ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

ووافقهما على ذلك في الرياض (١) ، وحكي ذلك أيضا عن الأردبيلي في مجمع الفائدة (٢) ، والمحقّق الخراساني في الذخيرة (٣) ، والبهبهاني في حاشية المدارك (٤) ، وشرح المفاتيح (٥) ، ويستفاد التصريح به من المحقّق الخوانساري في تضاعيف كلامه في شرح الدروس (٦) ، ونسبه في المدارك (٧) إلى إطلاق ما صرّح به المحقّق والعلّامة في المعتبر (٨) والمنتهى (٩) من « أنّ الغدير إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما لم ينجّس وإن نقص عن الكرّ إذا بلغ المجموع منهما ومن الساقية كرّا » ، وحكاه عنهما أيضا في شرح الدروس بعد ما قال ـ في أوّل عنوان المسألة ـ : « فالظاهر من كلام الأصحاب الاحتمال الثاني ، يعني عدم اعتبار المساواة ، بل في بعض كلماتهم التصريح به » ، ثمّ قال : « ولم نقف على نصّ ظاهر من كلام الأصحاب في خلافه إلّا ظاهر كلام بعض المتأخّرين » (١٠).

وثانيها : القول باعتبار المساواة في الكرّ ، وخروجه عن الكثرة بالاختلاف خصوصا إذا كان الاختلاف بالتسنيم ونحوه ، وقضيّة ذلك عدم تقوّم شي‌ء من الأعلى والأسفل في صورة الاختلاف بالآخر ، فينجّس كلّ منهما بوقوع النجاسة ولم نقف على من صرّح به إلّا صاحب المعالم ـ في كلام محكيّ (١١) له ـ قائلا : « بأنّ الأخبار المتضمّنة لحكم الكرّ ـ أشبارا وكمّيّة ـ اعتبار الاجتماع في الماء ، وصدق الوحدة والكثرة عليه ، وفي تحقّق

__________________

(١) رياض المسائل ١ : ١٣٦.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦٤ حيث قال : « ثمّ اعلم : أنّ الّذي يظهر ، عدم اشراط تساوي السطح في الكرّ » ... الخ.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٨.

(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٨٩.

(٥) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥١٣ حيث قال ـ في بحث ماء الحمّام ـ : « كان الاستثناء من جهته. عدم اعتبار تساوي السطوح كما هو الغالب في ماء الحمّام ، والحقّ أنّ ماء غير الحمّام أيضا كذلك ».

(٦) مشارق الشموس : ٢٠٢ حيث قال : « فقد تلخّص بما ذكرنا أنّ الظاهر عدم اشتراط مساواة السطح في الكرّ مطلقا ... ».

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٤٤.

(٨) المعتبر : ١١.

(٩) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(١٠) مشارق الشموس : ٢٠٠.

(١١) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٢٣١.

١٢١

ذلك مع عدم المساواة في كثير من الصور نظر ، والتمسّك في عدم اعتبارها بعموم ما دلّ على عدم انفعال مقدار الكرّ بملاقاة النجاسة مدخول ، لأنّه من باب المفرد المحلّى باللام وقد بيّن في المباحث الاصوليّة أنّ عمومه ليس من حيث كونه موضوعا لذلك على حدّ صيغ العموم ، وإنّما هو باعتبار منافاة عدم إرادته الحكمة ، فيصان كلام الحكيم عنه.

وظاهر أنّ منافاة الحكمة حيث ينتفي احتمال العهد ، ولا ريب أنّ تقدّم السؤال عن بعض أنواع الماهيّة عهد ظاهر ، وهو في محلّ النزاع واقع ؛ إذ النصّ متضمّن للسؤال عن الماء المجتمع وحينئذ لا يبقى لإثبات الشمول لغير المعهود وجه » (١).

وقد يستظهر ذلك من كلام العلّامة ـ كما أشار إليه في شرح الدروس ـ ويقال : « إنّ كلام العلّامة في بحث الحمّام حيث اعتبر كرّيّة المادّة مطلقا ممّا يشعر به ؛ لأنّه لو لم يعتبر مساواة السطح لم يلزم كرّيّة المادّة وحدها ، بل إنّما يلزم أن يكون المجموع من المادّة والحوض الصغير والساقية بينهما كرّا.

لا يقال : ما ذكرتم أعمّ من المدّعى ؛ لأنّ اعتبار الكرّيّة مطلقا في المادّة يدلّ على أنّ عند المساواة أيضا يلزم كرّيّة المادّة ، فعلم أنّ الوجه غير ما ذكر.

لأنّا نقول : إطلاق الحكم إنّما هو بناء على الغالب ؛ إذ الغالب أنّ مادّة الحمّام أعلى ، ويؤيّده أنّه إنّما يمثّل في العلوّ بماء الحمّام كما فعله المصنّف في الذكرى (٢) » انتهى.

واجيب عنه : بأنّ اعتبار ذلك في مادّة الحمّام على فرض تسليمه لعلّه لخصوصيّة فيه لا تتعدّاه إلى غيره ممّا هو من محلّ البحث ، فلا وجه لجعل ذلك من العلّامة قرينة على أنّه قائل به مطلقا ، وأجاب عنه في شرح الدروس (٣) بوجوه :

الأوّل : ما يرجع محصّله إلى منع كون اعتبار الكرّيّة في مادّة الحمّام لأجل حفظ الحوض الصغير عن الانفعال بملاقاة النجاسة ، بل إنّما هو لأجل تطهيره بعد ما طرأه الانفعال ، نظرا إلى أنّ ماء الحمّام حكمه حكم الجاري في تطهير القليل المنفعل ولا يكون ذلك إلّا إذا كان المادّة وحدها كرّا ، إذ ما دون الكرّ لا يصلح لأن يطهّر الماء.

الثاني : ما يرجع ملخّصه إلى أنّ ذلك لعلّه لمراعاة ما هو الغالب في الحمّام من أنّ

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٣) مشارق الشموس : ٢٠٠.

١٢٢

الماء يؤخذ فيه كثيرا من الحوض الصغير ، فلو اكتفى بكرّيّة المجموع ممّا فيه وفي المادّة والساقية لطرأه القلّة بواسطة الأخذ منه فينفعل إذا لاقاه النجاسة ، فلا بدّ فيه من عاصم يحفظه عن طروّ القلّة عليه صونا له عن الانفعال ، ولا يكون ذلك إلّا مع اعتبار الكرّيّة في المادّة ، فاعتبارها حينئذ ليس لأجل اعتبار مساواة السطح في الكرّ كما هو محلّ النزاع ، بل لأجل أنّه مانع عن زوال الكرّيّة المعتبرة في المجموع.

الثالث : ما يرجع مفاده إلى أنّ ذلك لعلّه من جهة أنّ العلّامة قائل بمانعيّة الاختلاف على نحو التسنيم ، نظرا إلى أنّ الغالب في الحمّامات انحدار مائها بالميزاب ونحوه ، لا من جهة أنّه مانع عن الاختلاف مطلقا وكلامنا فيه لا في الأوّل الخ (١).

