ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

استصحاب وجود المضاف أيضا يقتضي الحكم عليه بكونه مضافا ، ومع الغضّ عن ذلك فوجود الماء ـ على ما تقرّر في الشريعة ـ مع إمكان استعماله مانع عن [الترابيّة] (١) ورافع للتكليف بها ، ومعه فلا مقتضي للجمع.

والاعتذار له : « بأنّ المدّعى هنا استصحاب وجوب الطهارة بناء على أصالة عدم فقد المطلق ، وذلك لا يرفع أصل الاشتباه ، لأنّ الاستصحاب لا يفيد ما في نفس الأمر » ، غير نافع في دفع الإشكال ، بعد ملاحظة أنّ وجوب الطهارة المائيّة ـ ولو ثبت بنحو الاستصحاب ـ لا يجامع التكليف بالترابيّة ، ولا يعتبر في وجود المطلق كونه معلوما بالعلم الحقيقي ، بعد ملاحظة كون الاستصحاب ـ على فرض جريانه واستكماله شرائط الحجّيّة ـ علما شرعيّا قائما مقام العلم الحقيقي ، ولا يعتبر فيه إفادة نفس الأمر وإلّا انسدّ باب التعويل عليه ، وخرج عن كونه أصلا تعبّديّا غير ناظر إلى ما في الواقع ونفس الأمر.

وأمّا ما عن بعض الأصحاب ـ كما في المدارك ـ : « من أنّ الماء الّذي يجب استعماله في الطهارة إن كان هو ما علم كونه ماء مطلقا فالمتّجه الاجتزاء بالتيمّم وعدم وجوب الوضوء به كما هو الظاهر ، وإن كان [هو] ما لا يعلم كونه مضافا اكتفي بالوضوء ، فالجمع بين الطهارتين غير واضح » (٢).

فيدفعه : أنّ الواجب استعماله في الطهارة ليس هذا بعينه ولا ذاك بخصوصه ، بل ما هو ماء مطلق بحسب الواقع ونفس الأمر ، لكنّ الواقع لكونه ممّا لا مرآة له إلّا العلم ، ولا طريق إلى إدراكه إلّا من جهة الاعتقاد بالمعنى الشامل للشرعي ، فلا بدّ في حكم العقل من إحرازه بطريق علمي ولو شرعا ، وحيثما فقد الطريق بكلا قسميه مع عدم قيام ما يرفع الخطاب بالواقع سوى الاشتباه الغير الصالح للرفع إلّا مع فرض كون المنصبّ المتعذّر استعماله هو المطلق ، اتّجه الاحتياط في حكم العقل مقدّمة ليقين الشغل بالطهارة أو بالصلاة معها ، حسبما تقدّم بيانه بما لا مزيد عليه.

نعم ، يبقى الإشكال فيما تقدّم في كلام الأصحاب من اعتبار تقديم المائيّة على الترابيّة فإنّه غير واضح الوجه ، كما حكى التنبّه عليه عن المفصّل المتقدّم ذكره ، حيث

__________________

(١) وفي الأصل : « المائيّة » والظاهر أنّه سهو ، والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٩.

٨٤١

أنّه بعد العبارة المتقدّمة عنه قال : « ومع ذلك فوجوب التيمّم إنّما هو لاحتمال كون المنقلب هو المطلق ، فلا يكون الوضوء بالآخر مجزيا ، وهذا لا يتفاوت الحال فيه بين تقديم التيمّم وتأخيره كما هو واضح » (١) انتهى.

ويمكن الاعتذار عنه بأنّ التيمّم بدل اضطراري للمائيّة ، ورتبته في الحكم الشرعي متأخّرة عنها ، فينبغي أن يتأخّر عنها أيضا في الوضع العملي ، غير أنّه لا يفيد لزوم الاعتبار ، فالإشكال من هذه الجهة على حاله ، وإن كان مقتضى الاحتياط الّذي عليه مبنى الجمع هو ذلك خروجا عن شبهة مخالفة الواقع.

* * *

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٩.

٨٤٢

ينبوع

وممّا خصّه الأصحاب بالعنوان بحث الأسآر ، المتّخذة لديهم قسما للمطلق بجميع أقسامه ، والمضاف بجميع فروضه الّتي يلحقها البحث هنا طهارة ونجاسة وحرمة وكراهة ، ونحن أيضا أفردناها بالذكر تأسّيا لهم وتبعا لممشاهم ، وإلّا فيشكل الحال كلّ الإشكال بأنّ منظور هذا الباب إن كان بيان حكم الماء من حيث أنّه ينفعل أو لا ينفعل بملاقاة ما يباشره من حيوان نجس العين أو طاهرها ، فقد تبيّن ذلك في المباحث المتقدّمة المتكفّلة لبيان ما ينفعل من الماء وما لا ينفعل قليلا أو كثيرا ، ولبيان ما كان يتعلّق بالمضاف من الانفعال ونحوه.

وإن كان بيان حكم ذي السؤر من أنواع الحيوانات من طهارة عينيّة أو نجاسة عينيّة موجبة لانفعال السؤر مع قلّته أو إضافته ، فهو ممّا يتبيّن في مباحث النجاسات ولا ربط له بهذا المقام.

وإن كان بيان ما يتعرّض لتحقيقه في ضمن بعض مباحث هذا الباب من كون زوال عين النجاسة عن الحيوان أو غيبته بعد مباشرتها مطهّرا له ، فهو شي‌ء ينبغي إيراده في مباحث المطهّرات.

وإن كان بيان الأحكام التكليفيّة الراجعة إليه من حرمة استعماله أو كراهته أو إباحته أكلا أو شربا أو تطهيرا ، فالأنسب إيراده في باب الأطعمة والأشربة.

إلّا أن يقال : إنّ استعماله في مقام التطهير لم يتبيّن حكمه من الحرمة والكراهة في الأبواب الاخر ، فهو المقصود بالبيان هنا ، وإن بيّن معه أحكام اخر من الطهارة والنجاسة وغيرها تبعا ، لمراعاة شدّة مناسبة إيراده في أبواب المياه ، على حدّ ما روعي ذلك في مباحث الماء المستعمل في الحدث كبيرا أو صغيرا وإن كان له محلّ مناسب أيضا في

٨٤٣

أبواب الطهارات ، غير أنّ ذلك أنسب لكون موضوع القضيّة الّذي هو العمدة من أجزائها هو الماء ، وهو المأخوذ عنوانا في جملة من الأخبار حسبما يأتي ذكرها مفصّلة.

وكيف كان فقد اختلفت كلمة أئمّة اللغة في تفسير « السؤر » بحسب اللغة اختلافا دائرا بين أقوال ، مرجعها إلى ما تكفّلها العبارة المنقولة عن كاشف اللثام من : « أنّه في اللغة : البقيّة من كلّ شي‌ء ، أو ما يبقيه المتناول من الطعام والشراب ، أو من الماء خاصّة » (١).

