ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

في النجاسة كان مقتضيا للاستصحاب قبل الالتفات إلى معارض له ، فيكون الاستصحاب المتقوّم به علما شرعيّا بالنجاسة ومعه لا يبقى لاستصحاب الطهارة موضوع ؛ فمعنى تقديم استصحاب عدم الكرّيّة أنّه لا استصحاب هنا يكون معارضا له ؛ لا أنّ هنا استصحابا محقّقا وهو مقدّم عليه ، فإنّه غير معقول لما عرفت من قضيّة لزوم الترجيح بغير مرجّح.

وقد يتّفق في تعارض الاستصحابين ما لا يمكن فيه اعتبار الحكومة ولا الورود ؛ كما لو كان شكّاهما في مرتبة واحدة من غير سببيّة أحدهما للآخر ؛ كما في الكرّ الوارد على الماء المتنجّس تدريجا المقارن للشكّ في تنجّسه مع الشكّ في طهر الماء المسبّبتين عن الشكّ في اشتراط الدفعة في التطهير ؛ ومنه المقام بملاحظة الشكّ في شرطيّة الامتزاج ، فإنّ استصحاب نجاسة المتنجّس يعارضه استصحاب طهارة الكرّ ففي مثل ذلك لا يمكن العمل بأحد الاستصحابين تعيينا ، لأنّ التعيين لا بدّ وأن يكون إمّا من باب الحكومة أو الورود ؛ ولا سبيل إلى الأوّل لعدم إمكانه ولا إلى الثاني لفقد المرجّح المذكور من كون الشكّ في أحدهما علّة للآخر ، فإمّا أن يقال حينئذ بالتخيير ، أو طرحهما معا ، والظاهر أنّ الثاني أيضا ممّا لا سبيل إليه وإن قال به بعض الأصحاب لأنّه يوجب التخصيص في أدلّة الاستصحاب بلا مخصّص ، لأنّ العمل بها في أحد الاستصحابين ممكن ، وعدم العمل بالآخر بعد التخيير ليس من باب التخصيص ، بل من جهة اقتضاء بناء العمل على صاحبه نظير أمر الأبوين في مكان التنافي.

ولو سلّم كونه من باب التخصيص فلا بأس به بالنسبة إلى أحدهما ، لأنّ المانع عن العمل قائم في هذا المقدار فالمخصّص حينئذ هو العقل ؛ هذا كلّه وإن كان كلاما خارجا عن المقام لكن أوردناه هنا لكثرة فوائده ، فلنعد إلى ما نحن فيه فنقول : قد عرفت أنّ منع صغرى أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا سبيل إليه.

وأمّا منع الكبرى فقد يسبق إلى الوهم عدم إمكانه أيضا لما ورد في بعض أخبار البراءة ما يعمّ غير موارد التكليف أيضا ، كقوله : « كلّ شي‌ء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » فإن (١) النصّ أعمّ من خطاب التكليف ، وخطاب الوضع.

لكنّ الإنصاف : أنّ هذا الخبر على تقدير ثبوته وصحّته وارد في سياق نفي التكليف

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٧ وفيه : « نهى » بدل « نصّ ».

٥٨١

ولوازمه ؛ خصوصا إذا كان قوله : « مطلق » مرادا به « مرخص فيه » ، فإنّه لا يفيد حينئذ إلّا الإباحة بالمعنى التكليفي ؛ وهو ليس من محلّ البحث في شي‌ء ؛ ولا يمكن إرجاع المقام إلى ما يتعلّق بالتكليف بملاحظة العبادة المشروطة بالطهارة ؛ نظرا إلى أنّ شرطيّة الامتزاج في الواقع تستلزم عدم صحّة الصلاة بالوضوء أو الغسل الحاصلين بذلك الماء الّذي لم يحصل في تطهيره الامتزاج ؛ وهو في حكم الترك فيترتّب استحقاق العقوبة عليه وهو منفيّ بالأصل ، لأنّ أدلّة الأصل مسوقة في سياق أصل التكليف لا ما يكون التكليف من لوازمه البعيدة ، وإلّا أمكن التوصّل به إلى نفي كلّ حكم وضعي وهو خلاف الطريقة المستمرّة عند العلماء ، فاستصحاب النجاسة حينئذ لا مدفع له ، ولكن بملاحظة ما ذكرناه من قيام احتمال كون الوحدة المأخوذة في الملازمة المجمع عليها هي الوحدة العرفيّة الغير الحاصلة إلّا بالممازجة.

ومنها : أنّ اتّصال القليل بالكثير قبل ورود النجاسة كاف في دفعها فكذا ما بعده ، لأنّ عدم قبول النجاسة في الأوّل إنّما هو لصيرورة الماءين ماء واحدا بالاتّصال.

وفيه : ما لا يخفى من فساد الوضع ، لأنّ دعوى الملازمة بين الوحدة الحاصلة بالاتّصال وزوال النجاسة إن كانت لمجرّد ثبوت الملازمة بينها وبين عدم قبول الانفعال كما هو صريح الاستدلال ، ففيه : أنّه قياس ، ومع الفارق ، لوضوح الفرق بين مقامي الدفع والرفع ، وإن كانت لأمر خارج كالإجماع ونحوه فبطل توسيط مسألة الدفع حينئذ ، ومع ذلك فكفاية الوحدة الحاصلة لمجرّد الاتّصال في مورد الإجماع أوّل الدعوى ، لأنّها وحدة حسّيّة ولعلّ المأخوذ في مورد الإجماع هو الوحدة العرفيّة الّتي لا يتفاوت فيها العالم والجاهل ، وقد عرفت أنّها لا تتأتّى إلّا بالمداخلة ، وأقلّ مراتب هذا الاحتمال تحقّق موضوع الاستصحاب وهو كاف في لزوم اعتبار الممازجة تحصيلا للرافع اليقيني.

ومنها : ما عرفت عن منتهى العلّامة (١) من أنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه ، ولا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا.

وفيه : أنّ المداخلة المحكوم عليها بالامتناع إن اريد بها دخول الأجزاء بعضها في بعض حتّى الأجزاء الصغار من أحد الماءين فيها من الماء الآخر دخولا حقيقيّا

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٥.

٥٨٢

فالامتناع مسلّم ؛ ولكن اعتباره عند أهل القول بالممانعة ممنوع ؛ وإن اريد بها انتشار أجزاء أحد الماءين في أجزاء الماء الآخر على وجه يوجب تعذّر امتياز البعض عن بعض على قياس ما هو الحال في سائر المركّبات المزجيّة فامتناعها ممنوع ؛ كيف وجواز ذلك من ضروريّات العقل خصوصا في الماء الّذي هو سريع النفوذ.

ومنها : أنّ الأجزاء الملاقية للطاهر يجب الحكم بطهارتها عملا بعموم ما دلّ على طهوريّة الماء ، فتطهر الأجزاء الّتي يليها كذلك وكذا الكلام في بقيّة الأجزاء ، وفي المدارك : « وهذا اعتبار حسن نبّه عليه المحقّق الشيخ على في بعض فوائده ، وجدّي في روض الجنان » (١).

وفيه : ما لا يخفى من المصادرة المحضة ، لتوجّه المنع إلى طهر الأجزاء الملاقية بمجرّد الاتّصال ، لجواز كونه مشروطا بالممازجة والانتشار ولا نافي له ؛ بناء على أنّ عموم المطهّريّة قاصر عن إفادة كيفيّة التطهير كما تقدّم إليها الإشارة ، فالاستصحاب سليم عن المعارض.

