ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

هذا الماء له حكم واحد ، ولا اختلاف لأجزائه في الحكم ، ولا ترجيح ليغلّب أحد الاستصحابين على الآخر ، فيحكم بتساقطهما ، ويبنى الحكم على أصالة الطهارة في جميع الأشياء سيّما الماء ، وأصالة حلّ التناول ، وحصول الامتثال باستعماله في الأوامر الواردة بالتطهير بالماء » (١) انتهى محصّلا.

ثمّ إنّ الكلام في سائر شرائط المطهّر هنا من الدفعة والممازجة وغيرها نفيا وإثباتا ، نظيره فيما سبق من مباحث تطهير المتنجّس من المطلق حرفا بحرف ، فكلّما اعتبرناه من الشروط ثمّة لا بدّ من اعتباره هنا بعين ما قدّمنا ذكره ثمّة ، فراجع وتأمّل.

المبحث الخامس : إذا اختلط المضاف بالمطلق فلا إشكال في أنّ الأحكام تتبع في ترتّبها إطلاق الاسم عرفا ، بل لا خلاف فيه إذا اختلفا في الأوصاف ، وأمّا إذا اتّفقا ولو بزوال الوصف عن أحدهما كماء الورد المنقطع الرائحة فاختلفت كلمة الأصحاب في جواز التطهّر به وعدمه ، ومجموع القول فيه ما تكفّله كلام العلّامة في المختلف قائلا :

« قال الشيخ رحمه‌الله : إذا اختلط المطلق بالمضاف كماء الورد المنقطع الرائحة حكم للأكثر ، فإن تساويا ينبغي القول بجواز استعماله لأنّ الأصل الإباحة ، وإن قلنا يستعمل [ذلك] ويتيمّم كان أحوط.

قال ابن البرّاج : والأقوى عندي أنّه لا يجوز استعماله في رفع الحدث ، ولا إزالة النجاسة ، ويجوز في غير ذلك.

ثمّ نقل مباحثة جرت بينه وبين الشيخ رحمه‌الله ، وخلاصتها تمسّك الشيخ رحمه‌الله بالأصل الدالّ على الإباحة وتمسّكه هو بالاحتياط.

والحقّ عندي : خلاف القولين معا ، وأنّ جواز التطهير به تابع لإطلاق الاسم ، فإن كانت الممازجة أخرجته عن الإطلاق لم يجز الطهارة به وإلّا جاز ، ولا اعتبر في ذلك المساواة والتفاضل ، فلو كان ماء الورد أكثر وبقى إطلاق [اسم] الماء أجزأت الطهارة به ، لأنّه امتثل المأمور به وهو الطهارة بالماء المطلق ، وطريق معرفة ذلك أن يقدّر ماء الورد باقيا على أوصافه ثمّ تعتبر ممازجته حينئذ فيحمل عليه منقطع الرائحة » (٢) انتهى.

وعنه في النهاية أنّه علّل الحكم بالتقدير : « بأنّ الإخراج عن الاسم سالب للطهوريّة

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٨.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٩.

٨٠١

وهذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف ، فيعتبر بغيره (١) كما يفعل في حكومات الجرائح » (٢) وإليه يرجع ما عن المحقّق الثاني في بعض فوائده من أنّه بعد ما اختار التقدير وجّهه : « بأنّ الحكم لمّا كان دائرا مع بقاء اسم الماء مطلقا ، وهو إنّما يعلم بالأوصاف ، وجب تقدير بقائها قطعا كما يقدّر الحرّ عبدا في الحكومة » (٣).

ولا يخفى أنّ التأمّل في هذه الكلمات وما ذكر من التعليلات يعطي أنّهم متسالمون في أنّ العبرة في ترتيب الأحكام على المتخالطين إنّما هي بإطلاق الاسم عرفا ، فما يطلق عليه اسم الماء عرفا يرتّب عليه أحكام الماء الّتي منها الطهوريّة ، وما يطلق عليه اسم المضاف خصوصا أو عموما يرتّب عليه أحكام المضاف الّتي منها عدم الطهوريّة ، وأنّ ما اشتبه الحال فيه يرجع لاستعلام حكمه إلى الاصول ، وظاهر كلام الشيخ أنّ الأكثريّة في أحد المتخالطين ميزان لبقاء الاسم مطلقا كان أو مضافا ، ومعنى قوله : « حكم للأكثر » حكم على ما حصل بالاختلاط بالاسم الّذي هو للأكثر ، أي لأكثرهما.

وأمّا مع التساوي فالميزان المميّز لأحد العنوانين مفقود ، ومعه يدخل الموضوع في عنوان المشتبه الّذي يرجع فيه إلى الاصول ، وهذا المقدّر على ما يستفاد من الحكاية متّفق عليه بينه وبين ابن البرّاج ، واختلافهما راجع إلى تعيين الأصل الّذي يرجع إليه في مشتبه الحال ، فرجّح الشيخ كونه أصل الإباحة القاضية بجواز الاستعمال ، ثمّ جعل الجمع بين الاستعمال والتيمّم أحوط ، وخالفه ابن البرّاج فرجّح الأصل كونه الاحتياط القاضي بالاجتناب وترك الاستعمال.

ومخالفة العلّامة لهما ترجع إلى منع كون المفروض من صور الاشتباه الّذي يرجع فيه إلى الاصول ، بناء على أنّ الاشتباه المسوّغ لذلك ما لم يكن إلى دفعه طريق والمقام ليس منه ، لأنّ تقدير المخالفة في الأوصاف بين المتخالطين ثمّ حمل المفروض على ما يقتضيه اعتبار التقدير ، من كونه من موارد إطلاق اسم المطلق أو من موارد إطلاق اسم المضاف طرق إلى رفع الاشتباه ، واستعلام الحال في الواقع من إطلاق أحد الاسمين عرفا ، فإنّ الاشتباه مانع للعرف عن الإطلاق وموجب للتوقّف ما دام هو موجودا ،

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي نسخة الموجودة بأيدينا : « تغيّره » بدل « بغيره ».

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٧.

(٣) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٤٣١.

٨٠٢

وتقدير المخالفة بالمعنى المذكور رافع للمانع ، فخلافه أعلى الله مقاماته إنّما هو في صغرى العمل بالاصول لا في كبراه.

وممّا بيّنّاه ظهر أنّ ما ذكره شارح الدروس في ردّ كلام العلّامة من « أنّ ما اختاره العلّامة من التقدير أمر لا مستند له أصلا لا شرعا ولا عقلا ، وهل هو إلّا مثل ما يقال ـ فيما إذا جاور مضاف مطلقا ولم يخالطه ـ : أنّه يقدّر بأنّه لو خالطه هل يخرجه عن الإطلاق أم لا؟ كيف وبناء الأحكام على الأسماء ، فإذا أمر بالماء وفرض أنّه يصدق على شي‌ء بالفعل أنّه ماء فلا شكّ أنّه يجوز الطهارة به إلى آخره » (١) أجنبيّ عن هذا المقام بالمرّة ، فإنّ العلّامة أو غيره لا ينكر كون بناء الأحكام على الأسماء ، بل الداعي إلى اعتباره التقدير إنّما هو هذه المقدّمة ، لأنّه يرى استعلام الاسم متوقّفا على التقدير المذكور ، وأنّ بدونه لم يتبيّن الاسم ليرتّب عليه الحكم.

