ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

حوضا كبيرا ، فإنّ ذلك غير معلوم الاندراج تحت المرسلة ، بل بمعنى كفاية ما يسمّى في العرف والعادة مطرا ، بأن يقع عليه المطر على النحو المتعارف ، وإن فرض بقاء بعض من سطحه بحيث لم يقع عليه مطر.

لا يقال : المقتضي لطهارة الماء بمجرّد الاتّصال ـ على القول به ـ هو كون الماء مطهّرا للجزء الّذي يليه ، وبعد الحكم بطهارته يتّصل بالجزء الثاني وهو متقوّ بالكرّ الّذي منه طهره فيطهّر الجزء الثاني وهكذا ، وهذا ممّا لا يتمّ في مفروض المقام بعد عدم تحقّق ملاقاة المطر لبعض سطوح الماء ، لعدم تحقّق اتّصال المطهّر بالقياس إلى هذا الجزء ، لأنّ الاجتهاد في مقابلة النصّ ممّا لا معنى له.

ومناط الطهارة في مدلول النصّ إنّما هو رؤية المطر ، وهذه قضيّة تصدق مع ورود ما يصدق عليه اسم المطر عرفا على الماء ، وإن بقي من أجزاء السطح ما لم يتحقّق فيه ملاقاة المطر ، فإنّه حينئذ غير قادح في صدق رؤية المطر لهذا الماء ، لكن الإشكال في صحّة الاستناد إلى المرسلة كما عرفت.

فالأولى حينئذ الاستناد إلى الصحيحة الرابعة ، الواردة في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل لم يضرّه ذلك ، فإنّها منصرفة إلى حال التقاطر ، لأنّه الغالب في سيلان ماء المطر من الميزاب ، دالّة على كون المطر مطهّر للخمر (١) ولو بعد الاستهلاك ، نظرا إلى أنّه ليس عبارة عن الانعدام بالمرّة ، فأجزاؤها المنتشرة موجودة مع الماء ، وإصابته تستلزم إصابة شي‌ء من تلك الأجزاء وهي من الأعيان النجسة ، فلو لا طهرها بالماء لم يكن لقوله عليه‌السلام : « لم يضرّه ذلك » وجه ، فإذا كان ماء المطر مطهّرا عن النجاسة الذاتيّة فكونه مطهّرا عن النجاسة العرضيّة بطريق أولى أولويّة قطعيّة.

نعم ، ينبغي الاقتصار في ذلك على صورة الامتزاج جمودا بما هو مفروض في مورد الرواية من الاختلاط ، ويمكن استفادة تطهير الماء بطريق الأولويّة عن الصحيحة الاولى وغيرها من المعتبرة المتقدّمة بالتقريب المتقدّم.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : « للبول ».

٥٠١

ينبوع

ومن الموضوعات المخصوصة بالعنوان في كتب الأصحاب البئر ، لاختصاصها بمزيد الأبحاث ، وامتيازها بأحكام مختلفة ناشئة عن اختلاف مواردها والأسباب المقتضية لها ، وينبغي قبل الخوض في البحث عن تلك الأحكام صرف النظر في معرفة البئر موضوعا ، وهي كما ترى من المفاهيم العرفيّة الّتي لا يكاد يخفى أمرها على المتأمّل ، ويقطع بعدم تغيّر العرف فيها ، واتّحاده فيها مع اللغة أو العرف القديم المتناول لعرف نفس الشارع ، ولذلك أنّ القاموس (١) والمجمع (٢) جعلاها معروفة ، فكلّ ما يسمّى في العرف بئرا ـ تسمية حقيقيّة ـ فقد لحقه أحكام البئر ، وإن شكّ في التسمية لشبهة في المصداق أو الصدق فإن دخل في مسمّى الجاري لحقه حكمه ، وإلّا فيعتبر في انفعاله وعدم انفعاله ما هو معتبر في الواقف من الكرّيّة وعدمها.

وربّما يعرّف البئر كما عن الشهيد في شرح الإرشاد : « بأنّها مجمع ماء نابع من الأرض لا يتعدّاها غالبا ، ولا يخرج عن مسمّاها عرفا ، » (٣) وعن الأردبيلي : « أنّه مجمع ماء تحت الأرض ، ذي نبع بحيث يصعب الوصول إليه غالبا عرفا ، وعلى حسب العادة » (٤)

وعن المحقّق الشيخ علي الاعتراض عليه : « بأنّ القيد الأخير موجب لإجمال التعريف ، لأنّ العرف الواقع لا يظهر أيّ عرف هو؟ أعرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله أم عرف غيره؟ وعلى الثاني ، فيراد العرف العامّ ، أو الأعمّ منه ومن الخاصّ؟

مع أنّه يشكل إرادة عرف غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلّا لزم تغيّر الحكم بتغيير التسمية فيثبت في العين حكم البئر لو سمّيت باسمه ، وبطلانه ظاهر.

__________________

(١) القاموس المحيط : مادّة « البئر ».

(٢) مجمع البحرين : مادة « بئر ».

(٣) روض الجنان : ١٤٣.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦٥.

٥٠٢

والّذي يقتضيه النظر : أنّ ما ثبت إطلاق البئر عليه في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو زمن أحد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، كالّتي في العراق والحجاز ، فثبوت الأحكام له واضح ، وما وقع فيه الشكّ فالأصل عدم تعلّق أحكام البئر به ، وإن كان العمل بالاحتياط أولى » (١).

وفيه : أنّ موضوعات الأحكام بحكم الاشتراك في التكاليف لا بدّ وأن تكون مشترك الثبوت فيما بين زماننا وما بعده وقبله ، وزمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، فما ثبت اختصاصه بأهل أحد الزمانين لم يعقل ثبوت حكمه لأهل الزمان الآخر ، إن ثبت له حكم خاصّ أو عامّ.

وقد يحصل الاشتباه في مسمّى اللفظ الوارد في الخطاب بالقياس إلى زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو زمان أحد الأئمّة عليهم‌السلام ، فلا بدّ في الوصول إليه من وسط وليس ذلك الوسط عندهم إلّا العرف ، المردّد بين كونه عرف المتشرّعة ، أو عرف أهل اللغة ، أو العرف الحاضر المعبّر عنه بالعرف العامّ ، كلّ في مورده.

ومعلوم أنّ البئر ليست من الموضوعات المحدثة الّتي لم تكن ثابتة في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا من الموضوعات المنقطعة عن زمان غيره ، بل هي ثابتة في جميع الأزمنة ، فإذا طرأ اشتباه في مسمّاها الّذي أخذه الشارع موضوعا في خطابه لا بدّ في استعلامه من مراجعة العرف بأحد من الأقسام المذكورة ، لعدم إمكان الوصول إلى عرف زمانه بدون ذلك ، والمفروض أنّها ليست ممّا ثبت فيه تصرّف من الشارع ليرجع فيه إلى عرف المتشرّعة ، ولا أنّها ممّا ثبت فيها من أهل اللغة نصّ خاصّ ليرجع إلى عرفهم ، فيعيّن الرجوع فيها إلى العرف الحاضر ، لا بوصف أنّه عرف غير زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل بعنوان أنّه مرآت وطريق إلى عرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فليس المراد بالعرف المأخوذ في الحدّ عرف زمانه بالخصوص ، ليرد عليه : أنّه الوصول إليه غير ممكن فيكون التعريف به تعريفا بالمجهول.