ومنها : أنّ الامتزاج إن اريد به امتزاج كلّ جزء من الماء النجس لجزء من الماء الطاهر لم يمكن الحكم بالطهارة أصلا لعدم العلم بذلك ، وإن اكتفى بامتزاج البعض لم يكن الطهر للبعض الآخر هو الامتزاج بل مجرّد الاتّصال ، فيلزم إمّا القول بعدم طهارته أصلا ، أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال.

وفيه : أنّ المراد بالامتزاج انتشار يتعذّر معه الامتياز وهو معلوم الحصول ضرورة.

وقد يقرّر هذا الوجه بما فيه بسط وتطويل ، فيقال : « لو اعتبر الممازجة فإمّا أن يراد امتزاج الكلّ بالكلّ ، أو البعض بالبعض.

أمّا الأوّل ففيه أوّلا : أنّه غير ممكن.

وثانيا : أنّه غير ممكن الاطّلاع عليه ، فالأصل بقاء النجاسة.

وثالثا : أنّ جماعة من معتبري الامتزاج كالعلّامة والشهيد وغيرهم حكموا بطهارة حياض الصغار المتّصلة باستيلاء الماء من المادّة عليها ، وبغمس كوز الماء النجس في الكثير ولو بعد مضيّ زمان ، وطهارة القليل بماء المطر ، بل ادّعى السيوري (٢) والشهيد الثاني (٣)

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٦ ـ راجع روض الجنان : ١٣٨.

(٢) التنقيح الرائع ١ : ٤٥.

(٣) الروضة البهيّة ١ : ٢٥٨.

٥٨٣

الإجماع على الثالث ، مع أنّ الامتزاج الكلّي لا يحصل في شي‌ء.

ورابعا : أنّ الامتزاج ليس كاشفا عن الطهارة حين الملاقاة قطعا بل يتوقّف عليه ، والمفروض أنّ الماء المعتصم يخرج عن كونه كرّا أو جاريا أو ماء غيث قبل تمام الامتزاج الكلّي.

وخامسا : أنّه إذا القي النجس الكثير في المطهّر القليل بحيث يستهلك فيه ؛ فإمّا أن يحكم بالنجاسة وهو خلاف الأصل والإجماع ؛ أو بالطهارة وهو المطلوب ؛ وكذلك عكسه إذا سيق المطهّر عن مجاري متعدّدة بل دفعة ، وغاية ما يمكن أن يقال : إنّه يطهّر أجزاءه المخالطة له وهكذا بالتدريج.

وفيه : مع استلزامه المنع عن استعمال الماء قبله بلا دليل ؛ واختلاف الماء الواحد في السطح الواحد ، أنّه إنّما يتمّ إذا اجتمع الأجزاء المختلطة بحيث لا يتوسّط بين الكرّ منها النجس وعلم ذلك والمعلوم مع الاستهلاك خلافه.

وأمّا الثاني : فإن اريد بالبعض مسمّاه فهو المطلوب ؛ أو القدر المعيّن فلا بدّ من أن يبيّن ، أو الأكثر بالأكثر تقريبا فلا دليل عليه ، مع أنّ الفرق بين الأبعاض غير معقول ، مضافا إلى ورود كثير ممّا ذكر في الأوّل هنا » (١) انتهى.

وفيه : أنّ الامتزاج إذا اريد به انتشار الأجزاء في الأجزاء على وجه يزول معه الامتياز بينهما في نظر العالم بالحال فلا استحالة فيه ، ولا أنّ الاطّلاع عليه محال بل هو ممكن ضرورة من الحسّ والوجدان ، وظهور كلام العلّامة في المسألتين المشار إليهما في عدم اعتبار الامتزاج الكلّي ليس بأقوى من صريح كلامه في جملة من كتبه في نفي اعتباره ؛ والمفروض أنّ القائل باعتبار الامتزاج لا يعتني بمثل هذه المخالفة وإن ثبتت منه بنحو الصراحة ، مع أنّه لو كان مستنده في دعوى الاعتبار هو الأصل تكون هذه المخالفة محقّقة لموضوع ذلك الأصل ، فالاستشهاد بها حينئذ لا يجدي نفعا في إلزامه ؛ والامتزاج عند هذا القائل يعتبر ناقلا لا كاشفا وعند خصمه لا يترتّب عليه أثر ، فهو على كلا المذهبين غير مناف لبقاء الماء المعتصم كائنا ما كان على طهارته وطهر المتنجّس ، وبعد ما كان الحكمان متّفقا عليهما عند الفريقين فبأيّ شي‌ء يلزم أحد

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة عن بعض الأفاضل ، ١ : ١٤٧ ـ والظاهر أنّه هو المحقّق الشيخ أسد الله الدزفولي الكاظمي في مقابس الأنوار : ٨٢.

٥٨٤

الفريقين على بطلان مذهبه ، لأنّ الّذي يقول به من جهة الامتزاج خاصّة لا ينافيه الامتزاج عند الفريق الآخر القائل بعدم كونه مؤثّرا.

فلو قيل : إنّ الإشكال يتوجّه على تقدير عدم حصول الطهر بمجرّد الاتّصال ، وتوقّفه على حصول الامتزاج بالمعنى المفروض ، فحصوله متأخّر عن الامتزاج وهو يستلزم محالا ، لأنّ الماء المعتصم بمجرّد الامتزاج الجزئي المتقدّم على الامتزاج الكلّي طبعا يخرج عن كونه معتصما بل عن كونه جزء من المعتصم ، على معنى أنّه لا يبقى فيه عنوان الكرّيّة ولا الجريان ولا المطريّة بصيرورته كلّا أم بعضا جزء من المتنجّس ، فهو حينئذ إذا لم يكن بنفسه معتصما عن الانفعال فكيف يعقل بالنسبة إلى غيره كونه رافعا للانفعال.

ففيه : أنّ هذه الشبهة وإن كانت في محلّها غير أنّها تندفع بملاحظة أنّ أصل حكم التطهير هنا ثابت بالإجماع ، لجواز كون الإجماع حاصلا فيه على هذا النمط ، ولا اجتهاد بعد الإجماع لكون أحكام الشرع منوطة بالتعبّد.

وفرض إلقاء النجس الكثير لو اريد به الكثير العرفي المتجاوز عن الكرّيّة في المطهّر القليل لو اريد بقلّته ما يكون عرفيّا مجامعا للكرّيّة على وجه يستهلك معه المطهّر لا ينافي مناط الطهر هنا بل يؤكّده ، لأنّ الغرض الأصلي من الامتزاج إنّما هو رفع الامتياز بين الماءين وهو حاصل في هذا الفرض جزما.

وأمّا عكس هذا الفرض وهو سوق المطهّر القليل من مجاري متعدّدة إلى الكثير النجس ؛ فالمتّجه فيه عدم حصول الطهر لا من جهة اختلال جهة الامتزاج بل من جهة اختلال الدفعة الّتي قد عرفت كونها شرطا كما لا يخفى ؛ بل قضيّة بعض ما سبق في بحث الدفعة انتقال المطهّر إلى النجاسة ، ولو سلّم بقاؤه على الطهارة فلا استحالة في اختلاف الماء الواحد في السطح الواحد من حيث الحكم في غير مورد الامتزاج ؛ فإنّ المانع عن ذلك ليس هو العقل كما تقدّم شرحه ؛ ولا الشرع إذا اعتبرناه غير الإجماع ، وأمّا إذا اعتبرناه الإجماع فهو غير ثابت في جميع فروض المسألة.