وهذه الأجوبة في حدّ نفسها وإن كانت جيّدة ، حاسمة لدعوى مصير العلّامة إلى تلك المقالة لمجرّد ما اعتبره في المادّة من الكرّيّة ، غير أنّها في مقابلة ما تقدّم من العبارة واردة في غير محلّها ، من حيث إنّ هذا الرجل ليس جازما في إسناد تلك المقالة إلى العلّامة ، ولا أنّه مدّع لدلالة كلام العلّامة على ذلك دلالة معتبرة في نظائره ، بل غاية ما ادّعاه الإشعار وهو دون الدلالة ، وكأنّه أعرض عن دعوى الدلالة بملاحظة قيام ما ذكر من الاحتمالات ، فارتفع النزاع عن البين جدّا.

وثالثها : ما أبرزه في الحدائق من التوقّف والعجز عن ترجيح أحد القولين الأوّلين ، قائلا : « بأنّ الحكم في المسألة لا يخلو عن إشكال ، ينشأ من أنّ المستفاد من أخبار الكرّ تقارب أجزاء الماء بعضها من بعض ، كقوله عليه‌السلام ـ في صحيحة إسماعيل بن جابر حين سأله عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء ـ فقال : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » (٢) ، ونحوها من الأخبار الدالّة على التقدير بالمساحة ، وصحيحة صفوان المتضمّنة للسؤال عن الحياض الّتي بين مكّة والمدينة ، حيث سئل عليه‌السلام وكم قدر الماء؟ قال : قلت إلى نصف الساق وإلى الركبة وأقلّ ، قال : « توضّأ » (٣) ـ إلى قوله ـ بعد ما ذكر جملة من المؤيّدات

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٠٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٢ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٧.

١٢٣

وتكلّم مع أهل القول بعدم اعتبار المساواة بالمناقشة في أدلّتهم من العمومات والأصل والاستصحاب ـ : « وينشأ من إطلاق الأخبار بأنّ بلوغ الماء كرّا عاصم له عن الانفعال بالملاقاة ، والأخبار الدالّة على التحديد بالمساحة وإن أفهمت بحسب الظاهر اعتبار الاجتماع فيه ، إلّا أنّه إن أخذ الاجتماع فيها على الهيئة الّتي دلّت عليه فلا قائل به إجماعا وإن أخذ الاجتماع الّذي هو عبارة عن تساوي السطوح فلا دلالة لها عليه صريحا » ـ إلى أن قال ـ : « فمجال التوقّف في الحكم المذكور لما ذكرناه بيّن الظهور والاحتياط لا يخفى » (١).

وأمّا المقام الثاني : فمحصّل خلافهم فيه يرجع إلى قولين :

أحدهما : ما عليه الأكثر من أنّه لا يتفاوت الحال في عدم قدح الاختلاف في تقوّي بعض الماء ببعض بين الأعلى والأسفل ، وهو المستفاد من الجماعة المتقدّمة صراحة وظهورا.

وثانيهما : ما هو صريح جامع المقاصد في شرح القواعد ، حيث ـ إنّه بعد ما نقل عبارة المتن من أنّه لو اتّصل الواقف القليل بالجاري لم ينجّس بالملاقاة ـ قال : « يشترط في هذا الحكم علوّ الجاري ، أو مساواة السطوح ، أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل ، لانتفاء تقوّيه بدون ذلك » (٢).

وربّما يعزى ذلك إلى صريح العلّامة في التذكرة (٣) ، والشهيد في الدروس (٤) ، والذكرى (٥) ، والبيان (٦) ، وقد يتوهّم لأجل ذلك التدافع بين كلامي العلّامة بل الشهيد أيضا ، حيث إنّهما يصرّحان في موضع بالحكم من دون تقييد بما يقضي بعدم تقوّي الأعلى بالأسفل ، ثمّ يصرّحان عقيب ذلك بقليل بما يخالف ذلك ، وأنت إذا تأمّلت في أكثر عبائرهم لوجدتها غير مخالفة لما عليه الأكثر لا صراحة ولا ظهورا وإن أوهمت ذلك في بادي النظر ، وإن شئت صدق هذه المقالة فلاحظ ما ذكره الشهيد في الدروس بقوله : « ولو كان الجاري لا عن مادّة ولاقته النجاسة لم ينجّس ما فوقها مطلقا ، ولا ما تحتها إن كان جميعه كرّا فصاعدا إلّا مع التغيّر » (٧) ، فأطلق الحكم بعدم نجاسة ما تحت موضع الملاقاة إذا بلغ المجموع كرّا من غير اشتراط استواء السطح.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٣٣.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١١٥.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.

(٤ و ٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩. (٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٦) البيان : ٩٩.

١٢٤

ثمّ قال ـ بعد ذلك بقليل ـ : « ولو اتّصل الواقف بالجاري اتّحدا مع مساواة سطحهما ، أو كون الجاري أعلى لا العكس ، ويكفي في العلوّ فوران الجاري من تحت الواقف » (١).

فاعتبر في صدق الاتّحاد مساواة السطحين أو علوّ الكثير ، وممّن صرّح بتناقض هذين الكلامين المحقّق الخوانساري (٢) عند شرح الكلام الأوّل ، وعن صاحب الذخيرة (٣) أنّه جعلهما من باب الاضطراب في الفتوى الّذي نسبه إلى جماعة من متأخّري الأصحاب.

وأنت إذا تأمّلت لوجدت أنّ ذلك ليس على ما ينبغي ، لما أفاده خالنا العلّامة دام ظلّه (٤) من إمكان حمل مسألة اتّصاف الواقف بالجاري والحكم باتّحادها مع مساواة السطح أو علوّ الجاري دون العكس ، على كون الواقف المتّصل بالجاري بمنزلة الجاري في جميع أحكامه الّتي منها تطهير ما ينفعل من الماء عند تحقّق أحد الشرطين المذكورين ، لا في عدم الانفعال بالملاقاة خاصّة كما هو موضع البحث في مسألة الكرّ ، بخلاف ما لم يتحقّق فيه الشرط ، فيمكن أن يقول فيه حينئذ بعدم الانفعال بالملاقاة ، بناء على أنّ الأعلى يتقوّم بالأسفل كما أنّ الأسفل يتقوّم به ، وإن لا يقول به فليست العبارة بصريحة في التناقض ولا ظاهرة فيه.

وكيف كان : فاعترض صاحب المدارك عليهم ـ في القول بعدم تقوّي الأعلى بالأسفل ـ : « بأنّه يلزمهم أن ينجّس كلّ ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر إذا لم يكن فوقه كرّا ، وإن كان نهرا عظيما وهو معلوم البطلان » (٥).

وعن صاحب المعالم (٦) دفع ذلك بإمكان التزام عدم انفعال ما بعد عن موضع الملاقاة بمجرّدها لعدم الدليل عليه ؛ إذ الأدلّة على انفعال ما نقص عن الكرّ بالملاقاة مختصّة بالمجتمع والمتقارب ، وليس مجرّد الاتّصال بالنجس موجبا للانفعال في نظر الشارع وإلّا لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل لصدق الاتّصال ، وهو منفيّ قطعا ، وإذا لم يكن الانفعال بمجرّده موجبا لسريان الانفعال ، فلا بدّ في الحكم بنجاسة البعيد من دليل.