وتنظير مورد كلامه بما ذكره من المثال ليس على ما ينبغي ، بل هو بالقياس إلى العلّامة وأحزابه سوء أدب جزما ، كيف ولا اشتباه فيما ذكره ومعه لا داعي إلى اعتبار التقدير وإلّا يؤدّي إلى السفه ، بخلاف المقام الّذي هو مورد كلام العلّامة ، فإنّه مقام الاشتباه والصدق العرفي لأحد الاسمين بدون الطريق المذكور وما يجري مجراه مجهول ، لا علينا فقط بل على العرف أيضا ، فإنّ الاشتباه حاصل لأهل العرف ، فإنّهم يتوقّفون في إطلاق أحد الاسمين حتّى يرتفع الاشتباه.

فما ذكر من أنّه إذا أمر بالماء وفرض أنّه يصدق بالفعل على شي‌ء أنّه ماء فلا شكّ أنّه يجوز الطهارة به حقّ ، لكن المقام ليس منه ، إذ لا صدق للاسم بالفعل ما دام الاشتباه باقيا ، هذا إذا كان العبرة بصدقه عند العالمين بالحال والمطّلعين على الاختلاط المفروض في محلّ المقال ، وأمّا إذا كان النظر إلى صدقه عند الجاهلين الغير المطّلعين على حقيقة الحال فالصدق عندهم ما دام الجهل وإن كان مسلّما لكنّه لا عبرة به أصلا ، وإلّا فهذا الصدق حاصل عندهم في المضاف الخالص المسلوب عنه الصفات كماء الورد المنقطع الرائحة ، فإنّه بحيث لو رآه كلّ من لا يعلم بأصله يحكم عليه بأنّه ماء ، ويرتّب عليه أحكام الماء ، فيجب متابعته والأخذ بقضيّة الصدق عنده ، وأنّه باطل

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٦١.

٨٠٣

بديهة ، وليس الاكتفاء بالصدق عند الجاهلين بالحال مع تحقّق علمنا بالحال إلّا كالاكتفاء بصدق اسم الماء على ما نعلم كونه خمرا عند من يجهله ، فيجوز شربه واستعماله في كلّ مشروط بالمطلق الطاهر وهذا كما ترى.

ونظير المقام ما لو كان هناك ماء نعلم بأنّ له حالة سابقة وهي النجاسة ووجده من لا يعلم له بهذه الحالة ، فإنّه حينئذ بمقتضى الأصل المقرّر للجاهل الابتدائي يبني على الطهارة ويرتّب عليه أحكامها ، وليس لنا ذلك اتّباعا له بل تكليفنا البناء على النجاسة عملا بالاستصحاب.

وبالجملة : ما ذكره رحمه‌الله من الاعتراض في غاية الضعف والسقوط ، ولنرجع إلى تحقيق المسألة.

فنقول : إنّ ملاحظة ما نقل من كلماتهم تعطي كون الكلام في حالة الضرورة والاضطرار إلى استعمال هذا الشي‌ء الحاصل بالاختلاط ، وإلّا لم يكن للحكم على كون الجمع بين الاستعمال والتيمّم أحوط معنى كما لا يخفى.

ومن هنا يتبيّن أنّه ليس شي‌ء من الأصلين المتمسّك بهما في كلامي الشيخ وابن البرّاج في محلّه ، أمّا ما تمسّك به الشيخ فليس المقام من مواضع اشتباه التكليف المحتمل للحرمة حتّى يرجع فيه إلى أصل الإباحة ، بل الاشتباه إنّما هو باعتبار الوضع وهو صحّة هذا الاستعمال وترتّب الآثار الشرعيّة عليه من زوال نجاسة أو ارتفاع حدث ، وأصل الإباحة لا ينفع في ذلك شيئا ، بل المقام في موارد الاستصحاب القاضي هنا ببقاء كلّ من النجاسة والحدث ، والحرمة التشريعيّة الّتي تتأتّى في استعمال المضاف مع العلم بإضافته في التطهيرات لا تتأتّى هنا أيضا ، لأنّه لا يستعمله على أنّه مضاف وإنّما يستعمله لرجاء كونه مطلقا.

وأمّا ما تمسّك به ابن البرّاج فلأنّ الاحتياط المذكور يعارضه الاحتياط المقتضي للاستعمال ، وذلك لأنّ المقام لكونه مقام ضرورة بالنسبة إلى استعمال ذلك فالأمر دائر بين التكليف بالمائيّة والتكليف بالترابيّة ، لأنّ الأوّل مشروط بوجدان الماء والثاني مشروط بفقدانه ، ولا ريب أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط ، فكما أنّ الاقتصار على استعمال هذا الشي‌ء خلاف الاحتياط لاحتمال كونه في الواقع مضافا ،

٨٠٤

فكذلك العدول إلى التيمّم أيضا خلاف الاحتياط ، لجواز كون ذلك مطلقا في الواقع ، ومقتضى العمل على الاحتياطين الجمع بين الأمرين حسبما ذكره الشيخ أخيرا ، لا الاجتناب عن استعمال ذلك رأسا.

ثمّ يبقى الكلام بعد ما أمكن الاحتياط بالجمع فيما ذكره العلّامة من اعتبار التقدير استعلاما للحال ورفعا للاشتباه الّذي هو مناط الاحتياط بناء على إمكانه ، وجواز ذلك كما ترى ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف ، بل الكلام ـ لو كان ـ فإنّما هو في وجوبه ، ولمّا كان المقام ممّا أمكن فيه الامتثال العلمي وكان دائرا بين الامتثال التفصيلي ـ وهو ما اوتي بشي‌ء على أنّه بعينه المأمور به ـ والامتثال الإجمالي ـ وهو ما اوتي بأشياء على أنّ المأمور به فيها مردّد بينها ، بأن يكون الإتيان بكلّ واحد على أنّه أحد الامور المردّد فيها المأمور به ـ فالكلام يرجع إلى أنّ المعتبر في مورد إمكان الامتثال العلمي هل هو الامتثال التفصيلى ، ولا يجوز العدول إلى الامتثال الإجمالي إلّا مع تعذّر الامتثال التفصيلي أو لا؟ بل يجوز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي أيضا ، على معنى ثبوت التخيير بين الامتثالين من أوّل الأمر.

والمسألة اصوليّة وفيها وجهان بل قولان وتحقيقها موكول إلى محلّه ، ومجمل القول فيها ـ حسبما يساعد عليه النظر القاصر ـ أنّ الامتثال التفصيلي متعيّن ما دام ممكنا ، عملا بأصل الشغل السليم هنا عن المعارض ، بناء على ما هو الراجح من كون الامتثال اللازم في الأوامر من قبيل الأغراض لا من قيود المأمور به حتّى يدفع احتمال مدخليّة التفصيل وكونه معتبرا مع المأمور به بإطلاق الأمر.

