّ ما دلّ على انفعال ما دون الكرّ مع ما دلّ على عدم انفعال الكرّ مجمل في القدر الّذي اريد من الكرّ وهو يقضي يكون ما دلّ على طهارة الماء بعمومه مجملا في هذا القدر ، ومعه كيف يمكن أخذه بيانا رافعا للإجمال عن الأوّل ، كما أنّ أقصى ما يفيده الاصول التوصّل بها إلى ما هو حكم ظاهري مجعول للمكلّف طريقا إلى عمله في مقام الجهل والشبهة ، وكيف يلائم ذلك للحكم الواقعي الّذي لا ينعقد إلّا مع تبيّن ما هو حقيقة المراد من الخطاب.

وبالجملة : الاصول في جميع مواردها ممّا لا يجدي نفعا في إحراز الواقع وهذا هو المقصود بالبحث ، إلّا أن يقال : بأنّ هذه الوجوه إنّما خرجت مستندة بعد الفراغ عن رمي الخطاب بالإجمال واليأس عمّا يوجب فيه البيان ، طلبا لطريق العمل والحكم الظاهري المعمول به عند الجهل.

فيرد عليه أوّلا : أنّه لا وجه حينئذ للتمسّك بعمومات الطهارة أصلا كما عرفت وثانيا : أنّه لا وجه لذكر تلك الوجوه في عنوان قولهم : « هل المراد بالرطل العراقي أو المدني »؟

فتحقيق المقام : أنّ الأقوى وإن كان ما صار إليه الأوّلون ، غير أنّ دليله الّذي يمكن التعويل عليه وأخذه حجّة فيما بين الربّ والعبد منحصر في عاشر الوجوه المتقدّمة ، فإنّ حمل « الرطل » الوارد في الرواية المتضمّنة لتحديد الكرّ بألف ومائتا رطل على العراقي من مقتضى الجمع بين تلك الرواية والرواية المتضمّنة لتحديده بستّمائة رطل ، وإنّما يتأتّى ذلك الجمع بعد ملاحظة الإجماع على أنّ الكرّ لا ينقص عن الأرطال العراقيّة ، وامتناع الكذب على الأئمّة عليهم‌السلام ، ووجوب العمل على أدلّة الحجيّة ، وأصالة عدم التقيّة ، وأصالة عدم المعارضة فيما بين الأدلّة ، وأصالة عدم الإجمال والشبهة ، وقاعدة أولويّة الجمع مهما أمكن ونحو ذلك.

١٤٥

ولا ريب أنّ قضيّة الجمع بين هذه الاصول والقواعد أن يحمل رواية ستّمائة على ما يوازي نصفه تمام رواية الألف والمائتين ، ولا يعقل ذلك إلّا إذا حملت الاولى على المكّي والثانية على العراقي ؛ إذ على هذا التقدير يكون الستّة مائة من الأرطال موازية للألف والمائتين منها ، ولا بعد في هذا الجمع بل ممّا لا بدّ منه ، إخراجا لخطاب الحكيم عن الإجمال ، فيكون كلّ من الروايتين بيانا بالقياس إلى الاخرى ، وإن كانت كلّ واحدة مع قطع النظر عن صاحبها مجملة ، وليس ذلك من الجمع الّذي يطالب فيه بدليل دعي إليه ، معتبر في نظر العرف ؛ إذ لا يوجب خروجا عن ظاهر ولا طرحا لدليل في الحقيقة ؛ لعدم ظهور في الروايتين بدونه في شي‌ء ، وإنّما يطرأهما الظهور بعد اعتبار الجمع ، فهو ممّا يعطيهما الظهور لا أنّه يوجب فيهما طرح الظهور ، ولا امتناع في مجملين إذا اجتمعا ولوحظا معا كان كلّ منهما بيانا للآخر ، بمعنى : أنّ بيان كلّ منهما يحصل بملاحظتهما معا.

ثمّ يبقى جملة من الوجوه المتقدّمة مؤيّدة لهذا الجمع ، شاهدة به ـ لو تمّت ـ مع عدم الحاجة إليها ، فاتّضح بذلك حكم المسألة بحمد الله وليّ النعمة.

ولأصحابنا الأعلام رضوان الله عليهم نقوض وإبرامات في تصحيح أدلّة الطرفين وإفسادها ، مذكورة في مظانّها ومن يطلبها فليراجعها ، ولا فائدة مهمّة تدعونا ـ بعد وضوح المسألة ـ إلى تحمّل نقلها وجرحها وتعديلها ، فهي بالإعراض عنها هنا أحرى وأجدر.

ولكن يبقى في المقام فائدة ينبغي الإشارة إليها لعموم النفع بها ، وهي بيان ما يبلغ إليه الكرّ بالأرطال العراقيّة من المنّان ، وغيرها من الأوزان المتعارفة الآن في كثير من البلدان على حسب ما يقتضيه قواعد الحساب وغيرها.

فنقول : إذ قد عرفت سابقا أنّ « الرطل » مائة وثلاثون درهما فاعلم : أنّ « الدرهم » يطلق فيما يقابل المثقال الّذي منه ما كان شرعيّا ومنه ما كان صيرفيّا ، والأوّل من الثاني ثلاثة أرباعه ، كما أنّ الثاني من الأوّل مثله وثلثه ، فالدرهم من المثقال الشرعي نصف مثقال وخمسة ، كما أنّ المثقال الشرعي منه درهم وثلاثة أسباعه ، والدرهم من المثقال الصيرفي نصفه وربع عشره.

وإن شئت السهولة في معرفة هذه النسب ، فافرض العشرين مثقالا صيرفيّا ، وخمسة عشر مثقالا شرعيّا ، والعشرة والنصف درهما ، فاعلم : أنّ كلّ عشرة دراهم على

١٤٦

هذا الحساب سبعة مثاقيل بالشرعي ، وخمسة مثاقيل وربع مثقال بالصيرفي ، وكلّ مائة درهم سبعون مثقالا بالشرعي ، واثنان وخمسون مثقالا ونصف مثقال بالصيرفي ، وكلّ ألف درهم سبعمائة مثقال بالشرعي وستّمائة مثقال وعشرون مثقالا بالصيرفي ، فالرطل على هذا الحساب إذا انحلّ إلى المثاقيل الشرعيّة كان واحدا وتسعين مثقالا شرعيّا ، وإذا انحلّ إلى المثاقيل الصيرفيّة كان ثمانية وستّين مثقالا وربع مثقال.

