ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

ويظهر منه الميل إليه في الروضة (١) ؛ قيل : وكذلك أيضا في روض الجنان (٢) ، وعن ولده صاحب المعالم : « أنّه ذهب إليه في جملة من كتبه ، إلّا أنّ الّذي استقرّ عليه رأيه بعد ذلك هو المذهب المشهور » (٣) وعنه في الروض (٤) عن جماعة من المتأخّرين.

احتجّ الأوّلون بوجوه :

أحدها : الأصل ، تمسّك به غير واحد من الأساطين.

ويرد عليه : أنّه إن اريد به القاعدة الكلّيّة المستفادة عن عمومات الأدلّة كتابا وسنّة ، فهي وإن كانت مسلّمة ، غير أنّها لا ربط لها بالمقام ، لأنّ الكلام في قبول الجاري للانفعال بالعارض وعدمه ، والقاعدة إنّما تقتضي طهارته في أصله وخلقته الأصليّة ، فهي في الحقيقة ساكتة عمّا نحن بصدده نفيا وإثباتا.

ومنه يعلم ضعف ما في كلام جملة منهم من الاحتجاج بالعمومات ، وأضعف منه ما في كلام بعضهم من الاحتجاج بالخبر المستفيض « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٥) فإنّه على ما قرّرناه سابقا عامّ في مورده وهو الشبهة في الموضوع ، والمقام ليس منه ، على أنّ العلم بالقذارة أعمّ من الشرعي ، وهو قائم في المقام ، بناء على عموم قاعدة انفعال القليل كما هو التحقيق ؛ فلا بدّ في الخروج عنه من مخصّص والعامّ لا يصلح له ، بل هو ممّا ينبغي تخصيصه بالقاعدة ، ومن هنا ظهر جواب آخر عن العمومات والأصل بالمعنى المفروض ، لو قلنا فيهما بالدلالة على عدم قبول الانفعال بالعارض عموما.

وإن اريد به قاعدة الطهارة أيضا ولكن بالمعنى الّذي قرّره صاحب المدارك. (٦) من أنّ الأشياء كلّها على الطهارة إلّا ما نصّ الشارع على نجاسته لأنّها مخلوقة لمنافع العباد ، ولا يتمّ النفع إلّا بطهارتها. ففيه :

أوّلا : منع منافاته أيضا لما نحن بصدده ، إذ غاية ما فيه كون خلقة الأشياء على الطهارة ، وهو لا ينافي عروض النجاسة من جهة الطوارئ.

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٢٥٢.

(٢) روض الجنان : ١٣٤.

(٣) فقه المعالم ١ : ٢٩٨ نقلا بالمعنى.

(٤) روض الجنان : ١٣٥.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ وفيه : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ».

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٣٠.

٤٢١

وثانيا : منع بقائه على عمومه ، بعد ملاحظة خصوص ما ورد في قليل الماء المتناول للجاري أيضا.

وثالثا : منع ذلك الأصل رأسا ، بمنع الملازمة ومنع بطلان اللازم أمّا الأوّل : فلأنّ منافع العباد ملحوظة في الخلقة من باب الحكمة ، فلا يجب فيها الاطّراد. وأمّا الثاني : فلعدم انحصار جهة الانتفاع في مشروط بالطهارة ، كما هو الحال في خلقة الأعيان النجسة.

وإن اريد به استصحاب الحالة السابقة ، فهو إنّما يستقيم لو لا القاطع والرافع لموضوعه ، وفي دليل الخصم ـ على ما سيجي‌ء من عموم قاعدة الانفعال ولو استندت إلى المفهوم ـ كفاية في ذلك ؛ فلا بدّ في دفعه من قاطع آخر حاكم عليه ، والأصل لا يصلح له ، وبذلك يظهر عدم صحّة الاستناد إليه لو اريد به أصالة البراءة ، كما اعتمد عليها المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك ، تعليلا : « بأنّ النجاسة تكليف بالتجنّب » (١).

وثانيها : ما حكى الاحتجاج به عن المحقّق (٢) ، والعلّامة (٣) ، من أنّ النجاسة لا تستقرّ مع الجريان.

وفيه أوّلا : منقوض بالجاري لا عن نبع.

وثانيا : أنّ عدم استقرار النجاسة إن اريد به عدم استقرار عينها ، فاعتبار استقرارها مع إمكان استقرار أثرها في الأجزاء المتواصلة من جهة السراية من جزء إلى جزء ـ ولو لاحقا ـ ممنوع ، ما لم يدخل الأجزاء اللاحقة في عنوان المستعلي ، وإن اريد به عدم استقرار أثرها فهو أوّل الدعوى.

وثالثها : عدّة روايات عامّة منها : النبوي ـ المتكرّر ذكره سابقا ـ : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٤).

ومنها : صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإن تغيّر الماء وتغيّر الطعم ، فلا تتوضّأ ولا تشرب » (٥).

__________________

(١) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٤٦.

(٢) المعتبر : ٩.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٢٨.

(٤) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ، سنن الدارقطني ١ : ٢٨ ـ ورواها أيضا في المعتبر : ٨.

(٥) التهذيب ١ : ٢١٦ ح ٦٢٥ ـ الاستبصار ١ : ١٢ ح ١٩.

٤٢٢

ومنها : حسنة محمّد بن ميسّر قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد أن يغتسل منه ، وليس معه إناء يغترف به ، ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده ويتوضّأ ، ويغتسل ، هذا ممّا قال الله عزوجل : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) (٢). وجه الاستدلال بها : أنّ الأوّلين يدلّان بظاهرهما على انحصار سبب عروض النجاسة في التغيّر ، كما أنّ الأخير يدلّ بإطلاقه على عدم انفعال الماء القليل بقذارة اليد ، سواء حملنا القلّة على المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء ، أو على ما يعمّ الكثير المصطلح ، غاية الأمر أنّه خرج منها القليل الراكد بالدليل وبقي الباقي ، ومنه محلّ البحث.

وفيه : أنّ الدليل الّذي أوجب خروج الراكد توجب خروج الجاري ، ودعوى : الاختصاص ، لا وجه لها بعد ملاحظة عموم المفهوم في روايات انفعال القليل.

ورابعها : خصوص صحيحة إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام « قال : ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء ، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأنّ له مادّة » (٣) ، بتقريب : أنّه جعل العلّة في عدم فساده بدون التغيّر وطهارته بزواله وجود المادّة ، والعلّة المنصوصة حجّة.

واعترض عليه تارة : بما عن المحقّق الخراساني (٤) ، ـ وتبعه على ذلك صاحب الحدائق ـ من أنّ التحقيق في العلّة المنصوصة ، أنّ الحكم يتعدّى إلى كلّ موضع يوجد فيه العلّة ، إذا شهدت الحال والقرائن على أنّ خصوص متعلّقها الأوّل لا مدخل له في الحكم لا مطلقا ، وإثبات الشهادة المذكورة هاهنا لا يخلو عن إشكال.