وعليه كان الأقوى في المقام ما ذهب إليه العلّامة ومن وافقه كالشهيد رحمه‌الله في الدروس (١) ، والمحقّق الثاني في بعض فوائده (٢) من اعتبار التقدير ووجوبه ، إذ به يحصل الامتثال العلمي التفصيلي ، وما يحصل من الامتثال بالاحتياط المقتضي للجمع وإن كان علميّا لكنّه إجماليّ ينفي جواز الاكتفاء به بأصل الشغل. فما في كلام جماعة من أنّ هذا القول ممّا لا دليل عليه من عقل ولا شرع كلام خال عن التحصيل.

ثمّ عن العلّامة أنّه اعتبر تقدير الوصف في كثير من كتبه ولم يتعرّض لبيان الوصف

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٢) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٤٣١.

٨٠٥

المقدّر ، من حيث إنّه يختلف بالشدّة والضعف والتوسّط بينهما ، فهل المعتبر تقدير الأشدّ أو الأضعف أو الوسط؟ لكن عن المحقّق الثاني (١) أنّه حكى عنه (٢) أنّه قال في بعض كتبه : « يجب التقدير على وجه تكون المخالفة وسطا ، ولا يقدّر الأوصاف الّتي كانت قبل ذلك » واستوجهه.

وعن الشهيد في الذكرى الموافقة له في ذلك قائلا : « فحينئذ يعتبر الوسط في المخالفة ، فلا يعتبر في الطعم حدّة الخلّ ، ولا في الرائحة ذكاء المسك ، وينبغي اعتبار صفات الماء من العذوبة والرقّة والصفاء وأضدادها » (٣) انتهى.

وعن المحقّق المذكور تعليل ما استوجهه : « بأنّه بعد زوال تلك الأوصاف صارت هي وغيرها على حدّ سواء ، فيجب رعاية الوسط ، لأنّه الأغلب ، أو للتبادر عند الإطلاق.

قال : « وإنّما قلنا إنّ الزائل هنا لا ينظر إليه بعد الزوال ، لأنّه لو كان المضاف في غاية المخالفة في أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك القدر الناقص ، فكذا لو زالت أصلا ورأسا » (٤) انتهى.

واعترض عليه : « بأنّ النظر إلى كلامه الأخير يقتضي كون المقدّر هو أقلّ ما يتحقّق به الوصف لا الوسط.

وتحقيقه : أنّ نقصان المخالفة كما فرضه لو انتهى إلى حدّ لم يبق معه إلّا أقلّ ما يصدق به المسمّى لم يؤثّر ذلك النقصان ، ولا اعتبر مع الوصف الباقي أمر آخر ، فكذا مع زوال الوصف من أصله ، واعتبار الأغلبيّة والتبادر هنا ممّا لا وجه له » (٥) انتهى.

وأنت خبير بما في كلّ من التعليل والاعتذار وتحقيق المعتبر (٦) ، أمّا الأوّل : فلأنّ التسوية بين الوصف الزائل وغيره أوّل الكلام.

وأمّا الثاني : فرجوعه إلى القياس مع توجّه المنع إلى الحكم في المقيس عليه أيضا.

وأمّا الثالث : فلما يتّضح بعد ذلك.

وتحقيق المقام : إنّك قد عرفت أنّ الداعي إلى اعتبار التقدير إنّما هو استعلام كون

__________________

(١) والحاكي عنه هو صاحب المعالم رحمه‌الله في فقه المعالم ١ : ٤٣١.

(٢) أي عن العلامة رحمه‌الله.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٧٤.

(٤) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٤٣١.

(٥) فقه المعالم ١ : ٤٣٢.

(٦) كذا في الأصل.

٨٠٦

هذا الشي‌ء ممّا سلب عنه الإطلاق لئلّا يجوز استعماله في التطهير ، أو سلب عنه الإضافة ليجوز استعماله في التطهير ، ومن المعلوم أنّ معنى سلب الإطلاق وسلب الإضافة المحتملين هنا بحسب الواقع انقلاب ماهيّة أحد المختلطين بالآخر ، لا مجرّد تغيّر وصف أحدهما بوصف الآخر ، أو بقائه على وصفه الأصلي.

فالمضاف إذا كان على الوصف الأضعف فربّما لا يوجب لضعف وصفه تغيّر وصف المطلق مع احتمال سلب الإطلاق في الواقع ، كما أنّه إذا كان على الوصف الأشدّ فربّما يوجب بشدّة وصفه تغيّر وصف المطلق مع احتمال بقاء الإطلاق السالب لإضافة المضاف بحسب الواقع ، وإنّما يعلم هذا الاختلاف فيما بين الظاهر والواقع في كلّ من القسمين بفرض مضاف آخر متوسّط الوصف متساوي المقدار للمفروض ، مختلطا بمثل ما اختلط به الأوّل من الماء في المقدار ، فإن خالف الأوّل في التأثير والاقتضاء كشف عن كون ما اقتضاه الأوّل من البقاء على الوصف الأصلي أو الخروج عنه مستند إلى الوصف القائم به من جهة ضعفه أو شدّته ، لا إلى ذاته الموجبة عند التأثير لانقلاب الماهيّة ، لاستحالة الاختلاف بينهما في الاقتضاء والتأثير ، مع اتّحاد الذات فيهما ومساواتهما فيما يرجع إلى الذات.

مثلا لو فرضنا ثلاثة أمداد من ماء الورد أحدهما شديد الرائحة والآخر متوسّطها والثالث ضعيفها ، فامتزج كلّ واحد بمدّ من ماء مثلا ، فإن تغيّر وصفه على الأوّلين دون الأخير كشف ذلك عن سلب الإطلاق في الواقع في كلّ من الثلاث ؛ وأنّ بقاء الأخير على وصفه الأصلي إنّما هو لضعف ممزوجه في الوصف لا في الاقتضاء المستند إلى ذاته في ذلك الفرض ؛ وإن تغيّر وصفه على الأوّل دون الأخير كشف ذلك عن بقاء الإطلاق الواقعي في جميع الثلاث ؛ وأنّ خروج الأوّل عن وصفه الأصلي إنّما هو لأجل شدّة ممزوجه في الوصف لا في الاقتضاء المستند إلى ذاته في هذا الفرض.

ونتيجة هذا الاختلاف أنّ الوصف إذا كان ضعيفا فله تأثير في عدم تغيّر الوصف وإن انقلبت معه الماهيّة ، وإذا كان شديدا فله تأثير في تغيّر الوصف وإن لم تنقلب معه الماهيّة ، وعليه فلا عبرة بالأوصاف الضعيفة ولا الأوصاف الشديدة ، بل المعتبر هو الأوصاف المتوسّطة ، لأنّ الوصف المتوسّط على البيان المذكور لا بدّ وأن يغاير

٨٠٧

القسمين ، ولا يعقل المغايرة إلّا بأن لا يكون بنفسه مؤثّرا لا في التغيّر ولا في عدمه مخالفا لما أثّرته الماهيّة.