نعم ، جريان الماء النجس يقتضي نجاسة ما يصل إليه ، فإذا استوعب الأجزاء

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٢) مشارق الشموس : ٢٠١.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٨.

(٤) وهو المحقّق السيّد رضيّ الدين القزويني ، (الكرام البررة ٢ : ٥٧٦) ولكنّا لم نعثر على ما نقل عنه المصنّف قدس‌سره.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٤٥.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٤٥.

١٢٥

المنحدرة نجّسها وإن كثرت ولا بعد في ذلك ، فإنّها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل ، فكما أنّه ينجّس بملاقاة النجاسة له ـ وإن قلّت وكان مجموعه في غاية الكثرة ـ فكذا هذه.

وأورد عليه المحقّق الخوانساري : « بأنّه بعد تسليم انفعال ما نقص عن الكرّ بالملاقاة مع الاجتماع والتقارب ، لا شكّ أنّه يلزم نجاسة جميع ماء النهر المذكور ؛ لأنّ النجاسة ملاقية لبعضه ، وذلك البعض ملاق للبعض الآخر القريب منه ، وهكذا فينجّس الجميع ، إذ الظاهر أنّ القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لا يفرّقون بين النجاسة والمتنجّس ، وما ذكره من أنّ مجرّد الاتّصال بالنجس لو كان موجبا للانفعال في نظر الشارع لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل.

ففيه : أنّه مخصّص عن العموم بالإجماع ، فإلحاق ما عداه به ممّا لا دليل عليه قياس لا نقول به ، على أنّ الفارق أيضا موجود كما ذكره بعض من عدم تعقّل سريان النجاسة إلى الأعلى » (١).

ثمّ إنّ المحقّق الشيخ عليّ احتجّ على ما صار إليه : « بأنّ الأسفل والأعلى لو اتّحدا في الحكم ، للزم تنجّس كلّ أعلى متّصل بأسفل مع القلّة وهو معلوم البطلان ، وحيث لم يتنجّس بنجاسته لم يطهّر بطهره » (٢) انتهى.

ومراده بالأسفل في قوله : « كلّ أعلى متّصل بأسفل » ما كان من الأسفل متنجّسا ، وإلّا لا يعقل تنجّس الأعلى به وهو طاهر ، وبالقلّة في قوله : « مع القلّة » المجموع.

وأجاب عنه في المدارك : بأنّ الحكم بعدم نجاسة الأعلى بوقوع النجاسة فيه مع بلوغ المجموع منه ومن الأسفل الكرّ إنّما كان لاندراجه تحت عموم الخبر ، وليس في هذا ما يستلزم نجاسة الأعلى بنجاسة الأسفل بوجه ، مع أنّ الإجماع منعقد على أنّ النجاسة لا تسري إلى الأعلى مطلقا (٣).

وقد يقرّر : بأنّ القول بتقوّي الأعلى بالأسفل ، إمّا لكونهما ماء واحدا مندرجا تحت

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٠١.

(٢) حكاه عنه في مشارق الشموس : ٢٠١ ـ وأيضا عنه في مدارك الأحكام ١ : ٤٥.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٤٥.

١٢٦

عموم « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه » (١) أو لعدم دليل على تنجّسه بناء على عدم عموم في أدلّة انفعال القليل كما ذكرنا ، فإن كان الأوّل فإنّما يلزم ما ذكره لو ثبت أنّ كلّ ماء واحد قليل ينجّس جميعا بنجاسة بعض منه وإن كان أسفل من بعض آخر ، ولم يثبت لما عرفت من عدم دليل عامّ على انفعال القليل ، وعلى تقدير وجوده نقول : إنّه مخصّص بغير صورة النزاع ، للإجماع على عدم سراية النجاسة عن الأسفل إلى الأعلى ، وذلك الإجماع لا يستلزم خروج الأسفل والأعلى عن الوحدة كما لا يخفى ، وقس عليه الحال في نجاسة أسفل الكثير بالتغيّر وعدم نجاسة ما فوقه ، وإن كان الثاني فالأمر أظهر.

فقد انقدح لك بجميع ما فصّلناه في تحرير النزاع ومحلّه ، من تكلّف ذكر العبارات وتعرّض نقل النقوض والإبرامات ، امور :

الأوّل : اتّفاقهم على اعتبار الاتّصال فيما بين أجزاء الماء لو كانت متفرّقة ، فلو انفصل بعضها عن بعض من دون توسّط ما يوجب بينها الوصل ـ ولو بنحو الساقية أو الثقبة ـ لم يكن من محلّ النزاع في شي‌ء ، ولا أنّ المجموع من الكرّ المحكوم عليه بعدم الانفعال بالملاقاة.

والثاني : كون العمدة فيما هو مناط موضع البحث صدق الوحدة عند اختلاف السطوح وعدمه.

والثالث : قضيّة ما تقدّم عن صاحب المعالم كون الاجتماع فيما بين أجزاء الكرّ ممّا له مدخليّة في الحكم ، فلا يكون مجرّد تساوي السطوح عنده مع فرض عدم الاجتماع ـ كما لو تواصلت المياه المتفرّقة في نظر الحسّ بعضها مع بعض المستوية السطوح ـ كافيا في انعقاد موضوع الحكم.

والرابع : عدم كون الخلاف عن نصوص واردة في المسألة بخصوصها ، بل مبناه على الاستظهارات الناشئة عن أخبار الكرّ ، فكلّ يستظهر مطلبه عنها بملاحظة شي‌ء من الجهات الموجودة فيها ولو في نظر الوهم ، وبذلك يعلم أنّ الأمر في تحقيق المسألة هيّن ، لوضوح طريقه واتّضاح مدركه ، فلا بدّ من النظر في مساق الأخبار المذكورة ومفادها حسبما

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

١٢٧

يساعد عليه العرف وفهم أهل اللسان ، ويوافقه القواعد المحكمة المقرّرة في مظانّها.

فنقول : يمكن الاستدلال لمشترطي المساواة بصحيحة محمّد بن مسلم ـ المتقدّمة ـ المتضمّنة لقول السائل : « قلت له : الغدير ماء مجتمع إلخ » (١) القاضية باعتبار الاجتماع ، الّذي هو أخصّ من مساواة السطح.

ورواية الكافي المتضمّنة لقوله عليه‌السلام « إذا كان الماء في الركيّ » (٢) نظرا إلى أنّ الركيّة ـ وهي البئر ـ ممّا لا يعقل فيه الاختلاف.

وصحيحة صفوان المشتملة على السؤال عن حياض ما بين مكّة والمدينة (٣) وصحيحة إسماعيل بن جابر (٤) وغيرها ممّا يتضمّن تحديد الكرّ بالمساحة على وجه لا يعقل معه عدم الاجتماع ويبعد عدم المساواة ، فلو لا هذه الامور معتبرة في نظر الشارع لما وردت الروايات على هذا النمط.