ومثله ما في الرياض بزيادة « مع القلّة » عقيب قوله : « من الماء خاصّة » مفرّعا عليه : « أنّه لا يقال لما يبقى في النهر أو البئر أو الحياض الكبار إذا شرب منها » (٢) ، وكأنّه غفلة عمّا ورد في بعض الروايات من أنّه « لا يشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه » (٣) ، أو مبنيّ على جعله من باب الاستعمال الأعمّ ، أو على جعل الاستثناء من باب الانقطاع.

وعلى أيّ حال فأوّل الوجوه : قول نقل التصريح به عن القاموس بقوله : « البقيّة ، والفضلة » وفي معناه ما في المجمع عن الأزهري مع دعوى الاتّفاق عليه قائلا : « اتّفق أهل اللغة أنّ سائر الشي‌ء باقية قليلا كان أو كثيرا.

وثانيها : ممّا لم نقف تحصيلا ولا نقلا على صريح من كلامهم ، نعم عن المغرب وغيره ـ على ما في المجمع ـ أنّه : « بقيّة الماء الّتي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض ، ثمّ استعير لبقيّة الطعام » (٤) ولكنّه لا يلائم الوجه المذكور إلّا بحمله على إرادة ما يعمّ المعنى الحقيقي والمجازي على ما هو مقتضى العبارة المذكورة ، أو على إرادة ما يعمّ المعنى اللغوي الثابت بالوضع الأوّلي والعرفي الثابت بالوضع الثانوي ، بناء على حمل الاستعارة في العبارة المذكورة على ما استتبع النقل العرفي.

وثالثها : ما نسب إلى المعالم أنّه نقله عن الجوهري بعبارة : « البقيّة بعد الشرب » (٥) غير أنّ في شرح الدروس (٦) ما يقضي بإنكار وجدانه في الصحاح ، فلعلّه لم يجده بهذه

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٨٣.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٨٧.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ، ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٥٠.

(٤) مجمع البحرين : مادّة (سأر).

(٥) فقه المعالم ١ : ٣٥٥ وفيه : « السؤر في اللغة ما يبقى بعد الشرب ، قاله الجوهري ».

(٦) مشارق الشموس : ٢٦٧.

٨٤٤

العبارة كما تنبّه عليه في الحدائق (١) ، وإلّا فهو منقول عنه بعبارة قوله : « يقال : إذا شرب فأسأر ، أي أبقى شيئا من الشراب في قعر الإناء » (٢) وعن المعتبر : « السؤر : لغة بقيّة المشروب » (٣) وفي الحدائق ـ عن المجمع ـ : أنّه نقل عن الأزهري « أنّ السؤر هو ما يبقى بعد الشرب » (٤) وهو كما ترى لا يوافق ما قدّمنا نقله عنه عن الأزهري ، وليس في النسخة الحاضرة عندنا سواه.

نعم فيها (٥) عن النهاية : « سائر مهموز ، ومعناه الباقي ، لأنّه اسم فاعل من السؤر ، وهو ما يبقى بعد الشراب ، وهذا ممّا يغلط فيه الناس فيضعونه موضع الجميع » (٦) فإنّ ذلك يمكن أن يرجع إلى القول المذكور المنسوب إلى المجمع نقله عن الأزهري ، بناء على كون الذيل بيانا للصدر ، ويحتمل رجوعه إلى أحد القولين الأوّلين بناء على كون الخصوصيّة المأخوذة في الذيل واردة من باب المثال.

وربّما يوجد في كلام بعض أهل اللغة ما يبائن جميع الأقوال المذكورة كالفيّومي في المصباح المنير ، قائلا : « إنّ السؤر من الفأرة وغيرها كالريق من الإنسان » (٧).

ولم يتعرّض لذكره كثير من الأصحاب ، إمّا لتبيّن ضعفه عندهم ، أو لعدم ارتباطه بمقام البحث.

وقد يوجّه ذلك : بأنّه إمّا معنى آخر وأنّه في الأصل لذلك ، أو أنّ تسمية بقيّة المشروب سؤرا لما يمازجه من الريق بسبب الشرب ، ولا يخفى بعده.

وكيف كان فمقتضى القول الأوّل عدم الفرق في البقيّة بين كونها من مأكول أو مشروب ، مطلق أو مضاف ، قليل أو كثير ، في آنية أو غيرها ، أو من غيرهما من جامد أو مائع ، كما أنّ مقتضى القول الثاني اختصاصها بالمشروب مع عدم الفرق فيه بين المطلق والمضاف ، والقليل والكثير في الإناء أو غيره.

وأمّا القول الثالث فمقتضاه ـ على ما في الصحاح (٨) والمعتبر ـ (٩) عدم الفرق فيه

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤١٧.

(٢) مختار الصحاح ؛ مادّة « س أ ر » ٣٤٨.

(٣) المعتبر : ٢٣. (٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤١٨.

(٥) مجمع البحرين ؛ مادّة « سأر ».

(٦) النهاية في غريب الحديث والأثر ؛ مادّة « سأر » ٢ : ٣٢٧.

(٧) المصباح المنير ؛ مادّة « سأر » : ٢٩٥.

(٨) الصحاح ؛ مادّة « سأر » ٢ : ٦٧٥.

(٩) المعتبر : ٢٣.

٨٤٥

بين كون المشروب من ماء أو مضاف ، فيخالفه نقل الكاشف (١) حينئذ من هذه الجهة ، وكأنّه مبنيّ على توهّم انصراف الشرب إلى ما يستلزم الماء ، كما أنّ اعتبار القلّة ـ على ما سمعته عن الرياض ـ (٢) لعلّه لأجل توهّم الانصراف ، وإلّا فقد عرفت عن الأزهري تصريحا بالتعميم بالقياس إلى القليل والكثير.

نعم ، ربّما يتبادر إلى الذهن بملاحظة الاستعمالات كون الباقي أقلّ من الذاهب وإن كان كثيرا في نفسه ، غير أنّه أيضا عند التحقيق تبادر بدوي لا عبرة به ، لعدم إباء الاستعمالات إطلاقه على الأكثر كما يظهر بأدنى تأمّل.

فمن هنا يعلم أنّ ما تقدّم من تفريع الرياض المتضمّن لنفي قول السؤر على ما يبقى في النهر أو البئر أو الحياض الكبار إذا شرب منها ، ليس على ما ينبغي.

نعم ، اشتراط القلّة في المعنى المبحوث عنه هنا الوارد في كلام الأصحاب الموجود في أخبار الباب كما حكي التصريح به عن جماعة ، ليس ببعيد تعويلا على ظهور الفتاوي والأخبار في القلّة ، غير أنّ تفسيرها حينئذ بما دون الكرّيّة ـ كما في جواهر بعض مشايخنا ـ (٣) لعلّه غير مستقيم ، وكأنّه توهّم عن كون بعض الأحكام الجارية على السؤر ما لا يجري إلّا إذا كان الماء قليلا بهذا المعنى ، كالنجاسة إذا كان ذو السؤر من نجس العين ، وإلّا فلقائل أن يقول : بأنّ كلام الأصحاب مع روايات الباب لا يتناول في غير حكم النجاسة إلّا ما كانت القلّة فاحشة ، فلا يشمل البحث لكثير من أفراد ما دون الكرّ.