والكرّ حينئذ إذا انحلّ إلى المثاقيل الشرعيّة كان مائة ألف وتسعة آلاف ومائتين مثقالا ، وإذا انحلّ إلى المثاقيل الصيرفيّة كان واحدا وثمانين ألف مثقال وستّمائة مثقال ، ثمّ « الصاع » بقرينة ما تقدّم في المكاتبة تسعة أرطال بالعراقي ، فكلّ صاع ثمانمائة مثقال وتسعة عشر مثقالا بالشرعي ، وستّمائة مثقال وأربعة عشر مثقالا وربع مثقال بالصيرفي ، وذلك يعادل المنّ التبريزي المعهود في بلاد العجم الموصوف بـ « هشت عبّاسى » إلّا خمسة وعشرين وثلاثة أرباع مثقال بالصيرفي ، لأنّ « المنّ » عبارة عن ستّمائة وأربعين مثقالا بالصيرفي ، وقيل : الصاع العراقي حقّتان بالعطّاري ، فالحقّتان حينئذ ستّمائة وأربعة عشر مثقالا وربع مثقال بالصيرفي ، فالكرّ حينئذ بعيار الصاع مائة وثلاثة وثلاثون صاعا وثلث صاع ، وبعيار المنّ مائة وثمانية وعشرون منّا إلّا عشرين مثقالا بالصيرفي ، وطريق العمل في استخراج ذلك أنّ تقسّم مثاقيل الكرّ المتقدّمة على مثاقيل المنّ المذكورة فالخارج من القسمة هو المطلوب ، وهو يوازي العدد المذكور.

الطريق الثاني : تحديده باعتبار المساحة ، واضطربت كلمة الأصحاب فيه اضطرابا شديدا ، حتّى حدث فيهم أقوال مختلفة.

أحدها : ما كان كلّ من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصف شبر ، بالغا تكسيره اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر ، وهو عن الحلّي في السرائر (١) ، وابن زهرة في الغنية (٢) ، والفاضلين في الشرائع (٣) والقواعد (٤) والإرشاد (٥) ، وعن محكيّ الأمالي (٦) والهداية (٧)

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٠.

(٢) غنية النزوع (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ٣٧٩).

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٣.

(٤) قواعد الأحكام ١ : ١٨٣.

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٦.

(٦) أمالي الصدوق ـ المجلس ٩٣ ـ ص : ٥١٤.

(٧) الهداية : ٦٨.

١٤٧

للصدوق ، والنهاية (١) والمبسوط (٢) ، والوسيلة (٣) ، والتحرير (٤) والتذكرة (٥) والمنتهى (٦) ونهاية الإحكام (٧) ، وفي اللمعة (٨) ومحكيّ البيان (٩) والذكرى (١٠) والدروس (١١) ، والتنقيح (١٢) وجامع المقاصد (١٣) والمعالم (١٤) والبداية.

وفي محكيّ التنقيح (١٥) والمهذّب (١٦) نسبته إلى المرتضى.

وفي المنتهى (١٧) والروضة (١٨) والمدارك (١٩) والحدائق (٢٠) والرياض (٢١) وغيرها ـ كما عن التذكرة (٢٢) والذكرى (٢٣) والدروس (٢٤) وجامع المقاصد (٢٥) ومجمع الفائدة (٢٦) والذخيرة (٢٧) والمهذّب البارع (٢٨) والمشارق (٢٩) وحبل المتين (٣٠) والمعتصم (٣١) والبحار (٣٢) ـ دعوى الشهرة عليه.

وفي شرح الدروس (٣٣) نسبته إلى الأكثر.

وعن محكيّ الخلاف (٣٤) نسبته إلى جميع القمّيّين وأصحاب الحديث.

وعن الغنية (٣٥) دعوى الإجماع عليه ، حتّى أنّ شيخنا في الجواهر (٣٦) أخذه مستندا لنفسه مضافا إلى ما يأتي ، كما استند إليه في المناهل ، قائلا فيه : « بأنّ الإجماع المنقول حجّة ما لم يثبت المانع منه ، ومجرّد استفادة الشهرة على خلافه من بعض

__________________

(١) النهاية : ٣. (٢) المبسوط ١ : ٦.

(٣) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ٤١٤).

(٤) تحرير الأحكام (حجريّة) ـ كتاب الطهارة ـ : ٤.

(٥) تذكرة الفقهاء ١ : ١٩. (٦) منتهى المطلب ١ : ٤٠. (٧) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٢.

(٨) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٢٥٥. (٩) البيان : ٩٨.

(١٠) ذكرى الشيعة ١ : ٨٠. (١١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٨.

(١٢) التنقيح الرائع ١ : ٤٢. (١٣) جامع المقاصد ١ : ١١٦.

(١٤) فقه المعالم ١ : ٣٢. (١٥) التنقيح الرائع ١ : ٤١.

(١٦) لم نجده في المهذّب البارع. (١٧) منتهى المطلب ١ : ٣٩.

(١٨) الروضة البهيّة ١ : ٣٤. (١٩) مدارك الأحكام ١ : ٤٩.

(٢٠) الحدائق الناضرة ١ : ٢٦١. (٢١) رياض المسائل ١ : ١٤٧.

(٢٢) تذكرة الفقهاء ١ : ١٩. (٢٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨٠.

(٢٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٨. (٢٥) جامع المقاصد ١ : ١١٦.

(٢٦) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦١. (٢٧) ذخيرة المعاد : ١٢٢.

(٢٨) المهذّب البارع ١ : ٨٠. (٢٩ و ٣٣) مشارق الشموس : ١٩٧.

