ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

موجود في القاعدة الاخرى بالنسبة إلى المياه ، كما في مسألة تتميم القليل النجس كرّا بنجس ، على ما نسب إلى ظاهر جماعة يدّعون الطهارة ، واستنادها إلى اجتماعهما.

وثانيا : أنّ موضوع القضيّة في قاعدة : « أنّ المتنجّس لا يطهّر » إن اعتبر جنس المتنجّس من دون تقييده بالماء ، فتخلّفها بالنسبة إلى حجر الاستنجاء الّذي هو محلّ وفاق ، وإلى الأرض الّتي تطهر باطن القدم وغيره الّذي هو محلّ خلاف ، يكفي في إبداء المعارضة.

وإن اعتبر مقيّدا بالماء ، فمع أنّه لا داعي إليه ـ حيث لا قيد له في كلامهم فينبغي أن تلاحظ مطلقة ـ نحن نقول بموجب القاعدة إن اريد بالتنجّس ما يحصل من غير نجاسة المحلّ ، وإلّا فأصل القاعدة غير مسلّمة ، مع أنّ التخلّف الخلافي لو صلح موهنا للقاعدة لكان محلّ البحث منه ، على أنّه لا يسلّم وجود التخلّف الوفاقي في الطرف المقابل ، لأنّه في كلّ من الموارد المذكورة موضع خلاف كما لا يخفى على المتأمّل.

ومنها : أنّ قاعدة : « المتنجّس ينجّس » القاضية بتنجّس القليل به في المقام استنباطيّة ، ولم يعلم شمولها لمثل [المقام] (١) مع تخلّفها عندهم هنا ، فإنّ الماء عندهم ينجّس ولا ينجّس الثوب مثلا به ، فإن كان لم يعلم شمول قاعدة : « أنّ المتنجّس ينجّس » للمقام حتّى ينجّس الماء للثوب ، فكذلك لم يعلم شمولها له حتّى ينجّس الثوب الماء.

وفيه : إنّا لا نقول بأنّ الماء بعد تنجّسه بالثوب ينجّس الثوب ، ولا أنّ الثوب طاهر ما دام هو فيه ، بل نقول : إنّه باق على تنجّسه حتّى يستكمل المطهّر والسبب الشرعي للتطهّر وهو الغسل ، فإنّا نقول بموجب قاعدة : « أنّ المتنجّس ينجّس » فيما إذا كان الملاقي له قابلا للتنجّس وتجدّده بعدم قيام المانع عنه ، وإنّما لا نقول في الثوب بتنجّسه بالماء المشمّس لأنّه باق بعد على نجاسته ، فهو ليس قابلا للتنجّس حتّى نقول فيه بموجب القاعدة.

ومنها : عسر التحرّز في كثير من المقامات بالنسبة إلى جريانها إلى غير محلّ النجاسة ، وبالنسبة إلى مقدار التقاطر ومقدار التخلّف ونحو ذلك ، والقول بأنّ المدار في ذلك على العرف ، لا أثر له في الأدلّة الشرعيّة ، ولو تأمّل الناظر في عمل القائلين بالنجاسة وكيفيّة عدم تحرّزهم عنها ، لقطع بأنّ عملهم يخالف ما يفتون به » الخ (٢).

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الانصارى رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣١.

٣٤١

وفيه : أنّ مبنى عمل القائلين بالنجاسة في الموارد المذكورة إنّما هو على المصاديق العرفيّة ، ومع كونه ميزانا في المقام ارتفع الإشكال بحذافيره ، ودعوى : أنّ اعتبار العرف ممّا لا أثر له ، من أبعد الأشياء الّتي تذكر في المقام ، كيف وأنّ مسمّيات الموضوعات ممّا لا يعرف إلّا بمراجعة العرف ، ونظيره في المسائل الفرعيّة فوق حدّ الإحصاء ، ألا ترى أنّه في مسألة الخليطين بالنسبة إلى غسل الميّت يقتصر فيهما على المسمّى العرفي ، وفي مسألة السجود على الأرض مثلا يعتبر ما يصدق عليه الاسم عرفا ، وكذلك الكلام في الطهورين وغيرهما.

وبالجملة : المتتبّع في الشرعيّات يقطع بأنّ المناط في موضوعات الأحكام إذا كانت لغويّة إنّما هو الصدق العرفي ، فكذا المقام ومعه لا عسر ولا حرج ، وعلى فرض تسليمهما بالقياس إلى بعض ما ذكر ، فهما إنّما يسقطان التكليف دون الوضع ، فلا يجب التحرّز لا أنّه لا نجاسة.

ومنها : جملة من الروايات الجزئيّة الّتي أخذها بعضهم دليلا من جانب القائلين بالطهارة ، وستسمعها مع ما يدفعها.

وقد يجاب عن أصل الحجّة : بإبداء المعارضة بمثلها ، فيقال : بأنّه لو كانت الغسالة طاهرة لجاز التطهّر بها من الحدث ، لأنّ التفكيك بينهما يوجب التقييد في إطلاق ما دلّ على جواز رفع الحدث بالماء الطاهر ، خرج ماء الاستنجاء عنه كما خرج أحجار الاستنجاء عن الحجّة المذكورة.

وحاصل المعارضة : أنّ هذا الماء قد جمع بين ما هو لازم للطهارة ـ إلّا ما خرج ـ وهو تطهير ، وما هو للنجاسة ـ إلّا ما خرج ـ وهو عدم جواز رفع الحدث به ثانيا ، فأدلّة الملازمتين متعارضة ، وأقصى ما يلزم من هذه المعارضة التوقّف ، أو الحكم بالتساقط ، فيبقى عمومات انفعال القليل سليمة عن المعارض.

إلّا أن يقال ـ بعد تسليم عموم أدلّة الملازمة الاولى ، أعني ما دلّ على الملازمة بين طهارة الماء والتطهير به ـ : كما أنّها معارضة بأدلّة الملازمة الثانية ـ أعني الإطلاقات المذكورة القاضية بالملازمة فيما بين عدم جواز رفع الحدث بالماء ونجاسته ـ كذلك معارضة بأدلّة انفعال القليل ، والتعارض بين الكلّ إنّما هو بالعموم من وجه ، فيجب

٣٤٢

التوقّف والرجوع إلى أصالة عدم الانفعال.

لكن يمكن الذبّ عنه : بأنّ ارتكاب التقييد في دليل واحد وهو دليل الملازمة الاولى ـ خصوصا مثل هذا الإطلاق الّذي لا نسلّمه إلّا من باب التنزّل والمماشاة ـ أولى من ارتكابه في الأدلّة المتعدّدة ، وهي أدلّة الملازمة الثانية مع أدلّة انفعال القليل ، فلا داعي إلى التوقّف والرجوع إلى الأصل ، لأنّهما بعد العجز عن الترجيح على حسب مقتضى القواعد العرفيّة المعمولة في الأدلّة اللفظيّة ، ولا عجز هنا.