وحينئذ لو امتزج ذو الوصف المتوسّط بالمطلق وصادف امتزاجه لتغيّر المطلق كشف ذلك عن انقلاب الماهيّة وسلب إطلاقه بحسب الواقع ، وكونه مستندا إلى ذات ذي الوصف لا إلى وصفه.

وقضيّة ذلك لزوم تقدير الوصف المتوسّط في محلّ البحث لا الوصف الزائل ، ضعيفا كان أو شديدا ، إذ معه يحصل التغيّر السالب للإطلاق المصادف لانقلاب الماهيّة.

فظهر من جميع ذلك أنّ الأقوى ما صار إليه الجماعة ، وأنّ القول بلزوم تقدير أقلّ ما يتحقّق به مسمّى الوصف كالقول بأنّ تقدير الوصف المتوسّط لا دليل عليه ضعيف ، كيف وهذا من مقتضى الاحتياط وأصل الشغل الّذي قرّرناه دليلا على وجوب التقدير خروجا عن شبهة بقاء الإطلاق المانع عن التيمّم أو زواله المسوّغ له ، بل مقتضى هذا الاحتياط العدول إلى تقدير الوصف المتوسّط فيما له وصف محقّق شديد أو ضعيف ، وإن لم نقف على القول به من الأصحاب كما لا يخفى ، والله العالم.

المبحث السادس : لو كان مع المكلّف من المطلق ما لا يكفيه للطهارة وأمكن إتمامه بمضاف على وجه لا يسلبه الإطلاق ، فعن الشيخ عدم وجوب ذلك (١) ، وخالفه العلّامة فرجّح وجوبه (٢) ، وتبعه المحقّق الثاني (٣) ، وبعض من لا تحصيل له.

قال في المختلف : « لو كان معه رطلان من المطلق ويفتقر في طهارته إلى ثلاثة أرطال مثلا ومعه ماء الورد إذا مزجه بالمطلق لم يسلبه الإطلاق ، قال الشيخ رحمه‌الله : ينبغي أن يجوز استعماله وليس واجبا ، بل يكون فرضه التيمّم ، لأنّه ليس معه من الماء ما يكفيه لطهارته.

وهذا القول عندي ضعيف لاستلزامه التنافي بين الحكمين ، فإنّ جواز الاستعمال يستلزم وجوب المزج ، لأنّ الاستعمال إنّما يجوز بالمطلق ، فإن كان هذا الاسم صادقا عليه بعد المزج وجب المزج ، لأنّ الطهارة بالمطلق واجبة مع المكنة ، ولا يتمّ إلّا بالمزج ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، وإن كذّب الإطلاق عليه لم يجز استعماله

__________________

(١) المختلف ١ : ٢٤٠ ـ ٢٣٩.

(٢) المبسوط ١ : ١٠ ـ ٩.

(٣) جامع المقاصد ١ : ١٢٦.

٨٠٨

في الطهارة ويكون خلاف الفرض ، فظهر في الحكمين.

والحقّ عندي : وجوب المزج إن بقي الإطلاق ، والمنع من الاستعمال إن لم يبق » (١) انتهى.

وأنت بعد التأمّل في سوق ما نقله عن الشيخ تعرف عدم التنافي بين ما ذكره من الحكمين ، فإنّ استعمال المضاف المحكوم عليه بجوازه المتعقّب للحكم بعدم وجوبه ليس مرادا به الاستعمال في الطهارة ، حتّى يرد عليه ما ذكر ، بل المراد به استعماله في المزج فإنّه جائز وليس بواجب ، لا أنّ استعماله منفردا في الطهارة جائز ، ولا أنّ استعماله مركّبا مع المطلق بلا سلبه الإطلاق ليس بواجب ، فإنّ كلّا من ذلك باطل جدّا ، فلا تنافي بين الحكمين أصلا.

وأمّا ما رجّحه من وجوب المزج ، فأجاب عنه ابنه فخر المحقّقين في الشرح ـ على ما حكي عنه ـ : « بأنّ الطهارة واجب مشروط بوجود الماء والتمكّن منه ، فلا يجب إيجاده لأنّ شرط الواجب المشروط غير واجب » (٢).

وردّه شارح الدروس : « بصدق الوجدان فيما نحن فيه ، وليس وجدانه هنا بأبعد من الوجدان فيما إذا أمكن حفر بئر مثلا ، والظاهر أنّه لا نزاع أنّه إذا أمكن حفر بئر مثلا لتحصيل الماء لوجب ، فلم لم يحكم بالوجوب هنا والتفرقة خلاف ما يحكم به الوجدان » (٣).

وعن المحقّق الثاني أنّه ردّه في جامع المقاصد بأنّه : « إن أراد بإيجاد الماء ما لا يدخل تحت قدرة المكلّف ، فاشتراط الأمر بالطهارة به حقّ ولا يضرّنا ، وإن أراد به الأعمّ فليس بجيّد ، إذ لا دليل يدلّ على ذلك ، والإيجاد المتنازع فيه معلوم كونه مقدورا للمكلّف ، والأمر بالطهارة خال عن الاشتراط ، فلا يجوز تقييده إلّا بدليل » (٤) انتهى.

ولعلّ نظره في منع اشتراط الأمر بالطهارة إلى مثل قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (٥) ، وقوله عليه‌السلام : « إذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور » (٦).

ولا يخفى ضعف كلّ من الردّين ، أمّا ما ردّه شارح الدروس : فلمنع صدق الوجدان

__________________

(١) المختلف ١ : ٢٤٠ ـ ٢٣٩.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ١٨.

(٣) مشارق الشموس : ٢٦٦.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٢٦.

(٥) المائدة : ٦. (٦) الوسائل ١ : ٣٧٢ ب ٤ من أبواب الوضوء ح ١ ـ التهذيب ٢ : ١٤٠ / ٥٤٦.

٨٠٩

فيما نحن فيه ، فإنّ العبرة إنّما هو بصدق وجدان الماء لا ما يؤول إلى الماء ، فإنّ الماء اسم لما تلبّس بمبدإ المائيّة فعلا ، والمفروض ليس من هذا الباب ، بل هو آئل إلى المتلبّس بالمبدإ على تقدير لحوق المزج ، وبذلك يظهر التفرقة بينه وبين حفر البئر إخراجا للماء ، لأنّه طلب للمتلبّس بالمبدإ بالفعل.

وإلى ذلك ينظر ما عن بعض المحقّقين من أنّ صدق الوجدان على ما نحن فيه عرفا غير مسلّم ، وجعله كحفر البئر على تقدير تسليم صدق الوجدان عنده قياس مع الفارق ، فإنّ الماء هنا موجود بالفعل والحفر للتوصّل إليه بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه معدوم الحقيقة والمزج إيجاد لها كنفس الاستطاعة المعدومة.

وأمّا ما ردّه المحقّق الثاني : فلأنّ الآية والرواية وغيرهما وإن كانت مطلقة ولكن قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (١) مقيّد ، ضرورة أنّ تقيّد الأمر بالتيمّم بعدم وجدان الماء يقضي بتقييد الأمر بالوضوء بوجدانه ، فيقيّد بها ما ذكر من المطلقات جدّا.

