ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

واحتجّ للقول الأوّل ـ كما في المنتهى ـ (١) : بأنّه ماء محكوم بنجاسته ، فلا بدّ من النزح والتخصيص ببعض المقادير ترجيح من غير مرجّح ، فوجب نزح الجميع.

ومرجعه إمّا إلى الاحتياط كما تقدّم عن الشيخ (٢) ، بدعوى : أنّ مع نزح الجميع يحصل القطع بجواز الاستعمال ومع نزح البعض لا يحصل اليقين بالجواز.

أو إلى الاستصحاب كما في كلام جماعة وهو الظاهر ، ويمكن كونه وجها آخر غيرهما كما هو الأظهر ، وعلى أيّ حال فهذا القول هو الأقرب بناء على القول بالنجاسة ، للاستصحاب السليم عن المعارض ، ولا مجال لأصل البراءة هنا لأنّه لا يفيد حكم الطهارة عند الشكّ في النجاسة ، وكذا الحال لو قلنا بوجوب النزح وجوبا شرطيّا لرجوع الشكّ حينئذ إلى ارتفاع المنع عن الاستعمال بغير نزح الجميع ، وواضح أنّ الأصل عدمه.

نعم ، على تقدير كون وجوبه في قول من لم يقل بالنجاسة تعبّديّا صرفا كان المتّجه الاكتفاء بالأقلّ وهو نزح ثلاثين ، لو قلنا بانحصار أقوال المسألة في الثلاثة انحصارا نافيا للقول الرابع ، كما هو الأصل المقرّر في كلّ أكثر وأقلّ يدور الأمر بينهما في التعبّديّات الصرفة.

نعم ، يشكل الحال هنا على القول المختار من استحباب النزح من حيث أنّه في جميع موارده يتبع النصّ ولو ضعيفا ، ولا نصّ هنا بالقياس إلى شي‌ء من أقوال المسألة ، ولو قيل باستحباب نزح الجميع احتياطا خروجا عن شبهة النجاسة أو الوجوب تعبّدا لم يكن بعيدا كما لا يخفى.

واحتجّ للقول بالأربعين : بما تقدّم عن الشيخ (٣) وقد عرفت عدم نهوضه دليلا عليه في سنده ولا دلالته ، قال في المدارك ـ بعد القدح فيما ذكر بنحو ما مرّ مفصّلا ـ : « نعم يمكن الاستدلال عليه بصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة في أدلّة الطهارة ، فإنّها صريحة في الاكتفاء في طهارة البئر مع تغيّره بنزح ما يزيل التغيّر خاصّة وعدم وجوب نزح الماء كلّه ، ومتى انتفى وجوب نزح الجميع مع التغيّر انتفى مع عدمه بطريق أولى ، فيثبت الأربعون لعدم الجزم بحصول الطهارة بالثلاثين » (٤) انتهى.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٤.

(٢ و ٣) المبسوط ١ : ١٢.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٠٠.

٦٤١

وهو كما ترى لا يفيد إلّا نفي وجوب نزح الجميع على تقدير تسليم أصل الدلالة ، وأمّا تعيين أربعين فلا ، إلّا إذا ثبت الإجماع على نفي القول الرابع الزائد على الأقوال المذكورة ، وهو بمحلّ من المنع.

واحتجّ للقول الثالث : برواية كردويه المتقدّمة (١) ، وردّ : بقصور السند أوّلا ، وقصور الدلالة ثانيا ، بوضوح اختصاصها بأشياء مخصوصة من دون أن يكون فيها دلالة على الحكم عموما ، فالحكم الوارد فيها في الحقيقة من جملة المقدّرات الخاصّة لا أنّه حاكم لما لا تقدير له عموما.

ثمّ في المسألة وجه آخر احتمله المحقّق في المعتبر قائلا ـ على ما حكي عنه ـ : « ويمكن أن يقال فيه وجه [ثالث] وهو : أنّ كلّما لم يقدّر له منزوح لا يجب فيه نزح ، عملا برواية معاوية المتضمّنة لقول أبي عبد الله عليه‌السلام « لا يغسل الثوب ولا يعاد الصلاة ممّا يقع في البئر إلّا أن ينتن » ، ورواية ابن بزيع « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه » وهذا يدلّ بالعموم فيخرج منه ما دلّت عليه النصوص بمنطوقها أو فحواها ، ويبقى الباقي داخلا تحت هذا العموم » (٢) انتهى.

وهو كما ترى إنّما يتّجه على القول بوجوب النزح لمجرّد التعبّد كما اعترف به هو في ذيل تلك العبارة ، وإلّا فالمتّجه تعيّن نزح الجميع عملا بالأصل المتقدّم.

ثمّ أنّه عن الشيخين (٣) وأتباعهما (٤) فيما تعذّر استيعاب ماء البئر فيما يجب نزح الجميع الحكم بالاكتفاء بالتراوح ، وهو أن ينزح أربعة ، كلّ اثنين دفعة يوما إلى الليل ، فإنّ « التراوح » تفاعل من الراحة ، لأنّ كلّ اثنين يريحان صاحبيهما ، وكون ذلك كافيا ممّا جعله في شرح الدروس (٥) مشهورا بين الأصحاب ، بل في منتهى العلّامة : « ولم أعرف مخالفا من القائلين بالنجاسة » (٦) ، وعن المحقّق في المعتبر تعليل الحكم ـ مضافا إلى ما سيأتي ـ : « بأنّه إذا وجب نزح الماء كلّه وتعذّر فالتعطيل غير جائز ، والاقتصار على نزح

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠٠.

(٢) المعتبر : ١٩.

(٣) المفيد في المقنعة : ٦٧ ؛ والشيخ في المبسوط ١ : ١٠ ؛ والنهاية ١ : ٢٠٧.

(٤) منهم ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢١ ؛ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠ ؛ والسّلار في المراسم العدّية : ٣٥.

(٥) مشارق الشموس : ٢٤٠.

(٦) منتهى المطلب ١ : ٧٣.

٦٤٢

البعض تحكّم ، والنزح يوما يتحقّق معه زوال ما كان في البئر فيكون العمل به لازما » (١).

وضعفه واضح بعد ملاحظة كون بعض مقدّماته ممنوعة وبعضها الآخر مصادرة ، والعمدة في المستند موثّقة عمّار المرويّة في التهذيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث طويل ـ قال : وسئل عن بئر يقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير؟ قال : « ينزف كلّها ، فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى الليل ، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين ، فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت » (٢).

وفي معناه ما روي عن فقه الرضا عليه‌السلام من قوله عليه‌السلام : « فإنّ تغيّر الماء وجب أن ينزح الماء كلّه ، فإن كان كثيرا وصعب نزحه فالواجب عليه أن يكتري عليه أربعة رجال يستقون منها على التراوح من الغدوة إلى الليل » (٣).

واعترض على الأوّل تارة : بقصور سنده من حيث إنّ جماعة من رجاله فطحيّة فلا تعويل عليه.

فاجيب عنه : بأنّ جماعة من رواته وإن كانت فطحيّة غير أنّها ثقات ، فيعمل بما رووه مع سلامته عن المعارض واعتضاده بعمل الأصحاب ؛ وما عن الشيخ في العدّة (٤) من دعوى إجماع الإماميّة على العمل برواية عمّار مع تأيّده بالرضوي المذكور ، واخرى : بتهافت متنه من حيث تضمّنه إيجاب نزح الجميع لما لا قائل به فيه.