ولا أنّ المراد به غير عرف زمانه بوصف أنّه كذلك ، ليرد عليه : أنّ العبرة في موضوعات الأحكام بما ثبت في عرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله دون غيره.

بل المراد به العرف العامّ لا بشي‌ء من القيدين ، نظرا إلى أنّ القيود المأخوذة في

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٢٠.

٥٠٣

الحدود إنّما تؤخذ باعتبار مفاهيمها لا باعتبار مصاديقها ، حيث إنّها ترد للماهيّات بالماهيّات ، فالترديد فيه بين أنّ المراد به عرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو عرف غيره في غاية السخافة ، لكون مرجعه إلى اعتبار هذا القيد في الحدّ باعتبار المصداق.

غاية الأمر ، أنّ العرف العامّ باعتبار مفهومه الكلّي المتحقّق تارة في ضمن عرف زمانه ، واخرى في ضمن عرف زمان أئمّة اللغة ، وثالثة في ضمن عرف زماننا ، إن ثبت في الخارج تحقّقه في ضمن عرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان موضوعا للحكم بالاستقلال ، فيتعدّى الحكم إلى الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا هذا على تقدير ثبوت المسمّى ، وإن تغيّر العرف وانقلبت التسمية.

وإن ثبت تحقّقه في ضمن عرف أهل اللغة ، كان مرآتا لموضوع الحكم الثابت في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموضوعا له بالاستقلال في زمان أهل اللغة ، وموجبا لتعدّيه إلى زماننا على تقدير بقاء المسمّى وتغيّر العرف والتسمية.

وإن ثبت تحقّقه في ضمن العرف الحاضر كان مرآتا لموضوع الحكم الثابت في الأزمنة المتقدّمة إلى زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموضوعا له بالاستقلال في هذا الزمان ، فلا يلزم في شي‌ء من الصور إشكال ، ولا تغيّر الحكم بتغيّر التسمية ولا ثبوت حكم البئر للعين لو سمّيت باسمه ، لأنّ هذه التسمية ـ على فرض تحقّقها ـ إن فرض كونها على وجه المجاز فعدم ثبوت حكم البئر لمسمّاها واضح ، وكذلك لو فرض كونها على وجه الحقيقة ولكن بالوضع الجديد ، وأمّا لو فرض كونها على وجه الحقيقة مع العلم بثبوتها في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو مع احتمال ثبوتها أيضا ، فأيّ إشكال في ثبوت أحكام البئر للمسمّى بها بعد تسليم كون العرف الحاضر مرآتا إلى عرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنع تلك المتقدّمة لعلّه سدّ لباب الاستنباط ، وخرق للإجماع ، وهدم لبناء العرف في حكمهم بتشابه الأزمان في التسمية ما لم يثبت لهم خلافه.

فدعوى : أنّ ما ثبت إطلاق « البئر » عليه في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو زمن أحد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ـ كالّتي في العراق والحجاز ـ فثبوت الأحكام له واضح ، وما وقع فيه الشكّ فالأصل عدم تعلّق أحكام البئر به ، ممّا لا وجه له أصلا.

نعم ، لو علم بعدم الإطلاق في العرف الحاضر ، أو شكّ في الإطلاق والعدم ، أو علم بالإطلاق وشكّ في وصفه ، أو علم بالوصف وأنّه على وجه المجاز أو على وجه

٥٠٤

الحقيقة بوضع متأخّر مع عدم تبيّن حال زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تعلّق لأحكام البئر حينئذ ، ولعلّه من أحد هذه الأقسام الآبار الغير النابعة ، كما في بلاد الشام ـ على ما حكي ـ والجارية تحت الأرض كما في المشهد الغرويّ على ساكنه السلام ، ولذا صرّح صاحب المدارك (١) فيهما بعدم تعلّق أحكام البئر.

ومن هذا الباب بعض العيون النابعة الّتي يخرج منها الماء إلى حدّ معيّن لا يتعدّاه إلى وجه الأرض على وجه يجري فيها ، وبعض الآبار الّتي يكثر ماؤها حتّى يجري على وجه الأرض ، فإنّها وإن سمّيت « بئرا » غير أنّه لا يجري عليها أحكام البئر ، كما هو المصرّح به في كلام بعضهم.

وكان قيد « النبع » في الحدّ لإخراج الآبار الغير النابعة ، وقيد « عدم التعدّي » ـ أي عدم بروزه على وجه الأرض ـ لإخراج العيون الجارية ، وقيد « الغالب » لإدخال ما ذكرناه من بعض الآبار ، إن كان النظر في اعتبار الغلبة والندرة إلى الأفراد ، وإن كان النظر فيهما إلى الأزمان والأحيان فلا بدّ من فرض الكلام في بئر يتعدّى ماؤها إلى وجه الأرض في بعض الفصول ، فإنّها من أفراد الماهيّة وإن لم يجر عليها أحكام البئر حال جريانها ، وقيد « عدم الخروج عن المسمّى عرفا » لإخراج بعض العيون حسبما فرضناه.

وممّا ربّما يشكّ في حكمه ، الآبار المتثاقبة الّتي تدخل الماء من بعضها إلى بعض بثقبات تحتها ، من دون أن يجري على وجه الأرض ، بل يدخل في صورة الشكّ بئر يكون ماؤها متّصلا بالكرّ أو الجاري ، لكن هذا الشكّ ليس من جهة الشكّ في التسمية ، بل من جهة الشكّ في شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد ، كما أنّ عدم جريان أحكام البئر لما تعدّى ماؤها إلى وجه الأرض من جهة الشكّ في شمول الأدلّة.

ولا يجدي في إثبات الشمول التعليل الوارد في رواية ابن بزيع « بأنّ له مادّة » (٢) ، إمّا لظهور كونه لبيان الملازمة بين النزح وزوال التغيّر ـ حسبما قرّرناه في بحث الجاري ـ أو لكونه مجملا بتردّده بين كونه لبيان تلك الملازمة أو الملازمة بين ماء البئر وعدم إفساد شي‌ء إيّاه ، مع أنّه لو قلنا بنجاسة ماء البئر بالملاقاة لا يجدينا هذا التعليل رأسا ، وإن قلنا برجوعه إلى الملازمة الثانية ، لكون أصل الرواية متروكة الظاهر عند أهل القول بالنجاسة.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٥٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٦.