واخرى : بمنع وجود المادّة في الجاري مطلقا ، إذ المادّة كما هو الظاهر لا بدّ أن يكون كرّا مجتمعا ، ووجود مثلها في كلّ جار غير معلوم ، إذ يجوز أن يكون نبعه بطريق الرشح من عروق الأرض ، سلّمنا عدم اعتبار الاجتماع ، لكن وجود الكرّ أيضا متّصلا غير معلوم ، لجواز أن يحصل في بعض العيون الماء بقدر ما يخرج تدريجا في الأرض ، إمّا بانقلاب الهواء كما هو رأي الحكماء ، أو بإيجاد الله تعالى إيّاه من غير مادّة ، أو بذوبان

__________________

(١) الحجّ : ١٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٢ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٢٧ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٢.

(٤) ذخيرة المعاد : ١١٧.

٤٢٣

الثلج ونفوذه شيئا فشيئا ، والبعض الّذي يبعد فيه هذه الاحتمالات لا ينفكّ عن الكثرة.

والأوّل : واضح الدفع بعد ملاحظة بناء العرف ، فإنّ الأصل العرفي في التعليلات الواردة في الكلام عدم مدخليّة الخصوصيّة في انعقاد الحكم ، نظرا إلى ظهور كلمة « أنّ » وما يؤدّي مؤدّاها في نظائر المقام في كون ما بعدها ممّا اعتبره المتكلّم وسطا لما أفاده من الحكم ، فيكون في قوّة كبرى كلّيّة ، فلا يضرّ فيها حينئذ خصوصيّة المتعلّق الأوّل ، لرجوعه موضوعا في صغرى القياس ، والصغرى لا بدّ فيها من خصوصيّة موضوعها ، فالمراد بشهادة الحال المعتبرة في المقام إن كان هذا المعنى فهي قائمة في المقام جدّا ، وإن كان ما زاد عليه فغير معتبرة جزما.

وأمّا الثاني فيدفعه : أنّ كلام القوم ومحطّ الاستدلال بالرواية مفروضان فيما علم بوجود المادّة فعلا ، وإطلاق ورودها في كلام الإمام عليه‌السلام يأبى عن اعتبار الكرّيّة والاجتماع معها ، ودعوى الظهور في ذلك ممّا لا شاهد عليه ، والقضيّة إنّما اعتبرت فرضيّة ، فعدم انفكاك الكرّيّة عمّا علم فيه بوجود المادّة ـ مع بطلان دعواه في نفسه ـ غير قادح في انعقاد الحكم الّذي يرد على المفهوم دون المصداق ، ففرض الترشّح أو انقلاب الماء من الهواء ، وكون حصوله من إيجاد الله سبحانه ، غير قادح فيما هو من موضوع الحكم ، لكون كلّ ذلك من الصور المشكوكة الّتي يرجع فيها إلى الأصل الأوّلي ـ كما عليه غير واحد هنا ـ أو قاعدة انفعال القليل ، كما هو من مقتضى التحقيق والنظير في خصوص المقام أيضا ـ بناء على ما تقدّم الإشارة إليه ـ فدفع الاستدلال بالرواية بأمثال هذه الامور ، ليس على ما ينبغي.

نعم ، إن كان ولا بدّ من ذلك فليعترض عليه : بمنع رجوع التعليل إلى الحكم الأوّل ، وهو عدم فساد ماء البئر بشي‌ء ، ودعوى : ظهوره في ذلك ممنوعة جدّا ، وإن كان المقصود أصالة من الحديث بيان سعة ماء البئر وعدم فساده بغير التغيّر ، بل ظاهره كونه راجعا إلى الحكم بزوال التغيّر بالنزح ، وقد تنبّه عليه احتمالا شيخنا البهائي رحمه‌الله ـ فيما حكي عنه ـ قائلا في الحبل المتين ـ عند بيان الاستدلال ـ : « وفيه نظر ، لاحتمال أن يكون قوله عليه‌السلام : « لأنّ له مادّة » تعليلا لترتّب ذهاب الريح وطيب الطعم على النزح ، كما يقال : لازم غريمك حتّى يعطيك حقّك ، لأنّه يكره ملازمتك » (١).

__________________

(١) الحبل المتين : ٣٨٩.

٤٢٤

والمناقشة فيه : بأنّ تعليل زوال التغيّر بوجود المادّة مع خفائه وانتفاء الحاجة إليه ـ لكون التغيّر من الامور المحسوسة الظاهرة ـ ليس من الوظائف الشرعيّة المطلوب بيانها من كلام الأئمّة ، فلا يحمل الحديث عليه ـ كما عن السيّد الطباطبائي في مصابيحه (١) ـ وقريب منه ما في الحدائق (٢) وغيره.

يدفعها : أنّ ذلك ممّا لا غرابة فيه ، بل هو بنفسه احتمال ظاهر لا خفاء فيه ، بعد ملاحظة أنّ الإمام عليه‌السلام حين ما ادّعى الملازمة بين النزح وزوال التغيّر استفاد من الراوي استبعادا في تلك الملازمة ، فأتى بالعلّة المذكورة رفعا لذلك وتحقيقا لتلك الملازمة ، أو دفعا لما عساه يتأمّل بعد ذلك فيها ، ولا ريب أنّ ذلك ممّا لا ينافي وظيفة الإمامة بعد ما حصل له المقتضي ، وإنّما لا يحمل كلام الأئمّة على نظائر هذه الامور إذا لم يقم عليه مقتض ، كما أنّ المقام كان من مظانّ الاستبعاد والتأمّل المذكورين ، بملاحظة طروّ عدم الالتفات إلى تجدّد الماء من المادّة عقيب نزح المتغيّر منه شيئا فشيئا ، فينشأ منه مقايسة ذلك على ماء الحوض أو البئر الغير النابع ، أو الغدير أو غيره المتغيّر بالنجاسة أو غيرها ، حيث إنّه لا يخرج عن كونه متغيّرا بالنزح بالضرورة والعيان ، بل هو كلّما نزح كان الباقي منه على تغيّره إلى أن لا يبقى منه شي‌ء ، كما لا يخفى ، والتعليل ورد لبيان أنّ ماء البئر ليس من هذا الباب ، بل النزح فيه يوجب زوال التغيّر من جهة وجود المادّة ، الموجبة لتجدّد جزء من الماء الغير المتغيّر مكان ما نزح من المتغيّر ، وهكذا إلى ما لا يبقى معه من المتغيّر شي‌ء ، أو يستهلك في جنب المتجدّد إن بقي منه شي‌ء ، فالمراد بذهاب الريح وطيب الطعم حقيقة إنّما هو فراغ البئر عن المتغيّر لا زوال مجرّد الوصف مع بقاء العين ، فإنّه غير معقول مع تحقّق النزح.

وقد يوجّه الاستدلال على نحو يستلزم المطلوب ، فيقال : إنّ قوله : « لأنّ له مادّة » علّة لأصل الحكم ، وهو عدم فساد الماء بدون التغيّر ، أو له ولطهره بزواله المفهوم من قوله : « فينزح حتّى يذهب الريح » ، أو للأخير خاصّة على بعد ، وعلى التقادير فالحكم المعلّل بالمادّة يطّرد بوجودها في غير مورد التعليل ، لأنّ العلّة المنصوصة حجّة كما

__________________

(١) المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٩.

٤٢٥

تقرّر في محلّه ـ فيجري في الجاري لوجودها فيه ، ومقتضى التعليل على الأوّلين نفس المدّعى ، وهو عدم انفعال الجاري بدون التغيّر ، وعلى الثالث ما يستلزمه ، لأنّ زوال النجاسة بواسطة المادّة يستلزم العصمة عن الانفعال بها ، لكون الدفع أهون من الرفع ، وهذا محكيّ عن مصابيح السيّد الطباطبائي (١) ، وفي كلام جماعة ما يقرب من ذلك.

