ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

اللون عن ذي الطعم والرائحة إنّما هو في الدم ، إذ ليس فيه طعم ورائحة فاحشين على وجه يستدعي استناد التغيّر إليهما ، بل الغالب فيه التغيّر اللوني.

فحينئذ إمّا أن يقال : بأنّه كالمتغيّر في سائر الصفات غير الثلاثة من الحرارة والبرودة ونحوهما فلا حكم له في إيراث النجاسة ، أو أنّ الشارع قد أهمل فيه حيث لم يتعرّض لذكره فيما بين أقسام ما يوجب نجاسة الماء من التغيّر ، ولا يصغى إلى شي‌ء من ذلك ، مع منافاته لدعوى الملازمة.

وأمّا ما قرّره السيّد من الأولويّة فهو أهون من الملازمة المدّعاة ، إمّا لمنع أصل الأولويّة ، أو لمنع اعتبارها لكونها ظنّيّة ، وذلك لأنّه لو أراد بكون تغيّر اللون أظهر في الانفعال كونه أظهر في نظر الحسّ.

ففيه : أنّ الانفعال ممّا لا يدرك بالحسّ ، إلّا أن يراد به الانفعال الوصفي ، فيدفعه : أنّه ليس بأظهر من انفعال الرائحة بل الطعم أيضا ، ولو أراد به كونه أظهر في نظر العقل ، فمع أنّه ممنوع لا عبرة به ، لعدم جزم العقل به فيكون ظنّيّا ، وهو لا يوجب إلّا أولويّة ظنّيّة وهو كما ترى ، ولو أراد به كونه كذلك في نظر الشرع فهو أوضح فسادا ، بملاحظة أنّ الشرع ليس فيه ما يقضي بذلك أصلا.

وأمّا الطعن في النبوي فقد اجيب عنه : بأنّ غير الصحيح قد تبلغ بالجبر مرتبة الصحيح ، وقد يقرّر ذلك : بانجباره بالإجماع والشهرة والإجماعات المحكيّة ، وأنت إذا تأمّلت في عباراتهم لوجدتها مملوّة من الإشارة إلى ذلك.

ويشكل ذلك كلّه : بأنّ الشبهة إذا كانت في السند فالإجماع والشهرة لا يجديان في جبران ضعفه إلّا في موضع الاستناد ، على معنى كون ما شكّ في سنده مستندا للمجمعين أو المعظم ، فإنّ استنادهم إليه يكشف عن سلامة سنده في الواقع ، ولو بأن يبلغهم من الخارج ما أفادهم الوثوق به ، ولم يظهر منهم ما يقضي بذلك ، بل نرى كلام كثير منهم خاليا عن ذكر هذا الحديث والاستناد إليه.

نعم غاية ما يترتّب على هذه الامور أنّها تكشف عن صدق المضمون ومطابقته للواقع ، وهو كما ترى ليس من تصحيح السند في شي‌ء ، ولا رفع الشبهة المذكورة.

٦١

نعم يمكن رفعها بطريق آخر ، وهو التشبّث في خصوصه بما ادّعي من التواتر أو الاستفاضة ولو في غير جهة إسناده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الاتّفاق على روايته ، فعن ابن أبي عقيل ـ في جملة احتجاجاته على عدم انفعال الماء الراكد بملاقاة النجاسة ـ : « أنّه قد تواتر عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : أنّ الماء طاهر لا ينجّسه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته » (١).

وعن السرائر : « ومن قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المتّفق على روايته أنّه : « قال خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢) ، وعن ابن فهد : « روي متواترا عنهم أنّهم قالوا : « الماء طهور لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٣) وعن الوافي : « وما استفاض روايته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٤) ، وعن الشيخ : أنّه رواه أيضا (٥) ، وفي المنتهى (٦) روى الجمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٧) ، وعن الذخيرة : « أنّه ما عمل الامّة بمدلوله وقبلوه » (٨).

ولا ريب أنّ نقل التواتر إذا بلغ حدّ التواتر كنفس التواتر ، فيفيد العلم بصدور هذا اللفظ عن المعصوم عليه‌السلام.

ومع الغضّ عن ذلك فأقلّ مراتبه الظنّ بالصدور ، والظاهر أنّه كاف في أسانيد الأخبار على ما قرّر في محلّه ، كيف وهو لا يقصر عن رواية عدلين أو عدل واحد إذا كان عن ناقل واحد فضلا عن ناقلين متعدّدين ، حيث إنّ كلّا منهما يخبر عن علم ، غايته أنّه في ناقل التواتر علم مع الواسطة.