وأنت خبير بأنّه ليس شي‌ء من ذلك بشي‌ء ، بل كلّ من ذا أوهن من بيت العنكبوت ، على وجه لا يمكن التعويل عليها في إثبات مثل هذا الحكم ، المخرج على خلاف الأصل من جهات شتّى :

أمّا الأوّل من الوجوه فيدفعه : أنّ من المقرّر في المباحث الاصوليّة أنّ خصوصيّة المورد والسؤال لا تصلح مخصّصة للوارد والجواب ، بل العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المحلّ ، وكما أنّ أفراد الغدير بالسؤال عنه لا يقتضي باختصاص الحكم به ولا ينافي شموله غيره كائنا ما كان ـ كما هو المجمع عليه هنا ويعترف به الخصم جدّا ـ فكذلك خصوصيّة الوصف الوارد معه في السؤال أيضا لا يقتضي بذلك ، كيف وأنّ الفرع لا يزيد على الأصل.

وإلحاقه بقاعدة مفهوم الوصف ـ لو قيل به ـ مدفوع بمنع حجّيّة ذلك المفهوم إلّا في مواضع ليس المقام منها ـ كما قرّر في محلّه ـ ومنع اعتباره هنا على فرض الحجّيّة ، من

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٠ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٢ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٧.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ١٤ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١٤.

١٢٨

حيث عدم وروده إلّا في كلام السائل ، والعبرة إنّما هو بما ورد في كلام المسئول وهو خال عن القيد ، ولا يلزم من عدم إرادته في الجواب خروجه عن المطابقة للسؤال ، لعدم انكشاف كون وروده في السؤال على وجه له مدخليّة في غرض السائل ، لقوّة احتمال ـ بل ظهور ـ كونه حكاية للواقعة حسبما وقعت في الخارج ، من دون التفات إلى مدخليّة الخصوصيّة وعدمها ، كما هو واقع وشائع في جميع العرفيّات وكافّة الأجوبة والسؤالات.

وأمّا الثاني : فقد تبيّن حاله بما ذكرنا ، فإنّ خصوصيّة أصل الركيّة ممّا لا مدخليّة له في الحكم فضلا عن الوصف الموجود فيها في نظر الوهم ، هذا مع توجّه المنع إلى ظهورها في الاجتماع أو المساواة ، لوضوح أنّ المذكور في الخطاب إنّما هو الركيّ ، وهو جمع « الركيّة » على ما عن الصحاح (١) و « الركيّة » هي البئر على ما في المجمع (٢) فيكون إطلاق الرواية قاضيا بأنّه لو كان المجموع من مياه آبار متعدّدة كرّا ـ كما قد يتّفق ذلك ـ كان كافيا في حكم عدم الانفعال فيفوت به اعتبار الاجتماع.

بل لك أن تقول : بمنع ظهوره في المساواة الّتي لا تتحقّق في مفروض المسألة غالبا إلّا بعدم الجريان ، وقد يتّفق كثيرا جريان المجتمع من مياه الآبار عن تحت الأرض كما في القنوات ، ولا ريب أنّ الإطلاق يشمله فترتّب عليه الحكم.

وأمّا الثالث : فالكلام فيه أيضا نظير ما عرفت ، فإنّه سؤال عن محلّ الابتلاء ، أو عمّا عساه يبتلى به ، من دون نظر إلى الخصوصيّات القائمة به ، فلا يوجب شي‌ء منها وهنا في عموم الجواب الوارد عليه الماهيّة المطلقة الّتي حيثما وجدت أوجبت جريان الحكم المعلّق عليها.

وأمّا الرابع : فلأنّ المتبادر في نظائره بيان ضابط كلّي يرجع إليه في مواضع الشبهة ، وهو بلوغ الماء المشكوك في حاله بعد الجمع بحسب المساحة هذا المقدار ، من دون مدخل لخصوصيّة الوضع والشكل في الحكم ، كيف ولو صحّ المدخليّة لوجب الاقتصار على ما يخرج معه الحساب صحيحا مستقيما في جميع الأبعاد الثلاث على حسبما هو صريح التحديد ، من دون حاجة إلى الكسر وإضافة ما خرج في بعضها عن حدّه

__________________

(١) الصحاح ؛ مادّة « ركا » ٦ : ٢٣٦١.

(٢) مجمع البحرين ؛ مادّة « ركا » ١ : ١٩٤.

١٢٩

المضروب إلى ما نقص منها عن هذا الحدّ ، فيلزم أن لا يكون بما عدا المربّع من الأشكال المختلفة من المثلّثات والدوائر والمستطيلات والهلاليّات ونحوها عبرة في ترتيب أحكام الكرّ ، وهو في غاية البعد ، بل يشبه بكونه خلاف الإجماع بل خلاف الضرورة ، مع أنّ الاختلاف على وجه الانحدار الّذي يتحقّق مع جريان اليسير ـ خصوصا إذا لم يكن فاحشا ـ لا ينافي شيئا من تلك التحديدات.

سلّمنا ولكن جميع ما ذكر في تلك الوجوه يعارضه ظاهر روايات اخر واردة في هذا الباب ، كرواية محمّد بن مسلم المتضمّنة للسؤال عن الماء الّذي تبول فيه الدوابّ (١) ، وصحيحة عليّ بن جعفر المشتملة على السؤال عن الدجاجة والحمامة وأشباهها تطأ العذرة ثمّ تدخل الماء (٢) ، وصحيحة إسماعيل بن جابر المتضمّنة للسؤال عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء (٣) ، فإنّ السؤال في كلّ ذلك ورد على وجه عامّ وطابقه الجواب ، مع اقترانه بترك الاستفصال من دون إشعار فيهما بشي‌ء من الأحوال والخصوصيّات ، فلو لا الحكم عامّا لجميع الصور لكان ترك التنبيه على ما له مدخليّة ـ لو كان في مقام التعليم والبيان ـ منافيا للحكمة ، وهو كما ترى.

فلو سلّم عدم كون هذه بنفسها أظهر من الطرف المقابل كان غايته التساقط ، فتبقى الأخبار المطلقة الغير المسبوقة بالأسئلة كالنبويّ المتقدّم (٤) ، وصحيحة معاوية بن عمّار (٥) المشتملين ابتداء على قولهم عليهم‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » سليمة عن المعارض.

وينبغي التعرّض لوجه دلالة هذه على المطلوب ليتّضح المقام كمال الوضوح. فنقول : شبهة الخصم إمّا أن تنشأ عن توهّم قصور لفظة « الماء » عن الدلالة على ما يعمّ نظائر المقام ، أو تنشأ عن توهّم ذلك في لفظة « الكرّ » ، أو عن توهّم ذلك في الهيئة التركيبيّة

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٩٣ / ٤٠٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١٤.

(٤) الفائق ١ : ١٦٤ ؛ غريب الحديث ـ للهروي ـ ١ : ٣٣٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩ بسند آخر.

١٣٠

الكلاميّة المشتملة عليهما وعلى ما يسند إليهما من الفعلين ، ولا سبيل إلى شي‌ء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ « الماء » من أسماء الأجناس الواقعة على القليل والكثير ، المشتركة فيها بين الأكثر والأقلّ ، والكلّ والأبعاض ، كالتمر والحنطة ونحوها ممّا يختلف أفرادها وتتمايز بالقلّة والكثرة ، فالكرّ من الماء ماء ، وصاع منه ـ بل مدّ وغرفة منه على فرض الانفصال ـ ماء ، ولو وزّع أرطالا مثلا وجعل كلّ رطل في مكان ، فإن لم يوصل بين كلّ وصاحبه بساقية كان كلّ واحد ماء والمجموع مياه ، وإلّا كان المجموع ماء ، ولو صبّ الماء من آنية على رأس منارة حتّى يصل منتهاه إلى وجه الأرض كان المجموع ممّا فيهما وما في أثناء النزول ماء ما دام الاتّصال باقيا ، بخلاف ما لو انقطع الاتّصال فكان ما في الآنية ماء ، وما في المنارة آخر ، وما على وجه الأرض ثالثا.

وقضيّة ذلك : سراية الحكم لو علّق على الطبيعة من حيث هي إلى جميع تلك المصاديق من غير أن يخرج شي‌ء منها.

وتوهّم : كون ما فرض في مسألة المنارة من نادر تلك المصاديق ، والإطلاق إنّما ينصرف إلى شائعها ـ كما هو مقرّر في المسائل الاصوليّة ـ يدفعه : منع الاعتبار بندرة الوجود ، وغيرها غير موجود.

وأمّا الثاني : فلأنّ « الكرّ » من الألفاظ الموضوعة لمقدار معيّن ، ولو بحسب الشرع أو على سبيل المجاز ، فلا يقع على الأبعاض كالمنّ ونحوه ، بل يقع على المجموع من حيث هو ، فلهيئته الاجتماعيّة دخل في الصدق ، نعم يكفي في الصدق عليها اتّصال ما بينها إذا كانت متفرّقة في محالّ متعدّدة ، فالمقدار الوارد في الروايات كرّ بأيّ شكل فرض ، حتّى ما يفرض منه في المنارة على الوجه المتقدّم ، فيكون مفاد الروايات بعد الجمع بين مدلوله ومدلول الماء نظير ما لو قيل : ما يقع عليه اسم الماء فهو ممّا لا ينجّسه النجاسة بمجرّد وقوعها فيه إذا كان ممّا يقع عليه اسم الكرّ. ولا ريب أنّ ذلك معنى عامّ لا يشذّ منه شي‌ء من أفراد الماء ، ولا شي‌ء من مصاديق الكرّ ، ومعه كيف يناقش في دلالة ذلك على عموم الحكم ، ولم يسبقه ما يصلح قرينة على العهد الصارف للعامّ إلى الخصوص ، ومن أين يجي‌ء اعتبار الاجتماع أو مساواة السطوح أو نحو ذلك ،

١٣١

فهل لك أن تقول : بأنّ ما عرى عنهما ليس بماء ، أو أنّه ليس من الكرّ حتّى لا يكون مشمولا للدليل ، أو تقول : بأنّ ذلك شرط خارج عنهما بكليهما معتبر معهما في الحكم على حدّ سائر الشروط الواردة في الشريعة ، ولم يقم عليه من الشارع دلالة ولا إشارة مع كون الحكم ممّا يعمّ به البلوى ، بل هو أعمّ ابتلاء من سائر الشرعيّات.

وتوهّم : عدم انصراف الهيئة التركيبيّة إلى نظائر المقام ، مع عدم اقترانها بما يوجب ذلك ، وظهور سياقها في ورودها لإعطاء قاعدة كلّيّة مندرجة في قولهم عليهم‌السلام : « علينا أن نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا » (١) الّتي لا تصلح لذلك إلّا على تقدير كون موضوعها مأخوذا على وجه عامّ معبّر عنه بالماهيّة لا بشرط شي‌ء ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

وكلّ ذلك ممّا يرفع الحاجة إلى التشبّث بالاعتبارات أو الاستبعادات المخرجة في المقام لتأييد هذا المذهب ـ الّتي قد عرفت بعضها ـ كما أنّه ممّا يحسم مادّة الاستبعادات والاعتبارات الاخر المخرجة لتأييد خلاف المذهب بالكلّيّة ، كما أنّه ممّا لا يفترق فيه الحال بين أنواع الاختلاف ، ولا بين أوضاع الماء من علوّ أو دنوّ أو غيرهما ، فإنّ قضيّة العموم تقوّم كلّ بعض من أبعاض الكرّ بالآخر كيفما اتّفق.

والقول : بأنّ الأسفل والأعلى لو اتّحدا في الحكم للزم تنجيس كلّ أعلى طاهر متّصل بأسفل متنجّس مع فرض قلّة المجموع وهو باطل ، فحيث إنّه لا ينجّس بنجاسته فلا يطهّر بطهارته ، كما عرفته من المحقّق الكركي (٢).

يدفعه : منع الملازمة ، بعد ملاحظة قيام الدلالة على المقدّم دون التالي ، بل قيامها على خلافه كما عرفته من الإجماع ، مع أنّا لا نقول : بأنّ العالي يطهّر بطهر السافل ، إذ ليس بحثنا في مسألة التطهير ، بل نقول : إنّه لا ينفعل من جهة وجوده كما في صورة العكس ، وعدم كونهما متّحدين في سائر الأحكام لا يقضي بكونهما كذلك في مسألة التقوّم والاعتصام ، لوضوح بطلان دعوى الملازمة ، كيف ولو لا ذلك اتّجه قبول الانفعال وهو لكونه حكما مخالفا للأصل بل الاصول لا بدّ له من دلالة ، وأنّى لهم الدلالة عليه ، مع

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٦١ ، ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٥١.

(٢) تقدم في الصفحة : ١٢٤.

١٣٢

الجزم بعدم اندراجه في أدلّة انفعال القليل كما اعترفوا به.

وبالجملة : لا إشكال في حكم المسألة أصلا في شي‌ء من صورها ، نعم لو شئت الأخذ بالاحتياط في بعضها فلا بأس به خروجا عن شبهة الخلاف ، لأنّه حسن على كلّ حال.

ويقوي رجحان الاحتياط فيما لو بلغ الاختلاف حدّا يضعف به صدق الوحدة ، لضعف الاتّصال برقّة الساقية أو دقّة الثقبة كرأس الإبرة ونحوه ، إلّا أنّه لا يبلغ مرتبة الوجوب لعدم صلوحه معارضا للأصل الأصيل الّذي تقدّم الكلام في تحقيقه ، نعم ، يتعيّن الانفعال لو بلغ ضعف الاتّصال حدّا لا يقال معه ماء ، بل يقال ماءان.

ولنختم المقام بإيراد فروع :

الأوّل : إذا وقعت في الكرّ نجاسة مائعة غير مغيّرة جاز استعمال جميعه كما صرّح به العلّامة في المنتهى (١) ؛ لأنّه من آثار الكرّيّة ولوازمها ؛ ولأنّه لو منع عن استعماله فإمّا في الجميع أو في البعض ، والأوّل خلاف الإجماع ، والثاني ترجيح بلا مرجّح.

وقد يعزى إلى بعض الشافعيّة (٢) المنع عن ذلك في المقدار من الماء الّذي لا ينفعل بالنجاسة.