(٣٠) الحبل المتين : ١٠٧. (٣١) المعتصم : لم نعثر عليه.

(٣٢) بحار الأنوار ١٩ : ٧٧. (٣٤) الخلاف ١ : ١٩٠ المسألة ١٤٧.

(٣٥) غنية النزوع : ٤٦. (٣٦) جواهر الكلام ١ : ٣٤٧.

١٤٨

الأصحاب لا يصلح له ، خصوصا إذا قطعت أكثر الأصحاب بأنّ الشهرة موافقة له.

ويؤيّده مضافا إلى الشهرة مصير من لا يعتمد في الشرعيّات إلّا على اليقين إليه » (١) ، وإنّما ذكر ذلك في دفع ما أورد على الإجماع المنقول بوهنه بمصير الأكثر ، كما يستفاد من كلام بعض الأصحاب إلى خلافه ، وبهما يدفع بمثل ما ذكره ما عن المعتبر (٢) ـ في المناقشة في الإجماع المذكور ـ : « من أنّه لا [تصفح] (٣) إلى من يدّعي الإجماع هنا » فإنّه يدّعي الإجماع في محلّ الخلاف ، فيقال : وجود الخلاف لا ينافي تحقّق الإجماع ، لأنّ حجّيّته من باب الكشف عن قول الحجّة وذلك ممكن مع الخلاف ، فلو ادّعاه مدّع وكان ثقة وجب قبوله ، ولا يخفى ما في هذه الكلمات ، وتفصيله موكول إلى محلّه.

وثانيها : ما حكاه في المختلف (٤) عن الصدوق وجماعة القمّيّين ، ومال هو (٥) إليه حيث جعله أقوى ، من أنّه ما كان ثلاثة أشبار طولا في عرض في عمق فخالفوا الأوّلين بإسقاط النصف عمّا حدّوه به ، وعليه يكون مبلغ تكسيره سبعة وعشرين شبرا ، ويظهر من ثاني الشهيدين (٦) الميل إليه ، ونسبه في المناهل (٧) وغيره إلى المقدّس الأردبيلي (٨) والمحقّق في المعتبر (٩) ، وعن المجلسيّين في الحديقة (١٠) والبحار (١١) ، وعن شيخنا البهائي واستاد الكلّ في حبل المتين (١٢) والمشارق (١٣) ، وعن الشيخ عليّ في بعض حواشيه (١٤).

وثالثها : ما نسبه في المختلف (١٥) إلى ابن الجنيد من أنّ حدّه قلّتان ، ومبلغه وزنا ألف ومائتا رطل ، وتكسيره بالذرع نحو مائة شبر ، ثمّ قال : وهو قول غريب ، لأنّ اعتبار الأرطال يقارب قول القمّيّين ، فيكون مجموع أشباره تكسيرا في قولهم : سبعة وعشرين شبرا.

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١١٣.

(٢) المعتبر : ١٠. (٣) وفي المصدر : « ولا تصغ ».

(٤) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

(٥) قال في مختلف الشيعة ـ بعد تزييف أدلّة المشهور ـ : « والأقوى قول ابن بابويه » ١ : ١٨٣.

(٦) الروضة البهيّة ١ : ٣٤.

(٧) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١٠٩.

(٨) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٩.

(٩) المعتبر : ١٠. (١٠) حديقة المتّقين ـ للتقي المجلسي (ره) ـ لم نعثر عليها.

(١١) بحار الأنوار ١٩ : ٧٧. (١٢) الحبل المتين : ١٠٨ حيث قال : « والقول به غير بعيد ».

(١٣) مشارق الشموس : ١٩٧.

(١٤) حكى عنه البهائي قدس‌سره في الحبل المتين عن حواشيه على المختلف. [الحبل المتين : ١٠٨].

(١٥) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

١٤٩

ورابعها : ما نسبه فيه (١) إلى القطب الدين الراوندي (٢) من كون الكرّ عشرة أشبار ونصفا طولا وعرضا وعمقا ، والظاهر أنّه لا مخالفة بينه وبين الأكثر في المستند ، فإنّ كلّا يستند إلى ما يقضي من الروايات ، باعتبار كون كلّ من الأبعاد الثلاثة ثلاثة أشبار ونصف ، إلّا أنّ الخلاف في أنّ الأكثر يعتبرون تكسير هذه المقادير بطريق الضرب فيكون مبلغه اثنان وأربعون شبرا وسبعة أثمان شبر ، وهو يعتبره بطريق الجمع فيكون مبلغه عشرة أشبار ونصفا ، فعلى هذا لا مخالفة بينه وبينهم في المعنى فتأمّل.

وخامسها : ما يظهر عن المدارك من أنّه ما بلغ ذراعين في عمقه ، وذراعا وشبرا سعته ، حيث قال : « وأوضح ما وقفت عليه في هذه المسألة من الأخبار سندا ومتنا ما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن إسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء ، قال : « ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » (٣) ، إذ معنى اعتبار الذراع والشبر في السعة اعتبارهما في كلّ من البعدين ، ويظهر من المصنّف رحمه‌الله في المعتبر (٤) الميل إلى العمل بهذه الرواية وهو متّجه » (٥).

ثمّ إنّ هاهنا أقوالا اخر شاذّة متروكة :

منها : ما هو منقول عن الشلمغاني (٦) من أنّه ما لا يتحرّك جنباه بطرح حجر في وسطه.

ومنها : ما عن ابن طاوس (٧) من الأخذ بكلّ ما روي.

ومنها : [التوقّف ، وهو المحكيّ] عن ظاهر [المهذّب] (٨) وشرح ابن مفلح الصيمري (٩) [والذخيرة (١٠)] (١١).

والمعروف من مستند القول الأوّل نقلا وتحصيلا ما رواه الكليني عن محمّد ابن يحيى عن أحمد بن محمّد عن عثمان بن عيسى عن ابن مسكان عن أبي بصير قال :

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٢) حكى عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١١٤.

(٤) المعتبر : ١٠. (٥) مدارك الأحكام ١ : ٥١.