وبذلك يظهر الجواب أيضا عمّا استدلّ به أيضا من أنّ الاتّصال يقتضي الاتّحاد والماء الواحد لا يختلف حكمه ؛ فإنّ الاتّحاد إن اريد به اتّحاد السطح فقط مع إمكان التمييز بينهما فالكبرى ممنوعة ، وإن اريد به الاتّحاد الرافع للامتياز وهو الاتّحاد في

٥٨٥

الإشارة فالصغرى ممنوعة ، بل بملاحظة ذلك ـ مضافا إلى بعض ما سبق ـ يظهر الجواب عن الوجه الآخر ممّا استدلّ به من أنّ الاتّصال يوجب اختلاط بعض أجزاء الكرّ ببعض أجزاء المتنجّس ؛ فإمّا أن يرتفع النجاسة عن النجس أو يتنجّس جزء الكرّ ، والثاني مخالف لأدلّة عدم انفعال الكرّ فتعيّن الأوّل ، فإذا طهر الجزء طهر الجميع لعين ما ذكر ، لجواز الواسطة بين ارتفاع النجاسة عن النجس وتنجّس جزء الكرّ وهو بقاء كلّ على حكمه إلى أن يتحقّق الامتزاج المعتبر ، غاية ما يلزم اختلاف السطح الواحد في الحكم ولا دليل على بطلانه مطلقا.

ثمّ على فرض تسليم زوال النجاسة عن الجزء المختلط فالتعدّي منه إلى الأجزاء الباقية لا وجه له بعد الفرق بينهما بتحقّق الشرط في الأوّل دون الثاني.

ومنها : الروايات الواردة في مطهّريّة الماء بقول مطلق أو في الجملة ، كقوله : « الماء يطهّر ولا يطهّر » (١) بناء على أنّ المعنى : « يطهّر حتّى نفسه ولا يطهّر بغير نفسه » ، بقرينة ما ذكر من جهة حذف المتعلّق دفعا للتناقض ، « وماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٢) ولا يضرّ غلبة المزج في النهر المشبّه به ، لظهور أنّ التشبيه في أصل الحكم لا في كيفيّته ، « وكلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر (٣) » كما في مرسلة الكاهلي ، فإنّه يصدق على ماء المطر الواقع على سطح الحوض أنّه رأى الحوض فطهر.

وما حكاه العلّامة عن بعض علماء الشيعة : من أنّه كان بالمدينة رجل يدخل إلى أبي جعفر عليه‌السلام وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيفة ، وكان يأمر الغلام يحمل كوزا من ماء يغسل رجليه إذا خاضه ، فأبصر بي يوما أبو جعفر عليه‌السلام فقال : إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا طهّره » (٤).

وما في صحيحة ابن بزيع « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء ، إلّا ما غيّر طعمه أو ريحه ، فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب الطعم ، لأنّ له مادّة » (٥) بناء على اختصاص

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٣ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٦ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨ مع اختلاف يسير.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

٥٨٦

التعليل بالفقرة الأخيرة ، أو شموله لها ولما قبلها ، وعلى كلّ تقدير فيدلّ على كفاية زوال التغيّر في طهارة ما ينجّس بالتغيّر وله مادّة من غير اعتبار امتزاجه بشي‌ء من المادّة أو ماء معتصم آخر ، فإذا اكتفى بالاتّصال في المتغيّر ذي المادّة اكتفى في غيره من المياه النجسة بغير التغيّر باتّصاله بماء معتصم.

وقد تقدّم منّا في صدر الباب ما يدفع به أكثر هذه الروايات ، ونقول هنا : إنّ الرواية الاولى مع أنّها غير معتبرة السند بالسكوني غير واضحة الدلالة ، لمكان ما فيها من الإجمال المتقدّم بيانه مشروحا ، وكون حذف المتعلّق مفيدا للعموم ـ على فرض تسليمه ـ مشترك الاعتبار بالنسبة إلى الفقرتين ، ودفع التناقض الّذي يلزم على تقدير اعتبار العموم فيهما بتخصيص أحدهما بالآخر متساوي النسبة إليهما معا ، فلا معيّن لإبقاء الاولى على العموم وتقييد الثانية ، مع قوّة احتمال أن يكون الفعلان على فرض التشديد معلومين ، أو مجهولين مرادا بهما قضيّتان مهملتان متصادقتان على الماء ، لما فيه من اجتماع حيثيّتين باعتبار نفسه أو باعتبار الفاعل أو باعتبار القابل ، فهو بملاحظة إحدى الحيثيّتين يطهّر أو يقبل الطهر ، وبملاحظة الحيثيّة الاخرى لا يطهّر أو لا يقبل الطهارة ، كما إذا قلت : « إنّي احبّ الشي‌ء الفلاني ولا احبّه » ومن المعلوم أنّ مثل هذه القضيّة لا يفيدنا إلّا الإجمال ، ومعه كيف يصلح محلّا للاستدلال.

ورواية النهر مع ضعف سندها ـ كما تقدّم في بحث الجاري والحمّام ـ ممنوعة الدلالة على حكم التطهير ، لما تقدّم من القرينة على إرادة تقوّي البعض بالبعض لا تطهّره به ، ولو سلّم الدلالة على التطهير فهي أيضا دلالة إجماليّة مقصودة منها إعطاء أصل الحكم لا كيفيّته.

والمرسلة مع أنّه لم يثبت لإرسالها جابر وإن كانت دلالتها واضحة لمكان الإطلاق في الرؤية ، يقيّدها رواية الميزابين (١) ـ المتقدّمة في بحث المطر ـ المتضمّنة لاعتبار الاختلاط كما لا يخفى على المتأمّل ، ومع الغضّ عن ذلك فالتعدّي عن حكم المطر إلى غيره ممّا لا قاضي به ؛ والكلام إنّما هو في التطهير بالكثير ولعلّ بينهما فرقا في نظر الشارع.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ وفيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لو أنّ ميزابين سالا ، أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء ، فاختلطا ثمّ أصابك ما كان به بأس ».

٥٨٧

وببعض ما ذكر يظهر الجواب عن المرسلة الاخرى مع ما فيها من ظهور قوله عليه‌السلام : « هذا لا يصيب شيئا إلّا طهّره » (١) في كونه تأكيدا لطهوريّة المشار إليه ، مرادا به أنّ هذا الماء من شأنه أن يطهّر الأشياء المتنجّسة لا أنّ من شأنه أن ينجّس الأشياء الطاهرة ، ردعا للمخاطب عن معتقده الّذي كشف عنه فعله ، فلم يعتبر فيها أيضا عموم أو إطلاق يصلح للاستناد إليه.

والظاهر أنّ الصحيحة أدلّ على خلاف مطلب المستدلّ ؛ بناء على ظهور رجوع التعليل إلى الفقرة الأخيرة كما تقدّم في باب البئر وغيره ، نظرا إلى ما تقدّم منّا في بعض المباحث المتقدّمة من أنّ اعتبار النزح هنا ليس من جهة أنّه بنفسه مطهّر ، بل إنّما هو لمجرّد رفع مانعيّة التغيّر وإلّا فالمطهّر في الحقيقة هو الماء المتجدّد من المادّة ، ضرورة أنّ ماء البئر كلّما ينزح يتجدّد من المادّة ما يقوم مقام المنزوح حتّى يزول التغيّر ، فالطهر مستند إلى هذا الماء المتجدّد وهو لازم الممازجة مع الماء المتنجّس عادة بسبب النزح الّذي يوجب مباشرة الدلو وغيره من الآلات المقتضية بحكم العادة تحرّك الماء وتقلّب أجزائه من مكان إلى آخر كما لا يخفى.