ومنها : طائفة من الأخبار الّتي أوردها شيخنا الاستاذ دام ظلّه (١) بزعم إمكان الاستدلال بها على الطهارة ، بل أخذها بعض آخر من مشايخنا في الجواهر (٢) مؤيّدة لما اعتمد عليه من قاعدة « أنّ المتنجّس لا يطهّر » ، بل جعلها في الحدائق (٣) دالّة على الطهارة ، ولذا توقّف في المسألة بدعوى : معارضة تلك الأخبار لروايات اخر دالّة على النجاسة ، وهي روايات :

منها : رواية الأحول المتقدّمة في بحث الاستنجاء النافية للبأس عنه ، المعلّلة بأكثريّة الماء في مقابلة القذر ، بقوله عليه‌السلام : « أو تدري لم صار لا بأس به؟ قلت : لا والله ، قال : لأنّ الماء أكثر من القذر » (٤) فإنّ العلّة بعمومها تشمل المقام.

وقد يقرّر : بأن ليس المراد بالأكثريّة مجرّد الكمّ ، بل المراد استهلاك القذر في الماء الّذي يورده عليه ، فدلّ على أنّ كلّ ماء ورد على قذر فاستهلكه بحيث لم يظهر فيه أوصافه كان طاهرا.

وأجاب عنه الاستاذ (٥) بما يرجع محصّله : إلى أنّ تعرّض الإمام عليه‌السلام بعد نفيه البأس عن الماء المفروض في السؤال للتعليل بالعلّة المذكورة ، يدلّ على أنّ الحكم الوارد في الرواية إنّما ورد على خلاف القاعدة ، لأنّه تعرّض لذلك بعد أن سكت ، فكأنّه فهم من حال السائل في زمان سكوته أنّه استبعد ذلك الحكم ، لما ركز في ذهنه من أنّ مقتضى

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٠.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٦٢١.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٦.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٢ ، علل الشرائع ١ : ٢٨٧.

(٥) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣١.

٣٤٣

القاعدة خلاف ذلك ، فقال : « أوتدري لم صار لا بأس به » دفعا للاستبعاد ، مريدا به أنّ هذا الحكم ما جعل على خلاف القاعدة المركوزة في ذهنك ، والّذي يشعر بذلك أنّه عبّر عن جعل هذا الحكم بلفظ « صار » الّذي يدلّ على الانتقال ، ومعناه أنّ هذا الحكم خارج عن مقتضى [القاعدة] ، والعلّة في خروجه أنّ الماء أكثر من القذر ، ومعه لا يمكن التمسّك بعموم تلك العلّة ، لأنّ الحكم الخارج على خلاف القاعدة هنا طهارة ماء الاستنجاء ، فحينئذ إمّا أن يريد الإمام عليه‌السلام بقوله : « أو تدري لم صار لا بأس به » بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه ماء قليلا ملاقيا للنجاسة خارجة عن مقتضى القاعدة ، أو يريد به بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه غسالة خارجة عن مقتضى القاعدة ، أو يريد به بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه ماء استنجاء خارجة عن القاعدة.

فان كان الأوّل : يدلّ على عدم انفعال القليل بالملاقاة ، كما توهّم مستدلّا بتلك الرواية.

وإن كان الثاني : يدلّ على طهارة الغسالة كائنة ما كانت.

وإن كان الثالث : يدلّ على طهارة ماء الاستنجاء خاصّة.

ولكن لا سبيل إلى الأوّل إذ لا قاعدة في مقابلة عدم انفعال القليل ، ليكون ذلك على خلافها مخرجا عنها ، بل هو على تقدير ثبوته حكم موافق للقاعدة ، لأنّ القاعدة الأولويّة في الماء الطهارة بخلاف الأخيرين ، إذ يمكن فرض قاعدة في مقابلتهما بكون الحكم فيهما مخالفا لها ، إذ على أوّلها يكون الحكم المذكور مخالفا لقاعدة انفعال القليل بالملاقاة ، وعلى ثانيهما يكون مخالفا لقاعدة نجاسة الغسالة ، والاستدلال بالرواية على طهارة مطلق الغسالة لا يتمّ إلّا على تقدير تعيّن أوّل الاحتمالين في كونه مرادا ، ولا معيّن له في الكلام.

والتشبّث بالعموم ممّا لا معنى له ، لأنّه لو كان لقضى بعدم انفعال القليل مطلقا ، وقد فرضنا عدم إمكان إرادته ، والمفروض أنّ المستدلّ أيضا لا يقول به ، بل هو ممّن يقول بالانفعال ، فصارت العلّة الواردة في الرواية مجملة ، ومعه سقط بها الاستدلال جدّا.

أقول : إنّه مدّ ظلّه وإن أجاد فيما أفاد ، وأتى في منع الدلالة بما لم يأته إلّا ذو القوّة القدسيّة ، وصاحب الملكة القويّة المستقيمة ، إلّا أنّ فيه بعد إشكالا لم يتعرّض هو لدفعه ،

٣٤٤

مع إمكان المناقشة فيه : بأنّ العلّة إذا كانت بنفسها عامّة ، فغاية ما يلزم ممّا ذكر في نفي إرادة المعنى إنّما هو ورود تخصيص عليها ، ومن المقرّر أنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي بعد التخصيص ، أي ظاهر في تمام الباقي لا أنّه مردّد بينه وبين البعض منه ، فإنّه لو حملناها على إرادة المعنى الثاني لحملناها على تمام الباقي بعد التخصيص ، ولو حملناها على إرادة المعنى الثالث لحملناها على البعض منه ، وحيث إنّ البعض الآخر لا يعلم له مخرج فيجب الحمل على الجميع ، ومعه يتمّ الاستدلال فيها.

وأمّا الإشكال المشار إليه فهو أنّ اللازم من الحمل على أحد المعنيين الأخيرين دون الأوّل أن تكون الرواية فارقة بين أقسام القليل الملاقي للنجاسة ، مفصّلة فيها بالحكم على البعض بالطهارة دون البعض الآخر ، والعلّة المأخوذة لذلك الحكم هي أكثريّة الماء ، وهذه العلّة كما أنّها تجري بالقياس إلى الاستنجاء ، كذلك تجري بالقياس إلى مطلق الغسالة ، وكما أنّها تجري في الغسالة كذلك تجري في مطلق القليل ، ومن القبيح عقلا المستقبح عرفا تعليل الفرق بين شيئين أو أشياء بعلّة مشتركة بين الجميع ، فإنّ علّة الحكم المخصوص بشي‌ء لا بدّ وأن يكون من خصائص ذلك الشي‌ء وإلّا لما اختصّ الحكم به ، لئلّا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة.

فالأولى أن يقال في الجواب ـ بعد البناء على كون التعليل في معرض بيان كون الحكم المذكور على خلاف مقتضى القاعدة ، حسبما ذكر ـ : إنّ المراد بأكثريّة الماء بالقياس إلى القذر ليس هو الأكثريّة الحسيّة ، ليلزم أحد المحذورات ممّا ذكر في نفي احتمال المعنى الأوّل ، وما أشرنا إليه من الإشكال بالقياس إلى المعنى الأخيرين ـ ولو فسّرت بما يوجب الاستهلاك ـ بل المراد بها الأكثريّة المعنويّة ، الّتي يرادفها القوّة العاصمة ، فيكون معنى التعليل : أنّ هذا الماء فيه قوّة تعصمه عن الانفعال بذلك القذر ، وليس في القذر في مقابلته قوّة تزاحم ما في الماء وتترجّح عليه فتوجب انفعاله ، وهذه القوّة ممّا لا يدري أنّها هل هي الحيثيّة الاستنجائيّة اللاحقة بالماء ، أو الحيثيّة المطهّريّة عن الخبث العارضة له ، أو مجرّد كونه ماء ، فتكون العلّة مجملة والقدر المتيقّن منها الحيثيّة الاولى ، لأنّها حاصلة على جميع التقادير في ماء الاستنجاء المسئول عنه ، فلا يظهر من الرواية حكم الماء القليل مطلقا ، ولا حكم مطلق الغسالة ، فسقط الاستدلال

٣٤٥

بها على عدم انفعال القليل بالملاقاة ، ولا طهارة الغسالة على الإطلاق ، وإلى هذا المعنى ـ من دعوى إجمال العلّة ـ أشرنا في بحث انفعال القليل.