ثمّ مع التنزّل عن ذلك أيضا نقول : بأنّ ثبوت المطلب غير منوط بثبوت اعتبار سند هذا الحديث ، إن كان العذر في عدم المصير إليه عدم ورود خبر في أخبار أصحابنا ، لتظافر الروايات عن أئمّتنا في خصوص التغيّر اللوني ، فإنّها كثيرة جدّا إن لم نقل بتواترها.

__________________

(١) نقله عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.

(٢) السرائر ١ : ٦٤.

(٣) المهذّب البارع ١ : ٧٩.

(٤) الوافي ٤ : ١٨.

(٥) الخلاف ١ : ١٧٣ المسألة ١٢٦.

(٦) منتهى المطلب : ١ : ٢١.

(٧) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ، سنن الدار قطني ١ : ٢٨ ، كنز العمّال ٩ : ٣٩٦ / ٢٦٦٥٢.

(٨) ذخيرة المعاد : ١١٦.

٦٢

منها : ما عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « في الماء الجاري يمرّ بالجيف والعذرة والدم يتوضّأ منه ويشرب ، وليس ينجّسه شي‌ء ما لم يتغيّر أوصافه ، طعمه ولونه وريحه » (١).

ومنها : ما عن الكتاب المذكور (٢) أيضا عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا مرّ الجنب في الماء وفيه الجيفة أو الميتة ، فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا يشرب منه ولا يتوضّأ ولا يتطهّر » ، رواه شيخنا في الجواهر مرسلا (٣).

ومنها : ما عن الفقه الرضوي : « كلّ غدير فيه من الماء أكثر من كرّ لا ينجّسه ما يقع فيه من النجاسات ، إلّا أن يكون فيه الجيف فتغيّر لونه وطعمه ورائحته ، فإن غيّرته لم تشرب منه ولم تتطهّر » (٤).

ومنها : ما في مختلف العلّامة في جملة احتجاجات ابن أبي عقيل على عدم انفعال الماء بالملاقاة ، رواه مرسلا قال : « وسئل الصادق عليه‌السلام عن القربة والجرّة (٥) من الماء سقط فيهما فأرة أو جرذ أو غير ذلك فيموتون فيها ، فقال : « إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه ، وإن لم يغلب عليه فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها رطبة » (٦) وفي نسخة اخرى طريّة.

ومنها : ما في الوسائل في الصحيح ـ على الصحيح ـ عن الثقة الجليل محمّد ابن الحسن الصفّار في كتاب بصائر الدرجات ، عن محمّد بن إسماعيل ـ يعني البرمكي ـ عن عليّ بن الحكم عن شهاب بن عبد ربّه قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام أسأله فابتدأني ، « فقال : إن شئت اسأل يا شهاب وإن شئت أخبرناك بما جئت له ، قلت : أخبرني ، قال : جئت تسألني عن الغدير تكون في جانبه الجيفة أتوضّأ منه أو لا؟ قال : « نعم » ، قال : توضّأ من الجانب الآخر ، إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن ، وجئت تسأل عن الماء الراكد ، فإن لم تكن فيه تغيّر وريح غالبة قلت : فما التغيّر؟ قال : الصفرة ، فتوضّأ منه (٧) ، وكلّما

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ١١١.

(٢) المصدر السابق : وفيه « ولا يتطهّر منه ».

(٣) جواهر الكلام : ١ : ١٩٢.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ص ٩١ ، ب ٥ ؛ مستدرك الوسائل : ١ : ١٨٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٥) الجرّة : هو الإناء المعروف من الفخّار. نهاية ابن الأثير ١ : ٢٦٠.

(٦) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨.

(٧) هذا على ما في نسخة اخرى غير منسوبة إلى الوسائل ، وأمّا ما نقلنا عنه من الوسائل فهو خال ـ

٦٣

غلب كثرة الماء فهو طاهر » (١).

ومنها : ما في زيادات التهذيب عن العلاء بن فضيل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها ، « قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٢).

ومنها : ما في نوادر الكافي في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف فامتخط ، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال : « إن لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه » (٣) بناء على أنّ المراد باستبانة الدم في الماء استبانة أثره ، ولا يكون إلّا باللون فتأمّل.