فلو قيل : تقييد الآية للإطلاق متوقّف على حمل « الوجدان » على حقيقته مع بقاء الآية على إطلاقها ، ولا ريب أنّه ليس بممكن ، لأنّا نرى تحقّق وجدان الماء بالفعل مع حرمة الوضوء لمانع شرعي كخوف الضرر من استعماله ونحوه ، ونرى عدم تحقّقه كالفاقد له المتمكّن عن حفر البئر ونحوه لتحصيله مع وجوب الوضوء به ، فلا بدّ حينئذ من التجوّز في الآية ، وهو إمّا بالتقييد لمنطوقها ومفهومها لوجوب استثناء ما عرفت من الصور ، فيرد ما ذكرت حينئذ من كون التقييد بالوجدان موجبا لتقييد تلك الإطلاقات ، ومقتضاه عدم وجوب المزج.

أو بحمل الوجدان على التمكّن والاقتدار مجازا ، فلا يرد بذلك حينئذ عدم وجوب المزج لمكان التقييد بالقدرة وهي متحقّقة في المقام ، فالوضوء حينئذ واجب لتحقّق شرط وجوبه ، وهو يستلزم وجوب المزج لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب.

نعم ، لو لم يتمكّن المكلّف من المزج المذكور سقط عنه الوضوء بحكم الآية ، لأنّه يكون من باب الواجب المشروط المنتفي شرطه ، ولكن لمّا كان المفروض تحقّق القدرة الّتي هي شرط التكليف بالفرض بقيت تلك الإطلاقات الدالّة على الوجوب على

__________________

(١) المائدة : ٦.

٨١٠

إطلاقها ، وتكون هذه المقدّمة أعني المزج المحصّل للماء بالنظر إلى الوضوء الواجب مقدّمة وجوديّة يجب تحصيلها ، والمجاز وإن كان مرجوحا بالقياس إلى نوع التقييد ، إلّا أنّه لوحدته وتعدّد التقييد منطوقا ومفهوما ـ مع تفسير المقدّس الأردبيلي في آيات أحكامه (١) لـ « تجدوا » في الآية بـ « تتمكّنوا » من دون نقل خلاف فيه ، المشعر بالاتّفاق عليه ، مع تصريح بعض الفقهاء أيضا بذلك ، وشهرة الحكم المذكور على الظاهر ـ وجب المصير إليه ، فالقول بوجوب المزج إذا أرجح ، مع أنّه أحوط.

لقلنا : مع أنّه لا حاجة إلى استثناء بعض المذكورات حتّى يلزم بذلك تقييد ، لما عرفت من صدق قضيّة وجدان الماء عند التمكّن بالحفر ونحوه من مقدّمات التحصيل ، لا تعارض بين التقييد والمجاز المذكورين ليوجب ذلك إلى مراجعة الترجيح ، بل مفاد الآية ما يستلزم تقييد المطلقات ولو حملنا « الوجدان » على التمكّن ، فلا يلزم وجوب المزج على التقديرين وكونه مقدّمة وجوديّة ، أمّا على تقدير حمل « الوجدان » على حقيقته المستلزم للتقييد فلما ذكرناه ، وأمّا على تقدير حمله على التمكّن والاقتدار فلأنّ التمكّن ليس بحاصل بالقياس إلى الماء بالمعنى المذكور ، وإنّما هو تمكّن بالقياس إلى ما يؤول إلى الماء بعين ما ذكر ، فلا يختلف الحال بسبب اختلاف التفسير ، فتفسير المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله مع كونه متعيّنا لا ينفع شيئا في إثبات دعوى إطلاق وجوب الوضوء المقتضي لوجوب المزج ، إلّا على تقدير حمل « الماء » أيضا على معناه المجازي بعلاقة الأول ، وهو كما ترى مجاز آخر غير ما يلزم منه بحمل « الوجدان » على التمكّن ، فما في كلام جماعة من بناء المسألة على احتمالي كون « الوجدان » مرادا به معناه الحقيقي أو التمكّن مجازا ليس بشي‌ء.

فالراجح في النظر ـ على ما بيّنّاه ـ ما صار إليه الشيخ عملا بقاعدة عدم وجوب إيجاد مقدّمة الوجوب ، وإن كان الإيجاد ممكنا بحسب أصله وذاته ، كاستطاعة الحجّ الغير الموجودة مع التمكّن عن إيجادها بالسعي في تحصيل المال أو قبول ما يبذله باذل.

* * *

__________________

(١) زبدة البيان : ٢٦.

٨١١

ينبوع

وممّا خصّه الأصحاب بالعنوان من أفراد المياه ، الماء الطاهر المباح المطلق إذا اشتبه بغيره من النجس ، أو المغصوب ، أو المضاف ، فإنّ كلّ واحد من ذلك ممّا لحقه البحث عندهم ، وكثر التشاجر في فروع بعضها لديهم ، وبسط الكلام فيها يستدعي رسم مقامات :

المقام الأوّل : في الماء المشتبه بالنجس ، المعنون في كلام بعضهم بالإناءين أحدهما طاهر والآخر نجس فاشتبها ، وظاهر أنّ تخصيص الإناء بالذكر مثال ، أو اقتفاء في التعبير لعبارة النصّ على ما سيظهر في الموثّقتين الآتيتين ، كما أنّ ذكر هذا العدد بالخصوص مبنيّ على المثال ، أو اكتفاء بأقلّ مراتب التعدّد ، وظاهرهم كصريح غير واحد منهم عدم اختصاص الحكم بما كان الاشتباه ابتدائيّا ، كما لو وقعت النجاسة في الطاهرين أو أكثر على ما لا يعلم أيّهما هو وإن اختصّ به مورد النصّ ، بل يجري فيما لو كان الاشتباه طارويّا أيضا ، كما لو كان الطاهر مع النجس ممتازين ففات امتيازهما.

وفي حكم الاشتباه الابتدائي الحاصل بين الطاهرين ما يحصل بين النجسين لو زالت النجاسة عن أحدهما من غير علم بأنّه أيّ منهما ، كما أنّه في حكم النجس بالذات النجس بالعرض وهو المتنجّس ، فإنّ جميع هذه الصور من واد واحد وإن اختصّ عنوان الأصحاب كالنصّ الموجود في الباب ببعضها ، مع ما بينها من التفاوت في قوّة احتمال عدم وجوب الاجتناب عن الجميع وضعفه حسبما يأتي الإشارة إليه.

وكذلك التفاوت في قوّة احتمال الوجوب وضعفه ، بل الظاهر بناء على عموم القاعدة المستفاد عن عموم جملة من أدلّتهم الآتية ـ كما هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ـ عدم الفرق في الحكم بين ما لو كانت أطراف الشبهة من أفراد ماهيّة واحدة مشتركة بينها

٨١٢

كالإناءين والثوبين ونحوهما ، وما لو كانت من أفراد ماهيّتين فصاعدا ، كالثوب والإناء أو الثوب والبدن إذا علم بإصابة نجاسة للأمر المردّد بينهما ، فإنّ قضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وجوب الاجتناب عن كليهما معا في الصلاة ونحوها من مشروط بالطهارة.