٥٠٥

وعلى أيّ حال كان فماء البئر ـ بالمعنى الّذي يكشف عنه العرف ـ إن تغيّر أحد أوصافه بالنجاسة الواقعة فيها نجس قولا واحدا نصّا وفتوى ، وعليه الإجماعات المنقولة مستفيضة ، ومع ذا كلّه فهو من مقتضى كون التغيّر علّة تامّة للنجاسة ـ حسبما قرّرناه في المباحث السابقة ـ وأمّا مع عدم تغيّر أحد أوصافه بالنجاسة الواقعة فيها ففي تنجّسه والعدم خلاف على أقوال :

أحدها : ما حكي عليه الشهرة بين قدماء أصحابنا من أنّه ينجّس بمجرّد ملاقاة النجاسة ولو كان كثيرا ، كما عن الصدوقين (١) ، والشيخين (٢) ، بل المشايخ الثلاث وأتباعهم ، والحلّي (٣) ، وابن سعيد (٤) ، والمحقّق في المصريّات (٥) والشهيدين (٦) أيضا ، وعن الأمالي : « أنّه من دين الإماميّة » (٧) ، وعن الانتصار (٨) والغنية (٩) والسرائر (١٠) ومصريّات (١١) المحقّق نفي الخلاف عنه ، وربّما نسب ذلك إلى الشيخ في التهذيبين غير أنّا لم نقف من كلامه فيهما على ما يدلّ على ذلك صراحة وظهورا.

وعن كاشف الرموز : « أنّ عليه فتوى الفقهاء من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يومنا هذا » (١٢) وعن غاية المراد : « أنّ عليه عمل الإماميّة في سائر الأعصار والأمصار » (١٣) وعن الروضة : « كاد يكون إجماعا » (١٤) وفي المنتهى : « وذهب الجمهور إلى التنجيس

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٣ ـ المقنع : ١٠ ـ ٩ ـ ١.

(٢) وهما المفيد في المقنعة : ٦٤ والشيخ الطوسي قدس‌سره في النهاية ١ : ٢٠٧.

(٣ و ١٠) السرائر ١ : ٦٩.

(٤) الجامع للشرائع : ١٩.

(٥) المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّي ـ : ٢٢١).

(٦) وهما الشهيد الأوّل في الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩ ؛ وذكرى الشيعة ١ : ٨٧ ؛ والشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٣٥ ؛ وروض الجنان : ١٤٥ ؛ وغاية المراد ١ : ٦٦.

(٧) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٨) الانتصار : ٨٩. (٩) غنية النزوع : ٤٦.

(١١) لم نجد فيه دعوى عدم الخلاف في المسألة ، قال فيه ص ٢٢١ : « لأصحابنا في هذه قولان : أحدهما : النجاسة ووجوب النزح للتطهير : وهو اختيار المفيد قدس‌سره والشيخ أبي جعفر الطوسي في النهاية وعلم الهدى من تابعهم والثاني : أنّها لا تنجّس إلّا بالتغيّر ولا يجب النزح إلّا معه ، وهو اختيار قوم من القدماء ... والمختار هو الأوّل ».

(١٢) كشف الرموز ١ : ٤٩ ـ ٤٨.

(١٣) غاية المراد ١ : ٦٦ (من منشورات مكتبة الإعلام الإسلامى بقمّ المشرّفة).

(١٤) الروضة البهيّة ١ : ٣٥.

٥٠٦

أيضا » (١) ، يعني بهم العامّة.

وثانيها : ما يظهر عن الشيخ أيضا ، ولكن في التهذيبين (٢) من أنّه لا ينجّس ما لم يتغيّر ، وإن أوجب فيه النزح المقدّر حسبما يأتي بيانه ، وهو محكيّ عن جماعة من الأصحاب أيضا كالحسن بن أبي عقيل (٣) ، والشيخ ، وشيخه الحسين بن عبد الله الغضائري ، والعلّامة (٤) ، وشيخه مفيد الدين بن جهم (٥) ، وولده فخر المحقّقين (٦) على ما في المدارك (٧) ، بل فيه : « إليه ذهب عامّة المتأخّرين » (٨) ، وعزى إلى صاحب التنقيح (٩) ، والموجز (١٠) ، وجامع المقاصد (١١) والمحقّق الميسي (١٢) ، وثاني الشهيدين في رسالة منفردة (١٣) له في تلك المسألة وجمهور المتأخّرين.

وثالثها : الفرق بين قليله فينجّس وكثيره فلا ينجّس ، وفي المدارك (١٤) ذهب إليه الشيخ أبو الحسن محمّد بن محمّد البصروي من المتقدّمين ، وعن المنتقى : « أنّه حكاه عن جماعة » (١٥) وفي المدارك (١٦) أيضا : « وهو لازم للعلّامة لأنّه يعتبر الكرّيّة في مطلق الجاري ، والبئر من أنواعه ، وتنظّر فيما ادّعاه من الملازمة جماعة ، وهو في محلّه لتوجّه المنع إلى كون البئر من أنواع الجاري » (١٧).

وعن الذكرى عن الجعفي : « أنّه يعتبر فيه ذراعين في الأبعاد الثلاثة حتّى لا ينجّس » (١٨).

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٦.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٢ ـ الاستبصار ١ : ٣٢.

(٣) نقله عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٨٧.

(٤) التحرير ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤ ـ نهاية الإحكام ١ : ٢٣٥.

(٥) نقله عنه في روض الجنان : ١٤٤.

(٦) إيضاح الفوائد ١ : ١٧. (٧ و ٨) مدارك الأحكام ١ : ٥٤.

(٩) التنقيح الرائع ١ : ٤٤. (١٠) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١٢).

(١١) جامع المقاصد ١ : ١٢٠.

(١٢) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ٧٩.

(١٣) رسائل الشهيد الثاني : ٢ ـ ٥.

(١٤ و ١٦) مدارك الأحكام ١ : ٥٥.

(١٥) منتقى الجمان ١ : ٥٨ وما حكاه فيه عن جماعة هو قوله : « وصار جماعة من الأصحاب إلى إيجاب النزح مع القول بعدم الانفعال تمسّكا بظاهر الأوامر »

(١٧) وهذا كما ترى لا يرتبط بهذا القول ، بل هو قول آخر من أقوال المسألة كما ذكره في مفتاح الكرامة ١ : ٧٩ فراجع. (١٨) ذكرى الشيعة ١ : ٨٨.

٥٠٧

وأوسط الأقوال أوسطها واحتجّ أهل القول به بوجوه ، بين صحيحة وسقيمة.

أوّلها : الاستصحاب ، أشار إليه العلّامة في المختلف قائلا : « ولأنّه ماء محكوم بطهارته قبل ورود النجاسة عليه ، فيتمّ بعده عملا بالاستصحاب السالم عن معارضة الانفعال بالتغيّر » (١) وهو ممّا لا يعقل له وجه ، إذ لو اريد به أخذه دليلا إقناعيّا فهو بالقياس إلى الكثير من ماء البئر ممّا لا حاجة إلى أخذه وسطا ، بل لا معنى له لكفاية الأصل الاجتهادي وعمومات الكرّ في ذلك ، بل لا موضوع له مع وجودهما ، وبالقياس إلى ما دون الكرّ منه ممّا لا ينفع في مقابلة عموم انفعال القليل ، بل لا يعقل معه أيضا ، ومنع العموم في كلا المقامين فيه ما لا يخفى ، بل هو ممّا لا يرضى به المستدلّ كما يظهر بالتتبّع في كلماته.