فدفع : بأنّ نزح الجميع هنا إمّا محمول على الاستحباب ، أو على صورة التغيّر كما صرّح به الشيخ في التهذيب ؛ (٥) وأيّا ما كان فليس ممّا لا قائل به ، ويثبت به بدليّة التراوح عن نزح الجميع وهو المطلوب.

وقد يستند ـ على تقدير الحمل على التغيّر ـ للتعدّي إلى غيره إلى الأولويّة ، فإنّه إذا أجزأ التراوح في صورة التغيّر عن نزح الجميع عند العجز عنه ، أجزأ عنه في المقام بطريق أولى.

__________________

(١) المعتبر : ١٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٩٦ ب ٢٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ـ ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٤.

(٤) عدّة الاصول ١ : ١٥٠ في ب ذكر القرائن الّتي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ـ وأيضا حكاه عنه المحقّق في المعتبر : ١٤.

(٥) التهذيب ١ : ٢٤٢.

٦٤٣

وفيه : منع استفادة البدليّة المطلقة على تقدير الحمل على الاستحباب كما هو الظاهر ، فإنّ بدليّة مستحبّ عن مستحبّ لا يقضي ببدليّة مثل ذلك المستحبّ عن واجب ، سيّما إذا اعتبرناه للتطهير لا لمجرّد التعبّد ، وحمله على التعبّد تأويل لا شاهد له يصلح التعويل عليه ، وعلى صحّة التعويل عليه هنا فهو في أشياء مخصوصة ليس معها ما يدلّ بعموم الحكم ، وسقوط الخصوصيّة ولو سلّم فأقصى ما يسلّم فيه من العموم إنّما هو بالنسبة إلى أفراد التغيّر لا مطلقا ، والأولويّة المدّعاة ممنوعة ، كيف والتغيّر أقوى سببي النجاسة.

وثالثة : بأنّ ظاهره يدلّ على وجوب التراوح يوما بعد وجوب نزحه يوما ، وحاصله الدلالة على وجوب نزحه يومين ، لمكان قوله عليه‌السلام : « ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون » بعد قوله عليه‌السلام : « فلينزف يوما إلى الليل » وهو ممّا لا قائل به.

فدفع تارة : بمنع كون كلمة « ثمّ » هنا للترتيب ، لجواز كونها لغيره ، كما ورد كثيرا ومنه قوله تعالى : (كَلّا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلّا سَيَعْلَمُونَ) (١).

واخرى : بالإجماع على عدم وجوب ما عدا التراوح ، فهو قرينة ظاهرة على عدم إرادة الترتيب.

وثالثة : باحتمال سقوط لفظ « قال » بعد كلمة « ثمّ » على أن يكونا من كلام الراوي ، كما يرشد إليه ما في سابقه في التهذيب (٢) من قوله : « ثمّ قال : فإن غلب » الظاهر في كونه للشيخ ، لمكان قوله ـ بعد قال ـ : « أعني أبا عبد الله » ، هذا مضافا إلى ما عن بعض النسخ من قوله : « ثمّ قال : يقام » كما نقل ، مع قوّة احتمال زيادة تلك اللفظة كما عن المعتبر (٣) من عدم ذكره إيّاها.

ورابعة : بأنّ المراد بالنزف يوما نزح الجميع في يوم ، ثمّ إذا لم ينزف في يوم تراوح عليها أربعة.

وخامسة : باحتمال الفتح في « ثمّ » على أن تكون للإشارة ، فيكون معنى : ثمّ يقام في تلك الحال وذلك الوقت يقام عليها قوم ، ويكون قوله : « يقام » بيانا لكيفيّة النزف.

ولا يخفى ما في الكلّ من التكلّف ؛ وفي المقام فروع ينبغي الإشارة إليها.

__________________

(١) التكاثر : ٣ و ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩.

(٣) المعتبر : ١٤.

٦٤٤

منها : أنّ الّذي يقتضيه عبارة المقنعة (١) المحكيّة في التهذيب كون حكم التراوح معلّقا على صعوبة نزح الجميع وتعسّره ، لقوله : « وإن مات فيها بعير نزح جميع ما فيها ، فإن صعب ذلك لغزارة الماء وكثرته تراوح على نزحه أربعة رجال » (٢) إلى آخره.

إلّا أنّ مقتضى صريح الجماعة كونه معلّقا على التعذّر ، والخبر المتقدّم (٣) الّذي هو مستند الحكم يعضد الأوّل ، لوقوع التعبير فيه بالغلبة الّتي هي أعمّ من موجب التعذّر ، بل يوافقه صريح الرضوي (٤) إن قلنا بالعمل به ، ولعلّ كلام الجماعة مبنيّ على خارج بلغهم من إجماع وغيره ، وإلّا فلا يساعدهم الدليل النقلي كما عرفت.

ويمكن ابتناؤه على مراعاة الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال ، وإن كان كلامهم فيما نعلم خلوّا عن التعليل به ، بل عن التعرّض لذكر هذا الفرع.

وكيف كان فالمعتبر في التعذّر أو التعسّر الموجبين للاكتفاء بالتراوح كونه ناشئا عن كثرة الماء وغزارته المانعة عن نزح جميعه ، كما هو المصرّح به في كلماتهم ، المنصوص عليه في الخبرين المتقدّمين ، فلا يجتزأ به لو كان العذر أو العسر لمانع خارجي ، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النصّ.

ومنها : أنّ مقتضى القاعدة المشار إليها وقوع النزح في النهار القائم المتّصل طويلا كان أو قصيرا لإطلاق النصّ ، فلا يكفي مقداره من الليل ولا الملفّق من الليل والنهار كائنا ما كان ، ولا نصف النهار لو فرض فيه وقوع ما يقع في النهار التامّ من العمل ، كما أنّه لا يجب تحرّي أطول الأيّام ، بل هو في كثير من الصور منفيّ بالضرر.

لكنّ الكلام في تحديد النهار هنا من حيث احتمال كون العبرة فيه بما بين طلوع الشمس وغيبوبتها ، كما هو في ظاهر العرف المنصرف إليه الإطلاق في النذور والإجارات وغيرها من العقود ، أو بما هو معتبر في يوم الصوم كما يساعد عليه الاحتياط وخرج به في كلام جماعة من الأصحاب.

وعلى أيّ حال فيجب تهيئة الأسباب قبل الوقت ، بل أخذ شي‌ء من الطرفين للعمل شروعا وختما مقدّمة للعلم ، وربّما يقال بوجوب التهيّؤ قبل الوقت حتّى بالقياس إلى

__________________

(١) المقنعة : ٦٧.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٠.

(٣ و ٤) قد تقدّم آنفا في الصفحة ١٨٦.

٦٤٥

إرسال الدلو إلى البئر ، وهو بعيد بل منفيّ ببطلان الترجيح من غير مرجّح ، حيث إنّ ذلك لا يعقل إلّا في الدلو الأوّل الّذي يشرع به.

ومنها : أنّ قضيّة القاعدة المشار إليها بملاحظة مفهوم « القوم » الظاهر في الرجال إن لم نقل باختصاصه بهم ـ كما يقتضيه المحكيّ عن الصحاح (١) والنهاية الأثيريّة (٢) ، وقوله عزّ من قائل : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) (٣) وقول زهير : « أقوم آل حصن أم نساء » ، مضافا إلى ورود التصريح بهم بالخصوص في الرضوي على تقدير العمل به ـ عدم الاجتزاء بالنسوان ولا الصبيان ولا الخناثي ، وإن نهض كلّ واحد من هؤلاء بعمل الرجال ، وهو المصرّح به في كلام غير واحد عدا العلّامة في المنتهى (٤) ، حيث استشكل في عدم إجزاء هؤلاء لو ساوت قوّتهم قوّة الرجال ، بل عن بعض الأصحاب ـ كما في المدارك ـ (٥) الاجتزاء بهم ، واستحسنه في الكتاب على تقدير عدم قصور نزحهم عن نزح الرجال ، وهذا جيّد على القول بكون النزح للتطهير ، للقطع بعدم مدخليّة الرجوليّة في ذلك.