نعم ، ينبغي تخصيص الحكم بما كانت الشبهة محصورة ، أخذا بموجب تصريحاتهم وأدلّتهم المقتضية لعدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة حسبما قرّر في الاصول.

وكيف كان ، فقال المحقّق قدس‌سره في الشرائع : « ولو اشتبه الإناء النجس بالطاهر وجب الامتناع عنهما » (١) وصرّح بما يقرب من ذلك في النافع (٢) ، وقريب منهما ما في الدروس (٣) ، ومنتهى العلّامة ومختلفه (٤) ، وحكى الجزم به في المنتهى (٥) عن الشيخ في النهاية ، وابن بابويه في كتابه ، والمفيد في المقنعة.

كما حكى الموافقة في ذلك في المناهل (٦) عن الفقيه (٧) ، والنهاية (٨) ، والناصريّات (٩) ، والغنية (١٠) ، والمعتبر (١١) ، والسرائر (١٢) ، والتحرير (١٣) ، والقواعد (١٤) ، ونهاية الإحكام (١٥) ، والإيضاح (١٦) ، والذكرى (١٧) ، وجامع المقاصد (١٨) ، والجعفريّة (١٩) ، ومجمع الفائدة (٢٠).

واستفاض نقل الإجماع عليه ، وحكى نقله أيضا عن الشيخ في الخلاف (٢١) ، والمحقّق في المعتبر (٢٢) ، والعلّامة في المختلف (٢٣) والتحرير (٢٤) ونهاية الإحكام (٢٥) ،

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٥.

(٢) المختصر النافع : ٤٤.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٧٤ ـ مختلف الشيعة ١ : ٢٤٨.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٧٤ ـ انظر : المقنع : ٢٨ ـ النهاية ١ : ٢٠٦ المقنعة : ٦٩.

(٦) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ الورقة ١٦٢ (مخطوط).

(٧) الفقيه ١ : ٧. (٨) النهاية ١ : ٢٠٦.

(٩) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٤٠). (١٠) غنية النزوع ١ : ٥١.

(١١) المعتبر : ٢٦. (١٢) السرائر ١ : ٨٥.

(١٣) غنية النزوع ١ : ٥١. (١٤) قواعد الأحكام ١ : ١٨٩.

(١٥ و ٢٥) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٨. (١٦) إيضاح الفوائد ١ : ٢٢.

(١٧) ذكرى الشيعة ١ : ١١٠. (١٨) جامع المقاصد ١ : ١٥٠.

(١٩) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦). (٢٠) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨١.

(٢١) الخلاف ١ : ١٩٦ المسألة ١٥٣. (٢٢) المعتبر : ٢٦. (٢٣) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٨.

(٢٤) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٦.

٨١٣

وصاحب الذخيرة (١) ، وعن ظاهر جماعة كالتنقيح (٢) ، والسرائر (٣) ، والمنتهى (٤) ، بل لم نقف على حكاية خلاف في المسألة عن أصحابنا ، بل عن العامّة أيضا عدا ما عن الشافعي على ما في حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني قائلا : « ونقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من الفقهاء ، منهم الفاضلان (٥) ، بل ما نقلوا خلافا إلّا عن الشافعي ، فإنّه قال : « يجتهد المكلّف في تحصيل الأمارات المرجّحات ومع العجز يتخيّر » (٦) ، فالظاهر أنّها وفاقيّة بين المسلمين جميعا » (٧) انتهى.

والعجب عن صاحب المدارك (٨) في جعله مذهب الأصحاب ، مشعرا بدعوى الإجماع ، مع ميله إلى جواز الارتكاب إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه ، إلّا أن يكون ذلك من جهة القدح في هذا الإجماع بتضعيف مستنده حسبما يأتي في كلامه.

والحقّ ما صاروا إليه ، واستقرّت عليه فتاواهم ، وانعقد عليه إجماعهم من وجوب الامتناع عن الجميع ، ومستنده من النقل الموثّقان المتقدّمان في أخبار انفعال القليل.

أحدهما : ما عن سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل معه إناءان ، فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال : « يهريقهما [جميعا] ويتيمّم إن شاء الله » (٩).

وثانيهما : ما عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو؟ وليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه‌السلام : « يهريقهما جميعا ويتيمّم » (١٠).

والخبران المتقدّمان في مسألة إناطة أحكام النجاسة بالعلم بتحقّق السبب ،

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٣٨.

(٢) التنقيح الرائع ١ : ٦٤.

(٣) السرائر ١ : ٨٥.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٧٤.

(٥) المعتبر : ٢٦ ـ المختلف ١ : ٢٤٨ ـ تذكرة الفقهاء ١ : ٨٩.

(٦) كذا في الأصل ، وفي بعض النسخ : « يجتنب » بدل « يتخيّر ».

(٧) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٦٢.

(٨) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

(٩) الوسائل ١ : ١٥١ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٩ / ٦٦٢.

(١٠) الوسائل ١ : ١٥٥ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ وفيه « غيرهما » بدل « غيره » ـ التهذيب ١ : ٢٤٨ / ٧١٢.

٨١٤

أحدهما : الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم المرويّ في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وإن استيقن أنّه قد أصابه شي‌ء ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه » (١).

وثانيهما : خبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وإن علم أنّه قد أصاب جسده ولم يعرف مكانه فليغسل جسده كلّه » (٢).

وجه الاستدلال بهما : أنّه لو كان الاشتباه صالحا لرفع النجاسة أو أحكامها لم يكن للأمر بغسل الثوب كلّه ولا للأمر بغسل الجسد كلّه وجه ، نعم لا ينهض ذلك حجّة على من جوّز الارتكاب في غير ما يحصل معه مباشرة الجميع.

والأخبار الآمرة في الثوبين المشتبهين بالصلاة فيهما معا ، الّتي منها حسنة صفوان بن يحيى عن الصادق عليه‌السلام أنّه كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان ، فأصاب أحدهما بول ، ولم يدر أيّهما هو؟ وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء ، كيف يصنع؟ قال : « يصلّي فيهما » (٣).

وعن الصدوق في الفقيه : أنّه بعد نقل الرواية قال : « يعني على الانفراد » (٤) والتقريب في الاستدلال بها نظير ما مرّ ، مع قيامه حجّة على من جوّز الارتكاب بغير ما يحصل معه مباشرة الجميع ، وفيها دلالة على المطلوب من وجه آخر وهو : كون وجوب الغسل في تلك الصورة مع وجود الماء معتقدا للسائل مفروغا عنه لديه ، كما يفصح عنه قوله : « وليس عنده ماء » فسئل عمّا أشكل عليه الأمر وهو الصلاة في تلك الحالة ، بقوله : « كيف يصنع »؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام بما ينطبق على سؤاله.