وهذا كما ترى ملزوم للممازجة لا محالة ، ولو سلّم فالتعدّي من البئر إلى غيرها لا بدّ له من وسط وهو مفقود ، بناء على اختصاص العلّة بزوال التغيّر كما هو الظاهر ؛ ولعلّ ذلك حكم مختصّ بالبئر كسائر أحكامها المختصّة بها الّتي منها المنزوحات المقدّرة فيها وجوبا أو استحبابا فليتدبّر ، ولنختم المقام بذكر فوائد :

الاولى : أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا أنّ المعتبر من الامتزاج ما يرتفع به امتياز الماءين على وجه لا يقع عليهما عند المطّلع بالحال إلّا إشارة واحدة ، سواء حصل ذلك باختلاط كلّ الأجزاء بكلّ الأجزاء أو بغيره ، لأنّ المقتضي للامتزاج هو الامتياز فلا بدّ وأن يكون العبرة بارتفاعه المتحقّق تارة بالامتزاج الكلّي واخرى بالامتزاج الجزئي ، خلافا لكاشف اللثام ـ المحكيّ عنه ـ الاكتفاء بامتزاج البعض مطلقا مدّعيا عليه الإجماع ، قائلا : « بأنّه مع الاتّصال لا بدّ من اختلاط شي‌ء من الأجزاء ، فإمّا أن ينجّس الطاهر ، أو يطهّر النجس ، أو يبقيان على ما كانا عليه ، والأوّل والثالث خلاف ما اجمع عليه فتعيّن الثاني.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨.

٥٨٨

وإذا تطهّر ما اختلط من الأجزاء طهر الباقي ، إذ ليس لنا ماء واحد في سطح واحد يختلف أجزاؤه طهارة ونجاسة بلا تغيّر ؛ وأيضا لا خلاف في طهر الزائد على الكرّ أضعافا كثيرة بإلقاء كرّ عليه وإن استهلكه.

وربّما كانت نسبة ما يقع فيه الاختلاط منه ومن أجزاء النجس إلى مجموع أجزائه كنسبة ما يقع فيه الاختلاط بين القليل والكثير عند أوّل الاتّصال ، فإمّا أن يقال هنا : أنّه يطهّر الأجزاء المختلطة ، ثمّ هي تطهّر ما جاورها وهكذا إلى أن يطهّر الجميع ، فكذا فيما فيه المسألة.

وإمّا أن لا يحكم بالطهارة إلّا إذا اختلط الكرّ الطاهر بجميع أجزاء النجس ويحكم ببقائه على الطهارة ، وبقاء الأجزاء الغير المختلطة من النجس على النجاسة إلى تمام الاختلاط ، وقد عرفت أنّه ليس لنا ماء واحد في سطح واحد يختلف أجزاؤه من غير تغيّر ، وأيضا فالماء جسم لطيف سيّال تسري فيه الطهارة سريعا كما تسري فيه النجاسة ، ولا دليل على الفرق بينهما » (١) انتهى.

وضعفه ظاهر بعد الإحاطة بجميع ما تقدّم مع أنّه لو كان هذا التحقيق منه بناء على القول باشتراط الامتزاج لغى معه الاشتراط ، لأنّ الاختلاط الجزئي كيفما اتّفق لازم عقلي للاتّصال كما لا يخفى على المتأمّل.

الثانية : قد يستظهر من كلمات أهل القول باعتبار الامتزاج زيادة عليه القول باعتبار الاستهلاك أيضا على الوجه المعتبر في تطهير المضاف وعدم كفاية مطلق الامتزاج ؛ وهو كما ترى إفراط كما أنّ ما سبق عن كاشف اللثام من القول بكفاية الاختلاط الجزئي الحاصل عند أوّل الاتّصال تفريط ؛ ولم نقف في كلمات من تقدّم على ما يقضي بهذا الظهور ، بل من تأمّل في العبارات المتقدّمة ونظر فيها حقّ النظر يجدها بين صريحة وظاهرة في عدم اعتباره ؛ وما تقدّم في عبارة كاشف اللثام من نفي الخلاف في طهر الزائد على الكرّ أضعافا كثيرة بإلقاء كرّ عليه وإن استهلكه ممّا يشهد بكذب دعوى اعتباره عندهم ، كيف وهو مستحيل الفرض فيما لو كان الماء النجس أقلّ من الكرّ الملقى عليه بقليل ، فضلا عن كونه أكرارا كثيرة والملقى عليه كرّا واحدا.

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣١٠.

٥٨٩

نعم ، ربّما يوهم اعتباره وقوع لفظ « الاستهلاك » في بعض استدلالاتهم المتقدّمة على طهر القليل بإلقاء كرّ عليه ؛ ومثله ما في الاستدلال على طهر الجاري المتغيّر بزوال التغيّر من جهة تدافع الماء من المادّة وتكاثره كما عرفته عن المنتهى (١) ، لكن كلماتهم الاخر في طيّ تفاصيل المسألة قرائن تنهض شاهدة بعدم إرادة الاستهلاك بالمعنى المذكور ، بل بإرادة الامتزاج الرافع للامتياز الخارجي بين الماءين ، وحينئذ فيلزم حصول الطهر ولو فرض الكرّ الملقى مستهلكا في جنب النجس كما في مفروض كاشف اللثام ، وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه بالنظر إلى استدلالهم بما تقدّم من الملازمة المجمع عليها الّتي لا يقطع بها إلّا مع الامتزاج المذكور ، فحينئذ يكفي في طهر كرور متكاثرة كرّ واحد إذا امتزج معها على الوجه المذكور.

الثالثة : لا فرق في اعتبار الامتزاج في تطهير القليل المتنجّس بين أنواعه ، حتّى ماء الحمّام الّذي هو عبارة عمّا في حياضه الصغار إذا تنجّس بسبب انقطاعه عن المادّة ، فإنّ مستند الاعتبار في غيره الّذي هو استصحاب النجاسة إلى أن يتحقّق مزيل يقيني كما ترى جار في ماء الحمّام أيضا ، نظرا إلى أنّه بملاحظة الخلاف المتقدّم في بابه من مواضع الشبهة ، وطهره بإلقاء الكرّ عليه دفعة مع تحقّق الممازجة أيضا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا طهره بإجراء المادّة عليه فالظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه عندهم ، بل عليه الإجماع في كلام المحقّق الخوانساري المتقدّم في بابه ؛ (٢) ، نعم ربّما يتوهّم الخلاف في اعتبار كرّيّة المادّة عند الرفع وعدمه وإن لم يوجد عليه قول محقّق كما مرّ ثمّة ، وعلى أيّ حال فقضيّة الأصل المشار إليه اعتبارها فهو أيضا ممّا لا إشكال فيه.

نعم ، يحصل الإشكال بالنظر إلى اشتراط الدفعة ـ المتقدّم في تحقيقه الكلام ـ الّتي لا تكاد تتحقّق في مادّة الحمّام لورود الماء منها إلى الحياض تدريجا ، ولو فرضناهما متساويي السطح فاتّصل أحدهما بالآخر أشكل الحال من جهة حصول الوحدة المعتبرة في تطهير القليل حسبما تقدّم ؛ فإن حصل الإجماع على إلغاء هذين الأمرين في خصوص

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٠٨ حيث قال : « ... فالمعوّل في عدم نجاسة الحوض الصغير بملاقاة النجاسة حال كونه متّصلا بالمادّة الإجماع كما هو الظاهر ، وكذا في تطهيره بعد النجاسة بجريان المادّة إليه إذا كانت كرّا ... »

٥٩٠

الحمّام وإلّا أشكل الحال غاية الإشكال وقوي معه احتمال تعيّن إلقاء الكرّ في تطهيره ، وعلى أيّ حال فالاحتياط في مثله المعتضد بالاستصحاب ممّا لا ينبغي تركه جدّا.