وأمّا على القول به تعبّدا فالإشكال قويّ في غاية القوّة ، ولعلّه الداعي إلى ما عرفته من العلّامة من حيث إنّه في المسألة قائل بطهارة البئر ووجوب النزح تعبّدا كما تبيّن آنفا.

ومنها : أنّ قضيّة إطلاق « القوم » في الخبر الأوّل ، وإطلاق قوله عليه‌السلام : « يتراوحون اثنين اثنين » عدم انحصار العدد المعتبر هنا في الأربعة ، وكفاية الزائد عليه ما لم يؤدّ الكثرة إلى صرف الوقت بالبطء ونحوه ، ولا ينافيه ما في الرضوي من تخصيص الأربعة بالذكر ـ على تقدير العمل به ـ بعد ملاحظة أنّ العدد لا مفهوم له ، فتأمّل.

نعم ، قضيّة ما ذكر من اعتبار التراوح بين اثنين اثنين في النزح عدم كفاية ما دون الأربعة اقتصارا على مورد النصّ ، كما صرّح به غير واحد ، وإن كان العلّامة في المنتهى (٦) قد استقرب إجزاء نزح الاثنين إن امتدّ نزحهما إلى الليل وعلم مساواته لتراوح الأربعة ، وهذا قويّ على تقدير اعتبار النزح للتطهير كما عرفت.

وقد يقال : باعتبار قيام الآخرين للنزح في أوّل زمان تعب الأوّلين وكلّهما تحصيلا

__________________

(١) الصحاح ٥ : ٢٠١٦ مادّة « قوم ».

(٢) النهاية في غريب الحديث ؛ مادّة « قوم » ٤ : ١٢٤.

(٣) الحجرات : ١١.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٦٨.

(٦) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

٦٤٦

لصدق الإراحة ، وليس ببعيد سيّما على التعبّد.

ومنها : قال في الروضة : « ويجوز لهم الصلاة جماعة ، لا جميعا بدونها ، ولا الأكل كذلك » (١) وفي المدارك : « قيل [إنّه] يستثنى لهم الأكل جميعا ، والصلاة جماعة » (٢) ، ثمّ نفى عنه البأس تعليلا بقضاء العرف بذلك.

وأورد عليه : بأنّ مسألة التراوح حكم شرعي فلا دخل لمعرفة العرف فيه ، وظاهر الخبر امتداد النزح إلى الليل ، والغالب فيه التعبّد ، ولذا لا يكفي فيه الليل ولا الملفّق » (٣).

وفيه : أنّ مقصود المتمسّك بالعرف أنّه يفهم من خطاب التراوح عرفا الترخيص في الاجتماع للأكل والصلاة ، فلا ينافيه كون مسألة التراوح حكما شرعيّا ، ولا ظهور الخبر في الامتداد إلى الليل ، لأنّ معنى الامتداد حينئذ عدم التقاعد عن الاشتغال جميعا في غير ما ساعد العرف على الترخيص فيه ، وعدم منافاته للامتداد.

نعم ، عن بعض المحقّقين الاستشكال في الاجتماع لغير صلاة الجمعة ، إذ دليل الجماعة أعمّ من دليل التراوح من وجه والأصل بقاء نجاسة البئر ، كيف ولو اعتبر هذا العموم لدخل سائر المستحبّات كقضاء حاجة المؤمن وتشييع الجنازة ، ودعوى استثناء الصلاة من اللفظ عرفا أو عادة محلّ تأمّل.

وربّما يتأمّل أيضا في طهارة البئر لو ترك النزح لصلاة الجمعة أيضا ، لإمكان تطهيرها في غير يومها.

وقد يعترض على دعوى استثناء الجماعة للصلاة بأنّ اللازم عليهم استثناء زمان مقدّمات الجماعة كالسعي والانصراف إلى المسجد ونحوه ، وبالجملة هذه الأحكام كلّها على خلاف الاحتياط ؛ وبناء العرف في خصوص المقام غير معلوم وإن ادّعي ثبوته على الترخيص في الاجتماع.

ومنها : أنّ المشهور المدّعى عليه الشهرة كون العبرة في كيفيّة تراوح القوم اثنين اثنين اشتغال كلّ اثنين معا بالنزح ، بأن يستقيا بدلو واحد ويتجاذبا إيّاه إلى أن يتعبا فيقعدان وقام الآخران مشتغلين متجاذبين كذلك ، وعن ثاني الشهيدين في روض الجنان : « أنّ

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٤٤.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٦٨.

(٣) المورد هو المحقّق البهبهاني في حاشية مدارك الأحكام ١ : ١٢٠.

٦٤٧

أحد المتراوحين يكون فوق البئر يمتح الدلو والآخر فيها يملؤه » (١) ، والأولى كونهما معا فوق البئر كما في المدارك (٢) لأنّه المتعارف ، وعن المولى التقيّ المجلسي قدس‌سره (٣) أنّه احتاط في ذلك بدخول واحد في البئر ووقوف اثنين في الفوق للنزح خروجا عن الشبهة.

المسألة الثانية : ما يوجب نزح كرّ من ماء البئر ، وهو على ما ضبطه الشهيد في الدروس (٤) وأفتى فيه بالحكم المذكور ، الدابّة ، والبغل ، والحمار ، والبقرة ، ونقل عنه مثله في الذكرى (٥) والبيان (٦) ومثله في اللمعة (٧) أيضا ولكن بإسقاط « البغل » تبعا في ذلك لشرائع (٨) المحقّق ، وقرينة المقابلة تعطي كون المراد بـ « الدابّة » في كلامهما « الفرس » خاصّة ، دون ما يدبّ على الأرض ، ولا ما يركب على إطلاقهما.

قال في الروضة : « هذا هو المشهور والمنصوص منها ، مع ضعف طريقة « الحمار والبغل » ، وغايته أن ينجبر ضعفه بعمل الأصحاب ، فيبقى إلحاق الدابّة والبقرة بما لا نصّ فيه أولى » (٩).

قال العلّامة في المنتهى ـ بعد ذكر الامور المذكورة بزيادة « أشباهها » ـ : « أمّا الحمار ، فقد ذهب إليه أكثر أصحابنا » ـ إلى أن قال ـ : « وأمّا البقرة والفرس ، فقد قال الشيخ والسيّد المرتضى والمفيد بمساواتهما للحمار في الكرّ » (١٠).

وعن السرائر (١١) أنّه ذكر الخيل ، والبغال ، والحمير أهليّة كانت أو غير أهليّة ، والبقرة وحشيّة أو غير وحشيّة ، أو ما ماثلها في مقدار الجثّة.

وعن الوسيلة (١٢) ، والإصباح (١٣) : الحمار والبقرة وما أشبههما.

وعن المهذّب (١٤) : الخيل ، والبغال ، والحمير ، وما أشبههما في الجسم.