ومنها : ما ورد في بول الصبيّ من الروايات الآمرة بصبّ الماء عليه (١).

وأجاب عنه الاستاذ دام ظلّه : « بأنّها لا تدلّ على طهارة غسالته المنفصلة ، ونحن لا نقول أيضا بنجاسة ما لا يلزم انفصاله عن المحلّ » (٢) وهو أيضا في غاية الجودة كما لا يخفى.

ومنها : ما ورد في غسالة الحمّام الّتي لا تنفكّ عادة عن الماء المستعمل في إزالة النجاسة،كمرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : « سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس تصيب الثوب؟ قال : لا بأس به » (٣).

وفيه : أنّ غسالة الحمّام بنفسها عنوان آخر ، ولهم فيه كلام آخر يأتي إيراده ، ولعلّ البناء فيها على الطهارة ، فلا مدخل لها في محلّ البحث ، على أنّ الكلام في غسالة الحمّام ـ على ما يأتي بيانه ـ فيما لم يعلم بملاقاة النجاسة ولا بعدم ملاقاته.

ودعوى : أنّ الغالب فيها إزالة الخبث بها ، فيحمل الرواية على الغالب.

يدفعها : المعارضة بأنّ الغالب فيها أيضا ملاقاة نجس العين من أصناف الكفّار ، من المجوسي والنصراني واليهودي ، وغيرها من أنواع النجاسات كالبول والمنيّ ، الحاصل ملاقاتهما من غير جهة الإزالة ليكون من محلّ البحث ، فلو بنى على حملها على الغالب لكان ذلك من جملة المحمول عليه ، ولازمه عدم انفعال القليل رأسا ، ولا يقول به المستدلّ ، ومع قيام الأدلّة على الانفعال فلا بدّ من حمل الرواية على ما لا ينافيها ، وهو مورد النادر. ودعوى : أنّ النادر ما لم يلاق نجس العين ليست بأولى من دعوى : أنّ النادر ما لم يستعمل في إزالة الخبث ، أو ما لم يلاق نجس العين ولم يستعمل في إزالة الخبث.

ومنها : رواية الذّنوب (٤) الواردة في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتطهير المسجد من بول الأعرابي

__________________

(١) انظر الوسائل ٣ : ٣٩٧ روايات ب ٣ من أبواب النجاسات.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٣.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٩ ـ الكافي ٣ : ١٥ / ٤.

(٤) وهي ما رواه أبو هريرة قال : دخل أعرابي المسجد فقال : اللهم ارحمني وارحم محمّدا ولا ترحم معنا أحدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لقد تحجّرت واسعا » قال : فما لبث أن بال في ناحية المسجد ، فكأنّهم عجلوا إليه ، فنهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أمر بذنوب من ماء فاهريق ، ثمّ قال : ـ

٣٤٦

بصبّ ذنوب من الماء عليه ، وعن الخلاف في وجه الاستدلال : « أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يأمر بطهارة المسجد بما يزيده تنجيسا » (١) فيلزم أن يكون الماء باقيا على طهارته.

وفيه : ما عن المعتبر عن الخلاف من أنّه بعد حكايتها قال : « إنّها عندنا ضعيفة الطريق ، لأنّها رواية أبي هريرة ، ومنافية للأصول ، لأنّا بيّنّا أنّ الماء المنفصل عن محلّ النجاسة نجس ، تغيّر أم لم يتغيّر ، لأنّه ماء قليل لاقى نجسا » (٢).

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم (٣) المرويّة في المركن ، الآمرة بغسل الثوب فيه مرّتين ، وفي الماء الجاري مرّة واحدة ، وقيل في وجه الدلالة : أنّ نجاسة الغسالة توجب نجاسة المركن فلا يطهّر الثوب بالغسلة الثانية ، خصوصا مع عدم إحاطتها بجميع ما تنجّس منه بالأولى.

وفيه أوّلا : عدم دلالتها على ملاقاة الثوب للمركن بوروده على الماء الّذي هو في المركن ، أو بورود الماء عليه وهو في المركن ، لجواز أن يكون المراد غسله بالقليل الّذي يصبّ عليه من الآنية ونحوها ، على وجه ينفصل منه الغسالة إلى المركن وتدخل فيه ، وقضيّة ذلك طهارة الثوب بالغسلتين ، مع سكوت الرواية عمّا في المركن من الغسالة.

وثانيا : منع دلالتها على ملاقاة الثوب للمركن وهو باق على نجاسته الحاصلة بالغسلة الاولى ، بجواز لزوم غسله بعد الاولى ثمّ إيقاع الغسلة الثانية فيه أيضا ، ولا ينافيه عدم تعرّض الرواية لبيان ذلك ، لجواز أنّ الراوي كان عالما به ، وإنّما وردت الرواية لبيان حكم اعتبار التعدّد في الغسل عن البول إذا كان بالقليل.

__________________

ـ « علّموا ويسّروا ولا تعسّروا » ـ سنن ابن ماجة ١ : ١٧٦ ح ٥٢٩ ، ٥٣٠ ـ سنن الترمذي ١ : ٢٧٥ ح ١٤٧ ، ١٤٨ ؛ سنن أبي داود ١ : ١٠٣ ح ٣٨٠ ، ٣٨١ ـ الذّنوب : الدلو العظيم. لا يقال لها : « ذنوب » إلّا وفيها ماء. مجمع البحرين ؛ مادّة « ذنب » ٢ : ٦٠.

(١) الخلاف ١ : ٤٩٥ المسألة ٢٣٥.

(٢) المعتبر : ١ : ٤٤٩.

(٣) وهي ما رواه في الوسائل والتهذيب ـ في الصحيح ـ عن محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال : « اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة ».

قال الجوهري في الصحاح : المركن : الإجانة الّتي تغسل فيها الثياب ، الوسائل ٣ : ٣٩٧ ب ٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧.

٣٤٧

وثالثا : منع منافاة نجاسة المركن بالغسلة الاولى لطهر الثوب بالغسلة الثانية ، إذا وقعت عليه مستكملة بإخراج الغسالة عنه بعد رفعه عن المركن ، والنجاسة الحاصلة فيه بالغسلة الاولى لا تزيد على نجاسة البلّة الباقية في الثوب عن الاولى ، ولا على نجاسة اليد المباشرة له في الغسل ، وكما أنّهما لا تؤثّران في تنجّس الثوب ثانيا ، ولا تنافيان طهره باستعمال الغسل الشرعي ، فكذلك نجاسة المركن ، لأنّ الجميع من واد واحد ، ودعوى ، كون ما فيه قادحا دون ما في البلّة واليد تحكّم ، ومن هنا ترى أنّ العلّامة (١) أفتى بموجب تلك الرواية ، وحكم بأنّ الثوب يخرج طاهرا والمركن وما فيه يكون نجسا ، مع احتمال طهر المركن بالتبعيّة إذا أفرغ منه الغسالة كاليد المباشرة.