وربّما وقع النزاع عندهم في اختصاص البحث بالماء أو عمومه لمطلق المائع ، فعن جملة التصريح بالأوّل ، وعن ابن إدريس (٤) التصريح بالثاني ، فلعلّ وجه الأوّل ورود الروايات المشتملة على السؤر وما يرادفه في خصوص الماء كما يظهر بأدنى تأمّل ، ووجه الثاني عدم الفرق في بعض أحكامه كالطهارة والنجاسة بين سائر المائعات ، بل ربّما يستفاد من بعض الروايات ما يعمّ المائع مطلقا بل الجامد أيضا ، كما في المرويّ عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن أكل سؤر الفأر » (٥) ، وصحيح زرارة عنه أيضا أنّ في كتاب عليّ عليه‌السلام « أنّ الهرّ سبع [و] لا بأس بسؤره ، وإنّي لأستحيي من

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٨٣.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٨٧.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٦٦١.

(٤) السرائر ١ : ٨٥.

(٥) الوسائل ١ : ٢٤٠ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ الفقيه ٤ : ٢ / ١.

٨٤٦

الله أن أدع طعاما لأنّ الهرّ أكل منه » (١).

وكما تستفاد منها عموم الحكم بالقياس إلى كلّ مأكول ومشروب ، كذلك يستفاد منها خصوصه بالقياس إلى كون المباشرة حاصلة بالفم ، وكأنّه من هنا نشأ مخالفة صاحب المدارك للشهيد وغيره فيما سيجي‌ء من الاعتراض عليه.

لكن المستفاد من خبر العيص عن القاسم (٢) عن سؤر الحائض قال : « توضّأ منه ، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ، وتغسل يدها قبل أن تدخلها الإناء ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو وعائشة يغتسلان في إناء واحد » (٣) عموم الحكم لمطلق المباشرة كما فهمه جماعة ، وهو الّذي حكى التصريح به عن السرائر (٤) والذكرى (٥) ، والمهذّب للقاضي (٦) ، والروض (٧) ، والمسالك (٨) ، وغيرها.

وعن المقنعة : « أنّ أسآر الكفّار هو ما فضل في الأواني ممّا شربوا منه ، أو توضّئوا به ، أو مسّوه بأيديهم وأجسادهم » (٩).

وفي معناه ما عن بعضهم : « من أنّ السؤر عبارة عمّا شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه من المياه وسائر المائعات ».

وبجميع ما ذكر ـ مضافا إلى ما يأتي ـ يعلم أنّه لا فرق في المباشر بين الآدمي وغيره من سائر أنواع الحيوان ، كما صرّح به غير واحد.

وإن شئت فلاحظ المنتهى حيث إنّه بعد العنوان أخذ بتقسيم السؤر باعتبار انقسام ذيه قائلا : « الحيوان على وجهين : آدميّ وغير آدميّ ، فالآدميّ إن كان مسلما أو بحكمه فسؤره طاهر ، عدا الناصب والغلاة ، فإنّ سؤرهم نجس.

وغير الآدميّ مأكول اللحم وغيره ، فالأوّل سؤره طاهر ، فإن كان لحمه مكروها كان سؤره كذلك ، كالفرس والحمار والبغل ، وغير المأكول إمّا أن يكون نجس العين

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٧ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٧ / ٦٥٥.

(٢) كذا في الأصل ، والصواب : « العيص بن القاسم » بدل « العيص عن القاسم ».

(٣) الوسائل ١ : ٢٣٤ ب ٧ من أبواب الأسآر ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٢٢ / ٦٣٣ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٢ ـ مع اختلاف في بعض العبارات.

(٤) السرائر ١ : ٨٥. (٥) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٦.

(٦) المهذّب ١ : ٢٥.

(٧) روض الجنان : ١٥٧.

(٨) مسالك الأفهام ١ : ٢٣.

(٩) المقنعة : ٦٥.

٨٤٧

كالكلب والخنزير أو لا ، والأوّل سؤره نجس ، والثاني سؤره طاهر » ـ ثمّ قال ـ : « هذا على القول المشهور لأصحابنا » (١) انتهى.

ولقد أجاد الشهيد رحمه‌الله (٢) وغيره (٣) ـ على ما نقل ـ حيث أخذوا بمجامع الفتاوى والجهات المستفادة من الأخبار وكلام العلماء الأخيار ، فقالوا في تعريفه الاصطلاحي : « أنّه ماء قليل باشره جسم حيوان » (٤).

لكن يبقى المناقشة فيه من حيث كون جنسه الماء ، وقد عرفت أنّ المستفاد من الأخبار وغيرها ما يعمّ غير الماء أيضا.

وأجود منه ما تقدّم نقله عن بعضهم ، وفي معناه ما نقله في المجمع من : « أنّه ما باشره جسم حيوان » (٥) بناء على أنّ المراد بالتعريف هنا ما هو كذلك بحسب الاصطلاح ، فما في المدارك (٦) من الاعتراض على ما سمعت عن الشهيد وغيره بأنّه غير جيّد ، بعد ما ذكر أنّ الأظهر في تعريفه في هذا الباب : « أنّه ماء قليل لاقاه فم حيوان » ، ليس في محلّه ، لما عرفت من أنّ المستفاد من بعض الروايات ما يعمّ مباشرة الفم وغيره ، هذا مع وضوح فساد ما ذكره في تعليله من الوجهين.

أحدهما : أنّه مخالف لما نصّ عليه أهل اللغة ، ودلّ عليه العرف العامّ بل الخاصّ أيضا ، كما يظهر لمن تتبّع الأخبار وكلام الأصحاب.

وجه الضعف : ما عرفت من أنّ كلّا من الأخبار وكلام الأصحاب شاهد بخلاف ما ذكره.

وثانيهما : أنّ الوجه الّذي جعل لأجله السؤر قسيما للمطلق مع كونه قسما منه بحسب الحقيقة وقوع الخلاف في نجاسة بعضه من طاهر العين وكراهة بعض آخر ، وليس في كلام القائلين بذلك دلالة على اعتبار مطلق المباشرة ، بل كلامهم ودليلهم كالصريح في أنّ مرادهم بالسؤر المعنى الّذي ذكرناه خاصّة.

وجه الضعف : صراحة كلامهم في خلاف ما ذكره ، مع أنّ منشأ جعله قسيما

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٨.

(٢) البيان : ٤٦.

(٣) منهم الشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٤٦.

(٤) كما في حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٩٤.

(٥) مجمع البحرين ؛ مادّة « سأر ».

(٦) مدارك الأحكام ١ : ١٢٨.