الرابعة : كما أنّ القليل المتنجّس يطهّر بإلقاء كرّ عليه فكذا يطهّر بالجاري ونزول الغيث ، أمّا الأوّل فقد نصّ عليه غير واحد منهم الشهيد في الدروس (١) وغيره ، بل الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه في الجملة كما في شرح الدروس للخوانساري (٢).

نعم ، على القول باشتراط الكرّيّة في عدم انفعال الجاري يعتبر الكرّيّة ؛ وأمّا على المختار فالكرّيّة ليست بمعتبرة هنا كما أنّ الظاهر عدم اعتبار الدفعة هنا ، بل لا معنى له بعد ملاحظة أنّ وصف الجريان لا يجامعه الدفعة بالمعنى المتقدّم ؛ وأمّا الامتزاج فقد صرّح غير واحد بأنّ الكلام فيه هنا كالكلام في إلقاء الكرّ ، وقضيّة ذلك كونه معتبرا هنا عند معتبريه ثمّة ، وهذا هو مقتضى الأصل المتقدّم ذكره ، ولا فرق في الطهر به بين الورودين ولا بين علوّ المطهّر وغيره ، فلو اتّصل به الجاري من تحته فامتزجا طهر ، والدلالة على ذلك كلّه ما سبق مفصّلا في إلقاء الكرّ.

وأمّا ما عن العلّامة في القواعد (٣) والتحرير (٤) من أنّه لا يطهّر بالنبع من تحته ، فلعلّه لا ينافي ما ذكرناه ، لجواز أن يكون مراده بالنبع خروج الكثير المنخفض عن القليل إليه بطريق النبع ، كما مرّت الإشارة إليه في نظير ذلك عنه في المنتهى (٥) في ردّ الشيخ في المبسوط.

وقد يذكر في توجيهه وجهان آخران كما في شرح الدروس (٦).

أحدهما : ابتناؤه على اشتراط العلوّ في الطهر ، وهو ليس على ما ينبغي كما يظهر وجهه بملاحظة ما أشرنا إليه عنه في المنتهى.

وثانيهما : ابتناؤه على ما هو مختاره من نجاسة الجاري بالملاقاة إذا كان قليلا ، وما ذكرناه أوجه ، وأمّا الثاني فقد سبق شرحه مفصّلا في باب المطر.

وثالثها (٧) : في تطهير القليل بإتمامه كرّا ، وهذا ممّا اختلف فيه الأصحاب رضوان الله

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٨.

(٢) مشارق الشموس : ١٩٣ قال : « الظاهر أنّ تطهيره بالجاري في الجملة ممّا لا خلاف فيه ... » الخ.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٤) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٦٥.

(٦) مشارق الشموس : ١٩٤.

(٧) تقدّم ثانيها في ص ٩٧.

٥٩١

عليهم ، فعن الشيخ في الخلاف (١) وابن الجنيد (٢) وأكثر المتأخّرين عدم طهره به مطلقا سواء كان بطاهر أو نجس ؛ وفي بعض العبائر : « أنّه المشهور » ، وعن المرتضى في المسائل الرسيّة (٣) ، والشيخ في ظاهر المبسوط (٤) ، والسّلار (٥) ، ويحيى بن سعيد (٦) ، وابني إدريس (٧) وحمزة (٨) ، والمحقّق الشيخ عليّ (٩) القول بالطهارة ، وهؤلاء ـ على ما نقل ـ بين مطلق ومصرّح بعدم الفرق بين الطاهر والنجس كما عن ابن إدريس (١٠) ، وعن المبسوط نسبته إلى بعض أصحابنا ، ومقيّد له بالطاهر كما عن بعضهم على ما في محكيّ المبسوط (١١) والذكرى (١٢).

والأقوى الأوّل ، لأنّه ماء حكم الشارع بنجاسته فيقف زواله على دلالة من الشارع وهي منتفية ، كيف وأنّ المتمّم إن كان طاهرا فقد تنجّس بالملاقاة بحكم علّيتها المستفادة من مفهوم « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١٣) ومعه لا يعقل الطهارة في المجموع بمجرّد الإتمام ؛ وإن كان نجسا فأولى بعدم التأثير في التطهير.

ويؤيّده عموم النهي عن استعمال غسالة الحمّام الّتي لا تنفكّ عادة عن الطاهر إذا بلغ المجموع كرّا.

فإن قلت : كما أنّ ملاقاة هذا النجس علّة لانفعال الملاقي بحكم المفهوم فكذلك علّة لكرّيّة المجموع وهي مانعة عن الانفعال ؛ فيجب القول بعدمه في الملاقي عملا بمنطوق الرواية ، ثمّ يحكم بطهارة المجموع عملا بالإجماع على عدم اختلاف الماء الواحد في السطح الواحد في وصفي الطهارة والنجاسة ولو بعد اعتبار الممازجة بينهما.

قلت : مع أنّ المستفاد من المنطوق أنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال إذا صادفت طهارة

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٩٤ المسألة ١٤٩ ، حيث قال : « ولا يحكم بطهارته إلّا إذا ورد عليه كرّ من الماء فصاعدا »

(٢) حكى عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٧٩.

(٣) جوابات المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٦١).

(٤) المبسوط ١ : ٧.

(٥) المراسم العلويّة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ٢٤٦).

(٦) الجامع للشرائع : ١٨. (٧) السرائر ١ : ٦٣.

(٨) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤).

(٩) جامع المقاصد ١ : ١٣٤.

(١٠) السرائر ١ : ٦٣.

(١١) المبسوط١: ٧،قال : « وفي أصحابنا من قال:إذا تمّمت بطاهركرّا زال عنها حكم النجاسة وهوقويّ ... ».

(١٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨٦.

(١٣) الوسائل ١ : ١٥٩ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ الكافي ٣ : ٢ / ١ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩.

٥٩٢

المجموع فلا يندرج فيه المقام ؛ ومعه يبقى المفهوم سليما عن المعارضة ، أنّ الملاقاة لكونها علّة للكرّيّة مقدّمة ذاتا على الكرّيّة فهي بمجرّد تحقّقها تؤثّر في انفعال الملاقي قضاء لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة ، غاية الأمر أنّ هذا المعلول يقارن المعلول الآخر وهو الكرّيّة في الوجود الخارجي ، وقضيّة ذلك مصادفة هذا المعلول محلّا غير قابل لأن يؤثّر في عدم انفعاله وإلّا لزم اجتماع النقيضين.

فإن قلت : إنّما يلزم المحذور لو ترتّب الأثران على الملاقاة والكرّيّة متقارنين وهو ليس بلازم ، لجواز أن يترتّب الأثر على الكرّيّة بعد ما ترتّب على الملاقاة أثرها ، غاية ما هنالك لزوم الالتزام بأنّ هنا حدوثا للانفعال وزوالا له جمعا بين المفهوم والمنطوق.

قلت : ذلك خروج عن الفرض حيث إنّ الاعتراض ـ قبالا لما ادّعيناه من اقتضاء الملاقاة انفعال الملاقي ـ دعوى مانعيّة الكرّيّة عن حدوث الانفعال ، وما ذكر في التفصّي عن المحذور التزام بكون الكرّيّة رافعة للانفعال الحادث ؛ والفرق بين المعنيين بيّن كما بين السماء والأرض ؛ مع أنّ مفاد المنطوق كون الكرّيّة مانعة عن حدوث الانفعال لا أنّها رافعة للانفعال الحادث فلا منطوق بالقياس إلى ما ذكر ، فيعود الكلام إلى بقائه تحت المفهوم.

ودعوى دخوله فيه أوّلا وخروجه ثانيا بطروّ الكرّيّة ممّا لا شاهد بها.