وإن اريد أخذه دليلا إلزاميّا فهو لا يجدي نفعا في إلزام الخصم ما دام باقيا على مستنده ولا حاجة إليه بعد إلزامه بمنع مستنده ، وإنهاضه طريقا إلى حكم المسألة بعد البناء على تساقط مستنده بمعارضة مستند أهل القول بالطهارة ، يدفعه : ما ذكرناه أوّلا.

وثانيها : العمومات الدالّة على أنّ مطلق الماء طهور ، وتخصيصها بالماء القليل حال ملاقاة النجاسة لا يخرجه عن كونها حجّة ، تمسّك به العلّامة في المنتهى (٢) ، وكأنّ المراد به إثبات المطلب في الجملة ولو في ضمن الكرّ ، قبالا للإيجاب الكلّي الّذي يدّعيه الخصم ، وإلّا فالعمومات لا تنهض دليلا على عموم المطلب بعد خروج الماء القليل عنها ، لأنّ المقام منه إذا كان قليلا.

وثالثها : ما تمسّك به في المنتهى أيضا من أنّها : « لو نجست لما طهرت ، والتالي باطل اتّفاقا ، ولأنّه حرج فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّه لا طريق إليه إلّا النزح ، وإلّا لزم إحداث الثالث ، وليس بصالح لذلك.

أمّا أوّلا : فلأنّه لم يعهد في الشرع تطهير شي‌ء بإعدام بعضه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه غالبا يسقط من الدلو الأخير إلى البئر ، فيلزم تنجيسها ، ولا ينفكّ المكلّف من النزح وذلك ضرر عظيم.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٨.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦١.

٥٠٨

وأمّا ثالثا : فلأنّ الأخبار اضطربت في تقدير النزح ، فتارة دلّت على التنصيص في التقديرات المختلفة ، وتارة دلّت على الإطلاق ، وذلك ممّا لا يمكن أن يجعله الشارع طريقا إلى التطهير » (١).

وفيه : ما لا يخفى من منع الملازمة ، وضعف الوجوه المقامة عليها.

أمّا الأوّل : فلمنع كون المطهّر هو الإعدام ، بل المطهّر في الحقيقة هو الماء المتجدّد من المادّة ، والنزح اعتبر طريقا إلى تجدّده ، ولو سلّم فأيّ مانع عن كون إعدام البعض مطهّرا إذا دلّ عليه الشرع ، فإنّ الأحكام ولا سيّما أحكام البئر كلّها تعبّديّة متلقّاة من الشارع ، فلا ينبغي قياسها بالعقول القاصرة.

وأمّا الثاني : فلمنع كون سقوط القطرة من الدلو إلى البئر قادحا في طهرها بالنزح المقدّر له شرعا ، لجواز كون تلك القطر مسلوب الأثر في نظر الشارع ، صونا للمكلّف عن الحرج.

ومنه ينقدح ضعف ما قد يقرّر هذا الدليل بأنّها لو نجست لما طهرت ، للزوم تنجّسها بعود الدلو والرشا إليها ، والساقط من الدلو خصوصا الأخير ، واللازم باطل وليس القول بالطهارة بعد النزح بأولى عن القول بعدم النجاسة بالملاقاة.

وفيه : أيضا ضعف واضح فإنّ الأولويّة بعد ما قضى الشرع بهما ممّا لا يمكن رفع اليد عنها.

وأمّا الثالث : فلأنّ اختلاف الأخبار بالإطلاق والتقييد ، أو الإجمال والبيان ممّا لا يعدّ من الاضطراب المخلّ ، وإلّا فكم من هذا القبيل ، وظاهر أنّ كيفيّات الخطاب تختلف بحسب اختلاف المقامات وأحوال المخاطبين ، ومقتضيات الإطلاق والتقييد ، أو الإجمال والبيان ، فإنّ الخطاب ربّما يرد مطلقا ويحال تقييده إلى المقيّدات الخارجيّة ، وقد يرد مجملا إذا لم يكن في موضع الحاجة فيؤخّر بيانه إلى وقتها ، وقد يرد مقيّدا أو مبيّنا حيث كان وقت الحاجة حاضرا.

ورابعها : أنّها لو نجست لزم الحرج الشديد ، خصوصا في البلاد الّتي ينحصر ماؤهم

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٢ ـ ٦١.

٥٠٩

في البئر ، وعن كاشف الغطاء ما يرجع محصّله : إلى « أنّ من لاحظ ذلك لم يحتج إلى النظر في الأخبار ، عامّها وخاصّها » (١) ولعلّ المقصود بيان لزوم هذا المحذور على تقدير النجاسة ، مع سائر لوازمها الّتي منها وجوب النزح بأعدادها المقدّرة ، وعلى هذا فالإلزام عليه في محلّه ، والمحذور وارد ، وإلّا فإن كان المراد بيان لزومه لمجرّد النجاسة الداعية إلى التجنّب ، فلزومه بعد جعل النزح طريقا إلى تطهيره في محلّ المنع ، كما لا يخفى.

وخامسها : ما اعتمد عليه بعضهم من أنّه يلزم على التنجيس الحكم بنجاسة الكرّ المصاحب للنجاسة إذا القي في البئر مع نجاسة البئر، والأدلّة تبطله ، والحكم بنجاسة البئر دون الكرّ مع فرض عدم تميّز أحدهما عن الآخر ، غير معقول.

وفيه : ما لا يخفى من توجّه المنع إلى بطلان التالي ، فإنّ الأدلّة المبطلة له إن اريد بها الأدلّة القاضية بكون الكرّيّة عاصمة عن الانفعال ، فجريانها في الفرض المذكور ليس بأقوى من جريانها في الكرّ بل الكرور الّتي هي في نفس البئر ، على أنّ بناء القول بالنجاسة على تخصيص تلك الأدلّة ، فلا يفترق الحال في ذلك بين كون الكرّ الحاصل فيه أصليّا أو عارضيّا بوقوعه عليها من الخارج ، وظهور الإضافة في « ماء البئر » في الماء النابع فيها لا يقدح في ذلك ، بعد البناء على كون دليله عامّا ، كما يرشد إلى الاعتراف به دعوى الملازمة.

وإن اريد بها ما عدا تلك الأدلّة فنطالبه ببيانه حتّى ننظر في حاله ، كيف ولا دليل هنا سوى الاستبعاد الغير الصالح للتعويل عليه في استنباط الحكم الشرعي.

وبذلك يظهر ضعف ما استدلّ به أيضا : من أنّه يبعد كثيرا الحكم بنجاستها مع نبعها واتّصالها بالمياه الكثيرة ، بل بالبحر لو فرض ، مع اشتمال الخارج على الكرور أيضا ، ولو اخرج من مائها خارجها مقدار الكرّ لم ينجّس بالملاقاة ، فإنّ الحكم عند القائل به من لوازم الخصوصيّة البئريّة ، ولا يقدح فيها النبع والاتّصال بالكثير ، ويمكن منع الملازمة في تلك الصورة بالقياس إلى مسألة الاتصال بالكثير ، لجواز كونه قائلا بالتقوّي في تلك الصورة ، لكنّه يطالب بدليل التقوّي ، فإنّه لا بدّ وأن يكون عامّا بحيث يشمل المفروض.