٨٤٨

للمطلق إن كان وقوع الخلاف في الطهارة والنجاسة فالأنسب له جعل البحث في مطلق المباشرة ، لأنّ ملاقاة الحيوان إذا قضت بنجاسة ملاقيه فلا يعقل اختصاصه بعضو منه دون عضو ، إن اريد بالنجاسة الصفة المقتضية لأحكامها دون نفس الأحكام المقرّرة لها ، لجواز كون ذلك تعبّدا من الشارع ، مختصّا ببعض الفروض ، حسبما استفيد من دليل التعبّد إن كان ، وستعرف خلافه.

وربّما يحكى التعريف المتقدّم عن الشهيد وجملة ممّن تأخّر عنه ـ كما في الحدائق ـ (١) على وجه تضمّن اعتبار طهارة الحيوان ، فيقال : « أنّه ماء قليل باشره جسم حيوان طاهر » وهو كما ترى لا يوافق شيئا ممّا تقدّم ، وعلى فرض ورود الاشتراط في كلام بعضهم ، يدفعه : بعض ما تقدّم ممّا يقضي بكون العنوان ملحوظا على الوجه الأعمّ كما في عبارة المنتهى (٢) ، مضافا إلى ما في أكثر كتبهم من التعرّض لسؤر الكلب والخنزير وغيرهما ممّا يحكم عليه بنجاسة العين ، كبعض فرق الإسلام من الخوارج والغلاة.

ثمّ إنّ المعنى المذكور على ما في كلام غير واحد من تقييده بالاصطلاح ، أو التنبيه على كونه مرادا من اللفظ في خصوص المقام ، اصطلاح من المصنّفين مأخوذ من الأخبار المتفرّقة ، وفتاوى الفرقة المتفقّهة من باب الأخذ بالقدر الجامع ، حسبما أشرنا إليه ، وقد يحتمل كونه معنى شرعيّا تعويلا على تعريف جمع له : « بأنّه « شرعا ماء قليل باشره جسم حيوان ».

وفيه : منع واضح ، لإمكان أن يراد به ما عند المتشرّعة ، أو ما عند حفظة الشريعة ، كيف ولم يثبت في كلام الشارع أصل الاستعمال على الوجه الأعمّ ولا أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، ولو فرض وجوده أيضا فهو ليس إلّا استعمالا غير صالح للاستناد إليه في إثبات الوضع الشرعي ، على ما هو مقرّر في محلّه.

ثمّ تمام البحث في أحكام هذا المعنى العامّ يقع في طيّ مسائل :

المسألة الاولى : لا خلاف عند أصحابنا في نجاسة سؤر ما حكم بنجاسته شرعا آدميّا كان كالكافر والخوارج وهم أهل النهروان ومن دان بمقالتهم ، والغلاة وهم

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤١٨ ليس فيه ما يقتضي طهارة الحيوان فلاحظ.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤٨.

٨٤٩

القائلون بإلهيّة عليّ عليه‌السلام أو أحد من الأئمّة ، والنواصب وهم المبغضون لأهل البيت عليهم‌السلام كما في المدارك (١) ، أو المعلنون لعداوتهم عليهم‌السلام كما في حاشية الشرائع للشيخ عليّ ، أو غير آدميّ كالكلب والخنزير ، بل إجماعاتهم المنقولة على ذلك مستفيضة ، ومصنّفاتهم من نفي الخلاف والإشكال مشحونة ، ولو وجد خلاف في سؤر بعض ما حكم بنجاسته في الجملة من أفراد موضوع تلك القاعدة فهو راجع إلى الصغرى ، وهي نجاسة ذي السؤر أو طهارته من آدميّ كاليهود والنصارى والمجسّمة والمجبّرة وولد الزنا وكلّ مخالف للحقّ ، أو غير آدميّ كالمسوخ من القرد والذئب والثعلب والأرنب ، فإنّ المنقول عن المفيد (٢) في أحد قوليه طهارة اليهود والنصارى ، وهو مذهب ابن الجنيد (٣) في مطلق أهل الكتاب ، والباقون على النجاسة ، وعن الشيخ في المبسوط (٤) نجاسة المجسّمة والمجبّرة ، ووافقه جماعة (٥) على نجاسة المجسّمة ، وعن المرتضى (٦) وابن إدريس (٧) القول بكفر ولد الزنا ، وعن جماعة كفر المخالفين ، بل هو المشهور بين المتقدّمين كما في الحدائق (٨) ، وعن الشيخ (٩) نجاسة المسوخ ، والكلام في جميع هذه الأقسام موكول إلى محلّه فيأتي إن شاء الله.

المسألة الثانية : المشهور المدّعى عليه الإجماع أنّ كلّما حكم عليه بالطهارة شرعا من الحيوانات فسؤره طاهر ، على عكس القاعدة المتقدّمة ، وعزى ذلك إلى عامّة من تأخّر ، بل عن الغنية (١٠) والخلاف (١١) الإجماع عليه ، وهو صريح السرائر ـ في عبارة محكيّة له ـ في باب الأطعمة والأشربة قائلا : « فأمّا ما حرم شرعا فجملته إنّ الحيوان ضربان : طاهر ونجس ، فالنجس الكلب والخنزير ، وما عداهما كلّه طاهر في حال حياته ، بدلالة إجماع أصحابنا ، المنعقد على أنّهم أجازوا شرب سؤرها في حال الوضوء منه ، ولم يجوّزوا في الكلب والخنزير » (١٢).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٩.

(٢) حكى عنه في المعتبر : ٢٤.

(٣) حكى عنه في فقه المعالم ٢ : ٥٢٥.

(٤) المبسوط ١ : ١٤.

(٥) كما في منتهى المطلب ٣ : ٢٢٤ ؛ والدروس الشرعيّة ١ : ١٢٤ ؛ والبيان : ٣٩.

(٦) الانتصار : ٢٧٣ حيث قال : « إنّ ولد الزنا لا يكون قطّ طاهرا ولا مؤمنا بإيثاره واختياره ، وإن أظهر الإيمان ». (٧) السرائر ١ : ٣٥٧.

(٨) الحدائق الناضرة ٥ : ١٧٥. (٩) الخلاف ٣ : ١٨٤ المسألة ٣٠٦.

(١٠) غنية النزوع : ٤٥. (١١) الخلاف ١ : ١٨٧ ـ ١٨٨ المسألة ١٤٤.

(١٢) السرائر ٣ : ١١٨.

٨٥٠

وعليه العلّامة في جملة من كتبه (١) ، وعزاه في الحدائق (٢) إلى جمهور المتأخّرين ، بل لا يوجد خلاف في المسألة إلّا ما عن نهاية العلّامة (٣) من استثناء سؤر آكل الجيف من الطير ، وما عن المرتضى (٤) وابن الجنيد (٥) من استثناء الجلّال ، وما عن الشيخ في التهذيبين من المنع من الوضوء والشرب من سؤر غير مأكول اللحم عدا السنّور والطير كما في التهذيب (٦) ، أو غير الفأرة والطيور من البازي والصقر والعقاب وغيرها كما في الاستبصار (٧) ، معلّلا له فيه بمشقّة الاحتراز عنها.