وأمّا لو وقعت فيه نجاسة متميّزة فجاز استعمال الماء المجاور لها ولا يجب التباعد ، وفاقا للعلّامة في الكتاب (٣) ، لأنّه منوط بالمائيّة والطهارة وهما حاصلان في الفرض.

الثاني : لا فرق في عدم انفعال الكثير بالملاقاة الغير المغيّرة بين أنواع النجاسة ، لعموم « لا ينجّسه شي‌ء » (٤) خلافا لأحمد (٥) في قوله بالانفعال بوقوع بول الآدميّين وعذرتهم الرطبة ، استنادا إلى قوله عليه‌السلام : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الّذي لا تجري ثمّ يغتسل منه » (٦) وهو يتناول القليل والكثير.

__________________

(١ و ٣) منتهى المطلب ١ : ٤١.

(٢) المهذّب للشيرازي ١ : ٧ ؛ المجموع ١ : ١٣٩ ؛ فتح العزيز بهامش المجموع ١ : ٢١٤.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٥) المغني لابن قدامة ١ : ٦٦ ؛ إرشاد الساري ١ : ٣٠٤ ، الإنصاف ١ : ٥٩.

(٦) صحيح البخاري ١ : ٦٩ ، صحيح مسلم ١ : ٢٣٥ ح ٢٨٢ ، سنن أبي داود ١ : ١٨ ح ٦٩ سنن الترمذي ١ : ١٠٠. ح ٦٨ ، سنن النسائي ١ : ١٢٥ ، سنن الدارمي ١ : ١٨٦ مسند أحمد ٢ : ٣٤٦ ، نيل الأوطار ١ : ٣٩.

١٣٣

وجوابه : أنّه محمول على القلّة جمعا بين الأدلّة أو النهي ليس هنا للتحريم ، وعلى فرضه فلا ملازمة بينه وبين النجاسة إلّا بضميمة الإجماع وهو هنا على خلافه.

والزم أيضا : بأنّه لا يقول به في بول الكلب ، فلأن لا يقول به في بول الآدميّين طريق الأولويّة ؛ لأنّ نجاسة بول الكلب أزيد من نجاسته.

الثالث : لو اغترف من كرّ فيه نجاسة غير متميّزة كان المجموع من المأخوذ والباقي وآلة الاغتراف طاهرا ، ولو كانت النجاسة متميّزة فإن لم يخرج الباقي عن الكرّيّة كان الجميع أيضا طاهرا ، وإلّا كان المأخوذ مع باطن الآنية طاهرين ، والباقي مع ظاهر الآنية الملاصق للماء حين خروجها عنه نجسين.

هذا على تقدير دخول الآنية بأجمعها في الماء على وجه لم يخرج ما فيها وما في خارجها عن الاتّصال ، وإلّا نجس الجميع ، لخروج الماء بدخول جزء أوّل منه في الإناء عن الكرّيّة فينجّس بتخلّل الفصل بينه وبين ما فيها ، ولو دخلت النجاسة في الآنية في هذا الفرض فإن كان دخولها بأوّل جزء من الماء كان ما في الآنية مع باطنها نجسين والباقي مع ظاهرها طاهرين ، وإن كان دخولها أخيرا كان الجميع نجسا إن اتّفق سلب الاتّصال فيما بين ما دخل فيها وما خرج عنها ؛ لأنّ الخارج بانقطاعه عن الداخل في أوّل المرتبة قد صار نجسا ، لخروجه عن الكرّيّة ثمّ دخل منه ثانيا فيها جزء آخر وهو نجس ، وإلّا اختصّ النجاسة بما فيها مع باطنها ، وأمّا الباقي مع ظاهرها فهما باقيان على الطهارة.

الرابع : لو دخل الكلب أو أحد أخويه في الكرّ ، فهو طاهر ما دام الكلب داخلا فيه ، إن لم يتلف منه شيئا بشرب ونحوه ، وإذا خرج عنه انقلب حكمه إلى النجاسة من جهة الملاقاة مع القلّة ، كما أنّه كذلك على تقدير الإتلاف ولو مع الدخول.

الخامس : عن العلّامة في المنتهى : « أنّه لو جمد الكثير ثمّ أصابته نجاسة بعد الجمود ، فالأقرب عدم تنجّسه بها ما لم تغيّرها ، محتجّا بأنّ الجمود لم يخرجه عن حقيقته بل هو مؤكّد لثبوتها ، فإنّ الآثار الصادرة عن الحقيقة كلّما قويت كانت أوكد في ثبوتها ، والبرودة من معلولات طبيعة الماء وهي تقضي الجمود ، وإذا لم يكن ذلك مخرجا له عن الحقيقة كان داخلا في عموم قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه

١٣٤

شي‌ء » (١) (٢) وهو كما ترى من أوهن الأشياء كما تنبّه عليه صاحب الحدائق (٣) ، لعدم ابتناء أحكام الشرع على أمثال هذه الدقائق ، بل العبرة فيها بما يساعد عليه العرف أو اللغة ، ولا ريب أنّ عروض الجمود للماء يخرجه عن صدق اسم المائيّة ، ويسلب عنه الإطلاق فلا يتناوله الحكم المعلّق عليه حينئذ.

نعم لو قيل بهذا الكلام في مثل الدهن والدبس ونحوهما ممّا لا يخرج بالجمود عن الصدق كان متّجها ، فيترتّب عليه بعد الجمود الأحكام الثابتة له قبل الجمود ، غير أنّ المقام ليس منه جزما ، فكان الأقوى بل المتعيّن تنجّس موضع الملاقاة في الجامد ، كما عليه الشهيد في الدروس (٤) ، والمحقّق الخوانساري في شرحه (٥) ، واختاره في الحدائق (٦) ، وعزى استظهاره إلى بعض المحقّقين ، وعليه طهره كطهر سائر الجوامد ، فيحصل تارة بإلقاء العين مع ما يكتنفها إن كانت ذات عين ، واخرى باتّصاله بالجاري أو الكثير ، أو وقوع المطر عليه مع زوال العين في الجميع ، وثالثة بصبّ الماء القليل عليه على حدّ ما يتطهّر به سائر الجوامد.

السادس : الماء إذا كان كرّا وتغيّر بعضه فالجميع نجس إن كانت سطوحه مستوية ، وإلّا اختصّت النجاسة بالأسفل إن لم يكن موضع التغيّر هو الأعلى ، لإجماعهم على عدم السراية إليه ، وإن كان زائدا على الكرّ فتغيّر بعضه فإمّا أن يكون الباقي مقدار الكرّ أو أزيد منه أو أنقص ، وعلى التقادير فإمّا أن يستوعب النجاسة عمود الماء ـ وهو خطّ ما بين حاشيته عرضا وطولا ـ أو لا ، وعلى التقادير فإمّا أن يكون سطوحه مستوية أو مختلفة.