وعن الغنية (١٥) دعوى الإجماع على الخيل وشبهها ، وعن المعتبر المناقشة في هذا التعميم ، قائلا ـ بعد ما نسب إلحاق الفرس والبقر بالحمار إلى الثلاثة ـ (١٦) : « ونحن نطالبهم بدليل ذلك ، فإن احتجّوا برواية عمرو بن سعيد ، قلنا : هي مقصورة على الجمل

__________________

(١) روض الجنان : ١٤٨. (٢) مدارك الأحكام ١ : ٦٩.

(٣) روضة المتّقين ١ : ٩٠. (٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤. (٦) البيان : ١٠٠.

(٧) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣٦. (٨) الشرائع ١ : ١٣.

(٩) الروضة البهيّة ١ : ٣٦. (١٠) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

(١١) السرائر ١ : ٧٢. (١٢) الوسيلة : ٦٩.

(١٣) إصباح الشيعة : ٤. (١٤) المهذّب ١ : ٢١.

(١٥) غنية النزوع : ٤٨. (١٦) يعني السيّد والشيخين (منه).

٦٤٨

والحمار والبغل ، فمن أين يلزم في البقرة والفرس ، فإن قالوا : هي مثلها في العظم ، طالبنا هم بدليل التخطّي إلى المماثل من أين عرفوه ، لا بدّ له من دليل ، ولو ساغ البناء على المماثلة في العظم لكانت البقرة كالثور ، ولكان الجاموس كالجمل ، وربّما كانت الفرس في عظم الجمل ، فلا تعلّق إذا بهذا وشبهه ، ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل ذلك لادّعى الإجماع بوجوده في كتب الثلاثة ، وهو غلط وجهالة إن لم يكن تجاهلا ، فالأوجه أن يجعل الفرس والبقرة في قسم ما لم يتناوله نصّ على الخصوص » (١) انتهى.

والظاهر أنّ مراده بالمقلّد المدّعي للإجماع هو ابن الزهرة (٢) ، ومراده برواية عمرو بن سعيد ما تقدّم إليه الإشارة في المسألة الاولى ، قال : سألت أبا جعفر عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة والسنّور إلى الشاة؟ فقال : « كلّ ذلك نقول سبع دلاء » قال : حتّى بلغت الحمار والجمل ، قال : « كرّ من ماء » (٣).

والظاهر أنّ مستند الحكم هنا هو هذه الرواية ولو بالنسبة إلى بعض المذكورات ، وقد تقدّم عن العلّامة (٤) ، وصاحب المعالم (٥) ، القدح في سندها ، فإنّ العلّامة رمى عمرو بن سعيد بالفطحيّة كما عنه أيضا في المختلف (٦) ، وعن المحقّق في المعتبر (٧) وعن الشهيد في الذكرى (٨).

وقد يستفاد توثيقه عن بعض الأخبار (٩) ، بل وثاقته وجلالة شانه عن كلام بعض العلماء الأخيار كالكليني ، حيث وصف في الروضة (١٠) الحديث الّذي هو في سنده

__________________

(١ و ٧) المعتبر : ١٤.

(٢) غنية النزوع : ٤٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٧٩.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٦٩.

(٥) فقه المعالم ١ : ١٨٠ ، أقول : لم ينقل عنه سابقا القدح في سندها.

(٦) مختلف الشيعة ١ : ١٩٤.

(٨) ذكرى الشيعة ١ : ٩٢.

(٩) قال المقدّس التقيّ المجلسي رحمه‌الله في روضة المتّقين ١٤ / ٤٠٣ : « روى الشيخ في الموثّق ما يدلّ على توثيقه في باب ١٩ الأوقات من التهذيب » انتهى. أقول : والمراد به هو ما رواه الشيخ في التهذيب ٢ : ٢٢ / ٦٢ والاستبصار ١ : ٢٤٨ / ٨٩١.

(١٠) الكافي ٨ : ١٦٨ / ١٨٩ حيث قال : « وفي الصحيح عن عمرو بن سعيد بن هلال ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام : إنّي لا أكاد ألقاك إلّا في السنين فأوصني بشي‌ء ، فقال : اوصيك بتقوى الله ... » الحديث.

٦٤٩

بالصحّة ، وبالجملة فهو إمّا صحيح أو موثّق أو منجبر بعمل الأصحاب ، ولا يقدح في اعتباره اشتماله على الجمل الّذي لم يقل بذلك الحكم فيه أحد ، لأنّ ذلك يوجب الوهن فيه في هذا المقدار ، أو أنّه لا جابر له بالقياس إلى هذا المقدار.

وإلى بعض ما ذكرناه يشير عبارة المنتهى القائلة : « بأنّها ضعيفة من حيث السند ، ومن حيث التسوية بين الحمار والجمل ، إلّا أنّ أصحابنا عملوا فيها بالحمار والتسوية سقطت باعتبار حصول المعارض ، فلا يلزم نفي الحكم عمّا فقد عنه المعارض ». (١) وأمّا دلالته من حيث الصراحة فترى أنّها مقصورة على « الحمار » على ما هو في النسخ الموجودة الآن بأيدينا ، أو هو و « البغل » على ما صرّح به ثاني الشهيدين (٢) والمحقّق (٣) فيما تقدّم ، وعن المعتبر (٤) أنّه نقل الرواية بزيادة « البغل » ونحوه محكيّ عن المهذّب (٥) ، بل عن شرح الفاضل الهندي (٦) وجود « البغل » فيها في موضع من التهذيب (٧) ، ونحوه عن كشف الالتباس (٨) والمقتصر (٩) والروض (١٠) والذكرى (١١) ، وعن المحقّق البهبهاني ـ بعد نقل الرواية ـ : « وفي نسخة من التهذيب حتّى بلغت الحمار والبغل والجمل ، وظاهرها أنّ الراوي كان يسأل عن [حكم] موت حيوان بترتيب الجثّة من الصغر إلى الكبر ، فقوله : « حتّى بلغت الحمار والجمل » في قوّة أن يقال : إلى أن بلغت جثّة الحمار ، ثمّ بعدها إلى أن بلغت جثّة الجمل ، ومعلوم أنّ جثّة البقر جثّة الحمار ، وأمّا جثّة الدابّة فهي الجثّة المتوسّطة بين جثّة الحمار وجثّة الجمل ، هذا على النسخة المشهورة ، وأمّا على النسخة الغير المشهورة فغير خفيّ أنّ جثّتها جثّة البغل » (١٢) انتهى.

والمقصود من هذا التحقيق جعل الرواية متضمّنة لجميع الامور المذكورة حتّى الدابّة والبقرة وليس ببعيد ، بل الظاهر من سوق الرواية أنّ ذكر « الحمار » على النسخة المشهورة وارد من باب المثال ، وإلّا فغرض السائل سؤاله عن حكم « الحمار » وما يشبهه أو يقرب منه في الجثّة ، كما تنبّه عليه بعض مشايخنا قائلا : « ويظهر من سوق

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

(٢ و ١١) روض الجنان : ١٤٨.

(٣ و ٤) المعتبر : ١٤. (٥) المهذّب ١ : ٢١.

(٦) كشف اللثام ١ : ٣٢٦.

(٧) التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٧٩.

(٨) كشف الالتباس ١ : ٦٠.

(٩) المقتصر : ١٩. (١١) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤.

(١٢) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٥.

٦٥٠

الرواية عموم حكم الحمار لما ماثلها في الجنّة ، حيث جعل الحيوانات أصنافا بحسب الجثّة فيشمل البقرة » (١).