__________________

(١) كشف الغطاء : ١٩٢.

٥١٠

وسادسها : ما أشار إليه في المنتهى من : « أنّه بجريانه من منابعه أشبه الماء الجاري ، فيتساويان حكما » (١) وهو أوضح فسادا من جميع ما مرّ ، مع أنّ قضيّة ذلك مع ملاحظة قوله باشتراط الكرّيّة في الجاري كونه قائلا هنا بالفرق ، ولعلّه من هنا قد يستظهر منه في الكتاب المشار إليها المصير إلى هذا القول ، وكيف كان فالملازمة ممنوعة ، إذ لا مستند لها سوى القياس وهو ليس من مذهبه.

وسابعها : الأخبار الخاصّة وهي العمدة في المقام.

منها : الصحيح المرويّ في الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء ، إلّا أن يتغيّر ريحه ، أو طعمه ، فينزح حتّى يذهب الريح ، ويطيب طعمه ، لأنّ له مادّة » (٢) قال الشيخ في التهذيبين : « المعنى في هذا الخبر أنّه لا يفسده شي‌ء إفسادا لا يجوز الانتفاع بشي‌ء منه إلّا بعد نزح جميعه ، إلّا ما غيّره ، فأمّا ما لم يتغيّر فإنّه ينزح منه مقدار وينتفع بالباقي » (٣) وغرضه بهذا الكلام جعل الرواية بحيث لم تكن منافية لوجوب النزح بدون التغيّر الّذي يقول به تعبّدا ، وإن كان لا يقول بنجاسة الماء.

ويرد عليه : منع كون الإفساد مع التغيّر إفسادا لا يجوز معه الانتفاع بشي‌ء منه إلّا بعد نزح جميعه.

أمّا أوّلا : فلأنّ المنع عن الانتفاع مع التغيّر يدور مع التغيّر وجودا وعدما ، وإعدام التغيّر لا يستدعي نزح الجميع.

وأمّا ثانيا : فلمنع انحصار الانتفاع في مشروط بالطهارة ، لحصوله بسقي الدوابّ والبساتين ونحوها ، ومع ذلك فالمنع المتوقّف رفعه على زوال التغيّر المتوقّف على النزح ـ على تقدير التغيّر ـ ثابت مع عدم التغيّر أيضا ، على ما يراه من وجوب النزح الّذي لا يتحقّق في كثير من صوره إلّا في ضمن نزح الجميع ، فما معنى الاستثناء الوارد في الرواية؟ والتأويل المذكور بعد الجمع بينه وبين قضيّة وجوب النزح موجب لاتّحاد

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٧ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٧ ـ الكافي ٣ : ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٠٩ ذيل الحديث ١٢٨٧.

٥١١

المستثنى مع المستثنى منه في الحكم فلغى الاستثناء ، وهو كما ترى.

فالإنصاف : أنّها كما تدلّ على عدم النجاسة مع عدم التغيّر دلالة واضحة ، فكذلك تدلّ على عدم وجوب النزح أيضا ، حيث أنّه خصّه بصورة التغيّر ، كما تنبّه عليه صاحب المدارك في حاشية الاستبصار عند اعتراضه على الشيخ في التأويل المذكور حيث قال : « وما ذكره الشيخ من معنى الخبر بعيد جدّا ، ومع ذلك فيتوجّه عليه : أنّ عدم جواز الانتفاع بشي‌ء من ماء البئر يتحقّق مع التغيّر في كثير من النجاسات عند القائلين بالتنجيس ، كما أنّه قد يجوز الانتفاع بالباقي إذا زال التغيّر بنزح البعض ، فإطلاق القول بعدم جواز الانتفاع بشي‌ء منه مع التغيّر وجوازه مطلقا بدونه غير مستقيم ، وهذه الرواية كما تدلّ على عدم انفعال البئر بالملاقاة كذا تدلّ على عدم وجوب النزح بدون التغيّر ، لأنّه عليه‌السلام اكتفى في تطهيره مع التغيّر بنزح ما يذهب الريح ويطيب الطعم ، ولو وجب نزح المقادير المعيّنة لم يكن ذلك كافيا ، إذ لا يحصل به استيفاء المقدّر ، ويشهد لذلك الاختلاف الكثير الواقع في قدر النزح كما ستطلع عليه ، فإنّه قرينة الاستحباب » (١) انتهى.

والوجه في دلالة الخبر على عدم الانفعال مع عدم التغيّر ، أنّ المراد بالإفساد الّذي حصره عليه‌السلام في صورة التغيّر إنّما هو التنجيس ، بقرينة الوصف بالسعة واستثناء صورة التغيّر ، فإنّه موجب للتنجيس فيكون المنتفي عن المستثنى منه مع عدم التغيّر هو التنجيس أيضا ، كما ذكره في أوّل الحاشية المذكورة.

وأمّا « السعة » فيمكن أن يراد بها السعة الحسّية ، وهي الّتي تفرض بحسب المساحة طولا وعرضا وعمقا ، فيكون في الخبر حينئذ إشعار باعتبار الكرّيّة ـ كما هو أحد أقوال المسألة ـ كما يمكن أن يراد بها السعة المعنويّة ، وهي القوّة العاصمة له عن الانفعال بدون التغيّر ـ أي القوّة الغير القابلة للانفعال بدونه ـ وهو الأظهر بقرينة وصفها بعدم الإفساد ، فإنّ هذا الوصف إمّا تفسير للسعة فلا يصلح إلّا إذا اريد بها السعة المعنويّة ، لأنّه وصف معنوي ومن الواجب اتّحاد المفسّر والمفسّر ، أو تقييد لها فلا يصلح وصفا للكرّيّة ، لأنّ الكرّ مع عدم التغيّر لا ينقسم إلى ما يقبل منه الفساد وما لا يقبله ، بل الّذي ينقسم إليها الماء لا بشرط الكرّيّة ولا بشرط عدمها ، فلا بدّ وأن يعتبر

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٥١٢

الموصوف أمرا معنويّا والوصف تفسيريّا ولا محذور ، فتمّت بذلك دلالة الخبر على تمام مدّعى القائلين بعدم الانفعال.

وأمّا الاعتراض عليه تارة : بما عن المعتبر (١) من أنّه مكاتبة يضعف دلالته ، ومن أنّ الفساد يحمل على فساد يوجب التعطيل ، ومن أنّه معارض برواية محمّد بن إسماعيل الآتية.

واخرى : بأنّ دلالته بالعموم ، ويخرج عنه بالأدلّة الخاصّة كما يخرج عن العمومات وعن الأصل بها ، وبأنّه متروك الظاهر لثبوت التنجيس باللون أيضا.

فيدفعه : منع كون هذا الخبر مكاتبة ، بل المكاتبة هو الخبر الآتي الّذي تمسّك به أهل القول بالنجاسة ، ولذا قال في هذا الخبر : « قال » من دون إشعار فيه بالكتابة سؤالا وجوابا ، نعم المكاتبة بهذا المضمون رواها في التهذيب بطريق آخر عن المفيد ، عن ابن قولويه ، عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام فقال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء » الحديث (٢). وأنّ التقييد بما ذكر تأويل لا يصار إليه بلا ضرورة دعت إليه.