وفي كلام غير واحد الاحتجاج على المختار بالاستصحاب وهو لا يخلو عن نوع مناقشة ؛ إذ لو اريد بالنجاسة المستصحبة نجاسة الجميع فهو كذب ، لمكان كون الحالة السابقة في المتمّم الطهارة.

ولو اريد بها ما يختصّ بالبعض المتنجّس فهي معارضة بطهارة المتمّم ؛ ولو اريد العمل بالاستصحابين معا ولو بعد الممازجة ، فهو باطل بحكم الملازمة المجمع عليها المقتضية لعدم اختلاف الماء الواحد في الحكم.

إلّا أن يقال : بأنّ المراد بها النجاسة المختصّة مع الحكم بنجاسة الجميع بحكم تلك الملازمة ، أو بحكم ما دلّ على انفعال القليل بملاقاة المتنجّس الّذي حكم عليه بالنجاسة شرعا ، على ما سبق تحقيقه في ذيل مسألة أنّ النجاسة منوطة في نظر الشارع بالعلم بها ولو شرعا.

٥٩٣

ولكن يتوجّه إليه : أنّ المقام ليس من موارد الاستصحاب لمكان العلم ببقاء النجاسة ، إلّا أن يكون التمسّك به مبنيّا على المماشاة مع الخصم.

وكيف كان فاحتجّ أهل القول بالطهارة بوجوه :

منها : ما عن المرتضى (١) من أنّ البلوغ قدر الكرّ يوجب استهلاكه للنجاسة فليستو وقوعها قبل البلوغ وبعده.

وجوابه : أنّ معنى كون بلوغ قدر الكرّ موجبا لاستهلاك النجاسة أنّ الماء معه لا يتأثّر عمّا يقع فيه من النجاسة العينيّة الغير المغيّرة وما في حكمها في التأثير كالمتنجّس ، كما أنّ معنى كون الماء البالغ قدر الكرّ مستهلكا للنجاسة عدم قبوله أثر النجاسة الواقعة فيه وعدم بروز أثر تلك النجاسة فيه وعروضه له ، بحيث كان وجودها فيه بمنزلة عدمها ، فلو اريد بالمقدّمة الاولى من الدليل هذا المعنى فهو حقّ متين لا سترة عليه ، لكنّه لا يقتضي الاستواء بين وقوعها قبل البلوغ ووقوعها بعد البلوغ ، ضرورة الفرق بينهما كما بين السماء والأرض ، إذ ليس الكلام في أنّه هل يتأثّر أو لا يتأثّر؟ بل في أنّه هل يزول عنه الأثر أو لا يزول؟ ومن البيّن أنّ أحدهما ليس بعين الآخر ولا ملازمة بينهما عقلا ولا شرعا ، فيكون التعدّي عن أحدهما إلى الآخر قياسا ومع الفارق ، ضرورة أنّ الماء في رفعه الأثر الحاصل ربّما يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه في دفعه الأثر الغير الحاصل كما هو معلوم من الشرع.

ولو اريد بها ما زاد على هذا المعنى بدعوى : أنّ الكرّيّة في الماء صفة لا تجامعها صفة النجاسة سابقة ولا حقة ، وبعبارة اخرى : أنّ الشرع قد كشف عن كون الكرّيّة مضادّة للنجاسة ولا معنى له إلّا كونها في مقام الرفع رافعة وفي مقام الدفع دافعة ؛ فهو أوّل الدعوى لمنع قيام الدلالة من الشرع على هذا المعنى ، بل القدر المسلّم قيام الدلالة على أنّ سبق الكرّيّة يوجب في الماء قوّة تعصمه عن حصول أثر النجاسة وحدوثه فيه.

ومنها : ما عنه (٢) أيضا من أنّ الإجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة ولم يعلم هل كان وقوعها قبل بلوغ الكرّيّة أو بعده ، وما ذاك إلّا لتساوي الحالين ، إذ لو اختصّ الحكم ببعديّة الوقوع لم يكن للحكم بالطهارة وجه ، لأنّه كما

__________________

(١ و ٢) المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٦١ و ٣٦٢).

٥٩٤

يمكن تأخّره عن البلوغ كذا يمكن تقدّمه عليه.

وجوابه أوّلا : أنّه أدلّ على خلاف المقصود من الاستدلال ، ضرورة أنّه لو لا الفرق بين وقوعها قبل بلوغ الكرّيّة ووقوعها بعده لغى أخذ الشكّ قيدا في موضوع الحكم المجمع عليه ، والمفروض أنّه لا إجماع مع عدم اعتبار هذا الشكّ ، فظهر أنّ للشكّ المذكور مدخليّة في الحكم وبطل به دعوى تساوي الحالين مطلقا.

وثانيا : أنّ ذلك من جهة استصحاب الطهارة الأصليّة في الماء ، حيث إنّ بلوغ الكرّيّة مع وقوع النجاسة بكليهما أمران حادثان لا يجري فيهما الأصل ، فيبقى أصالة الطهارة سليمة.

وثالثا : أنّ ذلك لما سبق تحقيقه من أنّ أحكام النجاسة في نظر الشارع معلّقة على العلم بتحقّق أسباب النجاسة ولو شرعا ، وأنّ مشكوك النجاسة عندنا محكوم عليه عنده بالطهارة ، ولا ريب أنّ المقام ممّا لا مدخل له في ذلك ، فبالجملة فرق بين المقامين والفارق هو الإجماع في أحدهما دون الآخر ، مضافا إلى الأصلين المتقدّم إليهما الإشارة.

وقد يجاب عنه ـ بعد ما قرّر بأنّه : لو لم يحكم بالطهارة بذلك لم يحكم بطهارة الماء الّذي وجد فيه نجاسة لم يعلم وقوعها قبل الكرّيّة أو بعدها ـ : « بأنّ الالتزام به ليس من المنكرات فلا يحكم عليه بالطهارة ولا النجاسة ، فهو لا ينجّس الطاهر ولا يطهّر النجس ، فيكون حاله حال المشكوك في كرّيّته إذا لاقته النجاسة في وجه قويّ ، لأنّه كما أنّ الكرّيّة شرط وقد شكّ فيها فكذلك الطهارة شرط وقد شكّ فيها » (١).

وفيه : أنّ ذلك لا يلائم الإجماع المدّعى على الحكم بالطهارة ، وكأنّه غفلة عن كون مستند بطلان التالي هو الإجماع كما يرشد إليه تجريد التقرير المذكور عن ذكره ، وقد وقع التصريح بالاستناد إليه في كلام جماعة على وجه يظهر منهم الاعتراف به ، وحكي الاعتراف به أيضا عن الفاضلين (٢) والشهيد (٣).

هذا مع ما في مقايسة المقام على المشكوك في كرّيّته من الفساد الواضح ، لمنع أصل الحكم في المقيس عليه ، ضرورة أنّ المشكوك في كرّيّته إمّا أن يعلم له حالة سابقة من

__________________

(١) المجيب هو صاحب الجواهر رحمه‌الله ، راجع جواهر الكلام ١ : ٣١٦.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ١٨٤.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨١ قال فيه : ولو علمه وشكّ في سبق النجاسة ، فالأصل الطهارة الخ أقول : وهذا كما ترى ليس من الاستناد بالإجماع.

٥٩٥

قلّة أو كرّيّة أو لا؟ فعلى الأوّل يكون المتّبع هو الأصل الّذي يقتضيه الحالة السابقة ، فالمتّجه حينئذ الحكم بالنجاسة لاستصحاب القلّة أو الحكم بالطهارة لاستصحاب الكرّيّة.

وعلى الثاني : يكون المتّبع قاعدة الطهارة بعد الحكم على الأصلين بالتساقط ، بل لا أصل في البين حينئذ لانتفاء الحالة السابقة الّتي هي من أركان الاستصحاب ، فيبقى قاعدة الطهارة المستفادة عن عموم « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (١) سليمة.