وعنه أيضا في المبسوط (٨) المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الغير الآدميّ والطيور إلّا ما لا يمكن التحرّز عنه ، كالهرّة والفأرة ، وربّما نقل ذلك عن المهذّب (٩) أيضا.

وعن ابن إدريس أنّه حكم بنجاسة سؤر ما أمكن التحرّز عنه ممّا لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الطيور ، قائلا بأنّه : « لا بأس بأسآر الفأر والحيّات وجميع حشرات الأرض » (١٠).

ولا يخفى ما في هذا القول من السقوط لضعفه ، ومخالفته الاصول المحكمة المجمع عليها ، والقواعد المتقنة السليمة عمّا يصلح لمعارضتها ، وخصوصا ما تقدّم من الإجماع الّذي ادّعاه في الأطعمة والأشربة الحاصر للنجاسة المانعة عن الاستعمال في سؤر الكلب والخنزير ، ولعلّه هنا وقع منه خطأ فالتفت إليه في الباب المذكور فعدل عنه مدّعيا على خلافه الإجماع ، كيف لا ونجاسة السؤر تتبع نجاسة ذيه ، ولا يظنّ أنّه قائل بنجاسة ما عدا الكلب والخنزير من أنواع الحيوانات والطيور ـ لكونه في غير ما وقع الخلاف في نجاسته ممّا تقدّم الإشارة إليه ـ على خلاف الطريقة المستمرّة بين المسلمين المعلومة

__________________

(١) كما في تذكرة الفقهاء ١ : ٣٩ ؛ ونهاية الإحكام ؛ ١ : ٢٣٨ ومختلف الشيعة ١ : ٢٢٩.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٢٩.

(٣) والظاهر أنّه سهو منه رحمه‌الله ، لأنّ الّذي استثنى سؤر آكل الجيف هو الشيخ رحمه‌الله في النهاية ١ / ٢٠٣ وأمّا العلّامة رحمه‌الله فهو من القائلين بكراهته سؤره كما في نهاية الإحكام ١ : ٢٣٩.

(٤) قال المحقّق في المعتبر ـ بعد نسبة القول بالكراهة إليه في جمل العلم والعمل ـ : « واستثناه من المباح في المصباح » انظر المعتبر : ٢٤.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٩.

(٦) التهذيب ١ : ٢٢٤.

(٧) الاستبصار ١ : ٢٥.

(٨) المبسوط ١ : ١٠.

(٩) المهذّب ١ : ٢٥.

(١٠) السرائر ١ : ٨٥.

٨٥١

من صاحب الشريعة ، ولو ادّعاه هو أو غيره لم يكن له عليه دلالة من كتاب ولا سنّة.

نعم ، في مرسلة وشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنّه كان يكره سؤر كلّ شي‌ء لا يؤكل لحمه » (١) ما يوهم ذلك ، غير أنّها ـ مع ما فيها من الضعف بالإرسال ، وعدم فهم الأصحاب منها إلّا الكراهة المصطلحة الّتي هي في الجملة مسلّمة ، وتوجّه القدح إلى متنها من حيث إنّ الكراهة المأخوذة فيها لفظ الراوي دون الإمام عليه‌السلام ـ من أخبار الآحاد الّتي لا عمل بها عنده ، مع معارضتها بأقوى منها سندا وأظهر دلالة وأصحّ متنا وهي صحيحة البقباق (٢) ، المعتضدة بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، مضافا إلى دعواه حسبما تقدّم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة ، والإبل والحمار والخيل ، والبغال والوحش والسباع ، فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه؟ ، فقال : « لا بأس [به] حتّى انتهيت إلى الكلب »؟ فقال : « رجس نجس ، لا تتوضّأ بفضله ، إلى آخره » (٣).

وفي معناها حسنة معاوية بن شريح قال : سأل عذافر أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن سؤر السنّور والشاة والبقرة ، والبعير والحمار والفرس ، والبغل والسباع ، يشرب منه أو يتوضّأ منه؟ فقال : « نعم اشرب منه وتوضّأ ». قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. « قلت : أليس هو سبع؟ قال : « لا والله أنّه نجس ، لا والله أنّه نجس » (٤).

وصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ـ في حديث ـ قال : سألته عن العظاية (٥) والحيّة ، والوزغ ، يقع في الماء فلا يموت ، أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : « لا بأس به » (٦).

مع أنّها لو صلحت مستندة لهذا الحكم المخالف للأصول فهي دالّة عليه على جهة العموم فما وجه تخصيصه بما خصّ به ، ولو فرضنا ، أنّه قال بنجاسة السؤر مع الاعتراف بطهارة ذيه فهو أشدّ ضعفا ، بل هو عند التحقيق ممّا لا يكاد يعقل ، سيّما مع ملاحظة

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٧.

(٢) وهو الفضل أبو العبّاس البقباق.

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦ و ٦٤٧.

(٥) العظاية : وهي دويبة معروفة ، وقيل : هو السام الأبرص (النهاية ـ لابن أثير ـ ٣ : ٢٦٠).

(٦) الوسائل ١ : ٢٣٨ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦.

٨٥٢

استصحاب الطهارة وأصلها المستفاد من عمومات الآيات والروايات مع فقد ما يوجب الخروج عنهما.

إلّا أن يراد بالنجاسة ما هو من أحكامها الّتي منها منع الشرب والوضوء لا نفس الصفة المقتضية لتلك الأحكام ، حتّى يقال : بأنّها عرضيّة لا بدّ لها من منشأ وليس إلّا نجاسة ذي السؤر وقد فرض خلافه ، فيردّه : الأصلان المذكوران السليمان عمّا يصلح للمعارضة ، والمرسلة المتقدّم إليها الإشارة قد تبيّن حالها.

واحتمال كون ذلك كاغتسال الجنب في البئر المحكوم عليه كونه سببا للنزح ولا سبب له إلّا النجاسة وإن فرض خلوّ بدنه عنها ، مردود من جهات شتّى ، من منع الحكم في المقيس عليه ، لابتناء أحكام البئر على الندب والاستحباب بناء على التحقيق.

ولو سلّم الحتم فهو ليس إلّا تعبّدا صرفا كما عليه جماعة ، فلا فرق فيه بين وقوع النجس أو الطاهر ، لكون الحكم حينئذ منوطا بمجرّد التعبّد لا لعروض صفة النجاسة لماء البئر.

ولو سلّم كون بدن الجنب مع فرض طهارته موجبا لنجاسة الماء فهي نجاسة حكميّة لا حقيقيّة ، ومع ذلك لا يلزم من ثبوتها ثمّة ثبوتها هنا إلّا قياسا وهو باطل.

وبجميع ما ذكر تبيّن ضعف ما عرفته عن الشيخ في كتبه (١) ، وعن المهذّب (٢) أيضا ، سواء أراد بالمنع ما هو كذلك تعبّدا ، أو ملزومه من النجاسة كما هو الأظهر ، بملاحظة ما في كلامه في الاستبصار (٣) من جعله الجواز فيما استثناه من باب العفو ، لأجل كون التحرّز عن ذلك ممّا يشقّ على الإنسان.