ومنها : رواية إبراهيم بن عبد الحميد قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه من الحشو؟ قال : « اغسل ما أصاب منه ، ومسّ الجانب الآخر ، فإن أصبت شيئا منه فاغسله ، وإلّا فانضحه » (٢). وتقريب الدلالة فيها ـ على ما أشار إليه في الحدائق : « أنّه لو تنجّس الماء الوارد بالملاقاة لكان النضح سببا لزيادة المحذور ، فكيف يؤمر به » (٣).

وفيه : مع أنّه لو تمّ لقضى بعدم انفعال الماء في صورة وروده على النجاسة ، وإن لم يكن في مقام الغسل والإزالة ليدخل في عنوان « الغسالة » ، ضرورة ، أنّ النضح ليس بغسل ، والمستدلّ ممّن لا يقول به أنّه خارج عن المتنازع فيه ، إذ النضح إنّما يكلّف به في موضع عدم إصابة شي‌ء من البول ، فلم يعلم ملاقاته للنجاسة ، وعدم العلم بالملاقاة كاف في الحكم بعدم النجاسة ، فالنضح حينئذ إمّا تعبّد صرف يكلّف به في موضع الاحتمال ، أو أنّ الأمر به في الرواية مبالغة في الحكم بعدم النجاسة مع عدم العلم بها بعد التحرّي والفحص.

وحاصله : إفادة أنّ احتمال النجاسة في عدم اقتضاء الغسل أو وجوب الاجتناب بحيث يجوز معه مباشرة المحلّ وملاقاته بالرطوبة ، وإن شئت فانضح موضع الاحتمال ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٠٠ ب ٥ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ وفيه « وإلّا فانضحه بالماء » ـ الكافي ٣ : ٥٥ / ٣ ـ النضح « الرشّ ».

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٦.

٣٤٨

وعلى هذا المعنى يحمل صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن الصلاة في البيع ، والكنائس ، وبيوت المجوس ، فقال : « رشّ وصلّ » (١) والتعبير عن نفي آثار معلومة عن شي‌ء مفروض بنظائر هذه العبارة ، كثير شائع في العرفيّات كما لا يخفى.

فما في الحدائق ـ الاستدلال بتلك الرواية أيضا بالتقريب المتقدّم ـ من : « أنّه لو تنجّس الماء الوارد بالملاقاة لكان الرشّ سببا لزيادة المحذور » (٢) ممّا لا وجه له أصلا.

والعجب منه أنّه استند إلى تلك الروايات بزعم دلالتها على الطهارة فارقا بينها وبين الطهوريّة ، فحكم بعدمها عملا بالأصل الّذي لا يخرج عنه هنا (٣) ، ثمّ توقّف في آخر كلامه ، قائلا : « وبالجملة عندي محلّ توقّف والاحتياط فيها لازم » (٤) نظرا منه إلى جملة اخرى من الروايات الدالّة على النجاسة ، كما تقدّم في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة من الأخبار الدالّة على إهراق ماء الركوة والتور ونحوهما ، ممّا وضع فيها إصبع أو يد فيهما قذر ، فإنّ إطلاق تلك الأخبار شامل لما لو كان بقصد الغسل أم لا ، بل [ولو لم يكن بقصد الغسل ، فإنّه يجب الحكم بالطهارة متى زالت العين ولم يتغيّر الماء] (٥) بمجرّد ذلك الوضع ، ونحوها في الدلالة ما ورد من إيجاب تعدّد الغسل فيما ورد فيه ، وعدم تطهير ما لا يخرج عنه الماء إلّا بالكثير ، فإنّه لا وجه لهذه الأشياء على تقدير القول بطهارة الغسالة ، وما اجيب عن ذلك من كون ذلك تعبّدا بعيد جدّا » (٦) انتهى.

وكلّ ذلك كما ترى خروج عن طريق الاجتهاد ، وعدول عن جادّة الاستنباط.

ثمّ إنّه بعد ما استظهر من الأخبار المتقدّمة الدلالة على الطهارة ، وضمّ إليها الحكم بعدم الطهوريّة ، أسند إلى الأمين الأسترآبادي الميل إلى هذا القول ، ناقلا كلامه بأنّه ـ بعد الكلام في المسألة ـ قال : « ملاحظة الروايات الواردة في أبواب متفرّقة تفيد ظاهرا لطهارة غسالة الأخباث وسلب طهوريّتها بمعنى رفع الحدث ، ولم أقف على دلالة سلب طهوريّتها بمعنى إزالة الخبث ، والأصل المستصحب بمعنى الحالة السابقة ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٣٨ ب ١٣ من أبواب مكان المصلّي ح ٢ ـ التهذيب ٢ : ٢٢٢ / ٨٧٥.

(٢ ـ ٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٦ و ٤٨٧ و ٤٨٨.

(٥) سقط ما بين المعقوفين من قلمه الشريف في نسخة الأصل ولذا أدرجناه في المتن لاستقامة العبارة.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٨.

٣٤٩

وأصالة الطهوريّة بمعنى القاعدة الكلّيّة ، والبراءة الأصليّة بمعنى الحالة الراجحة ، والعمومات تقتضي إجراء حكم الطهوريّة بهذا المعنى إلى ظهور مخرج ، والله أعلم » (١).

وأمّا خامسها : فالقول بالطهارة إذا ورد الماء على المحلّ ، ولازمه النجاسة إذا انعكس الأمر ، وأمّا أنّ المحلّ هل يطهّر حينئذ أو لا يطهّر؟ فمبنيّ على مسألة كيفيّة التطهير المفروضة في اشتراط ورود الماء على المحلّ المغسول وعدمه ، ومن هنا يظهر أنّ هذا القول ينحلّ إلى قولين ، وكيف كان فهذا ممّا عدّه الشهيد في عبارته المتقدّمة من الدروس (٢) قولا برأسه ، مقابلا للأقوال الاخر في المسألة.

ولمناقش أن يناقش فيه بدعوى : أنّه ليس من أقوال تلك المسألة مقابلا للقول بالطهارة ، بل هو جمع بين القول بالطهارة هنا والقول باشتراط الورود في المسألة المشار إليها.

وبيان ذلك : أنّ الفقهاء عندهم نزاعان ، أحدهما : ما في مسألة الغسالة ، من أنّها هل هي طاهرة أو لا؟ والآخر : ما في مسألة الغسل عن الأخباث ، من أنّه هل يشترط فيه ورود الماء على المغسول أو لا؟ فإذا اتّفق أحد قال بالطهارة في الاولى واشتراط الورود في الثانية ، كان قائلا بطهارة الغسالة إذا ورد الماء على المحلّ ، ومعه فلا ينبغي عدّ ذلك قولا برأسه مقابلا للقول بالطهارة هنا.