وأمّا التعليل بشرطيّة الكرّيّة وشرطيّة الطهارة المشكوك فيهما فممّا لا يرجع إلى محصّل ، لأنّ الكرّيّة شرط في عدم نجاسة الماء بوقوع النجاسة فيه ، والطهارة شرط في تطهير النجس ، لكنّ الشرط إذا كان مطابقا للأصل أمكن إحرازه بالأصل ، فلم لا يحكم بأصالة الطهارة إن سلمت عن معارضة أصالة عدم الكرّيّة وتقدّمها عليها حتّى يترتّب عليه تطهير النجس؟ ومع عدم السلامة فأصالة عدم الكرّيّة يقضي بالنجاسة فيترتّب عليها تنجّس الطاهر ، ففسد التعليل كما فسد أصل الحكم.

ومنها : ما عن ابن إدريس (٢) الاحتجاج بالإجماع قائلا : « بأنّ إجماع أصحابنا على هذه المسألة إلّا من عرف اسمه ونسبه » ، وبقوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » (٣) مدّعيا إجماع المؤالف والمخالف على هذه الرواية ، فإنّها عامّة لصورتي تأخّر الخبث وتقدّمه.

بل عن القاموس (٤) ونهاية ابن الأثير (٥) أنّ معنى « لم يحمل خبثا » : لم يظهر فيه خبث ، وحينئذ يكون دلالته من باب الخصوص لا العموم ، لأنّ عدم ظهور الخبث فيه يستلزم معناه أنّه كان سابقا على البلوغ وبعده لم يظهر حكمه فيه.

وبالعمومات الدالّة على طهارة الماء وجواز استعماله كقوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (٦) وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (٧) ؛ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر : « إذا وجدت الماء فامسسه جسدك » (٨) ، وقوله : « أمّا أنا فلا ازيد على أن أحثوا

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥. (٢) السرائر ١ : ٦٦.

(٣) مستدرك الوسائل ١ : ١٩٨ ، ب ٩ ح ٦. (٤) القاموس المحيط ، مادّة « حمل » ٣ : ٣٦٢.

(٥) نهاية ابن الأثير : مادّة « حمل » ١ : ١٤٤. (٦) الأنفال : ١١.

(٧) المائدة : ٦.

(٨) هذا من حديث رواه أحمد في مسنده ٥ : ١٤٦ ، وأبو داود في السنن ١ : ٩١ ، وروي الترمذي في جامعه ١ : ١٩٣ ، القطعة الأخيرة منه المتعلّقة بالتيمّم والغسل وروى ابن العربي في شرحه على جامع الترمذي الحديث بتمامه ، ورواه أيضا البيهقي في السنن ١ : ١٧٩.

٥٩٦

على رأسي ثلاث حثيات فإذن أنّي قد طهرت » (١) ، وضعف الجميع واضح.

أمّا الأخير : فلأنّ عموم الآية لا تعرّض فيه لما بعد النجاسة ، بل أقصى ما فيها الدلالة على حكم الماء بحسب الخلقة الأصليّة وهو لا ينافي طروّ النجاسة فضلا عن استمرارها بعد الطروّ.

وأمّا البواقي : فلأنّها قضايا مهملة سيقت لإعطاء أصل حكم التطهير ، من غير نظر فيها إلى تشخيص موضوعه عموما ولا خصوصا.

وأمّا الأوّل : فلمنافاته مخالفة المعظم فلا اعتداد بنقله بعد الاسترابة في منقوله.

وأمّا الأوسط : فمع ما فيه من قدح السند ـ على ما يظهر وجهه ـ يرد عليه منع دلالته على ما يرامه المستدلّ كما هو واضح لمن له أدنى خبرة بمعاني الألفاظ ومقتضى تراكيب الكلام ؛ إذ أقصى ما فيها من الدلالة أنّ الماء ببلوغ الكرّيّة لا يتحمّل صفة الخبثيّة ، على معنى أنّه لا يحدث له تحمّل تلك الصفة ، لا أنّه بسببه يضع حمله من تلك الصفة على تقدير تحمّله لها قبل البلوغ ، وهذان معنيان متغايران ، والأوّل منهما يقتضي خلوّ الماء عنها قبل البلوغ ؛ ومحلّ البحث مندرج في الثاني فلا يندرج في الرواية ، فيكون مفادها مطابقا لمفاد « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء ».

ولا ينافيه ما عرفت نقله عن القاموس والنهاية ، لأنّ عدم ظهور الخبث معناه عدم بروزه في ظرف الخارج لا زوال الخبث البارز في الخارج عنه.

وللمحقّق ـ على ما نقل عنه في المعتبر ـ كلام طويل في دفع هذه الأدلّة ولا سيّما الرواية ، حيث إنّه بعد ما نقل الأدلّة قال : « فالجواب : دفع الخبر فإنّا لم نروه مسندا ، والّذي

__________________

(١) هذا الحديث رواه الشوكاني في نيل الأوطار عن أحمد ١ : ٢١٥ هكذا : « أمّا أنا فاحثي على رأسي ثلاث حثيات ثمّ أفيض فإذا أنا قد طهرت » ، ثمّ قال : وقال الحافظ : قوله : « فإذا أنا قد طهرت » لا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف. ولكنّه وقع من حديث أمّ سلمة ، قال لها : « إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثمّ تفيضين الماء عليك فإذا أنت قد طهرت » وأصله في صحيح مسلم ». انتهى ما في نيل الأوطار : وروى البخاري في صحيحه : ح ١ (باب من أفاض على رأسه ثلاثا) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا » وأشار بيديه كلتيهما ، وهكذا رواه مسلم في صحيحه ١ : ١٣٦ ؛ والنسائي في سننه ١ : ٤٩ ، وابن ماجة في سننه ١ : ٢٠٣ ؛ وأبو داود في سننه ١ : ٦٢ ؛ وابن حجر في مجمع الزوائد ١ : ٢٧١ ؛ ورواه أيضا ابن ماجه في سننه ١ : ٢٠٣ هكذا : « أمّا أنا فأحثو على رأسي ثلاثا ».

٥٩٧

رواه مرسلا المرتضى رضي‌الله‌عنه والشيخ أبو جعفر وآحاد ممّن جاء بعده ؛ والخبر المرسل لا يعمل به وكتب الحديث عن الأئمّة عليهم‌السلام خالية عنه أصلا ، وأمّا المخالفون فلم أعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حيّ وهو زيدي منقطع المذهب ، وما رأيت أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف والمؤالف فيما لا يوجد إلّا نادرا ، فإذن الرواية ساقطة.

وأمّا أصحابنا فرووا عن الأئمّة عليهم‌السلام « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » وهذا صريح في أنّ بلوغه كرّا هو المانع لتأثّره بالنجاسة ، ولا يلزم من كونه لا ينجّسه شي‌ء بعد البلوغ رفع ما كان ثابتا فيه ومنجّسا قبله ، والشيخ رحمه‌الله قال بقولهم عليهم‌السلام ، ونحن قد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا اللفظ ، وإنّما رأينا ما ذكرناه وهو قول الصادق عليه‌السلام « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » ولعلّ غلط من غلط في هذه المسألة لتوهّمه أنّ معنى اللفظين واحد.

وأمّا الآيات والخبر البواقي فالاستدلال بها ضعيف لا يفتقر إلى جواب ، لأنّا لا ننازع في استعمال الطاهر المطلق ، بل بحثنا في هذا النجس إذا بلغ بطاهر ، فإن ثبت طهارته تناولته الأحاديث الآمرة بالاغتسال أو غيره ، وإن لم يثبت طهارته فالإجماع على المنع منه فلا تعلّق له إذن فيما ذكره ، وهل يستجيز أن يقول محصّل : أن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أحثوا على رأسي ثلاث حثيات ممّا يجتمع من غسالة البول والدم وملغة الكلب »؟.