(٦ و ٧) حكاه عنهما في ذكرى الشيعة ١ : ٨١.

(٨) المهذّب ١ : ٢١. (٩) كشف الالتباس ١ : ٤١.

(١٠) ذخيرة المعاد : ١٢٣.

(١١) أخذنا ما بين المعقوفات من المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١١٢ ، وأضفناه إلى المتن لاستقامة العبارة وزيادة الفائدة ، والمظنون قويّا أنّ المصنّف رحمه‌الله نقله منه. والله العالم.

١٥٠

« سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكرّ من الماء كم يكون قدره؟ قال : إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ، ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض ، فذلك الكرّ من الماء » (١) ، هكذا وجدناه في النسخة المصحّحة من الكافي مع أكثر كتب أصحابنا الفقهاء ، ولكن في المختلف (٢) والمدارك (٣) مكان « نصف » « نصفا » بالنصب ، ولعلّ المعنى يتفاوت بذلك في الجملة كما ستعرف.

وقد يحكى (٤) عن أبي بصير رواية اخرى مصرّحة بذكر الأبعاد الثلاثة مرويّة في المهذّب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في طوله ومثله ثلاثة أشبار ونصفا في عرضه ومثله ثلاثة أشبار ونصفا في عمقه في الأرض ، فذلك الكرّ من الماء » (٥).

وقد يستدلّ على هذا المذهب أيضا بما في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شي‌ء ، قلت : وكم الكرّ؟ قال : ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها » (٦) ، ونحوه ما في التهذيب (٧) والاستبصار (٨) إلّا في أنّه أضاف في الثاني إلى البعدين البعد الآخر ، فقال ـ بعد قول الراوي : « وكم الكرّ؟ ـ قال : ثلاثة أشبار ونصف طولها ، في ثلاث أشبار ونصف عمقها ، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها ».

وقد يقال : بأنّ الظاهر أنّه سهو من الشيخ أو من الناسخين وقال الشيخ ـ في توجيه هذا الخبر ، من حيث منافاته لما صار إليه من عدم قبول البئر للانفعال مطلقا ما لم يتغيّر

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٦ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٤٢ / ١١٦ ـ الكافي ٣ : ٣ / ٥ ـ الاستبصار ١ : ١٠ / ١٤.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٤٩ ، وفي المدارك الّذي يحضرنا (من منشورات مؤسسة آل البيت لإحياء التراث) ثبت « نصف » بدل : « نصفا ».

(٤) والحاكي هو السيّد المجاهد في المناهل : ١٠٩.

(٥) لم نجدها في المهذّب البارع وكذا في مهذّب ابن البرّاج ، نعم قال فيه : « الكرّ هو ما كان مقدار ألف رطل ومائتي رطل بالعراقي ، أو ثلاثة أشبار ونصف طولا في ذلك عرضا في مثل ذلك عمقا (المهذّب ١ : ٢١) وأمّا احتمال تصحيف « التهذيب » « بالمهذّب » وإن كان غير بعيد في نفسه ، إلّا أنّه لم يوجد في التهذيب أيضا.

(٦ و ٧ و ٨) الوسائل ١ : ١٦٠ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٢ الكافي ٣ : ٢ / ٤ ـ الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٨.

١٥١

أحد أوصافه الثلاث ـ : « بأنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد بالركي المصنع الّذي لا يكون له مادّة بالنبع دون الآبار الّتي لها مادّة ، فإنّ ذلك هو الّذي يراعى فيه الاعتبار بالكرّ على ما بيّناه.

والثاني : أن يكون ذلك ورد مورد التقيّة ؛ لأنّ من الفقهاء من سوّى بين الآبار والغدران في قلّتها وكثرتها ، فيجوز أن يكون الخبر ورد موافقا لهم ، والّذي يبيّن ذلك أنّ الحسن بن صالح راوي هذا الحديث زيدي بتري متروك الحديث فيما يختصّ به (١) انتهى ».

وفي الوجه الأخير ما لا يخفى من البعد الواضح ، إذ لو صحّ حكاية التقيّة لوجب التقدير بالقلّتين ونحوهما ممّا صار إليه العامّة في تقدير الكثير ، دون الكرّ الّذي يختصّ التقدير به بالخاصّة خلافا للعامّة ، وعلى أيّ حال كان فاعترض على الرواية الاولى بالطعن في سندها ودلالتها معا.

أمّا الأوّل : فالّذي أكثر في ذلك الطعن صاحب المدارك في قوله : « وهي ضعيفة السند بأحمد بن محمّد بن يحيى فإنّه مجهول ، وعثمان بن عيسى فإنّه واقفي ، وأبي بصير وهو مشترك بين الثقة والضعيف ، ثمّ قال : وقد اعترف بذلك المصنّف رحمه‌الله في المعتبر ، فقال : وعثمان بن عيسى واقفي فروايته ساقطة » (٢). انتهى.

وذكر العلّامة أيضا في المختلف (٣) بمثل ما عرفت عن المعتبر.

وأمّا الثاني : فلأنّها خالية عن تحديد العمق ، فلا يوافق مذهبهم في اعتبار كلّ من الأبعاد الثلاث على النهج المتقدّم.

واجيب عن الأوّل تارة : بانجبار ضعفها بالشهرة والإجماع المنقول ، وممّن أشار إلى ذلك في الجملة العلّامة في المنتهى ، فقال : « هذه الرواية عمل عليها أكثر الأصحاب ، إلّا أنّ في طريقها عثمان بن عيسى وهو واقفي ، لكنّ الشهرة يعضدها » (٤). واخرى : بأنّ الموجود في الكافي إنّما هو أحمد بن محمّد ، والظاهر أنّه ابن عيسى ، خصوصا مع رواية محمّد بن يحيى العطّار عنه ، وروايته عن عثمان بن عيسى.

نعم نقل عن التهذيب (٥) أنّه أثبت « يحيى » ، والظاهر أنّه من الناسخ أو أنّه تصحيف

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٣ ذيل الحديث ٩.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٤٩.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٣٩.