ومحصّل أحكام تلك الصور : أنّ الجميع في صورة النقصان مع استواء السطوح نجس ، ومع اختلافها كانت النجاسة مختصّة بالأسفل ، من غير فرق فيهما بين استيعاب العمود وعدمه ، كما أنّ الجميع في غير صورة عدم النقصان مع عدم استيعاب العمود طاهر ، من غير فرق بين استواء السطوح وعدمه ، وأمّا مع الاستيعاب فإن كانت الكرّيّة قائمة بمجموع الطرفين كان الجميع مع الاستواء والأسفل خاصّة مع الاختلاف نجسا ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٧٢ نقلا بالمعنى.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٩.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٨.

(٥) مشارق الشموس : ٢٠٤.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٨.

١٣٥

وإن كانت قائمة بأحدهما اختصّت الطهارة به مع الاستواء ، وأمّا مع الاختلاف فإن كانت الكرّيّة في الطرف الأسفل كان الجميع طاهرا ، أمّا هو فبالكرّيّة وأمّا الأعلى فبعدم السراية ، وإن كانت في الطرف الأعلى فهو الطاهر بجهتين دون الأسفل.

السابع : عن العلّامة أنّه حكم في القواعد (١) بالنجاسة في الماء الّذي يشكّ في كرّيّته إذا وجد فيها نجاسة ، وعن جامع المقاصد (٢) أنّه علّله : « بأنّ المقتضي للتنجيس موجود والمانع مشكوك فيه فينفى بالأصل » ، وكأنّه مبنيّ على توهّم كون الكرّيّة مانعة عن الانفعال كما سبق إلى بعض الأوهام ، وقد تقدّم منّا ما يهدم بنيان هذا البيان ، فالأقرب في الصورة المفروضة الحكم بالطهارة عملا بالاصول المحكمة ، ومثله الكلام فيما لو وجد نجاسة في الكرّ وشكّ في وقوعها عليه قبل بلوغ الكرّيّة أو بعد بلوغها.

الثامن : عن المحقّق في المعتبر : « أنّه لو تطهّر من ماء ثمّ علم فيه نجاسة وشكّ هل كانت قبل الوضوء أو بعده فالأصل الصحّة ، ولو علم أنّها قبله ولم يعلم هل كان كرّا أو أقلّ أعاد لأنّ الأصل القلّة » (٣).

وهو على إطلاقه غير وجيه ، إذ كثيرا ما لا يكون الماء مسبوقا بالقلّة ، ومعه لا معارض لأصل الطهارة حسبما اقتضته العمومات. فالمتّجه حينئذ صحّة الوضوء وعدم لزوم إعادته ، فإنّها وإن كانت معلّقة على طهارة الماء ، غير أنّ الطهارة منوطة بعدم العلم بالقذارة والمفروض منه ، وإنّما لا نقول به في صورة جريان أصالة القلّة ، لإمكان القول بأنّها علم شرعي بالقذارة وهو قائم مقام العلم ، فيدخل المفروض في غاية قوله عليه‌السلام : « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٤).

الجهة الخامسة : في تحديد الكرّ الّذي لا ينجّس بالملاقاة ، فاعلم : أنّ للأصحاب في تحديد الكرّ طريقين :

الطريق الأوّل : تحديده باعتبار الوزن ، فهو بهذا الاعتبار ألف ومائتا رطل ، كما عن الأصحاب قديما وحديثا ، وعليه نقل الإجماعات على حدّ الاستفاضة ، كما عن صريح الناصريّات (٥) ،

__________________

(١) قواعد الاحكام ١ : ١٨٣.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١١٩.

(٣) المعتبر : ١٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ وفيه : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ».

(٥) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة) ١ : ١٣٥.

١٣٦

والغنية (١) ، ومجمع الفائدة (٢) ، وظاهر الانتصار (٣) ، والمعتبر (٤) ، ونهج الحقّ (٥) ، وعن الصدوق في محكي [شرح] المفاتيح : « أنّه من دين الإماميّة » (٦) ، وفي الحدائق : « أنّه لا خلاف فيه » (٧) ، وفي الجواهر : « إجماعا منقولا بل محصّلا » (٨).

والأصل في ذلك مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الكرّ من الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء الف ومائتا رطل » ، الواردة في التهذيب في باب آداب الأحداث (٩) ، والاستبصار في باب كمّيّة الكرّ (١٠)، وفي الكافي في باب الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء (١١).

ولا يقدح ما فيها من الإرسال ، أمّا أوّلا : فلاتّفاقهم على أنّ مراسيل ابن أبي عمير في حكم مسانيده ، لأنّه لا يرسل إلّا عن ثقة.

وأمّا ثانيا : فلانجباره في خصوص المقام بعمل الأصحاب وقبولهم إيّاها.

ولا يعارضها ما في الصحيح ـ الوارد في التهذيب (١٢) والاستبصار (١٣) في زيادات باب المياه ـ عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله قال : قلت له الغدير ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء ، والكرّ ستّمائة رطل ».

ولا المرفوعة ـ الواردة في التهذيب في باب الأحداث (١٤) ـ عن عبد الله بن مغيرة رفعه إلى أبي عبد الله : « إنّ الكرّ ستّمائة رطل ».

__________________

(١) غنية النزوع : (سلسلة الينابيع الفقهيّة) ٢ : ٣٧٩.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٩.

(٣) الانتصار : ٨.

(٤) المعتبر : ١٠.

(٥) نهج الحقّ وكشف الصدق : ٤١٧.

(٦) حكى في مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) عن الصدوق في أماليه ، الورقة : ٥١٩.

(٧) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٤. (٨) جواهر الكلام ١ : ٣٣٩.

(٩ و ١١) الوسائل ١ : ١٦٧ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١١٣ ـ الاستبصار ١ : ١٠ / ١٥.

(١١) الكافي ٣ : ٦٣ ، الّا أنّه أسقط قوله : « الّذي لا ينجّسه شي‌ء ».

(١٢ و ١٣) ـ نقل ذيله في الوسائل ١ : ١٦٨ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ وصدره في ب ٩ من هذه الأبواب ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٧.

(١٤) الوسائل ١ : ١٦٨ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٣ / ١١٩ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٦.

١٣٧

ولا ما في التهذيب (١) والاستبصار (٢) والكافي (٣) الموصوف بالحسن عن زرارة قال : « إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجّسه شي‌ء تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ فيه ، إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء ».

ولا ما في الكتب المذكورة الموصوف بالحسن عن عبد الله بن مغيرة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الكرّ من الماء نحو حبّي هذا ، وأشار إلى حبّ من تلك الحباب الّتي تكون بالمدينة » (٤).

ولا ما في التهذيب (٥) والاستبصار (٦) في زيادات باب المياه ، عن عبد الله بن مغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شي‌ء ، والقلّتان جرّتان » ، ورواه في الفقيه أيضا مرسلا (٧).

أمّا الأوّلان : فلأنّهما إمّا محمولان على الرطل المكّي الّذي هو ضعف الرطل العراقي بقرينة ما سيجي‌ء ، أو ساقطان عن درجة الحجّيّة لمصير الأصحاب إلى خلافهما.

وأمّا الأواخر : فلإمكان حمل الجميع على ما يسع الكرّ إذ لا بعد فيه كما قيل ، مضافا إلى ما في الأخيرة من قوّة احتمال ورودها مورد التقيّة كما تقدّم إليه الإشارة ، مع ما في الجميع بعد الإغماض عمّا ذكر من الموهونيّة المسقطة عن الحجّيّة بمصير الأصحاب إلى المخالفة ، فهذا المقدار من المسألة بحمد الله والمنّة له ممّا لا إشكال فيه ، ولا شبهة تعتريه.