وإلى ذلك نزّل ما تقدّم من عبارات القدماء قائلا : « بأنّ الظاهر أنّ الكلّ فهموا من رواية الحمار وغيرها ما ذكرنا من إرادة المثال » (٢).

ولا يخفى على الفطن العارف أنّ ذلك في غاية الجودة ، وأجود ممّا رامه العلّامة في المنتهى (٣) من الاستناد في تعميم الحكم إلى ما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن الفضلاء الثلاثة زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وبريد بن معاوية العجلي ، عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما‌السلام في البئر يقع فيها الدابّة والفأرة والكلب والطير فيموت؟ ، قال : « يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ اشرب وتوضّأ » (٤).

فقال في وجهه : « قال صاحب الصحاح : « الدابّة » اسم لكلّ ما يدبّ على الأرض ، و « الدابّة » اسم لكلّ ما يركب ، فنقول : لا يمكن حمله على المعنى الأوّل وإلّا لعمّ ، وهو باطل لما يأتي ، فيجب حمله على الثاني.

فنقول : الألف واللام في « الدابّة » ليست للعهد ، لعدم سبق معهود يرجع إليه ، فإمّا أن يكون للعموم كما ذهب إليه الجبّائيان ، أو لتعريف الماهيّة على المذهب الحقّ ، وعلى التقديرين يلزم العموم في كلّ مركوب.

أمّا الأوّل : فظاهر ، وأمّا الثاني : فلأنّ تعليق الحكم على الماهيّة يستدعي ثبوته في جميع صور وجودها وإلّا لم يكن علّة ، هذا خلف ، وإذا ثبت العموم دخل فيه الحمار ، والفرس ، والبغل ، والإبل ، والبقر [نادرا] غير أنّ الإبل والثور خرجا بما دلّ بمنطوقه على نزح الجميع ، فيكون الحكم ثابتا في الباقي.

فإن قلت : يلزم التسوية بين ما عدّده الإمامان عليهما‌السلام.

قلت : خرج ما استثنى بدليل منفصل ، فيبقى الباقي لعدم المعارض ، وأيضا : التسوية حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدلاء ، وإن افترقت بالكثرة والقلّة ، وذلك شي‌ء

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٢١٩.

(٢) كتاب الطهارة ١ : ٢٢٢.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٤) الوسائل ١ : ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٦ / ٦٨٢.

٦٥١

لم يتعرّضا عليهما‌السلام له ، إلّا أنّ لقائل أن يقول : إنّ ما ذكرتموه لا يدلّ على بلوغ الكرّيّة ، ويمكن التمحّل بأن يحمل « الدلاء » على ما يبلغ الكرّ جمعا بين المطلق والمقيّد خصوصا مع الإتيان بصيغة جمع الكثرة.

لا يقال : إن حمل الجمع على الكثرة استحال إرادة القلّة منه ، وإلّا لزم الجمع بين إرادتي الحقيقة والمجاز ، وإن حمل على القلّة فكذلك.

لأنّا نقول : لا نسلّم استحالة التالي ، سلّمناه لكن إن حمل على إرادة معناه المجازي وهو مطلق الجمع لم يلزم ما ذكرتم ، على أنّ لنا في كون الصيغ المذكورة حقائق أو مجازات في القلّة والكثرة نظرا » (١) ، إلى آخر ما ذكره ، ولا يخفى ما في هذا التقريب من وجوه النظر.

أمّا أوّلا : فلأنّ لزوم الحمل على المعنى الثاني إنّما هو لقرينة المقابلة فيما بين الدابّة والفأرة والكلب والطير لا العموم الموهوم ، وإلّا سهل علاجه بتطرّق التخصيص ، كما يعالج ذلك على الحمل على المعنى الثاني أيضا بالقياس إلى الثور ، والحمل بالتخصيص حسبما اعترف به قدس‌سره.

وتوهّم كون الداعي إلى الفرق لزوم تخصيص الأكثر على التخصيص الأوّل دون الثاني ، يدفعه : أنّ إخراج غير موضوع الحكم هنا ليس من باب التخصيص المصطلح ، حيث لا عامّ في المقام ، بل هو من باب تقييد المطلق وهو جائز كائنا ما كان.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الحمل عليه يقضي بعدم تناول الحكم للبقرة ، لعدم كونها بحسب العادة من جنس المركوب ، والركوب عليها عند بعض الطوائف النادرة ـ على فرض تسليمه ـ غير مجد ، بعد ملاحظة أنّ المطلق لا ينصرف إلى الأفراد النادرة ، ويرد ذلك بعينه بالنسبة إلى الحمار والبقر الوحشيّين مطلقا كما لا يخفى ، مع أنّ ظاهر الجماعة بل صريح بعضهم عدم الفرق في الحكم المذكور بين الوحشي من الأنواع المذكورة وغيره.

وأمّا ثالثا : فلأنّ جعل اللام للعهد الذهني أيضا ممكن ، مع عموم الحكم لجميع الأنواع المذكورة كما لا يخفى ، ولا يبعد أخذ ورود السؤال بعنوان الوقوع قرينة على ذلك ، بملاحظة أنّ الوقوع من عوارض الشخص دون الجنس والماهيّة.

وأمّا رابعا : فلأنّ ذلك بعد اللتيّا والّتي لا يجدي نفعا في ثبوت التحديد بالكرّيّة ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٧٩ ـ ٧٨.

٦٥٢

والتمحّل له بالجمع بين المطلق والمقيّد غير مفهوم المعنى ، حيث لم يرد التقدير بالكرّيّة للدابّة ، إلّا أن يراد به ما ورد في الرواية السابقة بالقياس إلى الحمار أو هو والبغل ، وفيه : أنّ ما ورد في هاتين الروايتين أشبه بكونه من باب المجمل والمبيّن ، مع ما في التشبّث بتلك القاعدة من إخراج الرواية أجنبيّة عن المطلوب ، حيث إنّ « الدابّة » في تلك الرواية أيضا مطلقة ، فيحمل على مقيّد الرواية السابقة وهو « الحمار » ، بناء على أنّ المقيّد عبارة عمّا دلّ لا على شايع في جنسه ، إلّا أن يتفصّى بعدم المنافاة بينهما من هذه الجهة الّذي هو الداعي إلى الجمع وحمل أحدهما على الآخر ، بخلاف ما بين التحديد بالدلاء والتحديد بالكرّيّة ، المفيد أوّلهما الاجتزاء بما دون الكرّ كما لا يخفى ، ثمّ حمل الجمع على الكثرة لا يقضي بتعيّن الكرّيّة ، لأنّ الكثرة لها مراتب منها الكرّيّة ، ومنها ما فوقها ، ومنها ما دونها في الجملة ، وكون اعتبار الزائد عليها هنا منفيّا بالإجماع ـ على فرض تسليمه ـ لا يقضي بنفي اعتبار ما دونها إذا اندرج في مفهوم الكثرة عرفا ، إلّا أن يتشبّث لنفي كفاية الأقلّ أيضا بالإجماع ، فيتّضح حينئذ منعه مع عدم جدواه في تتميم الاستدلال بالرواية كما هو مقصود المقام ، لكون المطلب إنّما ثبت حينئذ بالإجماع على نفي طرفي الكرّ.

المسألة الثالثة : فيما ينزح له سبعون دلوا بما اعتاده البئر ، ومع الاختلاف فالأغلب كما هو صريح الروضة (١) وغيرها ، وهو على ما اتّفقت عليه كلمة أهل القول بالتنجيس وغيرهم ممّن يوجب النزح ولو تعبّدا موت الإنسان.