(٥) التهذيب ١ : ٤٢ / ١١٦.

١٥٢

« عيسى » ، ويؤيّده أنّ العلّامة (١) وغيره لم يطعنوا في الرواية إلّا بعثمان بن عيسى ، وبعضهم بأبي بصير.

وأمّا عثمان بن عيسى فعن الشيخ في العدّة (٢) أنّه نقل الإجماع على العمل بروايته ، وعن الكشّي (٣) : « ذكر بعضهم أنّه ممّن أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصحّ عنه » ، وأيضا نقل أنّه تاب ورجع من الوقف ، على أنّ الظاهر أنّه ثقة مع وقفه فيكون الخبر موثّقا ، وهو حجّة كما تبيّن في الاصول.

وأمّا أبو بصير فالظاهر أنّه ليث المرادي بقرينة رواية ابن مسكان عنه ، فإنّ الظاهر أنّ المراد منه عبد الله وهو يروي عن ليث ، مضافا إلى أنّ عبد الله من أصحاب الإجماع فلا يلتفت إلى ما بعده ـ على وجه ـ بعد تنقيح حال عثمان ، ولعلّه لمعلوميّة حال أبي بصير عند العلّامة لم يطعن في سند الرواية في المنتهى (٤) إلّا بعثمان بن عيسى ، على أنّه ذكر الاستاذ الأكبر في حاشيته على المدارك (٥) أنّ أبا بصير مشترك بين ثلاثة كلّهم ثقات ، وعلى كلّ حال فلا ينبغي الطعن في سند الرواية.

أقول : ينبغي القطع بأنّ أحمد بن محمّد ليس إلّا ابن عيسى ، أبو جعفر شيخ القمّيّين ووجههم وفقيههم.

أمّا أوّلا : فلما ذكر في ترجمته ـ كما عن المشتركات (٦) ـ من أنّه يروي عنه جماعة منهم محمّد بن يحيى العطّار.

وأمّا ثانيا : فلما عرفت من كونه شيخ القمّيّين ، فينبغي أن يكون محمّد بن يحيى راويا عنه لأنّه قمّي أيضا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ أحمد بن محمّد الّذي يروي عنه محمّد بن يحيى يذكره الكليني في السند مطلقا تارة وهو الأكثر ، ومقيّدا بابن عيسى اخرى ، فليحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا رابعا : فلأنّ المطلق ينصرف إلى فرده الشائع ، ولا ريب أنّ ابن عيسى أشيع وأشهر من ابن يحيى.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٢) عدّة الأصول ١ : ٣٨١.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٥٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٣٩.

(٥) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٩٦.

(٦) هداية المحدّثين : ١٧٥.

١٥٣

وأمّا خامسا : فلأنّ محمّد بن يحيى يكثر الرواية عن أحمد بن محمّد غاية الإكثار ، كما يظهر بالتتبّع ، ومن البعيد في الغاية أن يكون الّذي يروي عنه مجهولا غير مذكور في الرجال ، كيف ولم يوجد ممّن ذكر فيه بعنوان « أحمد بن محمّد بن يحيى » إلّا رجلان يروي عنهما التلعكبري ، أحدهما : أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي ، وثانيهما : أحمد بن محمّد بن يحيى الفارسي المكنّى بأبي عليّ ، ومن الممتنع أن يكون محمّد بن يحيى راويا عنهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه ابنه ، وأمّا الثاني : فلأنّه من أهل طبقة الأوّل ، كما يشهد به رواية التلعكبري عنهما ، فيكون متأخّرا عن الراوي.

هذا مع ما عن التعليقة (١) من احتمال اتّحاده مع الأوّل بملاحظة رواية التلعكبري عنه مع ملاحظة الطبقة والكنية ، وإن كان ذلك بعيدا في الغاية ، لما قيل (٢) في ترجمة الأوّل من أنّ التلعكبري سمع منه سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة ، وله منه إجازة ، وفي ترجمة الثاني من أنّه سمع منه سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وخرج إلى قزوين وليس له منه إجازة ، ومن هنا ينبغي الجزم بابتناء ما في تهذيب الشيخ من التقييد بابن يحيى من الغلطيّة أو التصحيف.

وممّا يرشد أيضا إلى صدق مقالتنا ما عن التعليقة (٣) في ترجمة عثمان بن عيسى من إكثار الأجلّاء الثقات الرواية عنه ، وعدّ منهم أحمد بن محمّد بن عيسى ، ونحوه ما عن مشتركات (٤).

وأمّا عثمان بن عيسى فبعض ما تقدّم فيه من الامور الرافعة للقدح من جهته محلّ تأمّل عندنا ، فإنّ الظاهر أنّ دعوى الإجماع عن الشيخ في العدّة (٥) على العمل برواياته سهو ، إذ لم ينقل عن الشيخ إلّا قوله : « إنّ الأصحاب يعملون بأخباره » ، وهو كما ترى لا يدلّ على ما ذكر ـ كما قرّر في محلّه ، نعم فيه نحو إشعار ربّما يمكن تأييد الأمارة الدالّة على الوثاقة به ، أو أخذ المجموع منه ومن نظائره المذكورة في المقام أمارة عليها ،

__________________

(١) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٤٨ ـ منتهى المقال ١ : ٣٥٠.

(٢) منتهى المقال ١ : ٣٥٠.

(٣) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٢١٨ ـ منتهى المقال ٤ : ٣٠٠ و ٣٠١.

(٤) هداية المحدّثين : ١١١.

(٥) عدّة الاصول ١ : ٣٨١.

١٥٤

ونحوه الكلام في دعوى رجوعه عن الوقف ، إذ لم يوجد نقل ذلك في كلام أئمّة الرجال إلّا ما في العبارة المحكيّة عن التعليقة (١) من إشارة إجماليّة إلى كونه اثنى عشريّا ، ولو صحّ ذلك لقضى بإنكار أصل الوقف لإبقائه عليه ، ولو سلّم فلا يجدينا نفعا في تصحيح الرواية المبحوث عنها هنا إلّا بعد ثبوت أنّه قد رواها حال استقامته وأيّ طريق إلى ذلك.