واحتجّ لذلك أيضا بالإجماع وهو أضعف من الأوّل ؛ لأنّا لم نقف على هذا في شي‌ء من كتب الأصحاب ولو وجد كان نادرا ، بل ذكره المرتضى رحمه‌الله في المسائل منفردة وبعده اثنان أو ثلاثة ممّن تابعه ، ودعوى مثل هذا إجماعا غلط ، إذ لسنا بدعوى المائة نعلم بدخول الإمام عليه‌السلام فيهم فكيف بفتوى الثلاثة والأربعة » (١) انتهى.

المرحلة الثانية : (٢) في تطهير الكرّ والجاري المتغيّرين ، ففيها مسألتان.

المسألة الاولى : في تطهير الكرّ.

فانّه يطهّر بإلقاء كرّ عليه فما زاد حتّى يزول التغيّر ، سواء عمّ التغيّر جميع الكرّ أو اختصّ ببعضه مع كون الباقي أقلّ من كرّ ، ولو زال التغيّر بكرّ واحد ولو بعد مكث ومضيّ مدّة اكتفى به ولم يحتج إلى الزائد ، بشرط أن لا يتغيّر الكرّ الملقى كلّا أم بعضا

__________________

(١) المعتبر : ١٢.

(٢) تقدّمت المرحلة الاولى في ص ٥٤٨.

٥٩٨

وإلّا احتيج إلى إلقاء كرّ آخر ، والبحث في اعتبار الدفعة والممازجة كما سبق ، فالمتّجه على المختار اعتبارهما هنا أيضا.

ولو اختصّ التغيّر ببعض الكرّ وكان الباقي أيضا كرّا ولم يقطع التغيّر عمود الغير المتغيّر كفى ذلك الباقي في طهر صاحبه ، بشرط تموّج بعضه في بعض تحقيقا للممازجة المعتبرة ، وعلى القول بعدم اعتبارها كفى الاتّصال الموجود هنا ، لكن يشترط على كلا التقديرين زوال التغيّر.

وأمّا الدليل على الطهر في جميع الصور المذكورة هو الدليل المتقدّم في تطهير القليل من الملازمة المجمع عليه.

ويطهّر الكثير أيضا بالجاري وبماء المطر على النحو المتقدّم إليه الإشارة ، وينوط الحكم فيهما أيضا بزوال التغيّر ، فهذا كلّه ممّا لا إشكال فيه.

نعم ، الإشكال في طهره بزوال التغيّر من قبل نفسه ، أو بعلاج من تصفيق الرياح أو وقوع أجسام طاهرة فيه ونحوه ، كما نقل القول به عن يحيى بن سعيد من أصحابنا في الجامع (١) ، وعن العلّامة في النهاية (٢) أنّه تردّد في حصول الطهارة بزوال التغيّر من قبل نفسه خاصّة ؛ وأمّا الباقون فعلى أنّه لا يطهّر به مطلقا ، وقد يجعل ذلك أشهر القولين.

وفي المنتهى : « المشهور أنّه لا يطهّر به » (٣) ، ولم يعرف من أصحابنا عدا من ذكر قائل بالطهر به.

نعم ، في المنتهى نقل تفصيلا عن الشافعي وأحمد من العامّة وهو : « أنّه إن زال التغيّر لطول المكث عاد طهورا ، وإن زال لطرح المسك والزعفران فلا ، لأنّهما ساتران لا مزيلان » ، ثمّ قال : « وفي التراب قولان مبنيّان على أنّه مزيل أو ساتر ».

ثمّ قال : « ولو زال التغيّر بأخذ بعضه لم يطهر وإن كان كرّا ، وكذا لو زال التغيّر بإلقاء أقلّ من الكرّ على الأقوى ، خلافا لبعض علمائنا وللشافعي » (٤).

لكن في المدارك جعل القول الأوّل ـ الّذي ذهب إليه القاضي ـ مبنيّا على ما ذهب إليه من أنّ الماء النجس يطهّر بالإتمام ، ومن هنا صرّح بأنّه في الحقيقة لازم لكلّ من قال بذلك (٥).

__________________

(١) الجامع للشرائع : ١٨.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٥٨.

(٣ و ٤) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٤٦ وفيه « الفاضل » بدل « القاضي ».

٥٩٩

وفي الحدائق : « صرّح جمع من الأصحاب بأنّ القول بطهارة المتغيّر بزوال التغيّر لازم لكلّ من قال بالطهارة بالإتمام » (١) ، ونقل دعوى هذه الملازمة عن المحقّق في المعتبر (٢) أيضا.

ولعلّها مبنيّة على توهّم رجوع القول بالطهارة بالإتمام إلى دعوى منافاة عنوان الكرّيّة لوصف النجاسة ، وهو ممّا لا ينافيه أكثر أدلّة هذا القول ، بل بعضها ـ إن تمّ ـ متناول للمقام كالرواية المتقدّمة مع عمومات الطهارة والمطهّريّة ، ولا ينافيه كون التغيّر عند أصحاب هذا القول مقتضيا للنجاسة حتّى مع عنوان الكرّيّة ، لأنّ أقصى ما يلزم من ذلك التزامهم بتقييد العنوان بغير صورة التغيّر أو تخصيص تلك الصورة عن العامّ.

ولا يقدح فيه القول بالطهارة بعد زوال التغيّر ، لأنّ ذلك تخصيص في بعض الأحوال وهو لا يقضي بتخصيص الفرد في جميع الأحوال ، فالمخرج عن العموم هو حالة التغيّر دون الفرد المتغيّر حتّى لا يمكن دخوله فيه بعد الخروج ، وقضيّة ذلك شمول حكم العامّ له بعد ارتفاع الحالة المذكورة نظرا إلى وجود المقتضي وارتفاع المانع.

ولكن يضعّف دعوى الملازمة بمصير بعض أهل القول بالطهارة في مسألة الإتمام إلى عدمها في مسألة زوال التغيّر كالحلّي (٣) ـ على ما حكي ـ وذهاب بعض القائلين بعدم الطهارة ثمّة إليها هنا ، مستدلّا : بأنّ الأصل في الماء الطهارة ، والحكم بالنجاسة للتغيّر ، فإذا زالت العلّة انتفى المعلول كما حكاه في المدارك (٤) ، وكيف كان فعمدة ما احتجّ به للقول بالطهارة هو الوجه المذكور.

واجيب عنه : بأنّ المعلول هو حدوث النجاسة لا بقاؤها ، وقد تقرّر في الاصول أنّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٦.

(٢) المعتبر : ٩ حيث قال : « الثاني : طريق تطهير المتغيّر إن كان جاريا ... وإن كان واقعا فبأن يطرأ عليه من الماء الطاهر المطلق ما يرفع تغيّره ... ولو تمّم كرّا فزال معه لم يطهر ويجي‌ء على قول من يطهّر النجس ببلوغه كرّا أن يقول بالطهارة هنا ».

(٣) السرائر ١ : ٦٢ حيث قال : « وإن ارتفع التغيّر عنه من قبل نفسه ، أو بتراب يحصل فيه ، أو بالرياح الّتي تصفقها ... لم يحكم بطهارته الخ ».

وقال في مسألة إتمام القليل كرّا : « والطريق إلى تطهير هذا الماء أن يزاد زيادة تبلغه الكرّ أو أكثر منه ... الخ » ١ : ٦٣.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ٤٦.

٦٠٠