والمقصود من إيراد هذه الأخبار التنبيه على أنّ الناظر فيها وفي غيرها ممّا نقف عليها بالتتبّع يجد أنّ الشارع في جميع أنواع المشتبه كان بناؤه على إيجاب الاجتناب ، وترتيب آثار النجس على جميع أطراف الشبهة.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٣ ب ٧ من أبواب النجاسات ح ٥ ـ مع اختلاف يسير ـ الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٥٢ / ٧٢٨.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٠٤ ب ٧ من أبواب النجاسات ح ١٠ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٩ / ٢٣٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٥٠٥ ب ٦٤ من أبواب النجاسات ح ١١ ـ وفيه : « يصلّى فيهما جميعا » ـ التهذيب ٢ : ٢٢٥ / ٨٨٧ ـ الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٧.

(٤) الفقيه ١ : ١٦١ ذيل الحديث ٧٥٧.

٨١٥

والمناقشة في الأوّلين بما في المدارك (١) من ضعف السند بجماعة من الفطحيّة ممّا لا يلتفت إليها ، بعد ملاحظة انجبارهما بعمل الأصحاب كافّة ، وكونهما ممّا تلقّوه بالقبول كما في صريح غير واحد من الفحول ، مع ملاحظة موافقة مضمونهما لحكم العقل ومقتضى القواعد والاصول حسبما يأتي بيانها ، مع أنّ الموثّق بنفسه ممّا يفيد الاطمئنان الّذي عليه مناط الحجّيّة في الأخبار حسبما قرّر في الاصول.

كما لا يلتفت أيضا إلى المناقشة فيها بمعارضة أصالة الطهارة ، وأصالة الحلّيّة في الأشياء ، والأخبار الدالّة على « أنّ كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » الّتي منها : صحيحة عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام « كلّ شي‌ء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال [أبدا] حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » (٢)

ومنها : رواية سليمان (٣) قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن؟ فقال : « سألتني عن طعام يعجبني » ، ثمّ أعطى الغلام درهما فقال : « يا غلام ابتع لنا جبنا » ، ثمّ دعى بالغداء فتغدّى وتغدّينا معه ، فأتى الجبن فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا قلت : ما تقول في الجبن؟ فقال : « تراني آكله » ، قلت : بلى ولكنّي احبّ أن أسمعه منك ، فقال : « سأخبرك من الجبن وغيره ، كلّما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه [فتدعه] » (٤) فإنّ الأصلين ثابتان في غير نظائر المقام ممّا لا علم معه بتحقّق السبب أصلا ، كما يفصح عنه التقييد بغاية العلم في مستند الأصل الأوّل ، وهو الخبر المستفيض المتقدّم ذكره مرارا « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٥) و « كلّ شي‌ء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر » (٦) فإنّ العلم الّذي هو منتهى الحكم بالطهارة حاصل في المقام ، ودعوى : عدم شمول العلم لما اشتبه معلومه غير مسموعة.

والأخبار المذكورة مع أنّها غير صالحة لمعارضة ما سبق ، ظاهرة بحكم العرف في

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٧ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ١ ـ الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢.

(٣) وفي الوسائل : « ابن سليمان ».

(٤) الوسائل ٢٥ : ١١٧ ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ١ ـ الكافي ٦ : ٣٣٩ / ١.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٦) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

٨١٦

غير ما حصل فيه العلم ولو على نحو ما هو المفروض في المقام ، على معنى كون المراد بقوله : « كلّ شي‌ء يكون فيه حرام وحلال » أنّ كلّ شي‌ء صالح لأن يوجد فيه فرد حرام وفرد حلال ومحتمل لهما معا فهو لك حلال ، كما يفصح عنه صريح صحيحة ضريس قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال : « أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام » (١)

وظهور الموثّقة الّذي هو كالصريح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّ شي‌ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب فيكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي اختك ، أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » (٢).

ولا ينافيه لفظ « بعينه » لكون المراد به العلم بوجود شخص الحرام في محلّ الابتلاء ، وهو مفروض الحصول في المقام ، مع قوّة احتمال ورودها ـ بعد تسليم شمولها لصورة العلم المبحوث عنه ـ في الشبهة الغير المحصورة الّتي أجمعوا فيها على عدم وجوب الاجتناب ، وقضت به الأدلّة النافية للعسر والحرج الموجبين هنا لاختلال نظم العالم ، مضافة إلى قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق في أكثر صور تلك الشبهة ، بل هو الظاهر منها بعد تسليم المقدّمة المذكورة ، كما يفصح عنه ما حكاه في المجالس عن أبي الجارود قال : سألت الباقر عليه‌السلام عن الجبن؟ فقلت : أخبرني عمّن رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ، فما علمت منه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله أنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والتمر والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم مأمون هذه البريّة وهذه السودان » (٣).

ثمّ على فرض تسليم عموم هذه الأخبار لصورتي العلم وعدمه ، وكلا قسمي الشبهة ، فهي لعمومها قابلة للتخصيص ، وأخبار الباب أخصّ منها مطلقا فتنهض

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ٢٣٥ ب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ح ١ ـ التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٦.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٩ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٤ ـ الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠.

(٣) الوسائل ٢٥ : ١١٩ ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٥ ـ وفيه : « ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان ».

٨١٧

مخصّصة لها ، وعلى فرض منع هذه القضيّة فهذه الأخبار موهونة بعدم أخذ الأصحاب بعمومها فيما يتعلّق بالمقام.

ومن العقل والاصول العامّة وجوه بين سليم وسقيم.

منها : ما نقرّره على وجه يكون سليما عمّا يقدح فيه ، من : أنّ النجاسة في موضع العلم بتحقّق سببها ما يوجب وجود تكاليف كثيرة مترتّبة على العلم المذكور ، من حرمة مباشرتها في الأكل والشرب ، ووجوب إزالتها في مشروط بها من الصلاة والوضوء ونحوهما ، ووجوب الصلاة ونحوها بما سلم عنها من ثوب أو بدن أو ماء أو نحوه ، ولا ريب أنّ التكليف اليقيني بحكم العقل المرشد المكلّف إلى ما يدفع معه استحقاق العقوبة ومخالفة الإطاعة يستدعي الفراغ اليقيني والامتثال العلمي بالمعنى الأعمّ ، ممّا هو قائم مقام العلم في نظر الشارع ، والفارغ اليقيني بعنوان أنّه يقيني كالامتثال العلمي بوصف أنّه علمي لا يتأتّى إلّا بإجراء لوازم النجاسة في الجميع ، من التحرّز عن الجميع في مقام الأكل والشرب ، وعدم تطهير الثوب أو البدن ، وكذلك الاغتسال والتوضّي به ، وعدم الدخول في الصلاة ونحوها مع مباشرته كلّا أم بعضا في بدن أو ثوب ، ولو كان ذلك من جهة كون الثوب بنفسه من أطراف الشبهة ، فيكون الكلّ واجبا من باب المقدّمة الثابت وجوبها هنا كوجوب ذيها بحكم العقل على جهة الإنشاء بنفسه ، لا إدراك المنشأ لغيره.