نعم ، يمكن استفادة وثاقته ـ مع كونه واقفيّا ـ ممّا ذكر فيه (٢) من كونه واحد الوكلاء المستبدّين بمال موسى بن جعفر عليه‌السلام ، فإنّه يقضي بكونه من الامناء والعدول عند الإمام عليه‌السلام لعدم صلاحية غيرهم لمرتبة الوكالة.

ولكن يوهنه : أنّ غاية ما يسلّم من ذلك كونه كذلك في زمن حياة الإمام وأمّا بعده فلا ؛ لأنّ عروض الوقف له حينئذ ممّا يرفع العدالة بالمعنى الّذي اعتمد عليها الإمام ، فلم يعلم منه أنّه قد روى الرواية حال تلك العدالة موجودة أو بعد زوالها ، إلّا أن يقال : بأنّ زوال العدالة بهذا المعنى لا ينافي وجودها بالمعنى المعتبر في مذهبه ، غاية الأمر كون الرواية من جهته موثّقة ولا ضير فيه بعد قيام الدلالة على الحجّيّة.

وممّا يرشد إلى هذا المعنى ما تقدّم الإشارة إليه عن محكيّ التعليقة (٣) من إكثار الأجلّاء الثقات الرواية عنه ، ويقوّي ذلك بملاحظة ما في محكيّ التعليقة أيضا من : « أنّا لم نقف على أحد من فقهائنا السابقين تأمّل في روايته في موضع من المواضع ، ويؤيّده كونه كثير الرواية وسديدها ومقبولها وأنّ أهل الرجال ربّما ينقلون عنه ويعتدّون بقوله » (٤) الخ.

وربّما يمكن المناقشة في السند من جهة ابن مسكان لاشتراكه بين أربعة ، ليسوا ثقات بأجمعهم إلّا اثنان منهم عبد الله بن مسكان وعمران بن مسكان ، وأمّا الآخران وهما محمّد بن مسكان وحسين بن مسكان فقد صرّح فيهما بالجهالة.

ولكن يدفعه : ما قيل من أنّ الغالب في ابن مسكان « عبد الله » فلا يحمل على غيره مع احتماله إلّا بقرينة صالحة.

وأمّا أبو بصير فهو على ما في نقد الرجال (٥) كنية لأربعة ، يحيى بن القاسم وليث بن

__________________

(١) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٢١٨ ـ منتهى المقال ٤ : ٣٠٠ و ٣٠١.

(٢) رجال النجاشي : ٣٠٠ / ٨١٧ ـ رجال الطوسي : ٣٥٥.

(٣ و ٤) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٢١٨ ـ منتهى المقال ٤ : ٣٠٠.

(٥) نقد الرجال ٥ : ١٢٥.

١٥٥

البختري وعبد الله بن محمّد الأسدي ويوسف بن الحرث ، إلّا أنّ الإطلاق ينصرف إلى أحد الأوّلين لكونه فيهما أشهر ، فلا يقدح ما في الأخير من التصريح بالضعف ، ولا ما في سابقه من أنّه لم يذكر بمدح ولا قدح ، ورواية ابن مسكان عنه ممّا يعيّن كونه الليث ، لأنّه من يروي عنه جماعة منهم ابن مسكان فيكون ثقة جليلا ، فلا يقدح اختلاف كلماتهم في يحيى بن القاسم ، فيما بين ما يقضي بكونه الثقة ، وما يقضي بكونه غيره ممّن يرمى تارة بالوقف ، واخرى بفساد المذهب ، وثالثة بغيره من صفات الذمّ ، فالسند حينئذ لا بأس به إن شاء الله.

والجواب عن الثاني : أعني المناقشة في دلالة الرواية بمنع خلوّها عن تحديد العمق ، بناء على ما في الكافي والوسائل كما في كلام أكثر الأصحاب المتصدّين لذكر تلك الرواية في كتبهم الفقهيّة من ورد « النصف » مرفوعا ، عطفا على محلّ « ثلاثة » على أنّه خبر كـ « لكان » والظرف نعت أو حال له كما هو الأصحّ ، بل الرواية حينئذ متكفّلة لتحديد كلّ واحد من الأبعاد الثلاث ، أمّا تحديد واحد من العرض أو العمق (١) فلصريح قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف » (٢) وأمّا تحديد البعد الآخر منهما فلكونه مرادا من لفظة « مثله » ، ضرورة أنّ المماثلة بينه وبين الثلاثة والنصف ممّا لا يصدق إلّا على تقدير المساواة في ذلك المقدار ، ولا ينافيها الظرفيّة ضرورة أنّ البعدين ممّا يصدق على كلّ واحد منهما إذا تساويا أنّه كائن في مثله ، أو حاصل فيه لانتشار كلّ في الآخر ولزومه له.

وأمّا تحديد العمق ، فلقوله : « ثلاثة أشبار ونصف في عمقه » أي حاصلا وكائنا فيه ، على أن يكون عطفا على ما ذكر أوّلا ، على حدّ الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف ، كما في « هذا حلو حامض » وإنّما عبّر هاهنا بالعمق دون المثل إذ لم يبق ـ بعد ما اعتبر المماثلة بين البعدين الأوّلين ، وعبّر عنها بالمثل ـ في مقابل البعد الآخر شي‌ء آخر ليعتبر المماثلة بينهما أيضا ويعبّر عنها بالمثل.

وإنّما عطف فيما بين الخبرين بإسقاط العاطف لكونهما من جهة التداخل وانتشار كلّ في الآخر بمنزلة خبر واحد كما في المثال ، ولا يصغى حينئذ إلى احتمال كون هذا المذكور بدلا عن المثل ، وليس في الكلام ما يساعد عليه ـ والبدليّة بنفسها على خلاف الأصل

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢ / ٥٥.

١٥٦

لأولويّة الإفادة وظهور خلافها ـ حتّى يكون ذلك منشأ للشبهة ، وتوهّم عدم تماميّة الدلالة.