هذا مع ضعف مستنده الّذي هو موثّقة عمّار الساباطي (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن ماء يشرب منه الحمام؟ فقال : « كلّ ما اكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب » ، وعن ماء يشرب منه باز ، أو صقر ، أو عقاب؟ فقال : « كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه ، إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره شيئا فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (٥).

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٠.

(٢) المهذّب ١ : ٢٥.

(٣) الاستبصار ١ : ٢٥.

(٤) وهو عمّار بن موسى الساباطي.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٨ / ٦٦٠.

٨٥٣

وجه الدلالة ـ على ما بيّنه في التهذيب ـ : أنّ قوله : « كلّما يؤكل لحمه يتوضّأ بسؤره ويشرب » يدلّ على أنّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضّؤ به والشرب منه ، لأنّه إذا اشترط في استباحة سؤره أن يؤكل لحمه دلّ على أنّ ما عداه بخلافه ، ويجري هذا المجرى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « في سائمة الغنم زكاة » في أنّه يدلّ على أنّ المعلوفة ليس فيها زكاة (١).

قال في الاستبصار ـ بعد إيراد الرواية ـ : « وهذا خبر عامّ في جواز استعمال سؤر كلّ ما يؤكل لحمه من سائر الحيوان ، وأنّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز استعمال سؤره ـ إلى أن قال ـ : وما يتضمّن هذا الخبر من جواز سؤر طيور لا يؤكل لحمها مثل البازي والصقر إذا عرا منقارهما من الدم مخصوص من بين ما لا يؤكل لحمه في جواز استعمال سؤره ، وكذلك ما رواه إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : « لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه وتتوضّأ منه ».

الوجه فيه : أن نخصّه من بين ما لا يؤكل لحمه من حيث لا يمكن التحرّز من الفأرة ويشقّ ذلك على الإنسان ، فعفي لأجل ذلك عن سؤره » (٢) انتهى.

وجه الضعف ـ على ما بيّنه ـ : ابتناؤه على ثبوت مفهوم الوصف ، ومن المقرّر في محلّه المنع من ذلك ، ولو سلّم ثبوته في أصل المسألة فقد يمنع ثبوته هنا بالخصوص ، كما يرشد إليه فرض السؤال ثانيا عمّا شرب منه باز أو صقر أو عقاب ، فإنّه كاشف عن عدم انفهام الانتفاء عن المسكوت عنه وإلّا لم يحتج إلى السؤال.

ولو سلّم أنّه فهم الانتفاء في الجملة ـ أي على سبيل القضيّة الجزئيّة لا القضيّة الكلّيّة ـ فلا يجدي في ثبوت الدلالة على تمام المدّعى ، إذ الجزئيّة صادقة في ضمن بعض ما لا يؤكل لحمه من الكلب والخنزير وغيره من نجس العين.

وملخّص هذا الكلام : أنّ الاستدلال لا يتمّ إلّا بإثبات مقدّمتين.

إحداهما : ثبوت اعتبار المفهوم هنا ، واخراهما : ثبوت كونه معتبرا على سبيل الكلّيّة ، على معنى ثبوت الحكم المفهومي لجميع أفراد ما لا يؤكل لحمه.

ولا ريب أنّ سؤال الراوي عقيب استماع المنطوق مع جواب الإمام عليه‌السلام في مورد السؤال الّذي هو بعض أفراد المسكوت عنه على طبق المنطوق يكشفان عن عدم

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٢٤.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٦.

٨٥٤

اعتبار المفهوم هنا رأسا ، أو عن كونه معتبرا هنا على سبيل الجزئيّة الصادقة في بعض أفراد المسكوت عنه كالكلب والخنزير ، وأيّا ما كان فالاستدلال ساقط جزما.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فدلالة المفهوم لا تقاوم دلالة المنطوق ، وقد تقدّم من المناطيق ما يقضي بخلاف ذلك المفهوم ، كما أنّ السند الموثّق لا يقاوم السند الصحيح ، ولا سيّما إذا اعتضد الصحيح بما تقدّم ذكره من الشهرة العظيمة الّتي كادت تكون إجماعا.

وكيف كان فالعمل على الصحيح وفاقا للمعظم ، لكون مفاده هو الصحيح ، مع ما فيه من العمل على الاصول والقواعد.

المسألة الثالثة : لا فرق فيما حقّقناه من طهارة سؤر الحيوان الطاهر العين لطهارة ذيه بين كون الحيوان مأكول اللحم أو غيره ، ولا بين كونه آكل الجيف أو غيره ، سواء اريد من أكل الجيف ما من شأنه ذلك كما في صريح المدارك (١) ، أو ما برز منه الأكل في الخارج كما نقل التصريح به في الحدائق (٢) عن المنتهى (٣).

لنا على ذلك : مضافا إلى الاصول والقواعد المتقدّم إليهما الإشارة ، الموثّقة المتقدّمة في عبارة الاستبصار السائلة عن ماء يشرب منه باز أو صقر أو عقاب ، المصرّحة : « بأنّ كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه » إلى آخره ، مضافة إلى الصحيحة والحسنة المتقدّمتين (٤) المبيحتين لسؤر السباع ، الّتي لا تكاد تنفكّ عن أكل الجيف في الغالب ، وإطلاق هذه الأحاديث كما ترى يشمل كلتا صورتي بروز المبدأ في الخارج وعدمه ، ومن هنا يمكن أن يؤخذ الأخبار الواردة في طهارة سؤر الهرّة ـ بل في فضله الّتي يأتي إليها الإشارة ـ دليلا على هذا المطلب ، بل المستفاد منها دلالة اخرى عليه من حيث تضمّنها إعطاء قاعدة كلّيّة في السباع كما سيظهر وجهه.

فما عرفته عن النهاية (٥) من استثناء سؤر آكل الجيف إمّا لمنعه عنه كما في بعض العبائر الناقلة ، أو لحكمه عليه بالنجاسة كما في الحدائق (٦) ، ومثله ما عن كشف اللثام

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٣٠.

(٢) وفي الأصل : (ئق) ولكن لم نجده في الحدائق ، ولكنّه يوجد الاحتمالين في جواهر الكلام ١ : ٦٧٢.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

(٤) أي صحيحة البقباق وحسنة معاوية بن شريح المتقدّمتان في المسألة الثانية من مسائل هذا الباب آنفا.

(٥) النهاية ١ : ٢٠٣.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٠.

٨٥٥

من « أنّ كلام القاضي (١) يعطي نجاسة السؤرين » (٢) ـ يعني : هذا السؤر مع سؤر الجلّال ـ ممّا لا يصغى إليه ، لمخالفته الاصول المعتبرة والأخبار المصرّحة من جهات عديدة ، كيف ولا مستند لشي‌ء من المنع ولا الحكم بالنجاسة إلّا ما نقل من الاستدلال عليه بالمفهوم المتقدّم في موثّقة عمّار المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « كلّ ما أكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب منه » (٣) وقد تبيّن ما فيه من وجوه المنع.