والظاهر أنّه ممّا لا مدخل له في المقام بعد ملاحظة أنّ السؤال وقع عن كون إصابة الدم الإناء صالحا للحكم بتنجّس الماء وعدمه ، فأجابه الإمام عليه‌السلام بأنّ المعيار في ذلك تبيّن الدم في الإناء ، أي الماء الّذي فيه ، بمعنى العلم بوقوعه فيه ومجرّد العلم بإصابته الإناء غير كاف لكونه أعمّ ، فلعلّه لم يتعدّ عن خارج الإناء إلى داخله ، والّذي يرشد إليه وقوع السؤال بعد ذلك عن صورة العلم بوقوع الدم في الإناء ، فقال : « وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ ، فقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : لا » (٤) ، ومن هنا ضعف ما فهمه الشيخ عن تلك الرواية من عدم انفعال القليل بما لا يدركه الطرف من الدم.

وأمّا ما عدا ذلك فالكلّ صريح في الدلالة على المطلب ، وما فيها من التكاثر والتظافر إن لم يفد العلم بالصدق فلا أقلّ من إفادته الوثوق ، مضافا إلى أنّ فيها ما هو صحيح ـ على الصحيح ـ كما أشرنا إليه ، ومنه رواية علاء بن الفضيل (٥) ورميها بالضعف ـ كما صنعه المحقّق الخوانساري (٦) على ما عرفت سابقا ـ من جهة اشتمال سندها

__________________

ـ عن قوله : « فتوضّأ منه » وظنّي أنّه سهو من قلم الناسخ وإلّا كان الشرط المتقدّم ناقصا (منه).

(١) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ مع اختلاف يسير ـ بصائر الدرجات : ٢٥٨ / ١٣.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٥ / ٣٠.

(٣ و ٥) الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩ ـ الاستبصار ١ : ٢٣ / ٥٧ الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٣.

(٦) مشارق الشموس : ٢٠٣.

٦٤

على محمّد بن سنان ممّا لا وجه له ؛ فإنّ هذا الرجل وإن كان ممّن ضعّفه النجاشي (١) والفضل بن شاذان (٢) وغيره (٣) ، غير أنّ الّذي يظهر بملاحظة القرائن الخارجيّة المقرّرة في محالّها وثاقته ، وكونه من الأجلّاء الفضلاء ، هذا مع ما يأتي من روايات اخر مطلقة تشمل بإطلاقها تغيّر اللون أيضا.

ثمّ إنّ بملاحظة أكثر ما ذكر يعرف الحكم في تغيّر الطعم والرائحة أيضا ، مضافا إلى روايات اخر كثيرة واردة في المقام.

منها : ما في التهذيب والاستبصار من الصحيح عن أبي خالد القمّاط ، أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع وفيه الميتة والجيفة ـ وفي بعض النسخ الميتة الجيفة ـ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إن كان الماء قد تغيّر ريحه وطعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ ، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ [منه] (٤) » ، وفي بعض نسخ التهذيب : « ريحه أو طعمه » (٥).

ومنها : ما فيهما أيضا من الصحيح عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب » (٦) ، ورواه في الكافي أيضا مرسلا عن حمّاد عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٧).

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٢٨ قال فيه : « ... وهو رجل ضعيف جدّا لا يعوّل عليه ولا يلتفت إلى ما تفرّد به ... ».

(٢) حكى عنه النجاشي في رجاله ، حيث قال : « قال : أبو الحسن عليّ بن محمّد بن قتيبة النيشابوري قال : قال أبو محمّد الفضل بن شاذان : لا احلّ لكم أن ترووا أحاديث محمّد بن سنان ... [رجال النجاشي : ٣٢٨]

(٣) قال العلّامة في الخلاصة : « وقد اختلف علماؤنا في شأنه ، فالشيخ المفيد رحمه‌الله قال : إنّه ثقة وأمّا الشيخ الطوسي رحمه‌الله فإنّه ضعّفه وكذا قال النجاشي ، وابن الغضائري وقال : إنّه ضعيف غال لا يلتفت إليه ، وروى الكشّي فيه قدحا عظيما ، وأثنى عليه أيضا ، والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ... [خلاصة الأقوال : ٣٩٤].

(٤) أثبتناه من المصدر.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١١٢ ـ الاستبصار ١ : ٩ / ١٠.

(٦) التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ـ الوسائل ١ : ١٣٧ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ وفيه « إذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم ».