نعم إنّما يقوّي هذا الاحتمال بناء على كون « النصف » في الفقرة الاولى منصوبا عطفا على لفظ « ثلاثة » كما في التهذيب والاستبصار وكلام بعض الأصحاب كالمدارك ومختلف العلّامة ، نظرا إلى أنّ التفكيك بينه وبين ما ذكر في الفقرة الثانية بإيراده غير منصوب ربّما يدخل في الوهم كونه مجرورا عطفا على ثلاثة ، ولا يكونان كذلك إلّا إذا اعتبر كونهما تابعين لمثله المجرور على سبيل البدليّة ، وحينئذ يتوجّه الإشكال من حيث قصور الرواية على هذا التوجيه عن إفادة تحديد العمق.

وفيه : مع ـ أنّ تقدير الجرّ ليس بلازم حينئذ ، بل يجوز الرفع فيهما عطفين على الفقرة الاولى ، على طريقة العطف على المحلّ ليكونا خبرين أيضا ، على حدّ الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف ـ أنّ الظاهر كون ما في التهذيب والاستبصار وغيرهما مبنيّا على سهو الناسخ أو تصرّف الشيخ وغيره ، بجعل اللفظ المذكور منصوبا بتوهّم أنّ ما في الكافي وارد على خلاف القانون النحوي ، نظرا إلى أنّ الشيخ إنّما أخذ الرواية فيهما عن الكافي بقرينة طريقه المشتمل على الكليني ، وأمّا غيره كالعلّامة وصاحب المدارك فقد أخذها منه بعد تطرّق التغيير المذكور ، أو من الكافي فتصرّفا فيها مثل ما تصرّف فيها الشيخ ، وإلّا فأصل الرواية في الكافي قد وردت على ما حكيناه عنه ، بشهادة ورود ما في كلام أكثر الأصحاب موافقا له مع تصريحاتهم بأخذ الرواية عنه ، مضافا إلى ما في الوسائل المرويّ عن الكافي أيضا بقرينة الطريق المذكور فيه محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى إلى آخر السند المتقدّم.

وبجميع ما ذكرناه في توجيه الاستدلال تبيّن لك امور :

منها : عدم الحاجة إلى أن يجاب عن الإشكال (١) « بأنّ هذه الأخبار كلّها مشتركة في عدم عدّ الأبعاد الثلاثة بأجمعها ، ولم نجد رادّا لها من هذه الجهة ، بل ظاهر الأصحاب قديما وحديثا الاتّفاق على قبولها ، وتقدير البعد الثالث فيها لدلالة سوق الكلام عليه ، وكأنّ ذلك كان شائعا كثيرا في استعمالاتهم وجاريا دائما في محاوراتهم » (٢) إلخ.

__________________

(١) كلام صاحب الحدائق (منه).

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٢٦٣.

١٥٧

ومنها : اندفاع ما قيل (١) على الرواية ـ قبالا لما تقدّم في تقرير الاعتراض ـ من أنّ القول بعدم تحديد العمق في الخبر لا وجه له ، بل لو كان عدم تحديد فإنّما هو في العرض.

بيانه : أنّ قوله : « ثلاثة أشبار ونصف » الّذي بدل من مثله إذا كان حال العرض فيكون في عمقه كلاما منقطعا منها ، فتأمّل ، إلّا أن يكون المراد في عمقه كذلك ، وحينئذ يظهر تحديد العمق أيضا ، فيكون التحديد للعرض دون العمق ممّا لا وجه له ، بل الظاهر أنّ ثلاثة أشبار ونصف بدل من مثله ، وفي عمقه حال من مثله أو بدله أو نعت لهما ، وحينئذ يكون العمق محدّدا والعرض مسكوتا عنه.

ومنها : اندفاع ما اعترض أيضا (٢) على دلالة الرواية بأنّه يجوز أن يكون المراد من ثلاثة أشبار الأوّل تحديد قطر الماء الّذي هو عبارة عن مجموع الطول والعرض ، والثاني تحديد عمقه ، وحينئذ لم يكن اكتفاء في الكلام ، ولم يتمّ استدلالهم بهذا الخبر على مطلوبهم ، إذ لم يبلغ تكسير هذا القدر إلى ما اعتبروه.

ومنها : اندفاع ما عن المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك (٣) من أنّ في دلالتها على المشهور نظرا من حيث عدم اشتمالها على الأبعاد الثلاثة ، وليس هو من قبيل قولهم : « ثلاثة في ثلاثة » لشيوع هذا الإطلاق وإرادة الضرب في الأبعاد الثلاثة ، لوجود الفارق وهو عدم ذكر شي‌ء من الأبعاد بالخصوص في المثال بخلاف الرواية حيث صرّح فيها ببعد العمق ، فيكون البعد الآخر هو القطر ويكون ظاهرا في الدوري ، ويؤيّده أنّ الكرّ مكيال العراق والمعهود منه الدوري ، وكذا رواية ابن صالح الثوري (٤) الواردة في الركي ؛ إذ لا قائل بتفاوت الكرّيّة ، فيكون الحاصل منهما كون الكرّ ثلاثة وثلاثين شبرا ونصفا وثمنا ونصف ثمن ، ولا قائل به بخصوصه.

ومنها : عدم الافتقار إلى الاستدلال بالرواية المشار إليها حتّى يحتاج في تتميم دلالتها على المطلوب إلى تكلّف أن يقال : إنّ المراد بالعرض السعة فيشمل الطول أيضا.

أو يقال : إنّ العرف شاهد في مثل هذا المقام أنّ الطول أيضا كذلك ، للاكتفاء في

__________________

(١ و ٢) نقله المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس ١ : ١٩٧.

(٣) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٩٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٠ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٢.

١٥٨

المحاورات كثيرا في أمثال هذه المواضع بذكر البعض وإرادة الجميع.

أو يقال : إنّ تحديد العرض بهذا الحدّ مستلزم لكون الطول أيضا كذلك إذ لو كان أقلّ منه لما كان طولا ، ولو لزم زيادته على هذا الحدّ لكان الظاهر أن يشعر به ، مع أنّ الزيادة عليه منتف البتّة لأنّ خلاف ابن الجنيد والشلمغاني لا عبرة به.