بل ربّما يمكن أن يقال : بأنّ هذا لا يدخل في أقوال تلك المسألة أصلا ، بل هو جمع بين القول بعدم انفعال الماء القليل في صورة وروده على النجاسة مع القول باشتراط الورود في مسألة الغسل ، وهذا هو الظاهر من كلام السيّد (٣) فيما تقدّم ، وقد عرفت آنفا موافقة الحلّي (٤) له ، وتبعهما صاحب المدارك (٥) ، ويستفاد اختياره من تضاعيف كلام بعض من عاصرناه من مشايخنا العظام (٦).

واحتجّ في المدارك على الطهارة : « بالأصل السالم عمّا يصلح للمعارضة ، فإنّ الروايات

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٧.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٣) وهو السيد المرتضى قدس‌سره في الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦ ـ المسألة الثالثة).

(٤) السرائر ١ : ١٨١.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١٢١.

(٦) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٥.

٣٥٠

المتضمّنة لنجاسة القليل بالملاقاة لا تتناول ذلك صريحا ولا ظاهرا ، وتخرج الروايات الدالّة على طهارة ماء الاستنجاء شاهدا » (١) وعلى اعتبار الورود « بأنّ أقصى ما يستفاد من الروايات انفعال القليل بورود النجاسة عليه ، فيكون غيره باقيا على حكم الأصل » (٢).

ومحصّل الوجهين يرجع إلى الاستدلال على النجاسة في صورة ورودها على الماء بروايات انفعال القليل بالملاقاة ، وعلى الطهارة في صورة العكس ، بالأصل بعد المنع عن تناول تلك الروايات لهذه الصورة ، فالعمدة في ذلك الدليل حينئذ دعوى : عدم تناول أدلّة انفعال القليل لصورة ورود الماء ، وقد بيّنّا بطلان تلك الدعوى بما لا مزيد وفي غير موضع ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام.

وعن السيّد الاحتجاج : « بأنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة ، لأدّى ذلك إلى أنّ الثوب لا يطهّر من النجاسة إلّا بإيراد كرّ من الماء عليه ، والتالي باطل بالمشقّة المنتفية بالأصل فالمقدّم مثله ، وبيان الشرطيّة : أنّ الملاقي للثوب ماء قليل فلو نجس حال الملاقاة لم يطهر الثوب ، لأنّ النجس لا يطهّر غيره » (٣).

ولا يخفى أنّ دعوى تلك الملازمة إنّما تستقيم إذا كان في مسألة تطهير الثوب قائلا باعتبار ورود الماء ، وإلّا لكان الدليل على فرض تماميّته قاضيا بعدم انفعال القليل مطلقا كما عليه العماني ، وهو لا يقول به ظاهرا ، وحيث إنّ هذه الملازمة مستندة إلى قاعدة أنّ النجس لا يطهّر ، فمنعها عندنا سهل ، بعد ما استوفينا الكلام في منع القاعدة المذكورة على إطلاقها ، ففيما تقدّم مفصّلا كفاية ـ في الجواب عن هذا الدليل ـ عن إطالة الكلام هنا.

وأجاب عنه العلّامة في المختلف بالمنع من الملازمة أيضا ، قائلا : « بأنّا نحكم بتطهير الثوب والنجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحلّ » (٤) والفرق بينه وبين مقالتنا أنّا نحكم بالنجاسة حال الاتّصال وبعد الانفصال معا ولا منافاة ، وهو لا يحكم بالنجاسة إلّا بعد الانفصال وزوال الملاقاة الّتي هي السبب في انفعاله.

__________________

(١ و ٢) مدارك الأحكام ١ : ١٢٢.

(٣) راجع المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهية ١ : ١٣٦ ، المسألة الثالثة) نقلا بالمعنى.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٩.

٣٥١

ومن هنا اعترض عليه في المدارك : « بأنّ ضعفه ظاهر : لأنّ ذلك يقتضي انفكاك المعلول عن علّته التامّة ، ووجوده بدونها ، وهو معلوم البطلان » (١) فإنّه متّجه قطعا ، ولا يمكن التفصّي عنه ، ومراده بالعلّة هي الملاقاة حسبما اقتضته الأدلّة وكلام الأعلام ، فما في حاشية هذا الكلام للمحقّق البهبهاني من : « أنّه لا يخفى أنّه لم يظهر أنّ العلّة ما هي؟ حتّى يعترض عليه بذلك » (٢) ليس على ما ينبغي.

وأمّا الكلام في اعتبار الورود وعدمه ، فهو ممّا لا يتعلّق بالمقام ، ويأتي البحث عنه في محلّه.

وأمّا سادسها : فالقول بالنجاسة مطلقا وإن كان بعد طهارة المحلّ ، بمعنى : أنّ الماء المنفصل عن كلّ غسلة نجس ، وإن ترامت الغسلات إلى ما لا نهاية له ، وعن الشهيد في حاشية الألفيّة : « أنّه حكاه عن بعض الأصحاب » (٣).

وفي الحدائق : « عن الشيخ المفلح الصيمري ـ في شرح كتاب موجز الشيخ ابن فهد ـ أنّه نقل عن مصنّفه أنّه نقل في كتاب المهذّب والمقتصر هذا القول عن المحقّق والعلّامة ، وابنه فخر الدين ، ثمّ نسبه في ذلك إلى الغلط الفاحش والسهو الواضح » (٤) انتهى.

ولعلّه إلى ابن فهد يشير ما في المدارك ـ بعد نقله هذا القول ـ : « من أنّه ربّما نسب إلى المصنّف والعلّامة » ـ ثمّ ردّه بقوله : « وهو خطأ ، فإنّ المسألة في كلامهما مفروضة فيما يزال به النجاسة ، وهو لا يصدق على الماء المنفصل بعد الحكم بالطهارة » (٥).

وعن الروض ـ أنّه بعد ما نقل القول المذكور ، نقل : « أنّه قائله » يعني ابن فهد (٦)

وكيف كان : هذا القول ـ مع أنّه غريب مقطوع بفساده ، لمخالفته الاصول المحكمة ، والقواعد المتقنة وغيرها من الأدلّة الشرعيّة ، فالمحكيّ من حجّته أيضا قاصر عن إفادته ، وهو : أنّه ماء قليل لاقى نجاسة.

وبيانه : أنّ طهارة المحلّ بالقليل على خلاف الأصل ـ المقرّر من نجاسة القليل

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢١.

(٢) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٨٦.

(٣) المقاصد العليّة وحاشيتا الألفيّة : ١٦٢ ـ ٤٧٥ ؛ أيضا حكاه عنه في روض الجنان : ١٥٩.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٥.

(٥) نسبه إليهما الشهيد في ذكرى الشيعة ١ : ٨٤.

(٦) لم نجده في روض الجنان.

٣٥٢

بالملاقاة ـ فيقتصر فيه على موضع الحاجة وهو المحلّ دون الماء ، ولا خفاء ما فيه من الفساد ، لو كان دليلا على النجاسة في جميع الغسلات حتّى بعد طهارة المحلّ ، لوضوح امتناع صغراه بعد فرض الطهارة في المحلّ ، فإنّ كبراه ـ على ما هو المصرّح به في العبارة ـ كلّيّة انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، ولا تتمّ هي دليلا إلّا بعد انضمام الصغرى إليها ، وهي : أنّ هذا الماء ـ أي المنفصل عن المحلّ ـ بعد طهره ملاق للنجس ، وهو كما ترى بعد فرض الطهارة ممّا يبطله دليل الخلف.