والجواب عنه : منع اقتضاء مجرّد زوال التغيّر بالنزح ـ المعلّل بوجود المادّة ـ حصول الطهر ، لجواز كون المطهّر هو مع شي‌ء آخر من إلقاء كرّ ونحوه ، وقد علم به الراوي من الخارج فلم يبيّنه الإمام عليه‌السلام ، وإنّما بيّن له طريق إزالة التغيّر ، فتأمّل. مع إمكان أن يقال : بورود التعليل مورد الغالب في الآبار من بلوغ مائها كرّا بل كرورا ، كما يومئ إليه قوله عليه‌السلام : « ماء البئر واسع » بناء على أنّه كناية عن كثرة الماء ، أو مراد به اتّساعه بحسب المقدار ، والطهر المستفاد منها لعلّه من جهة أنّ الكرّ يطهّر بمجرّد زوال تغيّره كما هو أحد القولين في المسألة ، فحينئذ لو استلزم ذلك عصمته عن الانفعال بها من غير تغيّر فإنّما يستلزمه لكونه كرّا لا لكونه ذا مادّة ، والمادّة إنّما اعتبرت على الاحتمال الأخير معدّة لزوال التغيّر الّذي هو المطهّر ، أو سببا لتحقّق نزح المتغيّر مع اشتمال المحلّ على الماء بعد تفريغ المتغيّر عنه ، مع إمكان أن يكون وجود المادّة إنّما اعتبر جزءا لسبب التطهير ، المركّب منه ومن النزح المزيل للتغيّر ، أو المجموع منه ومن زوال التغيّر ، ولا يلزم منه كونه علّة تامّة للعصمة عن الانفعال كما لا يخفى ، فدعوى : كون الدفع أهون من الرفع ـ مع كونها رأسا محلّ تأمّل ـ ممّا لا يجدي نفعا هنا ، لكون الرافع شيئا لا يوجد في صورة الدفع.

نعم ، لو وجّه الاستدلال بما قد يقال أيضا : من أنّ التعليل إن رجع إلى الحكم الأوّل فيدلّ على عدم انفعال كلّ ذي مادّة بما عدا التغيّر ، وإن رجع إلى الحكم الثاني فيدلّ على أنّ كلّ ذي مادّة متغيّرة يرتفع نجاسته بزوال تغيّره بتجدّد الماء عليه من المادّة بل مطلق الزوال ، وهذا ممّا لا يجتمع مع انفعال قليله بالملاقاة ، كان أوجه ممّا ذكر.

ولكن يدفعه أيضا : منع المنافاة بين الحكمين ، بجواز قبول قليله الانفعال وكون ما ذكر طريقا إلى تطهيره ، كما عليه مبنى القول بانفعال ماء البئر ، غاية الأمر أنّ النزح على تقدير عدم التغيّر لا يعلّق بزوال التغيّر ، بل له حينئذ حدّ مقرّر في الشريعة ، والمفروض أنّ

__________________

(١) المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٦.

٤٢٦

أحكام الشرع لا تقاس بالعقول القاصرة ، وإلّا كان اللازم عدم طهر المتنجّس بالغسل بناء على نجاسة الغسالة كما هو التحقيق ، إلّا أن يقال : إنّ طهر المتغيّر بمجرّد زوال التغيّر ، أو به مع ضميمة النزح ، أو بهما مع ضميمة وجود المادّة ، لا يجتمع مع قبول الغير المتغيّر منه المتجدّد من المادّة للانفعال بمجرّد الملاقاة ، بعد ملاحظة أنّ الملاقاة الموجبة للانفعال أعمّ من ملاقاة النجاسة وملاقاة المتنجّس ، فإنّ المتجدّد من المادّة حين زوال التغيّر ملاق للماء وهو متنجّس ، والمفروض أنّه ليس له قوّة عاصمة عن الانفعال ، فإمّا أن يقال : بطهر الجميع بالزوال ، أو يقال : بعدم طهر شي‌ء منها ، أو يقال : بطهر المتغيّر دون غيره ، والثاني بموجب الرواية ، وكذلك الثالث لاستحالة اختلاف الماء الواحد في سطح واحد في وصفي الطهارة والنجاسة ، فتعيّن الأوّل. فإذا كان المتجدّد عن المادّة محلّا لحدوث الطهر فيه بزوال تغيّر غيره ، فلأن يكون محلّا لبقاء طهره عند انتفاء التغيّر رأسا ، وقضيّة ذلك : عدم انفعاله رأسا حتّى بملاقاته المتغيّر ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّ له قوّة عاصمة وليست إلّا المادّة ، ولا يخفى أنّ الاستدلال بهذا الوجه تمام لو لا رجوعه إلى استنباط العلّة ، فليتأمّل.

وخامسها : الروايات النافية للبأس عن البول في الماء الجاري ، كرواية سماعة قال : « سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال : لا بأس به » (١) ، ورواية ابن بكير عن أبي عبد الله قال : « لا بأس بالبول في الماء الجاري » (٢) ورواية الفضيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري ، وكره أن يبول في الماء الراكد » (٣) ورواية عنبسة بن مصعب ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبول في الماء الجاري؟ قال : لا بأس به إذا كان الماء جاريا » (٤).

وردّ الاستدلال بها : بأنّها واردة في حكم البول في الماء ، لا في حكم الماء بعد البول ، فلا يستفاد منها إلّا حكم تكليفي وهو جواز البول في الجاري ، وهو ليس ممّا نحن فيه ولا مستلزما له ، حيث لا منافاة بين إباحة ذلك الفعل وانفعال الماء به.

وقد يفصّل فيها بجعل الرواية الاولى من أدلّة المقام ، لظهورها في السؤال عن الماء

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٣ ب ٥ أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٣٤ / ٨٩.

(٢ و ٤) الوسائل ١ : ١٤٣ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٣ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٣ / ١٢٢ و ١٢٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٣ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣١ / ٨١ ـ ٤٣ / ١٢١.

٤٢٧

لا البول ، دون الباقية لظهورها في السؤال عن البول في الماء دون الماء نفسه.

أقول : الإنصاف ورود هذه الروايات في سياق واحد ، وإن قدّم في بعضها البول وفي البعض الآخر الماء ، والّذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّ الغرض بالسؤال فيها استعلام الحكم التكليفي حتّى فيما قدّم فيه ذكر الماء ، ولو سلّم عدم الظهور فيها بالخصوص ، فلا نسلّم ظهورها في خلاف ما ذكر ، لأنّ ظهور البواقي فيما ذكر يوجب فيها عدم ظهور في خلافه ، كما أنّ تقديم ذكر الماء فيها يوجب عدم ظهورها فيما ذكر ، فهو في الحقيقة مجمل من جهة العارض.

وربّما يحكي الاستدلال فيما هو من قبيل هذه الروايات بصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة في بحث الغسالة ـ الواردة في الثوب الّذي يصيبه البول ، المشتملة على قوله عليه‌السلام : « وإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (١) وهو أضعف من سابقه ، لابتنائه على عدم نجاسة الغسالة ، أو المنافاة بين طهر المحلّ ونجاسة ما يغسل به.