والمعارضة تندفع بما يأتي من الوجوه الدافعة لاحتجاج القول بالنجاسة.

ومنع قيام أدلّة خاصّة تصلح رافعة للدلالة العامّة إن اريد بها العموم بالقياس إلى ملاقاة نجس لا يغيّره وملاقاة غير النجس ، مع منع العموم من تلك الجهة لظهور « شي‌ء » بقرينة استثناء صورة التغيّر فيما يكون نجسا.

وإن اريد بها العموم بالقياس إلى الكرّيّة وعدمها ، فيدفعه : أنّ الأدلّة الخاصّة إن اريد بها الأخبار الواردة في البئر الدالّة على التنجيس ، ففيه : بعد تسليم دلالتها عليه ، منع كونها أخصّ من هذا الخبر ، بل النسبة بينها وبينه هو التباين ، ومعه يجب الرجوع إلى المرجّحات ، والترجيح في جانبه كما يأتي بيانه.

وإن اريد بها أدلّة انفعال القليل ، ليكون مفاد الاعتراض لزوم اعتبار الكرّيّة في البئر أيضا.

ففيه : أنّ أدلّة الانفعال منها ما لا يتناول البئر ، لاختصاصها بموارد مخصوصة ليس البئر منها ، ومنها ما يتناول بعمومه البئر كمفهوم « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء »

__________________

(١) المعتبر : ١٣.

(٢) التهذيب ١ : ٦٧٦ / ٢٣٤.

٥١٣

ففيه : منع أخصّيّة المفهوم ، بل النسبة بينه وبين الخبر عموم من وجه ، لأنّ الخبر أعمّ من الكرّ وعدمه ، والمفهوم أعمّ من ماء البئر وغيره ، فيجب التخصيص في أحدهما ، وهو في المفهوم أولى منه في الخبر ، لكون دلالته منطوقيّة والمنطوق أقوى من المفهوم ، ولا سيّما المنطوق المؤدّى بعبارة الحصر الّذي هو من أظهر الظواهر ، ولا ريب أنّ الأظهر لا يترك بالظاهر.

وأنّ (١) ترك ظهور الكلام في بعض فقراته كالمستثنى مثلا لدليل لا يقضي بضعف ظهوره بالقياس إلى الفقرة الاخرى وهي المستثنى منه هنا.

وحاصله : أنّ التقييد في المستثنى بزيادة شي‌ء عليه لا يقضي بتقييد المستثنى منه لغير جهة تلك الزيادة ، ولا رفع اليد عن ظهوره بغير جهة التقييد كما لا يخفى.

ومنها : الصحيح المرويّ في التهذيب عن عليّ بن جعفر عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل (٢) من عذرة رطبة ، أو يابسة ، أو زنبيل من سرقين ، أيصلح الوضوء منها؟ قال : « لا بأس » (٣).

وعن الشهيد في غاية المراد : « أنّ المراد من العذرة والسرقين النجس ، لأنّ الفقيه لا يسأل عن ملاقاة الطاهر » (٤).

وقريب منه ما في المدارك قائلا ـ في دفع الاعتراض على الخبر بأنّ العذرة والسرقين أعمّ من النجس فلا يدلّ عليه ، لعدم دلالة العامّ على الخاصّ ـ : « بأنّ العذرة لغة وعرفا فضلة الإنسان ، والسرقين وإن كان أعمّ منه إلّا أنّ المراد منه هنا النجس ، لأنّ الفقيه لا يسأل عن الطاهر » (٥) أقول : هذا الكلام بالقياس إلى السرقين لعلّه غير وجيه ، لظهور « السرقين » عرفا ولغة في روث الدوابّ ، ولا جهة فيه للعموم ، ولا ينافي السؤال عنه لفقاهة السائل لجواز ابتنائه على توهّم النجاسة في روث الدوابّ.

ولقد أجاد المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك قائلا بما يرجع محصّله إلى دعوى : « كون المتعارف في السرقين مثل الحمار والبغل والخيل والأنعام ، وسيجي‌ء في

__________________

(١) هذا جواب عن الاعتراض على الرواية بقوله : و « بأنّه متروك الظاهر » الخ.

(٢) الزبيل والزنبيل : جراب ، وقيل : وعاء يحمل فيه. لسان العرب ١١ : ٣٠٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٨ التهذيب ١ : ٢٤٦ قطعة من الحديث ٧٠٩.

(٤) غاية المراد ١ : ٦٩.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٥٨.

٥١٤

بحث النجاسات ما يدفع هذا الاستبعاد ، حيث قال : جمع بنجاسة بول الدوابّ واحتمل السائل نجاسة سرقينهم أيضا ، فسأل عن صلاحية الوضوء ، وكونه فقيها بحيث لم يكن له إشكال أصلا في صلاحية الوضوء غير ثابت ، مع أنّه إنّما حصل لهم ولنا الفقه من سؤالهم عن المعصوم عليه‌السلام.

فالأولى أن يقال : إنّ الدلالة من جهة العذرة وهي كافية ، أو يقال : ترك الاستفصال يفيد العموم ، لكن هذا فرع عدم كونه أظهر في « ما ذكر » (١) انتهى.

وبالجملة : الاستدلال بالخبر غير مبنيّ على ثبوت نجاسة السرقين عندنا ، لما في نجاسة العذرة كفاية في ذلك ، وبذلك يندفع الاعتراض المشار إليه.

وربّما اعترض عليه : بأنّ وصول الزنبيل إلى الماء ـ كما هو المذكور في السؤال ـ لا يستلزم وصول العذرة والسرقين إليه.

ويدفعه : أنّ الاستلزام يثبت بحكم العادة ، كما صرّح به جماعة.

واعترض عليه أيضا : بإمكان أن يراد نفي البأس بعد نزح المقدّر ، وحكي ذلك عن الشيخ أيضا قائلا : « بأنّ المراد لا بأس بعد نزح ثلاثين دلوا » (٢) وعنه (٣) احتمال آخر وهو : أن يراد بالبئر المصنع دون المعيّن ، لأنّ هنا رواية اخرى « إذا كان فيها كثرة » والكثرة قرينة المصنع.

وأنت خبير بأنّ كلّ ذلك بعيد عن الصواب ، وخروج عن قانون الاجتهاد ، حيث لا داعي إلى ارتكاب هذه الامور ، وظهر أنّ هذا الخبر أيضا تامّ الدلالة على تمام المطلب.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار المرويّة في التهذيبين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لا يغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب ، وأعاد الصلاة ، ونزحت البئر » (٤) وعن المحقّق في المعتبر المناقشة في سند هذا الخبر : « بأنّ حمّادا في طريقه مشترك بين الثقة والضعيف » ، وفي دلالته : « بأنّ لفظ « البئر » يقع على النابعة والغدير ، فيجوز أن يكون السؤال عن بئر ماؤها

__________________

(١) حاشية مدارك الأحكام للمحقّق البهبهانى ١ : ١١١.

(٢) الاستبصار ١ : ٤٢ ذيل الحديث ١١٨ ؛ وفيه : « خمسين دلوا » بدل « ثلاثين دلوا ».