نعم ، يمكن بعيدا توجيهه : بكونه مبنيّا على نجاسة البلّة الباقية في المحلّ بعد طهارة المحلّ ـ على القول بنجاسة الغسالة ـ كما هو أحد الاحتمالات المتقدّمة فيه ، فإنّها باقية على النجاسة وإن طهر المحلّ ، فحينئذ فكلّما غسل هذا المحلّ كان الماء الملاقي له ملاقيا لتلك البلّة فيكون ملاقيا للنجس ، وهو صغرى الدليل فيضمّ إليها الكبرى الكلّيّة ويحصل المطلوب ، لكن فيه : ما عرفت آنفا من أنّ نجاسة البلّة الباقية بعد طهارة المحلّ ممّا لم يقل به أحد ، ولا حكي القول به ، وإنّما هو مجرّد احتمال يذكر في المقام ، مع ما عرفت من فساده في نفسه ، وعدم تعقّل مجامعة نجاستها لطهارة المحلّ ، مضافا إلى الوجوه الاخر القاضية بطهارتها.

وبالجملة : فهذا القول بظاهره في غاية السخافة ونهاية الغرابة.

ومن هنا قد يوجّه كلام هذا القائل ـ كما في شرح الشرائع للأستاذ مدّ ظلّه ـ بأنّه : « إذا فرض تحقّق الغسلة المطهّرة ، ولكن لم ينفصل الماء عن المحلّ ، فالمحلّ طاهر والماء الموجود فيه نجس ، فإذا غسل مرّة اخرى لاقى ماؤه الماء الباقي من الغسل المطهّر ـ والمفروض أنّه نجس ، وإن طهر المحلّ ـ فينفعل به الماء الثاني » (١) ، إلى أن قال ـ : « وحينئذ فإذا فرض نجاسة غير المنفصل ، فكلّما لاقاه الماء نجس به ، وإن ترامى إلى غير النهاية » (٢) ، ثمّ قال : « وهذا قول حسن جدّا ، بل هو الّذي ينبغي أن يقول به كلّ من يقول بنجاسة الغسالة ، لأنّ النجاسة لا تختصّ بما بعد الانفصال ، ـ كما يظهر من العلّامة في المختلف (٣) ـ حتّى يورد عليه ـ كما في الذكرى (٤) ـ بلزوم تأخّر المعلول

__________________

(١ و ٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٨.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٩.

(٤) لم نعثر على هذا الإيراد في الذكرى. نعم هو موجود في روض الجنان : ١٥٩.

٣٥٣

وهو النجاسة عن العلّة وهي الملاقاة » (١) انتهى.

وهذا توجيه وجيه ، وإن كان خلاف ظاهر الحكاية بل صريحها ، وما ذكرناه أوجه ، وإن كان فاسدا في نفسه.

ثمّ إنّ لنا في حكمه ـ مدّ ظلّه ـ بطهارة المحلّ مع نجاسة ما لم ينفصل عنه من الماء إشكالا ، قد تقدّم بيانه.

فأوّلا : لأنّه كيف يعقل الطهارة فيه مع نجاسة ما نفذ في جميع أعماقه ، إلّا أن يراد بالطهارة زوال نجاسته الأصليّة ، وهذا الموجود نجاسة في الماء عرضيّة ، تنسب إلى المحلّ تبعا وعرضا.

وثانيا : لأنّ المطهّر الشرعي ـ وهو الغسل ـ بعد لم يتحقّق قبل انفصال الماء المنصبّ عنه ، فكيف يحكم عليه بالطهارة قبل الانفصال ، إن اريد به ما قبل العصر والإفراغ ، إلّا أن يبنى على القول بعدم دخولهما في مفهوم الغسل ، ولا كونهما معتبرين معه بالدليل الخارج.

ثمّ بقى في المقام امور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل

قال في المنتهى : « إذا غسل الثوب من البول في إجّانة ، بأن يصبّ عليه الماء فسد الماء وخرج من الثانية طاهرا ، اتّحدت الآنية أو تعدّدت ، وقال أبو يوسف : إذا غسل في ثلاث إجّانات خرج من الثالثة طاهرا ، وماء الإجّانة الرابعة فما فوقها طاهر » (٢) الخ ، ثمّ أخذ في الاحتجاج على طهارة الثوب قائلا : « ويدلّ عليه وجهان :

الأوّل : أنّه قد حصل الامتثال بغسله مرّتين ، وإلّا لم يدلّ الأمر على الإجزاء.

الثاني : ما رواه الشيخ (٣) ـ في الصحيح ـ عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (٤).

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٩.

(٢ و ٤) منتهى المطلب ١ : ١٤٦.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٩٧ ب ٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧.

٣٥٤

أقول : غسل الثوب في الإجّانة له ثلاث صور :

إحداها : أن يؤخذ الثوب على اليد والاجّانة تحتها ، ليطرح فيها ما ينفصل عن الثوب من الغسالة وقطرات الماء الملاقي له حال الغسل ، وهذا ممّا لا إشكال لأحد في أنّه يفيد الثوب طهارة ، إذ لا فرق بينه وبين الغسل في غير الإجّانة ، إلّا أنّ المنفصل فيه يطرح في الإجّانة وفي غيره في الأرض ، وهو ممّا لا يعقل كونه فارقا بينهما في الحكم ، بل هذه الصورة خارجة عن فرض المنتهى ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وثانيتها : أن يصبّ الماء في الإجّانة ، ثمّ وضع عليه الثوب ليغسل به فيها ، وهو أيضا خارج عن فرض المنتهى ، ويتبيّن حكمه.

وثالثها : ما هو مفروض المنتهى من انعكاس الصورة الثانية ، وحينئذ يشكل الحال في تنزيله الرواية عليها ، مع أنّها بإطلاقها تشمل الصورتين معا ، بل الصور الثلاث جميعا ، وإن كان بعيدا بالقياس إلى الصورة الاولى ، وكأنّه مبنيّ على الأخذ بالغالب. فتأمّل.

وعن الذخيرة : « أنّه قد يستشكل حكمه بطهارة الثوب مع نجاسة الماء المجتمع تحته في الإجّانة ، سيّما على مذهبه المتقدّم من عدم نجاسة الغسالة إلّا بعد الانفصال عن المحلّ المغسول ، ومن المعلوم أنّ الماء بعد انفصاله عن الثوب المغسول يلاقيه في الاناء ، واللازم ممّا ذكر تنجّسه به » (١).

وعنه (٢) ـ كما في الحدائق ـ : « أنّه وقد يتكلّف في دفع الإيراد المذكور بأنّ المراد من الانفصال خروج الغسالة عن الثوب أو الإناء المغسول فيه ، تنزيلا للاتّصال الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول ، للحديث » (٣).