والمناقشة في هذا الدليل إنّما هي بمنع مقدّماته ، كمنع العلم بتحقّق السبب رأسا ، أو منع تأثير هذا القسم في ثبوت النجاسة ، أو منع كفايته في اقتضاء النجاسة الثابتة به لأحكامها ولوازمها ، بدعوى : أنّ الاشتباه المقارن لهذا العلم مانع عن حدوث تلك الأحكام ورافع لما حدث منها قبل طروّه كالعذر العقلي أو الشرعي ، أو أنّ الشارع جعله أمارة لرفع أحكام النجاسة عن النجس المعلوم بالإجمال ، أو منع شمول الأدلّة المرتّبة لتلك الأحكام للمعلوم بالإجمال ، أو منع استدعاء الشغل اليقيني العلم بالفراغ بالموافقة ، بل غاية ما يستدعيه إنّما هو منع المخالفة القطعيّة وهي لا تحصل بارتكاب ما لا يقطع معه بمباشرة النجس الواقعي.

وأنت خبير بأنّها بجميع الوجوه المقرّرة دعوى ممنوعة على مدّعيها.

أمّا الوجه الأوّل من المنع : فلأنّ المفروض حصول العلم بوجود السبب ، وكونه إجماليّا باعتبار عدم تعيّن متعلّقه في ظاهر الحال لا يقضي بانتفائه رأسا.

٨١٨

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ ثبوت صفة النجاسة في الشي‌ء لا ينوط يعلم أصلا ، حتّى يقال : بأنّ العلم الإجمالي غير مؤثّر فيه ، بناء على أنّها من الامور الواقعيّة التابعة لموضوعاتها الّتي كشف عنها الشرع ورتّب عليها أحكاما ، فثبت حين ثبوت الموضوع ، وتنتفي بانتفائه ، من غير مدخليّة للعلم فيها وجودا وعدما ، والقول : بأنّها ليست إلّا الأحكام المرتّبة الّتي لا بدّ فيها من العلم ضعيف جدّا ، وعلى فرض صحّته فالمناط موجود قطعا.

وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ جريان أحكام النجاسة تابع للأدلّة المعلّقة لها على العلم بتحقّق سبب النجاسة ، ولا ريب أنّه لا تقييد في تلك الأدلّة كما يظهر بملاحظة ما تقدّم من الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر في مسألة إناطة أحكام النجاسة بالعلم ، أو ما يقوم مقامه ، ودعوى انصراف العلم الوارد فيها إلى غير المقام مكابرة يكشف عنها بناء العرف في عدم الفرق في الأخذ بآثار العلم بين المعلوم تحقّق سببه تفصيلا أو إجمالا.

هذا بناء على ما تقرّر في المسألة المشار إليها من نهوض الأخبار المذكورة فيها مقيّدة لأدلّة الواقع ، وإلّا فخطاب قوله : « اجتنب عن النجس » مثلا وما يؤدّي مؤدّاه ظاهر في وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي من غير مدخليّة للعلم إلّا طريقا للتوصّل إلى امتثال الأمر بالاجتناب ونحوه بحكم العقل ، الّذي لا فرق فيه بين المعلوم نجاسته تفصيلا أو إجمالا.

فمنع شمول أدلّة الواقع ، أو الأدلّة المقيّدة لتلك الأدلّة بصورة العلم لمثل المقام مكابرة ، يدفعها : فهم العرف ، وعدم قيام صارف من قبله ، ولا من قبل العقل ولا الشرع.

أمّا الأوّل : فلأنّ أهل العرف هم الّذين يقيمون بذمّ من يخالف معلوم بالإجمال. وأمّا الثاني : فلأنّ العقل لا يأبى عن معاقبة المخالف بل يجوّزها ، ولا يرضى من العالم بالإجمال بخلاف الامتثال الّذي هو متمكّن عنه بالفرض.

وأمّا الثالث : فلأنّه ليس في خطابات الشرع إلّا ما يقضي بمنع المخالفة كما عرفته من الأخبار الآمرة بالاجتناب ، أو بما هو من لوازم الاجتناب.

وتوهّم المعارضة لذلك بما تقدّم من الأصلين ، وعمومات الأخبار المعمولة في أصل البراءة ، قد عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.

٨١٩

وبذلك كلّه يندفع القول بكون الاشتباه المقارن للعلم المفروض مانعا عن ترتّب أحكام المعلوم ورافعا لما حدث منها ، سواء اريد به المانعيّة والرافعيّة الثابتتان بحكم العقل أو خطاب الشرع ، فإنّ قضيّة كلّ منهما كون العلم المصادف لهذا الاشتباه مقتضيا تامّا لترتّب الأحكام جميعا ، ومعه لا يعقل المانعيّة ولا الرافعيّة.

وأمّا الوجه الأخير : فلأنّ مرجع ما ذكر إلى دعوى كفاية الموافقة الاحتماليّة في موضع التمكّن عن الموافقة القطعيّة ، وهي ممّا ينكره العقل السليم والوجدان المستقيم ، والّذي يكشف عن ذلك صحة معاقبة من اقتنع في امتثال الأمر المتوجّه إليه باحتمال الموافقة فصادف عمله مخالفة (١) الواقع ، من غير فرق في ذلك بين الأفعال والتروك ، فإنّ معنى كفاية الاحتمال كونه قائما مقام العلم مبرءا للذمّة ، ومعه لا يحسن العقاب على اتّفاق المخالفة ، لأنّ الاحتمال من شأنه ذلك.

وبجميع ما ذكر تبيّن أنّ وجوب الامتناع عن جميع أطراف الشبهة المتّفق عليه لدى الأصحاب ليس إلّا وجوبا مقدّميّا ثابتا بحكم العقل ، مضافا إلى خطاب الشرع به أصالة كما تقدّم ، ومن لوازم الوجوب المقدّمي أن لا يترتّب على مخالفة عقاب ما لم تفض إلى مخالفة الواقع ، وما تقدّم من خطاب الشرع لا يستفاد منه في خصوص المقام أزيد من ذلك ، فهو في الحقيقة تقرير لحكم العقل ، هذا بناء على الإغماض عمّا هو الأصل المقرّر عندنا في الخطابات الواردة في نظائر المقام ، وإلّا فهي بملاحظة الانسياق العرفي ظاهرة في الإرشاد إلى أمر واقعي من النجاسة أو أحكامها كما في المقام.

ومنها : ما احتجّ به العلّامة في المختلف ـ على ما نقله في المدارك ـ (٢) من « أنّ اجتناب النجس واجب قطعا ، وهو لا يتمّ إلّا باجتنابهما معا ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب » (٣).

ويمكن إرجاعه بضرب من التأويل إلى ما قرّرناه ، بأن يكون المراد من الاجتناب الواجب المتوقّف على اجتنابهما معا اجتنابه على وجه القطع به ، حتّى يكون الواجب قائما به على هذا الوجه لا الاجتناب الواقعي ، ويكون الواجب في الحقيقة هو القطع بالاجتناب لا نفس الاجتناب ، أو يكون قوله : « قطعا » قيدا للمحمول لا للإسناد ، حتّى

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

(٣) مختلف الشيعة : ١٨.

٨٢٠