(٣) نفس المصدر.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٢٣٢ / ٦٧٠ الاستبصار ١ : ٣٠ / ٨٠.

٥١٥

محقون » (١) ودفعهما في المدارك : « بالقطع بأنّ حمّادا هذا هو ابن عيسى الثقة الصدوق ، لرواية الحسين بن سعيد عنه ، وروايته عن ابن عمّار وهذا السند متكرّر في كتب الأحاديث مع التصريح بأنّه ابن عيسى على وجه لا يحصل شكّ في أنّه المراد من الإطلاق كما يظهر للمتتبّع ، وأنّ البئر حقيقة في النابعة ، ولهذا حملت الأحكام كلّها عليها واللفظ إنّما يحمل على حقيقته لا على مجازه » (٢) أقول : ولقد أجاد رحمه‌الله تعالى فيما أفاد.

ومنها : الصحيحة الاخرى عن معاوية بن عمّار المرويّة في التهذيبين في طريق فيه سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد عن أبي طالب عبد الله بن الصلت عن عبد الله بن المغيرة عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الفأرة تقع في البئر فيتوضّأ الرجل منها ويصلّي ، وهو لا يعلم أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ فقال : لا يعيد الصلاة ولا يغسل ثوبه » (٣) وعن المحقّق الشيخ محمّد في شرح الاستبصار القدح في سند الرواية قائلا : « وفي الفهرست الراوي عن ابن الصلت هو أحمد بن أبي عبد الله لا ابن عيسى ، وفي أحمد ابن أبي عبد الله نوع كلام » (٤) ومراده بأحمد ابن أبي عبد الله ، أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، ووجه الكلام فيه ما قيل في طعنه من أنّه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل ، ولأجل ذا كان أحمد بن محمّد ابن عيسى أبعده عن قم ، ثمّ أعاده إليها واعتذر إليه.

لكن فيما نقله عن الفهرست نظر ، لأنّ أحمد بن محمّد بن عيسى أيضا يروي عن ابن الصلت كما نقل عن كتاب المشتركات (٥) فهما معا يرويان عن ابن الصلت ، كما أنّ سعد بن عبد الله يروي عنهما معا ، غير أنّ ذلك لا يجدي في تعيين كون أحمد هنا هو ابن عيسى ، لما عرفت من اشتراكهما في الوصف ، ولعلّه غير قادح في صحّة الرواية وإن لم يتعيّن هذا الراوي ، لأنّهما معا ثقتان ، ولذا قيل في ترجمة ابن أبي عبد الله : « أنّه كان ثقة في نفسه » (٦) وعن ابن الغضائري : « طعن عليه القمّيون وليس الطعن فيه إنّما الطعن فيمن يروي عنه ، فإنّه كان لا يبالي عمّن أخذ على طريقة أهل الأخبار » (٧) وحينئذ فهذا السند صحيح جدّا ، لكون ابن الصلت الّذي يروي عنه في هذا السند من الثقات ، فلا

__________________

(١) المعتبر : ١٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٥٩ ـ ٥٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧١ ـ الاستبصار ١ : ٣٧.

(٤) استقصاء الاعتبار ١ : ٢٤٤.

(٥) هداية المحدّثين : ١٠٣. (٦) رجال النجاشي : ٧٦.

(٧) حكى عنه في منتهى المقال ١ : ٣٢٠.

٥١٦

وجه للقدح في الرواية من حيث السند كما لا وجه للقدح فيها من حيث الدلالة ، باحتمال وقوع الفأرة بعد الوضوء مع أنّه لا دلالة فيها على موتها فيها ، فإنّ الاحتمال المذكور يأباه لفظة « الفاء » في قوله : « فيتوضّأ الرجل منها » عقيب قوله : « في الفأرة تقع في البئر » وبذلك يندفع احتمال عدم موتها فيها ، فإنّ مقتضى ظهور ترتيب « الفاء » تبيّن وقوعها قبل الوضوء والصلاة ، ولا ريب أنّ العادة تأبى عن بقائها حيّة في الماء في هذا المقدار من الزمان.

وفي معنى هذا الخبر موثّقة أبان بن عثمان (١) ، ورواية (٢) جعفر بن بشير عن أبي عيينة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ ففي الاولى ـ قال : سئل عن الفأرة تقع في البئر ، لا يعلم بها إلّا بعد ما يتوضّأ منها ، أيعاد الصلاة؟ فقال : « لا » (٣).

وفي الثانية قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر ، فلا يعلم بها أحد إلّا بعد ما يتوضّأ منها ، أيعيد وضوءه وصلاته ، ويغسل ما أصابه؟ فقال : « لا » (٤).

ومنها : موثّقة زيد بن محمّد بن يونس أبي اسامة الشحّام ، لأبان بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع دلاء » ، قلنا : فما تقول : في صلاتنا : ووضوئنا : وما أصاب ثيابنا؟ فقال : « لا بأس به » (٥) ، والمناقشة فيها باحتمال عدم تحقّق الموت ليست على ما ينبغي ، لكونها دفعا للظاهر.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة في التهذيب عن أحدهما عليهما‌السلام في البئر يقع فيها الميتة ، قال : « إذا كان له ريح نزح منها عشرون دلوا » ، وقال : « إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء » (٦) ، ودلالتها بالمفهوم بناء على ما قيل من أنّ النزح لزوال الريح غالبا بالعشرين ، فيدلّ على نفي النزح على تقدير عدم الريح ، ولكنّه إنّما يستقيم على تقدير تذكير الضمير لعوده إلى « الماء » حينئذ ـ كما في النسخة الحاضرة عندنا ـ وأمّا

__________________

(١) فإنّه من الناووسيّة وباقي السند صحاح (منه).

(٢) وانّما عبّرنا عنها بالرواية لجهالة ابن عيينة ، وإن ذكر فيه شي‌ء ربّما يمكن التعويل عليه (منه).

(٣) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٢ ـ الاستبصار ١ : ٣١ / ٨٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٣ ـ الاستبصار ١ : ٣١ / ٨٣.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٤ ـ الاستبصار ١ : ٣١ / ٨٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٩٥ ب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٣.

٥١٧

على تقدير تأنيث الضمير ـ كما في نسخ اخرى نقلها غير واحد من أصحابنا ـ فيحتمل عوده إلى البئر ، أو إلى الميتة ، فلا دلالة فيها إذن على أنّ النزح إنّما هو لأجل التغيّر الّذي يزول غالبا بالعشرين.

ولكنّه لا يقدح في دلالته على أنّه ليس لأجل النجاسة ، بقرينة اعتبار نزح سبع دلاء لدخول الجنب ، لأنّ الجنب بوصف دخوله في البئر لا يستلزم بدنه مباشرة النجاسة والاشتمال عليها كما لا يخفى ، فالرواية بعمومها الشامل لصورة عدم اشتماله عليها تدلّ على النزح ، وهو لا يجامع نجاسة الماء.