ثمّ عنه الاعتراض عليه : « بأنّه لا يخفى بأنّ بناء هذا الخبر على طهارة الغسالة أولى من ارتكاب هذا التكلّف ، فإنّ ذلك إنّما يصحّ إذا ثبت دليل واضح على نجاسة الغسالة ، وقد عرفت انتفاؤه » (٤) مع أنّ ظاهر الرواية يدلّ على الطهارة.

واستجوده شيخنا في الجواهر ، قائلا : « بأنّه في غاية الجودة » (٥) ودفعه في الحدائق « أوّلا : بأنّ هذا التكلّف إنّما ارتكب لدفع المنافاة بين كلامي العلّامة رحمه‌الله من حكمه

__________________

(١ و ٢) ذخيرة المعاد : ١٤٣ مع تفاوت يسير في العبارة.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٦.

(٤) ذخيرة المعاد : ١٤٣.

(٥) جواهر الكلام ١ : ٦٣٨.

٣٥٥

بنجاسة الغسالة بعد الانفصال ، وحكمه بطهارة الثوب في الصورة المفروضة ، فنزّل الإناء في الصورة المفروضة منزلة الثوب لتندفع المنافاة بين كلاميه ، وأمّا الكلام في نجاسة الغسالة وطهارتها فهو كلام آخر.

وثانيا : أنّ دعوى دلالة الرواية على طهارة الغسالة مع تضمّنها وجوب التعدّد في الغسل محلّ إشكال ، إلّا أن يدّعي حمل التعدّد على محض التعبّد » (١) الخ.

أقول : الإنصاف أنّ الرواية لا دلالة فيها على طهارة ولا على نجاسة ، كما أنّ التعويل على الإشكال المتقدّم خلاف الإنصاف ، فإنّ الرواية مع سكوتها عن حكم الغسالة طهارة ونجاسة قد تضمّنت طهارة الثوب بغسله على النحو المذكور ، فلا بدّ من الالتزام بها لعدم معارض لها ، مع ثبوت العمل بها في الجملة ، وأمّا حكم الغسالة فلا بدّ فيه من مراجعة القاعدة ، فمن انعقدت القاعدة عنده في الطهارة فيبنى عليها هنا أيضا ، ومن انعقدت عنده في النجاسة فيبنى عليها هنا أيضا.

وإذ قد عرفت أنّ المحقّق عندنا نجاسة الغسالة فنقول بها هنا أيضا ، من غير أن ينشأ منه إشكال ، وما ذكر في تقرير الإشكال ليس إلّا استبعادا محضا ، وهو ممّا لا ينبغي التعويل عليه بعد ورود الشرع بخلافه.

مع أنّ المطهّر للثوب حقيقة بالماء ، وهو إنّما يتحقّق بعد إخراج الماء المنصبّ عليه في الإجّانة ـ بعد رفعه عنها ـ باليد المعصر الّذي هو المخرج ، واتّصاله بما في الإجّانة قبل الرفع عنها ليس بأشدّ من اتّصاله بما فيه نفسه ، وقد ثبت أنّه غير قادح وإن كان نجسا.

مع أنّ اتّصاله بالإجّانة مع ما فيه من الأجزاء المنفصلة عنه من الماء ليس إلّا كاتّصاله باليد مع ما فيها من البلّة المتنجّسة ، وقد تقرّر أنّ أمثال هذه الاتّصالات لا تقدح في طهارة الثوب بعروض المطهّر الشرعي له ، من حيث إنّ ما معها من النجاسات لم تحصل من خارج ، والقدر المحقّق من كونه قادحا إنّما هو ما لو حصل النجاسة فيه بالخارج.

ومن هنا نقدر على أن نقول : إنّه لو القي الثوب من يد الغاسل في غير صورة غسله في الإجّانة على الأرض الّتي وقع عليها من قطراته المنفصلة قبل إخراج الغسالة لم يكن قادحا ، بل برفعه عنها على هذه الحالة فيستكمل غسله بما بقي منه ، لكن في هذا الفرع بعد شي‌ء

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٦.

٣٥٦

في النفس ، وطريق الاحتياط هنا ممّا لا ينبغي تركه ، وهو إنّما يحصل باستكمال ما بقي من غسله عن أصل النجاسة ، ثمّ غسله مرّة اخرى لما طرأه من ملاقاة ما لاقاه في وجه الأرض.

ويبقى الكلام مع العلّامة فيما اعتبره في مفروض المسألة من صبّ الماء على الثوب في الإجّانة الّذي يرجع محصّله إلى اعتبار ورود الماء على المغسول ، فإن كان النظر في ذلك إلى ما يقتضيه القاعدة الشرعيّة فهو موكول إلى محلّه ، وإن كان النظر في استفادته من الرواية المذكورة فهو موضع إشكال ، لمنافاته ما فيها من الإطلاق ، ولو ادّعى فيها الانصراف العرفي فهو أشكل ، لعدم قيام ما يقتضيه من غلبة إطلاق ونحوها ، ومجرّد غلبة الوجود لا يوجبه على التحقيق ، مع توجّه المنع إلى أصل الغلبة ، أو كونها معتدّا بها.

وبالجملة : دعوى الانصراف ممّا لا يلتفت إليها ، إلّا على فرض كون لفظ « الغسل » مجازا فيما لو ورد المغسول على الماء ، أو على فرض كون المنساق منه في نظر أهل المخاطبة بملاحظة غلبة إطلاق أو غلبة وجود ـ إن اعتبرناها ـ هو الماهيّة بوصف وجودها في ضمن ما لو ورد الماء على المغسول ، أو على فرض قصور اللفظ عن إفادته الماهيّة المطلقة ، باعتبار كونه في موضع لا يجري فيه مقدّمة : أنّه لولاها مرادة لزم الإغراء بالجهل ، الّتي هي العمدة في إحراز الإطلاق في المطلقات.

والفرق بينهما أنّ الأوّل يرجع إلى دعوى الظهور العرفي في صورة ورود الماء ، والثاني يرجع إلى دعوى عدم الظهور فيما يتناول صورة العكس ، ومنشأ الدعويين : هو الغلبة ، والسرّ في الفرق بينهما اختلاف الغلبة في الشدّة والضعف ، ولا ريب أنّ الوجوه باطل جزما ، وثانيها في غاية الضعف ، كما أنّ ثالثها في محلّ من البعد.

ومن هنا يتبيّن صحّة الاستدلال بالوجه الأوّل ـ الّذي سمعته عن العلّامة ـ من قاعدة الإجزاء ، حتّى على عكس ما فرضه رحمه‌الله ، فإنّ مبناها على إحراز المأمور به على وجهه والإتيان به كذلك وقد حصل ، إذ لا يفهم من قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك عن البول مرّتين » إلّا إيجاد ماهيّة الغسل على ما هو المتعارف مرّتين ، واحتمال مدخليّة ورود الماء أو كون الغسل في غير الإجّانة وغيرها من الإناء منفيّ بالإطلاق ، نعم لو كان هناك دليل من الخارج أوجب خروج ذلك من الإطلاق فهو كلام آخر ، وله مقام آخر ، ولذا أوكلنا تحقيقه إلى محلّه ومقامه ، فانتظر له.