وسادسها : ما ورد في الروايات من تشبيه ماء الحمّام بالجاري ، كصحيحة داود بن سرحان « قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : هو بمنزلة ماء الجاري » (٢) ومرسلة الكافي عن ابن جمهور ، عن محمّد بن القاسم ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : أخبرني عن ماء الحمّام ، يغتسل منه الجنب ، والصبي واليهودي والنصراني ، والمجوسي؟ فقال : إنّ ماء الحمّام كماء النهر ، يطهّر بعضه بعضا » (٣) بتقريب : أنّه لو كان الجاري يشترط فيه الكرّيّة لم يكن للتشبيه به وجه من جهة الطهارة.

والأولى أن يقال ـ في تقريب الاستدلال ـ : إنّ التشبيه وما هو بمنزلته ممّا يقتضي في نظر العرف والعادة ـ بل العقل ـ أيضا أمرين :

أحدهما : امتياز المشبّه به ـ الّذي هو الجاري هنا ـ عمّا عداه في وصف أو حكم ملحوظ للمتكلّم منبعث منه التشبيه.

وثانيهما : مشاركة المشبّه ـ الّذي هو هنا ماء الحمّام ـ له في ذلك الوصف أو الحكم المقصود إفادتها من التشبيه ، وامتياز الجاري عمّا عداه من المياه إمّا في طهارته

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٧ ب ٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ الكافي ٣ : ١٤ / ١.

٤٢٨

الأصليّة ، وهو باطل لعدم اختصاص ذلك به ، أو في اشتراطه بالكرّيّة في عدم انفعاله وهو أيضا باطل للعلّة المذكورة ، أو في قبوله الانفعال بالتغيّر وهو أيضا باطل لعين ما ذكر ، أو في طهر متغيّرة بمجرّد زوال تغيّره ، أو في عدم قبول قليله الانفعال ، والأوّل خلاف ما يظهر من السياق جدّا ، فتعيّن الأخير وهو المطلوب.

وأمّا ما يقال في دفعها : من أنّها بناء على اشتراط بلوغ المادّة المعتبرة في ماء الحمّام ، ـ ولو بضميمتها في الحياض ـ كرّا أدلّ على خلاف المطلب ، لقضاء التنزيل بتساوي الأمرين في الحكم ، ففيه : أنّ ذلك إنّما يتّجه على تقدير استفادة الاشتراط المذكور من تلك الرواية ، وهو مبنيّ على تنزيل التنزيل الوارد فيها إلى الثاني من الاحتمالات المذكورة وقد عرفت بطلانه.

وأمّا إذا ثبت الاشتراط من جهة الخارج فتشبيهه بالجاري لا يقتضي تعدّي ذلك الحكم منه إليه ، لأنّ التشبيه إنّما يقتضي تعدّي الحكم من المشبّه به إلى المشبّه لا العكس ، فلا بدّ من كونه مسوقا لبيان مشاركته للجاري في حكم آخر ، ولعلّه تقوّي ما في حياضه بما اعتبر معه من المادّة كتقوّي الجاري بما له من المادّة ، ثمّ بملاحظة إطلاق اللفظ في المشبّه به يلزم المطلوب أيضا.

وقد يتكلّف ـ بناء على اعتبار الكرّيّة في ماء الحمّام ـ بحمله على تنزيله منزلة الجاري في تجدّد الماء النظيف منه تدريجا ، فيرتفع به القذارة المتوهّمة من ملاقاة بعضه للنجاسة ، نظرا إلى أنّ الماء الراكد ولو كان كرّا مورد لتوهّم استقرار القذارة المتوهّمة من الملاقاة فيه ، فهذا التنزيل لدفع ما في النفس من الاستقذار الناشئ من ملاقاة النجاسات ، فليس الكلام مسوقا لبيان حكم الجاري من حيث اعتبار الكثرة فيه وعدمه ، وهو كما ترى خروج عن ظاهر السياق سؤالا وجوابا ، وتكلّف يلتزم به بلا داع إليه ، وما ذكرناه أوجه ، بل هو الظاهر بناء على قضيّة الاشتراط ، ومع الغضّ عنه فالرواية ظاهرة في بيان عدم اعتبار الكرّيّة في ماء الحمّام ، وقضيّة ذلك كون الجاري أيضا من حكمه عدم اعتبار الكرّيّة.

ويمكن تقرير الاستدلال بها على المطلب بوجه آخر أمتن ممّا ذكرناه ، وهو : أنّ السؤال وإن لم يصرّح فيه بالحكم المسئول عنه المطلوب استعلامه ، غير أنّ أخذ ماء الحمّام عنوانا في السؤال دليل على أنّ مقصود السائل استعلام حكمه من حيث الطهارة

٤٢٩

والطهوريّة ، لاستقرار العادة في الأسئلة حيثما ذكر فيها العناوين مطلقة من غير تصريح بالحكم المسئول عنه معها ، بكون المقصود استعلام أحكامها الظاهرة الّتي أخذت هي في أصل الشرع عناوين لها بالأصالة ، ومن المعلوم أنّ الحكم الّذي يؤخذ « الماء » عنوانا له بالأصالة بحسب الشرع إنّما هو الطهوريّة بالمعنى الشامل للطهارة والمطهّريّة ، فمقصود السائل في تلك الرواية استعلام حكم ماء الحمّام من حيث الطهارة أو المطهّريّة ، لكن لا بالنظر إلى خلقته الأصليّة ، لأنّ ماء الحمّام بحسب الخلقة ليس حاله إلّا كحال سائر المياه ، وقد ثبت طهوريّتها كتابا وسنّة على الإطلاق ، فالغرض حينئذ استعلام بقاء طهوريّته والعدم من جهة الطوارئ ، فتنزيله في الجواب منزلة الجاري كناية عن بقائه على وصف الطهوريّة طهارة أو مطهّريّة وعدم ارتفاعها بسبب الطوارئ ، ولا يستقيم ذلك إلّا أن يكون الجاري أيضا حكمه كذلك كما لا يخفى.

وهذا مع ملاحظة الإطلاق الشامل للكريّة وما دونها عين المطلوب ، سواء كان الغرض استعلام طهارته أو مطهّريّته.

فإن قلت : لو كان الغرض استعلام مطهّريّته لا يستلزم المطلوب ، لجواز كون شبهة السائل زوال الطهوريّة عن الماء المستعمل في رفع الأحداث ، ومع قيام هذا الاحتمال يسقط بها الاستدلال ، لاستلزامه فيها الإجمال.

قلت : سياق السؤال في كونه سؤالا عن الطوارئ السالبة للطهارة أظهر منه في كونه سؤالا عن الطوارئ السالبة للطهوريّة لا من جهة الطهارة ، مع أنّ الجواب لو دلّ على بقاء الطهوريّة ـ مع أنّ ماء الحمّام محلّ لورود النجاسات عليه غالبا ـ لاستلزام بقاء الطهارة ، ولا يقدح فيه عدم التعرّض لحكم الطهارة أصلا وبالذات ، بعد الجزم بثبوت الملازمة الشرعيّة بين الطهارة والطهوريّة كما لا يخفى.