وإنّما الإشكال في تعيين المراد بالرطل الوارد في الرواية المذكورة ، فإنّ للأصحاب فيه خلافا ، منشؤه أنّ « الرطل » ممّا يقال بالاشتراك على ثلاث مقادير مخصوصة ، أحدها : بالعراقي ، وثانيها : بالمدني ، وثالثها : بالمكّي ، والأوّل من الثاني ثلثاه ، ومن الثالث نصفه ، كما أنّ الثاني منه ثلاثة أرباعه.

فالأوّل على ما فسّره به المشهور مائة وثلاثون درهما ، فيكون الثاني مائة وخمسة

__________________

(١ و ٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٨ ـ الاستبصار ١ : ٧ / ٧ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٦ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ الكافي ٣ : ٣ / ٨ ـ الاستبصار ١ : ٧ / ٥ ـ التهذيب ١ : ٤٢ / ١١٨.

(٥ و ٦) الوسائل ١ : ١٦٦ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣٠٩ الاستبصار ١ : ٧ / ٦ ـ الفقيه ١ : ٦ / ٣.

(٧) الفقيه ١ : ٦ ـ التهذيب ١ : ٤٤٠.

١٣٨

وتسعين درهما ، والثالث مائتين وستّين درهما ، وإنّما قيّدناه بالمشهور احترازا عمّا عن العلّامة من تفسيره في نصاب الغلّات من التحرير (١) والمنتهى (٢) : « بأنّه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم » ، فينقص من الأوّل بواحد وثلاثة أسباع واحد وفي كلام غير واحد أنّه سهو وغفلة.

وممّا يفصح عن ذلك ويشهد بصدق مقالة المشهور ، ما في مكاتبة الهمداني (٣) عن أبي الحسن عليه‌السلام : « إنّ الصاع ستّة أرطال بالمدني وتسعة أرطال بالعراقي ، ووزنه ألف ومائة وسبعون وزنة » (٤) ؛ فإنّ هذا التقدير يقتضي كون كلّ رطل من العراقي مائة وثلاثين وزنة ، مضافا إلى اقتضائه كون العراقي ثلثين من المدني ؛ إذ لو لا الرطل العراقي ناقصا من المدني بثلثه لما كان عدد أرطال الصاع بالعراقي زائدا على عدد أرطاله بالمدني بثلثه ، فيحصل الموازنة في أرطال الصاع بالعراقي بين نقصان المادّة وزيادة الهيئة ، فيرجع التقدير إلى أرطاله بالمدني ، كما أنّه لو حصلت الموازنة في أرطاله بالمدني بين نقصان الهيئة وزيادة المادّة رجع المقدّر إلى أرطاله بالعراقي فليتدبّر.

وكيف كان : فخلافهم المذكور واقع فيما بين العراقي والمدني دون المكّي الّذي قيل فيه بعدم ذهاب أحد إليه ، ولهم في ذلك الخلاف قولان :

أحدهما : ما نسب إلى المشهور من حمله على العراقي ، وفي المختلف (٥) : قال به الشيخ المفيد (٦) وأبو جعفر رحمهما‌الله (٧) ، وهو اختيار ابن البرّاج (٨) وابن حمزة (٩) وابن إدريس (١٠).

وفي شرح الدروس (١١) : « عليه الشيخ في النهاية (١٢) والمبسوط (١٣) ، وهذا يقتضي

__________________

(١) التحرير ـ زكاة الغلّات (الطبعة الحجريّة) : ٦٢.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٤٩٧.

(٣) الوسائل ٩ : ٣٤٠ ، ب ٧ من أبواب زكاة الفطرة ح ١ ـ التهذيب ٤ : ٨٣ / ٢٤٣ الكافي ٤ : ١٧٢ / ٩ ـ الاستبصار ٢ : ٤٩ / ١٦٣.

(٤) وقضيّة التحديد الوارد في الرواية أن يكون كلّ رطل مائة وثلاثين وزنة (منه) ـ وفسّرت الوزنة في كلام بعض الأصحاب بالدرهم (منه).

(٥) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤. (٦) المقنعة : ٦٤.

(٧ و ١٣) المبسوط ١ : ٦.

(٨) المهذّب البارع ١ : ٢١.

(٩) الوسيلة : ٧٣. (١٠) السرائر ١ : ٦٠.

(١١) مشارق الشموس : ١٩٦.

(١٢) النهاية : ٣.

١٣٩

كونه على طبق الرواية وإن كانت مرسلة لانجبارها بالعمل ».

وفي المناهل (١) : « ذهب إليه الحلّي في السرائر (٢) والفاضلان في المعتبر (٣) والشرائع (٤) والقواعد (٥) والإرشاد (٦) والمختلف (٧) ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (٨) والجعفريّة (٩) ، والمقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة (١٠) ، وصاحب المدارك (١١) والذخيرة » (١٢).

وربّما يعزى إلى محكيّ كشف الرموز (١٣) أنّ الشيخ ادّعى عليه الإجماع.

وثانيهما : ما عن المرتضى والصدوق في الناصريّات (١٤) والانتصار (١٥) والمصباح (١٦) والفقيه (١٧) من حمله على المدني ، وفي المختلف (١٨) : وأطلق ابن الجنيد (١٩) وسلّار » (٢٠).

وفي المناهل (٢١) : وربّما يظهر من الغنية (٢٢) والذكرى (٢٣) التوقّف.

احتجّ الأوّلون بوجوه :

الأوّل : ما قرّره العلّامة في المختلف (٢٤) : من أنّ الأصل طهارة الماء ، خرج ما نقص عن الأرطال العراقيّة بالإجماع فيبقى الزائد على الأصل ، وليس في النصّ ما ينافيه فيجب العمل عليه عملا بالأصل السالم عن المعارض.

وهذا الأصل لا يخلو عن إجمال لاحتماله الأصل الاجتهادي المستفاد من عمومات

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٠٦.

(٢) السرائر ١ : ٦٠.

(٣) المعتبر : ١٠.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ١٣.

(٥) قواعد الأحكام ١ : ١٨٣.

(٦) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٦.

(٧) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٨) جامع المقاصد ١ : ١١٦.

(٩) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣).

(١٠) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٩.

(١١) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.

(١٢) ذخيرة المعاد : ١٢٢. (١٣) كشف الرموز ١ : ٤٨.

(١٤) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٥). (١٥) الانتصار (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٠٥).

(١٦) نقله عنه في المعتبر : ١٠. (١٧) الفقيه ١ : ٦ ذيل الحديث ٢.

(١٨) مختلف الشيعة ١ : ١٨٥. (١٩) نقله عنه في المختلف ١ : ١٨٥.

(٢٠) المراسم العلويّة : ٣٦. (٢١) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١٠٦.

(٢٢) الغنية (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٣٧٩). (٢٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨١.

(٢٤) مختلف الشيعة ١ : ١٨٥.

١٤٠