وبذلك يتوهّن ما أورد عليها : من أنّها لا تدلّ على أنّه إذا لم يكن لها ريح لم ينزح شي‌ء ، فإنّ دلالتها على النزح ـ على تسليم وجوبه ـ أعمّ من النجاسة فضلا عن توجّه المنع إلى وجوبه.

ومنها : موثّقة يعقوب بن عثيم بأبان بن عثمان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام سام أبرص وجدناه قد تفسّخ في البئر؟ قال : إنّما عليك أن تنزح منها سبع أدل (١) ، قلت : فثيابنا الّتي قد صلّينا فيها نغسلها ونعيد الصلاة؟ قال : « لا » (٢).

وروي في التهذيب عقيب ذلك مرسلا عن جابر بن يزيد الجعفي ، أنّه سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن السام أبرص في البئر (٣) فقال : « ليس بشي‌ء حرّك الماء بالدلو » (٤).

ولو قيل : بمنع نهوض ذلك دليلا على عدم النجاسة ، لتوجّه المنع إلى كون « سام أبرص » (٥) من ذوات الأنفس ، لعارضناه : ـ بعد التسليم ـ بمنع نهوض النزح الوارد في الأخبار دليلا على النجاسة لوروده بعينه في « سام أبرص » كما في الموثّقة.

ومنها : موثّقة عبد الكريم بن عمرو الواقفي الثقة ، عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بئر يستقى منها ، وتوضّؤ به ، وغسل منه الثياب ، وعجن به ، ثمّ علم أنّه كان

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٩ ـ التهذيب ١ : ٢٤٥ / ٧٠٧ ـ الاستبصار ١ : ٤١ / ١١٤.

(٣) كذا في الأصل ، وفي التهذيب الموجود عندنا « الماء » بدل « البئر ».

(٤) التهذيب ١ : ٢٤٥ / ٧٠٨.

(٥) وفي هامش الأصل : « سام أبرص » : من كبار الوزغ ، وهو معرفة إلّا أنّه تعريف جنس ، وهما اسمان جعلا واحدا.

٥١٨

فيها ميّت؟ قال : « لا بأس ، ولا يغسل الثوب ، ولا تعاد منه الصلاة » (١) ومنها : صحيحة زرارة الواردة في زيادات التهذيب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير ، يستقى به الماء من البئر ، أيتوضّأ من ذلك الماء؟ قال : « لا بأس » (٢).

ولكن دلالته على المطلب مبنيّة على كون المراد « بالماء » المسئول عن التوضّي به هو ما في البئر ، بناء على أنّه لا ينفكّ عن ملاقاته الحبل عادة ، ولا عن ملاقاة ما في الدلو له ثمّ سقوط القطرات منه إليها ، ولعلّه الأظهر.

وهاهنا روايات اخر ضعيفة الأسانيد بإرسال ونحوه دالّة على المطلب ، كرواية زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء؟ قال : « لا بأس » (٣) (٤). وظاهر السياق وإن كان يقتضي كونه واردا لبيان حكم أصل الاستعمال تكليفا ، لكونه استعمالا لنجس العين وانتفاعا به ، إلّا أنّ قضيّة منصب الإمامة ورجحان الدعاء إلى الخير أو وجوبه ، أن تنبّه عليه‌السلام على الانفعال لو كان ملاقاة النجاسة موجبة لانفعاله ، لئلّا يستعمل من مائه بلا تطهير.

ومرسلة عليّ بن حديد ، عن بعض أصحابنا ، قال : « كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في طريق مكّة فصرنا إلى بئر ، فاستقى غلام أبي عبد الله عليه‌السلام دلوا فخرج فيه فأرتان ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أرقه ، فاستقى آخر ، فخرج فيه فأرة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أرقه ، قال فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شي‌ء ، فقال : صبّه في الإناء ، فصبّه في الإناء » (٥).

وأورد عليه الشيخ في التهذيب : بأنّ عليّ بن حديد رواه عن بعض أصحابنا ولم يسنده ، وهذا ممّا يضعف الحديث ، ويحتمل مع تسليمه أن يكون أراد بالبئر المصنع الّذي فيه من الماء ما يزيد مقداره على الكرّ ، فلا يجب نزح شي‌ء منه ، ثمّ لم يقل أنّه توضّأ منه بل قال : « صبّه في الإناء » وليس في قوله : « صبّه في الإناء » دلالة على جواز استعماله في الوضوء ، ويجوز أن يكون إنّما أمره بالصبّ في الإناء للشرب ، وهذا يجوز

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧١ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٧.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٩ ـ الوسائل ١ : ١٧٠ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٥ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠١.

(٤) وجه الضعف في ذلك اشتمال السند على أبي زياد النهدي ، وهو مجهول (منه).

(٥) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٩ / ٦٩٣.

٥١٩

عندنا عند الضرورة » (١).

ولا يخفى ما في الوجهين الأخيرين من التكلّف ، وإنّما دعاه إليه مصيره إلى وجوب النزح ، مع ما في وجهه الأخيرين من إمكان المنع ، لما عن المحقّق في المعتبر من أنّه ذكره وزاده في آخره : « فصبّه فتوضّأ منه ، وشرب » (٢).

وما أرسله الصدوق : « أنّه كان في المدينة بئر وسط مزبلة ، وكانت الريح تهبّ وتلقي فيها العذرة ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ منها » (٣).

ورواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام : في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمس أذرع ، أو أقلّ ، أو أكثر ، يتوضّأ منها؟ قال : « ليس يكره من قرب ولا بعد ، يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء » (٤).

ومن الروايات المعتبرة في هذا الباب موثّقة عمّار ، قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن البئر تقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة ، قال : « لا بأس ، إذا كان فيها ماء كثير » (٥).

قيل في وجه دلالتها : أنّ الكثرة العرفيّة غير معتبرة في الماء إجماعا إلّا للتحفّظ عن التغيّر ، ولم يثبت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « كثير » ليكون الرواية دليلا على اعتبار الكرّيّة في البئر.

وبالجملة : هذه جملة روايات أكثرها معتبرة الأسانيد ، واضحة الدلالات ، عثرنا عليها في الباب تدلّ بإطلاقها على عدم انفعال ماء البئر بمجرّد الملاقاة ، كرّا كان أو دونه ، فهي بالقياس إلى الكرّ على طبق الأصل الثابت فيه ، وبالقياس إلى ما دونه تنهض حاكمة على أدلّة انفعال القليل ، إمّا لأنّه لا تعارض بينهما لعدم تناول أكثر تلك الأدلّة لماء البئر ، أو لكون التأويل فيها أولى ، إن كان النظر فيها إلى ما يعارض بعمومه أخبار الباب معارضة العامّين من وجه.

فظهر إذن أنّ الأقوى في المسألة ما صار إليه معظم المتأخّرين ، من عدم الانفعال مطلقا.

وممّا يمكن أن يؤخذ دليلا على هذا المطلب ـ مضافا إلى ما سيأتي الإشارة إليه ـ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٤٠ ذيل الحديث ٦٩٣.

(٢) المعتبر : ١١.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢٠ ـ الفقيه ١ : ١٥ / ٣٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٧١ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ الكافي ٣ : ٨ / ٤.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٦ / ١٣١٢.

٥٢٠