وفي المنتهى : « وهو مذهب القائلين بالتنجيس » (٢) ، وفي المختلف : « ذهب إليه أصحابنا » (٣) وعن الغنية (٤) وظاهر المعتبر (٥) دعوى الإجماع عليه ، ومستنده على ما في كلام غير واحد موثّقة عمّار الساباطي المرويّة في التهذيب ، قال سئل أبو عبد الله عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر؟ قال : « تنزح منها دلاء ، هذا إذا كان ذكيّا فهو هكذا ، وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأقلّه العصفور ينزح دلوا واحدا ، وما سوى ذلك فيما بين هذين » (٦).

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٣٧.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٧٦.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ١٩٥ وفيه : « ذهب علماؤنا ».

(٤) غنية النزوع : ٤٨.

(٥) المعتبر : ١٤ ، حيث نسبه إلى علمائنا القائلين بالتنجيس.

(٦) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٨.

٦٥٣

وقدح فيها العلّامة في المنتهى بكون رواتها فطحيّة (١) ، غير أنّه واضح الدفع بالعمل والوثاقة كما هو صريح المحكيّ عن المعتبر (٢) ، وقضيّة إطلاق « الإنسان » عدم الفرق فيه بين الكبير والصغير ، ولا السمين والمهزول ، ولا الذكر والانثى ، كما هو المصرّح به في كلام غير واحد ، مع دعوى الاتّفاق عليه في بعض العبائر ، وفي شموله للكافر كشموله للمسلم قضيّة للإطلاق خلاف ، فالأكثر على الشمول ، وغيرهم كابن إدريس ـ في المحكيّ عنه ـ على منعه ، لقوله في الكافر بوجوب نزح الجميع ، محتجّا : « بأنّ الكافر نجس ، فعند ملاقاته حيّا يجب نزح البئر أجمع ، والموت لا يطهر فلا يزول وجوب نزح الماء » (٣) ، ثمّ دفع التمسّك بإطلاق « الإنسان » بمعارضته للجنب إذا ارتمس في البئر المحمول على المسلم ، مع أنّه بإطلاقه يعمّ الكافر.

وأجاب عنه في المنتهى : « بمنع وجوب نزح الجميع في مباشرة الكافر حيّا ، لابتنائه على وجوب نزح الجميع فيما لا مقدّر له بالخصوص في النصوص ، وهو في حيّز المنع ، وما ذكر من القياس ضعيف حيث أنّه لا جامع بين المقامين ، إلّا من حيث إنّ لفظ « الإنسان » مطلق ، كما أنّ لفظ « الجنب » مطلق ، وهذا لا يوجب أن لو قيّد أحد المطلقين بوصف وجب أن يقيّد به المطلق الآخر ، كيف ولو صحّ ذلك لاطّرد في كلّ اسم جنس حلّي باللّام ، فوجب أن يقال : إنّ لفظ « البيع » في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٤) ولفظ « الزاني » و « الزانية » وكذا « السارق » و « السارقة » ونحوهما ليس للعموم ، لأنّ لفظ « الجنب » ليس للعموم ، ولا ريب في فساد ذلك ، على أنّا نقول : إن وجد بالقياس إلى الجنب مخصّص امتنع القياس ، وإلّا كان التقييد فيه أيضا ممنوعا ، مع أنّ دعوى عدم النصّ هنا غير مسلّمة ، كيف وأنّ النصّ كما يدلّ بمنطوقه فكذلك قد يدلّ بمفهومه الّذي هو ثابت هنا ، حيث إنّ « الإنسان » مطلق يتناول المسلم والكافر ، فيجري مجرى النطق بهما معا ، فإذا وجب في موته سبعون لم يجب في مباشرته أكثر ، لأنّ الموت يتضمّن المباشرة فيعلم نفي ما زاد من مفهوم النصّ ، سلّمنا ، لكن نمنع بقاء نجاسة الكفر بعد الموت ، وإنّما يحصل له نجاسة بالموت مغايرة لنجاسة حالة الحياة.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٧٧.

(٢) المعتبر : ١٤.

(٣) السرائر ١ : ٧٣ نقلا بالمعنى.

(٤) البقرة : ٢٧٥.

٦٥٤

وتوضيحه : أنّ النجاسة حكم شرعي يتّبع مورد النصّ ، والكافر إنّما لحقه حكم التنجيس باعتبار كفره وجحوده الحقّ ، وقد انتفى ذلك بموته فينتفي الحكم التابع له ، ويلحقه حكم آخر شرعي بالموت ، والحكمان متغايران » ، انتهى ملخّصا (١) ، وعن المعتبر (٢) أيضا الاعتراض على الحلّي بما يقرب من ذلك.

وأنت خبير بما في جميع ذلك من المكابرة ودفع ضرورة الوجدان ، القاضي بكون المتّجه هو ما ذكره الحلّي (٣) ، ووافقه الإسكافي ـ على ما حكي ـ ، لوجوب عدم كون المطلق في إفادة الإطلاق واردا مورد حكم آخر ، ولذا لا يقولون بحلّيّة أكل الصيد كيفما اتّفق ولو قبل تطهير موضع عضّ الكلب ، تمسّكا بقوله : (فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (٤) وليس ذلك إلّا من جهة أنّ ملاقاة الكلب برطوبة كعدم وقوع الذبح الشرعي جهة مقتضية للمنع ، على نحو يكون كلّ منهما سببا مستقلّا له ، وكان المطلق مسوقا لرفع ما يقتضيه الجهة الثانية من المنع ساكتا عن الجهة الاولى نفيا وإثباتا ، فيطهر حينئذ ثمّ يؤكل عملا بالدليلين الغير المتعارضين ، المقتضي أحدهما اشتراط إباحة أكل ما لاقته النجاسة بتطهيره ، والآخر حلّيّة الصيد مع عدم وقوع الذبح الشرعي عليه ، كيف فإمّا أن يقال : بورود الآية لرفع مقتضي الجهة الاولى ، أو لرفع مقتضي الجهة الثانية ، أو لرفع مقتضي الجهتين.

والأوّل يأباه التعبير بعنوان « الإمساك » ، كما أنّ الأخير يأباه متفاهم العرف ، فتعيّن الأوسط ، لأنّه الّذي يساعد عليه العرف ، ولا ريب أنّ المقام ليس إلّا من هذا الباب ، فإنّ موت الإنسان في البئر أو وقوعه ميّتا بنفسه جهة مقتضية للنزح ونجاسة الكفر أيضا جهة اخرى مقتضية له ، وإلّا لزم الفرق في النجاسات بينها وبين غيرها وهو منفيّ باتّفاق الأقوال.

فقوله عليه‌السلام : « وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء ، فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا » إمّا أن يكون لبيان ما اقتضته كلتا الجهتين فلا يساعد عليه متفاهم العرف ، أو لبيان ما اقتضته الجهة الثانية فينافيه صريح قوله : « فيموت » وظاهر السياق صدرا وذيلا ، فتعيّن كونه لبيان ما اقتضته الجهة الاولى وهو الّذي يساعد عليه العرف ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٧٨ ـ ٧٩ مع اختلاف يسير في العبارة.

(٢) المعتبر : ١٥.

(٣) السرائر ١ : ٧٣.

(٤) المائدة : ٤.