وقد يجاب عنه : بعدم شموله لجميع أفراد المقام ، لأنّ آكل الجيف قد يكون مأكول اللحم فلا يجري فيه المفهوم ، ضرورة امتناع وقوع شي‌ء واحد موردا للمنطوق والمفهوم معا ، ولعلّه مبنيّ على حمل آكل الجيف على ثاني المعنيين المتقدّم إليهما الإشارة ، وإلّا فعلى أوّلهما كان في غير محلّه ، إذ لم يعهد إلى الآن من أفراد ما يؤكل لحمه ما من شأنه أكل الجيف كما لا يخفى.

وأمّا ما يجاب عنه أيضا : من أنّ الحكم معلّق على عدم مأكوليّة اللحم ولا مدخل لأكل الجيف فيه ، فممّا لا يرجع إلى محصّل ، إذ لو اريد به منع جريان الحكم فيما يؤكل لحمه إذا أكل الجيف بالعرض فمرجعه إلى الجواب السابق ، ولو اريد به منع جريانه في غير مأكول اللحم إذا أكل الجيف فغير مفيد ، لأنّ الحيثيّتين مجتمعتان ، بل الحيثيّة الاولى لا تكاد تنفكّ عن الثانية ، فالمنع ثابت على أيّ تقدير.

والعجب عن الحدائق (٤) وتبعه غيره حيث جمع بين الجوابين ، إلّا أن يرجع الثاني إلى منع انطباق الدليل على موضوع البحث وإن كان قد يجامع مورده.

المسألة الرابعة : بالنظر في بعض ما تقدّم يعلم الحكم في سؤر الجلّال أيضا ، وهو على ما في كلام غير واحد المتغذّي بعذرة الإنسان محضا إلى أن ينبت عليه لحمه ويشتدّ عظمه ، وزاد في المدارك قوله : « بحيث يسمّى في العرف جلّالا قبل أن يستبرأ بما يزيل الجلل » (٥) والظاهر أنّ الأخير قيد يرجع إلى الحكم لا أنّه من قيود الموضوع ، وفيه التصريح بدعوى الشهرة على طهارة هذا السؤر (٦) ، ولا فرق في ذلك بين كون

__________________

(١) المهذّب ١ : ٢٥.

(٢) كشف اللثام ١ : ٢٨٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢٢٤ / ٦٤٢.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣١.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١٣٠.

(٦) حيث قال : « والحكم بطهارة سؤر هذين النوعين ـ أي الجلّال وآكل الجيف ـ بالقيد المذكور وكراهة مباشرته هو المشهور بين الأصحاب » ـ لاحظ مدارك الأحكام ١ : ١٣٠.

٨٥٦

الحيوان مأكول اللحم فصار جلّالا أو غير مأكول اللحم من الطيور أو غيرها ، والقول بالمنع عن هذا السؤر مع طهارة ذيه كما عرفته عن المرتضى (١) كالقول بنجاسته كما عرفت نقله عن القاضي (٢) ـ فيما حكي عن كاشف اللثام ـ (٣) كالمحكيّ عن الإصباح (٤) من نجاسة سؤر جلّال الطيور ، ممّا لا يعرف له وجه ، كما اعترف به غير واحد وحكي أيضا عن جمع.

وربّما نقل الاستدلال عليه : بأنّ رطوبة أفواهها تنشأ من غذاء نجس فيجب الحكم بالنجاسة.

وقد يحتمل الاستدلال عليه أيضا بما دلّ من الأخبار على نجاسة عرق الجلّالة ، كخبر هشام بن سالم عن أبي عبد الله قال : « لا تأكلوا لحوم الجلّالات ، فإن أصابك من عرقها فاغسل » (٥) بناء على ما في حاشية الوسائل من مصنّفه (٦) ـ على ما حكي ـ « من أنّهم أجمعوا على تساوي حكم العرق والسؤر هنا ، بل في جميع الأفراد ، والفرق إحداث قول ثالث ».

وبملاحظة ما ذكر في الخبر من المنع عن أكل لحوم الجلّالات أمكن الاستدلال عليه أيضا بأخبار ما لا يؤكل لحمه ـ ولو من جهة المفهوم ـ كما علم من طريقة الشيخ في غير مأكول اللحم (٧) ، بناء على أنّ المراد في مورد المفهوم المذكور ما يعمّ المنع العرضي.

وفي جميع هذه الوجوه ما لا يخفى من الضعف والاعتساف المخرج عن الإنصاف ، فإنّ الاستحالة المغيّرة للعنوان رافعة لحكم النجاسة كما في غير المقام ، مع ما فيه من

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق رحمه‌الله في المعتبر : ٢٤.

(٢) المهذّب ١ : ٢٥.

(٣) كشف اللثام ١ : ٢٨٥.

(٤) إصباح الشيعة : ٥.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٣ ب ٦ من أبواب الأسآر ح ١ ـ الكافي ٦ : ٢٥٠ / ١.

(٦) هكذا في هامش الوسائل ١ : ٢٣٣ عن مصنّفه : « استدلّ علماؤنا على كراهة سؤر الجلّال بحديث هشام وأحاديث ما لا يؤكل لحمه ، ودلالة الثاني ظاهرة واضحة ودلالة الأوّل مبنيّة على أنّهم أجمعوا على تساوي حكم العرق والسؤر هنا ، بل في جميع الأفراد ، والفرق إحداث قول ثالث ، وأيضا فإنّ بدن الحيوان لا يخلو أبدا من العرق إمّا رطبا وإمّا جافّا ، فيتّصل السؤر به ، فحكمه حكمه ، وعلى كلّ حال فضعف الدلالة منجبر بأحاديث ما لا يؤكل لحمه » انتهى.

(٧) التهذيب ١ : ٢٢٤ ذيل الحديث ٦٤٢ ، حيث قال : « قوله : « كلّ ما اكل لحمه يتوضّأ بسؤره ويشرب » يدلّ على أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضّؤ به والشرب منه الخ ».

٨٥٧

النقض ـ على ما في كلام غير واحد ـ (١) بما لو تغذّى بغير العذرة من النجاسات العينيّة من دم ونحوه ، وبما لو تغذّى بالمتنجّس من العذرة ، وبما لو تغذّى بها وبغيرها من النجاسات أو غيرها على جهة الانضمام ، وبآكل الجيف محضا ، وببصاق شارب الخمر إذا لم يتغيّر به.

وإحداث القول الثالث عن مستند شرعي ـ ولو كان من الاصول المعتبر ـ ليس بباطل ما لم يثبت الإجماع على نفيه وبطلانه ، وهو غير ثابت بل الثابت خلافه ، كيف وقد عرفت نقل الشهرة هنا على الطهارة.

والمفهوم ـ مع ما فيه ممّا تقدّم ـ ظاهر في المنع الذاتي ، فلا يصرف إلى المنع العرضي إلّا بدليل وليس ، وبالجملة الاصول الموجودة في المقام ممّا لا سبيل إلى رفع اليد عنها ، وهذا هو مستند الحكم هنا.