غاية الأمر كون هذه الاستفادة من باب الدلالة بالإشارة ولا بأس به بعد ملاحظة أنّها أيضا من الدلالات المعتبرة.

وأمّا المرسلة : فلو لا الضعف في سندها بالإرسال وابن جمهور ، أمكن الاستناد إليها بحمل « يطهّر بعضه بعضا » على إرادة أنّه يعصم بعضه الغير الملاقي للنجاسة البعض الآخر الملاقي لها كما هو الظاهر ، بقرينة أنّ تطهير البعض للبعض بالمعنى الحقيقي ـ بناء على عدم الانفعال

٤٣٠

بمجرّد الملاقاة ـ لا يتأتّى فرضه إلّا في صورة التغيّر الّذي يزول بتجدّد الماء عليه من المادّة ، وليس في النجاسات الواردة في سؤال الرواية ما يوجب التغيّر عادة كما لا يخفى ، وبناء على الانفعال بمجرّد الملاقاة لا يمكن التطهير بلا مطهّر خارجي ، من إلقاء كرّ ونحوه.

وأمّا ما قيل ـ في توجيه الاستدلال ـ : من أنّ المراد به الرفع قضيّة للمعنى الحقيقي ، ويعلم منه الدفع وهو الحكم المطلوب من السؤال بالفحوى ، ففيه : ما لا يخفى من البعد والغرابة.

وربّما يعترض عليها : بأنّها على خلاف المطلب أدلّ ، حيث إنّ ظاهرها اعتصام ماء النهر بعضه ببعض لا بالمادّة ، فتدلّ على اعتبار كثرته في اعتصامه ، وهو أيضا كما ترى ، فإنّ الأبعاض المتواصلة الّتي يعتصم كلّ بعض منها بآخر منتهية إلى المادّة ، وقضيّة ذلك كون الاعتصام الّذي يتحقّق فيما بينها مستندا بالآخرة إلى المادّة.

وأضعف منه الاعتراض أيضا : بأنّ المماثلة ممّا يقتضي المساواة من الطرفين ، ومن المعلوم أنّ رفع النجاسة المتحقّقة في ماء الحمّام لا يكون إلّا بالمادّة البالغة كرّا ، فمقتضى المماثلة اعتبار ذلك في الجاري إذا تنجّس بعضه ، وهذا عين مذهب العلّامة (١) في الجاري ، فإنّ (٢) المماثلة إنّما تقتضي المساواة في الحكم المسوق لبيانه الكلام لا في موضوعه ، والمادّة البالغة كرّا ـ بناء على تسليم اعتبار الكرّيّة فيها في الصورة المفروضة ـ مأخوذة وملحوظة موضوعا لحكم الرفع ، المنساق لبيانه الرواية ، هذا مضافا إلى ما عرفت من ورود الرواية لبيان حكم الدفع لا الرفع الذي يوجب توهّم الاعتراض المذكور.

وأضعف من الجميع المناقشة في اختصاص لفظ « النهر » بالنابع ، ثمّ في شموله لما دون الكرّ ، فإنّ لفظ « النهر » وإن لم يختصّ بالنابع ، إلّا أنّ الظاهر المتبادر منه ومن لفظ « الجاري » الوارد في الروايات المتقدّمة والآتية إنّما هو النابع وإن كان إطلاقيّا ، وهو شي‌ء يجده الذوق بملاحظة المقام.

نعم ، يمكن الاعتراض عليها : بأنّ الدلالة المذكورة إنّما تثبت على جهة العموم بالقياس إلى الكرّ وما دونه ، ومفهوم قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء »

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٨ حيث قال : « لا فرق بين الأنهار الكبار والصغار ، نعم ، الأقرب اشتراط الكرّيّة ، لانفعال الناقص عنها مطلقا » الخ.

(٢) هذا جواب لقوله : « وأضعف منه الاعتراض عليه الخ ».

٤٣١

عامّ بالقياس إلى الجاري والحمّام وغيرهما ، فيتعارضان في قليل الجاري والحمّام ، والجمع وإن كان يحصل بتخصيص كلّ منهما ، غير أنّ تخصيص الرواية بصورة الكرّيّة أولى من تخصيص المفهوم بغير الجاري ، لكون المخرج بالأوّل أقلّ منه بالثاني بمراتب شتّى.

وفيه أيضا : أنّ المخرج عن كلّ من العامّين ـ بناء على ارتكاب التخصيص في أحدهما ـ إنّما هو ما دون الكرّ من الجاري ، وهو شي‌ء واحد لا يطرأه وصفا القلّة والكثرة بالاعتبارين ، بل لنا أن نقول : بأولويّة تخصيص المفهوم ، لكون عمومات الجاري من جهة أنّها أقلّ أفرادا من المفهوم أظهر في العموم من المفهوم ، كما لا يخفى.

وسابعها : عموم روايات وردت في خصوص الجاري ، نافية لتنجيسه بشي‌ء ما عدا التغيّر ، كالمرسل المرويّ عن نوادر الراوندي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الماء الجاري لا ينجّسه شي‌ء » (١) وحديث دعائم الإسلام : « في الماء الجاري يمرّ بالجيف والعذرة والدم يتوضّأ منه ويشرب ، وليس ينجّسه شي‌ء ما لم يتغيّر أوصافه ، طعمه ولونه وريحه » (٢) والمحكيّ عن الفقه الرضوي : « واعلموا رحمكم الله : أنّ كلّ ماء جار لا ينجّسه شي‌ء » (٣)

واعترض عليها : بكونها معارضة بإطلاقات أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة ، والتقييد في إطلاقات الجاري إخراج للفرد النادر ، لأنّ ما لا يبلغ مع ما في المادّة ـ بل بنفسه ـ كرّا قليل ، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلّة إناطة الاعتصام ، فإنّه إخراج للفرد المتعارف ، وبالتأمّل فيما ذكرناه تقدر على دفع ذلك ، نظرا إلى أنّ المخرج ليس إلّا قليل الجاري ، سواء اعتبر إخراجه عن إطلاقات الجاري أو إطلاقات الاعتصام.

وأمّا ما يقال في دفعه : من أنّ الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة في مثل قوله عليه‌السلام : بعد السؤال عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء : « أنّه الكرّ من الماء » وقوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » ونحو ذلك ، هو مطلق الجاري ، فيكون المقسم في هذه الأدلّة هو الماء الراكد ، وهذا أبعد من تقييد الجاري بما يبلغ كرّا فضعفه أوضح من أن يوضح ، ضرورة : أنّ التنافي لا يتأتّى إلّا بعد اختلاف الدليلين في مفاديهما ، ومن البيّن أنّه لا تنافي بين منطوق

__________________

(١) نوادر الراوندي : ٣٩ ، مستدرك الوسائل ١ : ١٩١ ، ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٤.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١١١ ـ مستدرك الوسائل ١ : ١٨٨ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١ ـ مستدرك الوسائل ١ : ١٩٢ ، ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦.

٤٣٢

الخبرين ، وإنّما التنافي بين مفهوم الثاني ـ بل الأوّل إن كان له مفهوم ـ ولا ريب أنّ المفهوم مخصوص بالقليل ، وأمّا المنطوق الشامل للجاري والراكد وغيرهما فهو موافق لاطلاقات الجاري في الدلالة على عدم الانفعال كما هو واضح وبالجملة : الاولى من التخصيصين إنّما هو تخصيص المفهوم ، تقديما للأظهر على الظاهر من جهتين ، كما لا يخفى على المتأمّل.