٣٥٧

الثاني

حكم غسالة الحمّام ، فإنّها ممّا انفرد ذكره في كلام الأصحاب ، والتعرّض له بالخصوص في هذا الباب ، والمراد بها على ما يستفاد من كلماتهم بل هو صريح بعضهم ـ كالحدائق (١) ـ ما يجتمع في البئر من ماء الحمّام المستعمل في غسلات الناس وصبّاتهم ، ويظهر ممّا حكي عن الأردبيلي (٢) من استدلاله على الطهارة ـ بما يأتي ذكره من صحيحة محمّد بن مسلم ، وموثّقة زرارة ـ كونها أعمّ منه وممّا هو في سطوح الحمّام من المياه الّتي ينحدر منها إلى البئر ، وليس ببعيد ، إذ ليس المجتمع في البئر إلّا المياه المنحدرة إليها ، من السطح الجارية إليها من خطوطه المتّخذة في السطح لأجل تلك الفائدة ، ومعه يبعد الفرق في الحكم بين المجتمع وما هو في السطح وخطوطه ، ويمكن القول : بأنّ المقصود بالعنوان هو الأوّل ، والثاني ملحق به في الحكم لاتّحادهما في المناط.

وعلى أيّ تقدير فلهم فيها عبارات مختلفة ، بعضها مصرّحة بالطهارة ، آخر بالنجاسة ، وثالث غير واضح المؤدّى من حيث الحكم بالطهارة أو النجاسة ، ومع ذلك فلم يرد فيها بالمعنى الأوّل إلّا عدّة روايات غير معتبرة الأسانيد متعارضة الدلالات ، والّتي وقفنا عليها أربع روايات ، مضافا إلى ما سنذكرها من الروايات الاخر.

منها : المرسلة الواردة في الكافي عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (٣).

ومنها : ما فيه أيضا من المرسلة بعض أصحابنا ، عن ابن جمهور ، عن محمّد بن القاسم ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها غسالة الحمّام ، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا ، ولا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو شرّهما ، أنّ الله لم يخلق خلقا شرّا من الكلب ، وأنّ الناصب أهون على الله

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠١.

(٢) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٥٠١ ـ مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٩٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٩ ـ الكافي ٣ : ١٥ / ٤.

٣٥٨

من الكلب » (١).

ومنها : المرسلة في التهذيب ، محمّد بن علي بن محبوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن حمزة بن أحمد ، عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : سألته ـ أو سأله غيري ـ عن الحمّام؟ قال : « ادخله بمئزر ، وغضّ بصرك ، ولا تغتسل من البئر الّتي تجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (٢).

ومنها : ما عن علل الصدوق ـ الموصوف في الحدائق (٣) وغيره بالموثّقية ـ عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ، وفيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي ، والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (٤).

ولا يخفى أنّ المرسلة الاولى تعارض البواقي ، غير أنّ العلاج سهل ، من حيث إنّ ما عداها أخصّ منها مطلقا من وجهين ، وهي أعمّ لهذين الوجهين :

أحدهما : تعرّض ما عداها لبيان ملاقاة النجاسة وهي غسالة الكافر ، دونها.

وثانيهما : اختصاص المنع فيما عداها بالأغسال ، وشمول الرخصة المستفادة منها بملاحظة نفي البأس للاغتسال وغيره من أنواع الاستعمال ، نظرا إلى أنّ نفي البأس عمّا أصاب الثوب يقضي بطهارته ، ويستلزم عدم البأس باستعمال الماء الملاقي له ـ وهو في الثوب ـ بجميع أنواعه الّتي منها التطهّر به مطلقا ، فطريق الجمع بينهما يتأتّى من وجهين :

الأوّل : التخصيص فيها بحملها على ما خلا عن النجاسة ، وقضيّة ذلك نجاسة غسالة الحمّام مع اتّفاق ملاقاة النجاسة دون غيره ، فيكون حكمها على قاعدة الغسالة المطلقة ، حسبما تقدّم.

والثاني : التخصيص فيها أيضا بحمل الرخصة فيها على ما عدا الاغتسال ، من أنواع

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٤ ـ الكافي ٣ : ١٤ / ١.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٨ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٣ / ١١٤٣.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٨.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٠ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ علل الشرائع : ٢٩٢.

٣٥٩

الاستعمال بل مطلق التطهير ، بناء على ما أفتى به غير واحد من الأصحاب ـ كما ستعرف ـ وحينئذ يشكل الحال في دلالة الروايات على النجاسة ، لأنّ ثبوت الرخصة فيما عدا الاغتسال أو مطلق التطهير ممّا لا يجامع النجاسة ، نظرا إلى أنّها ممّا يقتضي المنع مطلقا ، وقضيّة ذلك خروج حكم غسالة الحمّام على خلاف قاعدة مطلق الغسالة ، كما أفتى به بعض الأصحاب على ما ستعرفه.

ولا ينافيه تعرّض ما عدا المرسلة الاولى لبيان ملاقاة النجاسة ـ نظرا إلى أنّ تعليل المنع بالوصف المناسب يقضي بأنّه علّة الحكم دون الذات ، لأنّه لو كان ذات الغسالة كوصف ملاقاة النجاسة صالحة للتعليل بها ، لما كان للعدول عنه إلى التعليل بالوصف العرضي وجه ، ليقدّم الذاتي على العرضي في ذلك ـ كما قرّر في محلّه ـ وإلّا كان سفها. فإذا ثبت أنّ علّة المنع هي الملاقاة للنجاسة ، تبيّن أنّه من جهة أنّها أثّرت في نجاسة أصل الغسالة ؛ إذ لا ملازمة عقلا بين ملاقاة النجاسة ونجاسة الملاقي ، بل الملازمة الثابتة بينهما بعد اللّتيّا والّتي شرعيّة ، وإجراؤها هنا استدلال بما هو خارج عن تلك الروايات.

مع أنّ مرجعه ـ عند التحقيق ـ إلى إجراء حكم العامّ في الخاصّ وهو كما ترى ، وإلّا فأصل الروايات لو خلّيت وطبعها لا قضاء فيها بالملازمة أصلا.

وما ذكرناه في تقريب المنافاة ـ من اقتضاء التعليل بالوصف المناسب للحكم لذلك ـ ممنوع ، لأنّ أقصى ما يسلّم من مناسبة الوصف كون الملاقاة للنجاسة مناسبة لأصل المنع ، لا أنّها مناسبة لنجاسة الملاقي ، والمنع مستند إليها لا إلى أصل الملاقاة ، وإلّا لقضت الروايات بأنّ علّة المنع هي النجاسة الحاصلة بالملاقاة لا نفس الملاقاة ، وإنّما هي علّة للعلّة وهو كما ترى خلاف ما يظهر منها.

ولا مانع من أن يكون ذلك الماء النجس إذا دخل في نوع الغسالة الغير المتنجّسة وامتزج معها مقتضيا لهذا المنع في نظر الشارع ، مع بقاء أصل الممتزج على أصل الطهارة ، غاية الأمر أنّ طهارته توجب زوال النجاسة عمّا دخل فيه وامتزج معه بالاستهلاك أو مطلق الممازجة.

فعلّة المنع في الحقيقة اشتمال غسالة الحمّام على غسالة الكافر ، من حيث إنّها غسالة الكافر ، لا من حيث نجاستها ليستبعد بقاء المعلول مع زوال العلّة بالامتزاج ، إذ

٣٦٠