٦٥٥

كيف ولو لا ذلك لزم استعمال لفظ « الإنسان » في أكثر من معنى لكون إحدى الجهتين مستلزمة لإرادة المطلق ، والاخرى مستلزمة لإرادة المقيّد ، ولا يكفي فيه إرادة المطلق فقط لعدم كون الجهة الثانية من لوازم مطلق الماهيّة واحتمال كفاية سبعين عن الجهتين معا فلا يضرّ فيه إرادة المطلق مبنيّ على تداخل السببين ، وهو منفيّ بما قرّر في محلّه من أصالة عدم التداخل.

فالحاصل : أنّ الكافر من حيث نجاسة كفره في حكم المسكوت عنه ، ومعه لا يعقل الحكم بكفاية السبعين الوارد لنجاسة الموت عن نجاسة الكفر أيضا ، فيجب المراجعة من حيث النجاسة المسكوت عنها إلى ما يقتضيه دليلها خصوصا أو عموما ، ولمّا لم يرد لها دليل خاصّ فالواجب مراجعة الدليل العامّ الجاري في غير المنصوص عموما.

فإن قلت : تخصيص الكافر عن حكم الموت المنصوص على مقدّره ليس بأولى من تخصيصه عن حكم الكفر الغير المنصوص على مقدّره.

قلت : ما ذكرناه ليس من باب التخصيص بل هو عمل بالدليلين ، بناء على عدم التداخل إن قلنا في غير المنصوص بوجوب ثلاثين أو أربعين ، نعم لو قلنا فيه بوجوب نزح الجميع كان الكافر خارجا عن حكم الموت المقدّر بسبعين ، لكن لا بعنوان التخصيص بل من جهة انتفاء موضوع هذا المقدّر ، نظرا إلى أنّ الماء إذا وجب نزح جميعه ، فلا يبقى لنزح سبعين محلّ حتّى يمتثل الأمر به إلّا في موضع التراوح ، فيجب الجمع أيضا بين مقدّر الموت والتراوح قضيّة لعدم التداخل.

ومن هنا اندفع ما يقال في الاعتراض على القول بأنّ النصّ وإن كان شاملا للكافر إلّا أنّه أوجب نزح سبعين لأجل موته ، فهو ساكت عمّا يجب نزحه للكفر ، من : « أنّ الجهتين في الكافر متلازمتان فلا معنى للسكوت عن إحداهما ، فهو نظير ما إذا حكم الشارع بصحّة الصلاة في ثوب عليه عذرة الكلب ناسيا ، فإنّه لا يمكن القول بأنّ الحكم بالصحة من جهة نجاسة الثوب بالعذرة لا من جهة استصحاب فضلة ما لا يؤكل لحمه أو العكس ، لأنّ الجهتين متلازمتان يقبح السكوت عن إحداهما في مقام البيان » (١) انتهى.

فإنّ الجهتين المتلازمتين إنّما تشاركتا في اقتضاء أمر واحد بحكم العقل ، إذا لم

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٢٣.

٦٥٦

يمكن تفارقهما باقتضاء أمرين مختلفين كالصحّة وعدمها في المثال المفروض ، فيفارقه المقام لكون مقتضي الجهتين فيه أمرين وجوديّين يمكن اجتماعهما مختلفين بالزيادة والنقصان ، فبطلت المقايسة بوضوح الفرق.

ومن جميع ما قرّرناه تبيّن إصابة ما ذكره صاحب المعالم ـ على ما حكي عنه ـ في الاعتراض على المحقّق ـ الموافق للعلّامة فيما تقدّم ـ من الاعتراض على ابن إدريس من « أنّ الحيثيّة معتبرة في جميع موجبات النزح ، فمعنى وجوب نزح السبعين لموت « الإنسان » أنّ نجاسة موته يقتضي ذلك ، فالعموم الواقع فيه إنّما يدلّ على تساوي المسلم والكافر في الاكتفاء لنجاسة موتهما بنزح السبعين ، فإذا انضمّ إلى ذلك جهة اخرى للنجاسة كالكفر ونحوه لم يكن للّفظ دلالة على الكفاية ، ألا ترى أنّه لو كان بدن المسلم متنجّسا بشي‌ء من النجاسات وكانت العين غير موجودة لم يكف نزح المقدّر عن الأمرين ، ولو تمّ ما ذكروه لاقتضى الاكتفاء وهم لا يقولون به.

وبالجملة ، فالكفر أمر عرضي للإنسان كملاقاة النجاسة ، ولكلّ منهما تأثير في بدنه بالتنجيس ، لكن الأوّل يشمل جميع بدنه ، والثاني يختصّ بما يلاقيه ، فكما أنّ العموم غير متناول لنجاسة الملاقاة ، لا يتناول نجاسة الكفر.

وبهذا يظهر أنّ معارضة الحلّي في محلّها ، إذ حاصلها أنّ الحيثيّة متبادرة من اللفظ ، ولذلك فرّقوا بين المسلم والكافر في مسألة الجنب ، فينبغي مثل ذلك هاهنا أيضا ».

ـ إلى أن قال ـ : « وقوله : « هذا ليس بنقض على مسألتنا بل نقض على استعمال اللّام في الاستغراق » واه جدّا ، لأنّ اللازم من عدم عموم لفظ « الجنب » لنجاسة الكفر عدم تناول الزاني والسارق ونحوهما لغير حيثيّة الزنا والسرقة بحيث يكون الحدّ المذكور لكلّ واحد منهما كافيا عنه وعن غيره » (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وإنّما نقلناه بطوله لاشتماله على دفع أكثر ما سمعته عن العلّامة كما لا يخفى على المتأمّل ، ويمكن أن يستشهد على ما ادّعاه من اعتبار الحيثيّة في جميع موجبات النزح بصدر رواية المقام المتضمّن لقوله عليه‌السلام : « هذا إذا كان ذكيّا ، وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه » عقيب ما أعطاه من الحكم بنزح دلاء لوقوع الطير المذبوح بدمه ،

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ١٩٧ ـ ١٩٨.

٦٥٧

نظرا إلى أنّه كان محلّا لتوهّم الإطلاق بالقياس إلى أحوال وقوع الطير بالدم الّتي فيها وقوعه ميّتا بغير التذكية ، أو تحقّق موته في الماء لغير الذبح الواقع عليه في مفروض السائل ، بأن يستند موته إلى الماء دون الذبح ، فإنّه عليه‌السلام لمّا التفت إلى هذا المعنى فردع عنه بقوله عليه‌السلام : « هذا إذا كان ذكيّا » فتعرّض لحيثيّة الموت بما أفاده بعد ذلك إلى آخر الرواية.

وقضيّة هذا الالتفات أنّه لو فرض تحقّق موت الطير المفروض في الماء مستندا إليه لم يكن مطلق الدلاء كافيا في نزحه ، وهو عين ما عرفته عن صاحب المعالم وفهمه الحلّي ، ولازم ما ذكره الجماعة وعرفته عن المحقّق والعلّامة كون ذلك كافيا ، فانظر كي تعرف المحقّ عن غيره.

ثمّ إنّ العلّامة في المختلف صرّح بعدم الفرق في الكافر بين وقوعه ميّتا ، ووقوعه حيّا ثمّ موته في البئر ، فاكتفى في الجميع بنزح السبعين ، قائلا ـ بعد نقل قول الحلّي واحتجاجه ـ : « والحقّ تفريعا على القول بالتنجيس أن نقول : إن وقع ميّتا نزح له سبعون للعموم ، وتمنع من زيادة نجاسته ، فإنّ نجاسته حيّا إنّما هو بسبب اعتقاده ، وهو منفي بعد الموت ، وإن وقع حيّا ومات في البئر فكذلك ، لأنّه لو باشرها حيّا نزح له ثلاثون لحديث كردويه » (١) انتهى.