نعم ، إنّما يخدش في تلك الروايات عدم ثبوت اعتبار أسانيدها ، والشهرة وإن كانت محقّقة لا تصلح جابرة ، لعدم وضوح كونها مستندة إليها ، على معنى كون مستند المشهور في ذهابهم إلى عدم اشتراط الكرّيّة في الجاري هو تلك الروايات وهو غير واضح ، فالقدح في السند لا رافع له ، ومجرّد موافقة المضمون لها لا يوجب الوثوق بصدقه ما لم تكن الشهرة موجبة للوثوق بمفادها ، وبالجملة : لو لا هذه المناقشة في السند كان في تلك الروايات كفاية في إثبات الحكم المبحوث عنه.

وثامنها : الإجماعات المنقولة ـ المتقدّم إليها الإشارة ـ المعتضدة بالشهرة العظيمة ، محقّقة ومحكيّة ، ويشكل التعويل عليها في المقام على جهة الاستقلال ، لعدم ثبوت حجّيّة منقول الإجماع عندنا بالخصوص ، وكونه حجّة من باب الكشف عن وجود دليل معتبر ليس المقام من موارده ، إذ المراد بالكشف حصول الاطمئنان وسكون النفس وخروجها عن التزلزل ، وهي قاصرة عن الكشف بهذا المعنى ، لما نرى في كلام كثير من المتأخّرين ـ كما عرفت ـ من التعويل على ما ليس بصالح له من الوجوه المتقدّمة ، والتعويل عليها وإن لم يعلم من المجمعين أو كثير من الناقلين للإجماع غير أنّ تعويل المتأخّرين عليها مانع عن حصول الوثوق بما ذكر ، وإن وجد في كلام بعضهم التعويل على ما له دلالة على المطلب ، سليمة عمّا يصلح للمعارضة ، كصحيحة داود بن سرحان (١) ورواية ابن أبي يعفور (٢) ـ على فرض انجبار سندها ـ والروايات الاخر المتقدّمة على فرض اعتبار أسانيدها أو انجبارها.

وتاسعها : ما اعتمد عليه المحقّق البهبهاني ـ مضافا إلى أصالة البراءة المتقدّم ذكرها وقوله : « كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) ـ « من طريقة المسلمين في عملهم في الأعصار والأمصار واتّفاق فتاوي فقهائهم » (٤).

__________________

(١ و ٢) تقدّما في الصفحة ٤٢٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٤٦.

٤٣٣

والأصل والرواية قد عرفت ما فيهما ، وطريقة المسلمين وإن كانت جارية في الجملة ، غير أنّه غير واضح الوجه ، لقوّة احتمال استنادها إلى فتاوي فقهائهم فقد تبيّن من البداية إلى تلك النهاية : أنّ المعتمد من الأدلّة المذكورة صحيحة داود بن سرحان ، ودونها ـ بعد سلامة السند ـ رواية ابن أبي يعفور ، المعتضدة بالشهرة العظيمة والإجماعات المنقولة ، وما ذكر من طريقة المتشرّعة ، فإنّ كلّ ذا ممّا لا ضير في أخذها مؤيّدة ، فصار المحصّل : أنّ المختار ما ذهب إليه المشهور ـ المنصور ـ بشرط أن يكون سائلا على وجه الأرض عن نبع ، اقتصارا على القدر المتيقّن من معقد الإجماعات وعمل المسلمين ، المتبادر من الصحيحة ولو بحسب الغلبة والقرائن الخارجة ، المعلومة بالتتبّع ونحوها.

وأمّا غيره من السائل لا عن نبع ، أو السائل عن رشح ، أو النابع أو الراشح بلا سيلان ، فيبقى على حكم القاعدة.

وعن العلّامة الاحتجاج على ما صار إليه ـ من اشتراط الكرّيّة في الجاري ـ بعموم الأدلّة الدالّة على اعتبار الكرّيّة ، كقوله عليه‌السلام في صحيحتي معاوية بن عمّار ، ومحمّد بن مسلم : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١).

أقول : هذا حقّ لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ، لو لا حكومة ما تقدّم على الأدلّة المذكورة ، لو اريد بها مفهوم الروايتين مع الروايات الاخر الواردة بهذا المضمون ، وإلّا فإطلاق دعوى العموم في محلّ منع ، لكون ما عدا تلك الروايات المشار إليها بين ظاهرة وصريحة في الراكد ، كما لا يخفى على الناظر الناقد.

وأجاب عنه في المدارك ـ ووافقه عليه غيره كما عن مصابيح العلّامة الطباطبائي (٢) ـ : « بمنع العموم ، لفقد اللفظ الدالّ عليه ، سلّمنا العموم لكن نقول : عمومان تعارضا من وجه ، فيجب الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ، والترجيح في جانب الطهارة بالأصل ، والإجماع ، وقوّة دلالة المنطوق على المفهوم » (٣).

وفيه : ما لا يخفى من التعسّف ، فإنّ المفهوم ـ إذا كان الاستدلال به ـ تابع للمنطوق ، فلفظة « الماء » في المنطوق شاملة للجاري جزما ، لبطلان خلافه بالضرورة ، ولعدم ما

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٨ ، ١٠٩.

(٢) المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٧.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٣٢.

٤٣٤

يوجبه من ندرة ونحوها ، ضرورة عدم ندرة الكرّ من الجاري ، بل هو عند التحقيق أغلب وأكثر يحسب الأفراد من الراكد كما لا يخفى ، فمع فرض شمول المنطوق لكثير الجاري فلا بدّ وأن يشمل المفهوم لقليله أيضا وإن فرضناه نادرا بالقياس إلى قليل الراكد ، وإلّا لزم كون القضيّة في جانب المنطوق مستعملة في معنيين :

أحدهما : التعليق على ما يوجب انتفاؤه الانتفاء بالقياس إلى الراكد.

والآخر : بيان تحقّق موضوع الحكم وهو الكرّيّة بالقياس إلى الجاري كما في قولك : « إن رزقت ولدا فاختنه » وهو كما ترى ، ومجرّد ندرة القليل من الجاري لا يوجب عدم دخوله في موضوع المفهوم ، بعد ملاحظة اقتضاء موضوع المنطوق مقابلا في جانب المفهوم ، وأمّا ما ذكره من المرجّحات فكلّها منظور فيه عدا الأخير منها ، ونضيف إليه ما قدّمنا الإشارة إليه من كون تخصيص عمومات الجاري لقلّة أفرادها تخصيص في الأظهر ، فيرجّح عليه تخصيص المفهوم لكونه تخصيص الظاهر ، تقديما للأظهر عليه.