أو يعترض عليه : بأنّه يمكن أن يكون المراد بالعرض القطر ، بقرينة كون السؤال عن البئر والبئر مستديرة ، حتّى يحتاج في التفصّي عنه إلى أن يقال : بأنّ ذلك مبنيّ على ما لا يعرفه إلّا الخواصّ من علماء الهيئة ، من ضرب نصف القطر وهو واحد وثلاثة أرباع في نصف الدائرة وهو خمسة وربع ، لأنّ القطر ثلث الدائرة فيكون مجموع الدائرة عشرة ونصف ؛ إذ المفروض أنّ القطر ثلاثة ونصف فيبلغ المرتفع حينئذ إلى ثلاثة وثلاثين شبرا ونصفا وثمنا ونصف ثمن تقريبا لا تحقيقا على ما توهّم ، وليس كذلك بل التحقيق بلوغه اثنين وثلاثين وثمنا وربع ثمن ، ولا ريب أنّ تنزيل الرواية على مثل ذلك ممّا يتّجه للأفهام المستقيمة ، وكيف يخاطب بذلك الحكيم من هو معلوم له أنّه عن هذه المطالب بمعزل.

أو يعترض عليها بمثل ما تقدّم عن الشيخ (١) ، فيحتاج في دفعه إلى ما ذكره الشيخ من حملها على التقيّة أو على المصنع الّذي ليس له مادّة (٢).

نعم ، لا بدّ في دفع معارضة ذلك لما تقدّم من دليل المطلوب من الالتزام فيها بالتأويل بمثل بعض ما ذكر ، أو الحكم عليها بالاطراح لمخالفتها الإجماع وعدم مصير أحد من الأصحاب إلى موجبها ، بناء على انقطاع بعض ما تقدّم من الأقوال الشاذّة ، مع عدم انطباق شي‌ء منها عليه كما لا يخفى.

فنتيجة الكلام من البداية إلى هذا الختام : أنّ المنصور المقطوع به هو القول المشهور بدلالة ما تقدّم من الرواية ، وأنّ القدح فيها سندا أو دلالة ليس على ما ينبغي ، بدلالة ما قدّمناه في دفع المناقشة.

نعم ، يبقى الكلام المتمّم لهذا المرام في دفع معارضة أدلّة الأقوال الاخر لتلك الرواية ، فإنّ حجّة الصدوق وغيره من موافقيه من القمّيّين وغيرهم الرواية الواردة في الكافي والتهذيب والاستبصار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الّذي لا ينجّسه

__________________

(١ و ٢) تقدّم في الصفحة : ١٥٢.

١٥٩

شي‌ء؟ قال : « كرّ » ، قلت : وما الكرّ؟ قال : « ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار » (١) مع اختلاف في أسانيدها حيث إنّ الشيخ رواها أوّلا في التهذيب (٢) عن شيخه المفيد رحمه‌الله عن أحمد بن محمّد عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن خالد عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر ، ثمّ رواها عقيب ذلك بقليل (٣) بطريق آخر فيه عبد الله بن سنان بدل محمّد بن سنان ، ومثله ما في الاستبصار (٤) ، وقيل إنّ الأوّل صواب ، وفي الكافي (٥) رواها بطريق آخر موصوف بالصحّة ، فيه البرقي عن ابن سنان من غير تعيين.

ثمّ إنّ ما ذكروه في تلك الرواية أيضا من المناقشة فيها سندا ـ باعتبار ما في الطرق المذكورة من الاضطراب والاختلاف في بعض رجاله حسبما عرفت ـ ودلالة باعتبار عدم اشتمالها على تحديد جميع الأبعاد ، ومن النقوض والإبرامات في دفع المناقشة المذكورة ممّا لا يخفى على المتتبّع والناظر في كتب الأصحاب ولا يهمّنا التعرّض لإيراد جميع ما ذكروه في هذا الباب ، بعد البناء على عدم الاستناد إلى تلك الرواية ، بل المهمّ التعرّض لنفي صلوحها للمعارضة للرواية المتقدّمة الّتي أخذناها حجّة على المذهب المشهور الّذي صرنا إليه ، إذ بدونه لا يتمّ الاحتجاج ولا ينقطع العذر.

فنقول : إنّ توهّم المعارضة فيما بين الروايتين إمّا أن يكون بين منطوقيهما ، بدعوى : أنّ الرواية بمنطوقها يدلّ على انحصار الكرّيّة في ثلاثة أشبار ونصف ، والثانية تدلّ بمنطوقها على انحصارها في ثلاثة أشبار ، فيرجع المعارضة إلى المعارضة فيما بين الزائد والناقص.

أو يكون بين مفهوم كلّ ومنطوق الاخرى ، بدعوى : أنّ الاولى تدلّ بمفهومها على نفي الكرّيّة عن أقلّ من ثلاثة أشبار ونصف كائنا ما كان ، والثانية تدلّ بمفهومها على نفيها عمّا عدا ثلاثة أشبار كائنا ما كان ، ولا سبيل إلى شي‌ء منهما ، بل الرواية الاولى سليمة عن المعارض على كلّ تقدير ، أو أنّ الرجحان في جانبها على فرض تسليم المعارضة.

أمّا على التقدير الأوّل فأوّلا : لأنّ الثانية يحتمل فيها ممّا يوجب الوهن في دلالتها ما لا يحتمل في الاولى ، من قوّة احتمال سقوط لفظة « النصف » فيها عن متن الحديث بخلاف الاولى ، إذ ليس فيها إلّا احتمال زيادة تلك اللفظة وهو إمّا مقطوع بعدمه ، أو أنّه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٢) التهذيب ١ : ٣٧ / ١٠١. (٣) التهذيب ١ : ٤١ / ١١٥.

(٤) الاستبصار ١ : ١٠.

(٥) الكافي ٣ : ٣ / ٧.

١٦٠