ومحصّله في كلا الشقّين يرجع إلى التمسّك بالعموم ، والظاهر ابتناؤه في الشقّ الثاني على القول بالتداخل ، وإلّا لم يكن للاكتفاء بالسبعين مع إيجاب الثلاثين لمباشرته حيّا ـ بناء على مصيره إليه فيما لا نصّ فيه ـ معنى ، وعلى أيّ حال كان فوهنه واضح بعد ملاحظة ما تقدّم.

وعن المحقّق (٢) والشهيد الثانيين (٣) الفرق بين وقوعه ميّتا فيكتفى بنزح السبعين للعموم ، وموته في البئر بعد وقوعه حيّا فينزح الجميع إن قلنا به فيما لا نصّ فيه ، وإلّا فثلاثون أو أربعون على الخلاف ، فلو كان المعهود عنهما موافقة العلّامة في القول بزوال نجاسة الكفر بالموت لكان ذلك وجها ظاهرا في هذا الفرق ، غير أنّ المحكيّ عن الشهيد في شرح الإرشاد (٤) دفع كلام العلّامة في دعوى زوال نجاسة الكفر ، فحينئذ

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٩٥.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٤٦.

(٣) روض الجنان : ١٤٩.

(٤) روض الجنان : ١٤٩ حيث قال : « وأمّا منع زيادة نجاسته بعد الموت بزوال الاعتقاد الّذي ـ

٦٥٨

يشكل الحال في الفرق.

وإن كان قد يوجّه : (١) « بأنّ نظر المفصّل إلى أنّ المستفاد من النصّ أنّ السبعين لأجل نجاسة الموت مطلقا لا خصوص موت المسلم ، ولا فرق بين المسلم ، والكافر في النجاسة الحاصلة بالموت ، وأمّا إيجاب نزح الجميع لموت الكافر فليس للفرق بين موته وموت المسلم ، بل لخصوص نجاسة الكفر حال الحياة » (٢) ، وعليه يبنى ما تعرفه من الاعتراض عليهما.

وفيه : أنّ نجاسة الكفر إذا كانت مؤثّرة في اقتضاء نزح الجميع ولو من جهة البناء على حكم ما لا نصّ فيه ، فما الّذي [ألغاها] (٣) في صورة ما لو وقع ميّتا إلّا على ما يراه العلّامة من زوالها بعد الموت ، ولا أظنّ أنّ الموجّه لحدّة نظره يرضى بذلك ، وعليه فما اعترض عليهما الخوانساري في شرح الدروس : « من أنّ الرواية صريحة في الوقوع حيّا ثمّ الموت بعده ، فإن عمل على عمومها مع عدم اعتبار الحيثيّة لزم الاكتفاء بالسبعين في الموضعين ، وإن لم يعمل على عمومها أو يعتبر الحيثيّة المقتضية لقصر السبعين على نجاسة الموت فقط يجب أن لا يكتفي به على التقديرين ، إذ كما أنّ في الصورة الثانية يجتمع جهتان للنجاسة بالقياس إلى الكفر والموت ، فكذا في الصورة الاولى » (٤) كان متّجها ثمّ الظاهر في المسلم عدم الفرق في اعتبار السبعين بين وقوعه ميّتا أو وقوعه حيّا وموته في البئر ، لظهور النصّ في إناطة الحكم بالموت كائنا ما كان ، ولا ينافيه ورود فرض الرواية في الوقوع حيّا ، بعد ملاحظة كونه آخذا بما غلب وقوعه فليتأمّل ، والاحتياط طريق لا ينبغي الإغماض عنه.

المسألة الرابعة : فيما ينزح له خمسون دلوا ، وهو على ما في كلام غير واحد من الأصحاب أمران :

أحدهما : العذرة ، وظاهرهم كصريح بعضهم أنّ المراد بالعذرة هنا فضلة الإنسان ، مع

__________________

ـ هو سبب النجاسة ، ففيه : منع ، لأنّ أحكام الكفر باقية بعد الموت ، ومن ثمّ لا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين » الخ.

(١) الموجّه شيخنا الاستاذ دام ظلّه (منه).

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٢٥.

(٣) وفي الأصل : « ألقاها » والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.

(٤) مشارق الشموس : ٢٢٧ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

٦٥٩

أنّهم في غير هذا الموضع اختلفوا في اختصاصها بها ، وقد تقدّم عن صاحب المدارك (١) التصريح بأنّها لغة وعرفا فضلة الإنسان ، وعن المعتبر (٢) التصريح بأنّ العذرة والخرء مترادفان يعمّان فضلة كلّ حيوان ، وهو ظاهر المحكيّ عن الحلّي (٣) حيث أضافها هنا إلى ابن آدم ، بناء على أنّ القيد ظاهر في التخصيص.

وقد ورد في بعض الأخبار إطلاقها على ما يعمّ فضلة غير الإنسان أيضا ، كخبر عبد الرحمن « عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب » (٤) ، ورواية ابن بزيع ـ المتقدّمة ـ « في البئر يقع فيها شي‌ء من العذرة كالبعرة ونحوها » (٥) ، ومقتضى قاعدتهم في استعمال اللفظ في معنيين خاصّ وعامّ كونه حقيقة في العامّ إلّا إذا غلب الاستعمال في الخاصّ ، فيكون حقيقة فيه خاصّة ؛ والظاهر ثبوت تلك الغلبة هنا.

لكن يشكل ذلك بأنّ مقتضى قاعدتهم الاخرى في تعارض قول نقلة اللغة كون اللفظ حقيقة في العامّ إذا كان الاختلاف بينهما في العموم والخصوص المطلقين ، وقد عرفت وجود هذا الخلاف بين قولي المعتبر والمدارك ، ومثله موجود في كلام أئمّة اللغة ، فإنّ المحكيّ عن جماعة منهم كون العذرة : خرء الإنسان ، وظاهر المصباح المنير والمجمع كونها للعامّ ، حيث فسّرا بمطلق الخرء ، قال الأوّل : « العذرة : وزان كلمة الخرء ولا يعرف تخفيفها وتطلق العذرة على فناء الدار ، لأنّهم كانوا يلقون الخرء فيه ، فهو مجاز من باب تسمية الظرف باسم المظروف » (٦).

وقال الثاني : « العذرة وزان كلمة الخرء ، وقد تكرّر ذكرها في الحديث ، وسمّي فناء الدار (٧) عذرة لمكان إلقاء العذرة هناك » (٨) ، ولعلّ الخلاف نشأ عن ملاحظة المطلق من غير نظر إلى انصرافه ، وعن الأخذ بموجب الانصراف توهّما ، ويمكن حمل التفسيرين على المسامحة في التعبير ، كما يوهمه عبارة اخرى في المجمع في عنوان الخرء ، قائلة : « وقد تكرّر ذكر الخرء كخرء الطير والكلاب ونحو ذلك ، والمراد ما خرج منها كالعذرة

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٧٨.

(٢) المعتبر : ١١٤.

(٣) السرائر ١ : ٧٩.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠ ب ٤٠ من أبواب الماء.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١.

(٦) المصباح المنير ؛ مادّة « عذر » : ٣٩٩.

(٧) فناء الدار ، الخارج المملوك منها وهو حريمها (منه).

(٨) مجمع البحرين ؛ مادّة « عذر ».

٦٦٠