ثمّ الظاهر أنّ مراده رحمه‌الله بأحد العامّين اللذين فرض النسبة بينهما عموما من وجه ، صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع (١) ، الدالّة على عدم فساد كلّ ذي مادّة بمادّته ومنه الجاري ، الّذي يدخل قليله في عموم المفهوم ، وإلّا فلا تعارض لو اعتبر ذلك العامّ الخبر المستفيض « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٢) فضلا عن كونه من باب العموم من وجه ، لدخول القليل حينئذ فيما أخذ غاية في ذلك الخبر ، إن قلنا بتناوله لمشتبه الحكم ، كما أنّ المفهوم أخصّ لو فرض الطرف المقابل صحيحة حريز (٣) ، وصحيحة أبي خالد القمّاط (٤) ، وحسنة محمّد بن ميسّر (٥) ، لعموم تلك الروايات القليل والكثير ، فتخصّص بالمفهوم ، ولم يقع الاستدلال منه رحمه‌الله إلّا بها وبصحيحة محمّد بن إسماعيل. (٦)

* * *

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٥ / ٦١٩ ، وفيه : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ».

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ١٣٧ و ١٣٨ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٤.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٢ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٦) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

٤٣٥

« ينبوع »

اتّفقت كلمتهم على إلحاق ماء الحمّام بالجاري ، بقولهم : « يلحق به » وما يؤدّي مؤدّاه ، وكأنّه جرى على مقتضى ما ورد في النصوص من تنزيله منزلة الجاري أو تشبيهه به ، وقضيّة ذلك كونه فرعا له في كلّ ما يلحق به من الأحكام ، أو أنّ في خصوص ما عقدوا له الباب المتقدّم من عدم اشتراط الكرّيّة فيه ، فحينئذ يشكل الحال بالنظر إلى خلافهم الآتي ـ في الفرع ـ من اشتراط كرّيّة المادّة كما عليه المشهور ، أو كرّيّة المجموع منها وممّا في الحياض مطلقا ، أو مع تساوي سطحهما أو انحدار المادّة ، وليس شي‌ء من ذلك مذكورا في الأصل ولا في النصوص القاضية بالفرعيّة ، واستفادته من الخارج يوجب إلحاقه بالراكد البالغ مجموعه كرّا ، أو المتّصل بما يبلغ كرّا لا بالجاري ، بل يوجب ذلك كونه في الحقيقة من أفراد الراكد الّذي يعتبر في عدم انفعاله الكرّيّة ، وإن اختلفت سطوحه كما عليه الأكثر ، ومعه لا معنى لإفراده بالذكر فضلا عن إلحاقه بالجاري.

ثمّ إنّه أيّ فرق بين المقام مع فرض الاتّصال بالمادّة المأخوذ في موضوع الحكم وبين الغديرين الموصل بينهما بساقية ، المعدود في كلام جمع من المتأخّرين من أقسام الراكد ، المكتفى فيه عندهم بكرّيّة مجموع ما فيهما وفي الساقية ، وأيّ شي‌ء أوجب إفراد المقام عن المفروض ، ودعا فيه إلى اعتبار الكرّيّة في المادّة ، ونفي كفاية بلوغ المجموع كرّا خصوصا إذا كان مستند اعتبار الكرّيّة في المادّة أو في المجموع أدلّة انفعال القليل واشتراط الكرّيّة في عدم الانفعال ، فإنّ اتّحاد طريق المسألتين يقضي بكونهما من واد واحد ، فكيف يفرّق بينهما بجعل إحداهما فرعا لباب ، وإفراد الاخرى بباب على حدّة.

٤٣٦

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الاعتبار وقانون التأدية والإيجاز وإن كان يقتضي ذلك ، ولكن ماء الحمّام لمّا اخذ عنوانا في طائفة من الأخبار فذلك دعاهم إلى إفراده بعنوان خاصّ مع مراعاة إعمال القواعد فيه ، بزعم جريانها من غير معارضة لها في تلك الأخبار ، فاعتبروا فيه كرّيّة المادّة أو المجموع كلّ بحسب ما اقتضاه نظره واجتهاده في إجراء القواعد ، جمعا بينها وبين ما اقتضته الأخبار المشار إليها من تخصيصه بالعنوان.

وعلى أيّ حال كان فينبغي أوّلا سوق عنان القلم إلى بيان المراد من ماء الحمّام المبحوث عنه هنا ، وقد أطبق كلمتهم ـ فيما نعلم ـ على تفسيره : بما في الحياض الصغار الّتي لا تبلغ الكرّ ، ثمّ صريح غير واحد مع ظاهر آخرين يقضي باختصاص البحث عنه بصورة اتّصاله بالمادّة ، والمراد بها ـ على ما في كلام بعضهم ـ الحوض الكبير الّذي يجري منه الماء إلى الحياض الصغار ، كما أنّ المراد بالحياض الصغار ـ على ما يستفاد من تتبّع كلماتهم ـ الحياض المتّخذة في جنب الحوض الكبير ليرد عليها الواردون لأخذ الماء والغسل ، بل الاغتسال أيضا على ما هو المعهود من طريقة أهل السنّة ، حيث لا يغتسلون في الحوض الكبير المسمّى بالخزانة ، وكأنّ دليلهم على هذه التقييدات كلّها كونه المنساق من جملة من الروايات الواردة في ماء الحمّام ، كرواية بكر بن حبيب : « ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة » (١) والمحكيّ عن الفقه الرضوي : « ماء الحمّام سبيله سبيل الجاري إذا كانت له مادّة » (٢) فإنّ كلمة الاختصاص في الظرف تقضي بأنّ المراد به ما يكون للمادّة جهة اختصاص به ، بحيث لا يوجد ذلك الاختصاص في غيره ممّا هو في الحمّام ، ولا يكون ذلك إلّا الحياض الموصوفة بما ذكر الّتي تستمدّ الماء من المادّة.

واعتبار كونها لا تسع الكرّ ، أمّا أوّلا : فلأنّ الغرض من الشرطيّة إفادة ما يعتصم به الماء المذكور ، والكرّ بنفسه معتصم ، فيعود اعتبار وجود المادّة لغوا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ روايات ماء الحمّام مسوقة لبيان أنّه أخفّ حكما من سائر المياه كما لا يخفى على المتأمّل ، والتسوية فيه بين كثيره وقليله توجب كون الحكم فيه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٦٨.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٦.

٤٣٧

أغلظ ، وهو كما ترى.

واشتراط اتّصاله بها ، فلأنّه المتبادر عرفا من عبارة قوله عليه‌السلام : « إذا كانت له مادّة » ، ولأنّه لو لا اتّصالها به كان وجودها بمنزلة عدمها ، فإنّها إنّما اعتبرت عاصمة ، ولا يعقل العصمة لها إلّا مع الاتّصال.

فما يقال : من أنّ ذكر الحياض الصغار في تفسير ماء الحمّام لعلّه مبنيّ على المثال ، أو لأنّه محلّ الثمرة غالبا ، وإلّا فلو كان في الحوض الكثير ما ينقص عن الكرّ لحقه الحكم ، ليس على ما ينبغي إن اريد به الحوض الكبير المعدّ مادّة.

ومنه يظهر ضعف ما قيل من إمكان أن يقال : إنّ الماء المنبسط في أرض الحمّام المتّصل بالحوض الصغير أو الكبير المتّصلين بالمادّة حكمه حكم ما في الحياض ، إن اريد به إدراج ذلك في الروايتين ، وإن اريد استفادة حكمه من باب تنقيح المناط فلا بأس به.