وإن كان قد يستدلّ عليه أيضا بعموم الروايات الحاكمة بطهارة سؤر الطيور والسنّور والدوابّ والسباع ، الّتي منها : موثّقة عمّار « كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (٢) المشتملة على العموم اللغوي الّذي قيل فيه إنّه يتناول الأفراد النادرة أيضا ، فلا يقدح لو قيل بكون الجلّال من الأفراد النادرة.

ومنها : صحيحة البقباق (٣) وحسنة معاوية بن شريح (٤) المتقدّمتان.

وظنّي أنّ هذا في غير محلّه نظرا إلى أنّ النجاسة المبحوث عنها في تلك المسألة ما يكون عرضيّا ناشئا عن أمر عرضيّ للحيوان المأكول لحمه وغيره ، ولعلّ الروايات المذكورة أو أكثرها مسوقة لبيان الطهارة الذاتيّة المنافية للنجاسة الذاتيّة ، فلا تنافي النجاسة العرضيّة الناشئة عن الجلل ، والعموم اللغوي في الموثّقة لا يجدي إلّا في تعميم الحكم الأوّل بالقياس إلى جميع أنواع الطيور ، فيبقى الحكم الثاني مسكوتا عنه ، ولا يمكن إثباته بتوهّم [كونه] بالقياس إلى الأحوال ، بعد ملاحظة عدم كونه مسوقا لبيان ما

__________________

(١) كما في المعتبر : ٢٤.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٥.

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ و ٦.

٨٥٨

عدا الطهارة الذاتيّة.

إلّا أن يستكشف الانسياق لبيان الطهارة على الوجه الأعمّ عن الاستثناء الوارد في الموثّقة لصورة وجود الدم في المنقار ، نظرا إلى أنّه إثبات للنجاسة الفعليّة الغير المنافية للطهارة الذاتيّة ، فيكون المراد من المستثنى منه إثبات الطهارة الفعليّة الّتي هي أمر زائد على الطهارة الذاتيّة ، فحينئذ يبقى المناقشة في الاستدلال بعمومات اخر ممّا ورد في السنّور والدوابّ والسباع كالصحيحة والحسنة المتقدّمتين ، وغيرهما ممّا سيأتي ذكرها في بحث الهرّة ، فإنّ الظاهر المنساق منها كونها لبيان الطهارة الذاتيّة ، وستسمع زيادة بيان في ذلك ، فلا ينبغي أخذها مستندة لنفي النجاسة العرضيّة.

وبالجملة فرق واضح بين النجاسة الّتي هي من مقتضيات ذات الحيوان وطبعه والنجاسة الطارئة له لعارض ، والكلام في المسائل السابقة نفيا وإثباتا كان راجعا إلى النجاسة المستندة إلى الذات ، وفي هذه المسألة راجع إلى النجاسة المستندة إلى ما هو خارج عن الذات ، فما انتهض دليلا على نفي النجاسة في المقام الأوّل على جهة الاختصاص لا ينبغي أخذه دليلا على نفيها في المقام الثاني ، وإن كان ما انتهض دليلا على نفيها في المقام الثاني صالحا لأن يؤخذ دليلا عليه في المقام الأوّل ، والظاهر أنّ الأخبار المشتملة على استثناء صورة وجود النجاسة من قبيل القسم الثاني ، بخلاف الأخبار المتضمّنة لنفي البأس عن سؤر الهرّة والدوابّ والسباع ، فإنّها لا تنطبق إلّا على المقام الأوّل فتكون من قبيل القسم الأوّل.

المسألة الخامسة : والظاهر أنّه لا خلاف عندهم في كراهة سؤر الجلّال وآكل الجيف ، بل نسب القول بالكراهة في كلام غير واحد (١) إلى جمهور أصحابنا في كلّ حيوان غير مأكول اللحم عدا السنّور ، ولعلّه لا ضير فيه لرواية الوشّاء المتقدّمة (٢) تسامحا في أدلّة السنن ، ويمكن الاستناد في ذلك أيضا إلى مستند الكراهة في الأنعام الثلاثة من الخيل والبغال والحمير من جهة الأولويّة كما لا يخفى ؛ وقد شاع في كلامهم التعليل لذلك أيضا بالخروج عن شبهة المنع والتحريم ، وليس على ما ينبغي عند التأمّل ،

__________________

(١) كما في الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٧.

٨٥٩

إذ الخروج عن الشبهة يقتضي المصير إلى ما يلازم الترك وليس إلّا الاحتياط ، والكراهة ليست منه وإلّا كانت تحريما.

نعم ، على الاكتفاء في قاعدة التسامح بمجرّد فتوى الفقيه ـ خصوصا إذا صدرت عن الجمهور ـ اتّضح حكم المسألة من حيث الكراهة غاية الوضوح كما لا يخفى.

وأمّا السنّور فمقتضى فتوى غير واحد من الأصحاب مع ملاحظة ما ورد فيها من الأخبار الكثيرة النافية للبأس عن سؤره ، الحاكمة عليه بكونه من أهل البيت ، الآمرة باستعمال سؤره شربا ووضوءا وغيره مع أنواع التأكيدات انتفاء الكراهة عن سؤره ، بل قد يستظهر من الأخبار فضل ذلك السؤر ، ففي الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الهرّة أنّها من أهل البيت ويتوضّأ من سؤرها » (١) وفي آخر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال في كتاب عليّ عليه‌السلام « أنّ الهرّ سبع ، ولا بأس بسؤره ، وإنّي لأستحيي من الله أن أدع طعاما لأنّ الهرّ أكل منه » (٢).

وفي ثالث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الكلب يشرب من الماء؟ قال : « اغسل الإناء ». وعن السنّور؟ قال : « لا بأس أن تتوضّأ من فضلها ، إنّما هي من السبع » (٣).

وفي رواية أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان عليّ عليه‌السلام يقول : لا تدع فضل السنّور أن تتوضّأ [منه] ، إنّما هي سبع » (٤) ويستفاد منها مع سابقتيها ما أشرنا إليها من القاعدة الكلّيّة في السباع ، وفي الخبر قال : الصادق عليه‌السلام « إنّي لا أمتنع من طعام طعم منه لسنّور ، ولا من شراب شرب منه » (٥) وفي رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، « إنّ عليا عليه‌السلام قال : إنّما هي من أهل البيت » (٦).

المسألة السادسة : في كلام غير واحد كالمحقّق والعلّامة والشهيد تقييد كراهة سؤر الجلّال آكل الجيف المتضمّنة لطهارته بصورة خلوّ موضع الملاقاة عن عين النجاسة.

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ٢٢٧ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ١ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ و ٢٢٧ / ٦٥٢ و ٦٥٥.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٧ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٣ ـ وفيه : « يشرب من الإناء » بدل « يشرب من الماء »

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٢٧ / ٦٥٣.

(٥) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ الفقيه ١ : ٨ / ١١.

(٦) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٢٧ / ٦٥٤.

٨٦٠