وأضعف منه ـ الّذي ينبغي القطع بفساده ـ ما قيل : من قوّة احتمال تمشّي الحكم إلى حياض المسلخ ، بل الماء الّذي في البئر إذا اتّصل الماء النازل من المادّة بالحوض ، واتّصل ماء الحوض بالماء المنبسط على أرض الحمّام ، واتّصل ذلك بماء البئر ، إلّا أن يكون ذلك من باب تنقيح المناط أيضا لا من جهة شمول النصوص ، وتفسير المادّة بالحوض الكبير لأجل أنّ ماء الحمّام لا مادّة له سواه.

ثمّ من الواضح أنّ المراد بالحمّام وحياضه في الأخبار وكلام العلماء الأخيار ما يقع عليه الاسم عرفا ، ولو كان في الآن الحاضر على الهيئة المغايرة للهيئة الموجودة في الآن السابق ، كما هو الأصل المتّفق عليه في جميع موضوعات الأحكام الثابتة عن الزمن القديم.

فما في الحدائق من الاستشكال في تماميّة الاستدلال بالأخبار : « بأنّ ذلك إنّما يتمّ بعد معرفة الحيضان الّتي كانت في زمانهم على أيّ كيفيّة كانت؟ إذ الظاهر أنّ الأسئلة كانت عن ماء الحمّام المعهود عندهم ، سيّما أنّ أصل الإضافة للعهد » (١) ممّا لا يلتفت إليه ، لمنع كون المعهوديّة عندهم مخصّصة لعموم الجواب بعد فرض تحقّق التسمية مطلقا ، والاختلاف في الكيفيّة لا يوجب الاختلاف في التسمية ، فلا يوجب الاختلاف في الحكم ، وإلّا لتغيّرت أكثر الأحكام الثابتة ثمّة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٠٣.

٤٣٨

فالقول : بأنّ الهيئة المركّبة إذا انتفى شي‌ء منها لا تجري عليها الأحكام ، لانتفاء المركّب بانتفاء أحد أجزائه ، ولأنّ أحكام الحمّام مخالفة للأصل ، فيقتصر فيها على المتيقّن ، بل لو شكّ في كون الموجود الآن كالسابق أو لا؟ لم تجر عليه الأحكام أيضا وإن أطلق عليه الاسم الآن ، مع عدم جريان أصالة عدم التغيّر هنا ، إذ هي إنّما تجري حيث يكون المعنى قديما ورأينا اللفظ الأوّل مستعملا فيه الآن ، وشككنا فيه بالنسبة إلى الزمن السابق فنحكم بذلك لأصالة عدم التغيّر ، لا فيما إذا شككنا في كون هذا المعنى موجودا سابقا أو لا؟ وفرق واضح بين المقامين.

وأصالة عدم الاشتراك لا يثبت بها وجود المعنى ، إذ غاية ما يمكن إثباته بها نفي الاشتراك بعد فرض وجود المعنى ، أمّا أنّها تثبت أنّ هذا الموضوع موجود في السابق فلا ، متّضح الفساد (١) ضرورة أنّ اختلاف الهيئة لا يوجب عدم جريان الأحكام ما لم يكن موجبا لاختلاف الماهيّة وانتفاء الماهيّة الاولى ، ونحن نقطع ببقاء الماهيّة الاولى في الحمّامات المستحدثة ، وإن حصل فيها الاختلاف كثيرا ، والأحكام الثابتة ثمّة تجري عليها مع القطع بالتغيّر فكيف مع الشكّ فيه ، ومعه لم يكن الحاجة ماسّة إلى التشبّث بالأصل حتّى ينظر في جريانه وعدمه.

ووقوع اللفظ عليها مع اختلافها في الهيئات من باب وقوع المشترك المعنوي على أفراده المختلفة ، فلا حاجة إلى أصالة عدم الاشتراك ، وليس للحمّام حكم مغاير للقواعد حتّى يقتصر فيه على المتيقّن ، لكون عدم الانفعال مستند إلى الاتّصال بالمادّة البالغة بنفسها أو مع ما في الحياض والساقية كرّا ، وهو من مقتضي القواعد المقرّرة.

نعم ، على القول بعدم اشتراط الكرّيّة رأسا ـ كما هو أضعف الأقوال ـ ربّما يتّجه ذلك ، غير أنّه يندفع بملاحظة ما قرّرناه ، نظرا إلى ورود النصّ الخاصّ مع عدم داع إلى الاختصاص ، فلا ضير معه في الخروج عن الأصل ، بل هو واجب حينئذ كما مرّ في مستثنيات قاعدة الانفعال ، هذا إذا اريد بالأصل ما يقتضيه تلك القاعدة ، وأمّا إذا اريد به ما يقتضيه الأصل الأوّلي في المياه من الطهارة ، ليكون ذلك دفعا لمقالة مشترطي الكرّيّة بأحد المعنيين ، فيكفي في الخروج عنه عموم تلك القاعدة وعلى أيّ حال كان فما في الحياض الصغار

__________________

(١) هذا جواب لقوله : « فالقول بأنّ الهيئة المركّبة ... » الخ.

٤٣٩

إذا لاقته النجاسة حال اتّصاله بالمادّة لا ينفعل به ما لم يتغيّر أحد أوصافه ، والأصل فيه بعد الإجماع ـ محصّلا في الجملة ومنقولا ـ صحيحة داود بن سرحان المرويّة في التهذيب ، قال : قلت لأبي عبد الله ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : « هو بمنزلة الجاري » (١).

وما نقل عن قرب الأسناد عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : ابتدأني فقال : « ماء الحمّام لا ينجّسه شي‌ء » (٢) وخبر أبي الحسن الهاشمي ـ المرويّ في التهذيب ـ قال : سئل عن الرجال يقومون على الحوض في الحمّام ، لا أعرف اليهودي من النصراني ، ولا الجنب من غير الجنب؟ قال : « يغتسل منه ، ولا يغتسل من ماء آخر فإنّه طهور » ، وعن الرجل يدخل الحمّام وهو جنب فيمسّ الماء بيديه من غير أن يغسلهما؟ قال : « لا بأس » ، وقال : أدخل الحمّام فأغتسل ، فيصيب جسدي بعد الغسل جنبا ، أو غير جنب؟ فقال : « لا بأس » (٣).

وخبر حنّان ـ الوارد في الكافي ـ قال : سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّي أدخل الحمّام في السحر ، وفيه الجنب وغير ذلك ، فأقوم ، فأغتسل فينتضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم؟ قال : أليس هو جار؟ قلت : بلى ، قال : « لا بأس » (٤) ، والاستدلال به مبنيّ على كون الجاري في قضيّة الاستفهام استعارة ، مرادا به كونه بمنزلة الجاري ، والتشبيه به على حدّ ما هو في « الطواف بالبيت صلاة » كما هو الظاهر ، بملاحظة أنّ المعهود في ماء الحمّام كونه حارّا فلا يكون جاريا بالمعنى المعهود.

وخبر بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة » (٥) ، وخبر ابن أبي يعفور المتقدّم المتضمّن لقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٦) ، بناء على أنّ المراد بالتطهير العصمة كما تقدّم ، بعد فرض انجبار السند بالعمل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ قرب الأسناد : ١٢٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ وأورد قطعة منه في الحديث ٥ من ب ٧ من أبواب الأسآر ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧١.

(٤) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٨ ـ الكافي ٣ : ١٤ / ٣.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٦٨.

(٦) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ الكافي ٣ : ١٤ / ١.

٤٤٠