(٧) الكافي ٣ : ٤ / ٣.

٦٥

والظاهر أنّ مراده بمن أخبره هو حريز بن عبد الله بقرينة ما سبق ، فإنّه هو الّذي روى عنه حمّاد بن عيسى على ما ذكر في الرجال (١) ، فيكون الرواية على طريق الكليني الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم ، لأنّه يروي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن حمّاد عمّن أخبره ، ولو أخذنا من هذا السند بمحمّد بن إسماعيل كان صحيحا جدّا ، لو صحّ ما ذكرنا من أنّ هذا الإرسال بمنزلة الإسناد. فتأمّل.

ومنها : ما فيهما أيضا من الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسئلة أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام أتوضّأ؟ فقال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح منه حتّى يذهب الريح ويطيب الطعم ، لأنّ له مادّة » (٢).

ومنها : ما في الكافي من الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم عن زرارة ، قال : « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي‌ء ، تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ ، إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء » (٣) ، والظاهر أنّ المرويّ عنه هو أبو جعفر عليه‌السلام لوقوع هذا الحديث في ذيل حديث رواه الشيخ في الاستبصار بطريق ضعيف بعليّ بن حديد ، وقد رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قلت له راوية من ماء سقطت فأرة ، ـ إلى أن قال ـ : وقال أبو جعفر : « إذا كان الماء أكثر إلخ » (٤).

وأقوى ما يشهد بذلك أنّ هذا الحديث ما رواه في الكتاب المذكور بعينه عن الكليني مسندا إلى أبي جعفر عليه‌السلام ، وكان ما عندنا من النسخة فيه غلط من قلم الناسخ.

ومنها : ما في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن سنان ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا جالس عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال : « إذا كان الماء قاهرا ولم يوجد

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٤٤ ـ حيث قال ـ في ترجمة حريز بن عبد الله : « له كتاب الصلاة كبير وآخر ألطف منه وله كتاب نوادر روى عنه حمّاد بن عيسى » الخ ـ جامع الرواة ١ : ١٨٢.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٦ ـ وسائل الشيعة ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٨ ـ الاستبصار ١ : ٧ / ٧.

(٤) نفس المصدر.

٦٦

فيه الريح فتوضّأ » (١).

ومنها : ما في الاستبصار من الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لا تغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن أنتن ، فإن انتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر » (٢).

ومنها : ما في التهذيب من الصحيح أو الحسن بالحسين بن الحسن بن أبان عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يمرّ بالماء وفيه دابّة ميتة قد أنتنت؟ قال : « إن كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضّأ ولا يشرب » (٣).

ومنها : ما في الاستبصار في القويّ أو الصحيح بياسين بن ضرير عن حريز بن عبد الله عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ؟ فقال : « إن تغيّر فلا تتوضّأ منه ، وإن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه » (٤) ، ومن قوله : « وكذلك الدم » يمكن استفادة حكم اللون أيضا كما لا يخفى.

ومنها : ما في الكافي في الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر [به] » (٥) ، ومثله ما في التهذيب (٦).

ومنها : ما في الاستبصار في الحسن عن محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة وأقلّ وأكثر يتوضّأ منها؟ قال : « ليس يكره من قرب ولا بعد يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر [الماء] (٧) » و (٨).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤ / ٤ ـ الوسائل ١ : ١٤١ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٢ / ٦٧٠ ـ الاستبصار ١ : ٣٠ / ٨٠ ـ الوسائل ١ : ١٧٣ ، ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ وفيه : « ... إلّا أن ينتن ».

(٣) التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٤ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ١٨ ـ الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٦.

(٤) التهذيب ١ : ٢١٧ / ٦٢٦ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ٢٠ ـ الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٣.

(٥) الكافي ٣ : ٤ / ٤ ـ الوسائل ١ : ١٤١ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(٦) الكافي ٣ : ٥ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٧ ـ الوسائل ١ : ١٧٠ ، ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٧) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٨) التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٤ ـ الاستبصار ١ : ٤٦ / ١٢٩ ـ الوسائل ١ : ٢٠٠ ، ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

٦٧

ومنها : ما في مختلف العلّامة مرسلا في جملة احتجاجات ابن أبي عقيل أيضا ، سئل عن الماء النقيع والغدير وأشباههما فيه الجيف والقذر وولوغ الكلب ، ويشرب منه الدوابّ وتبول فيه أيتوضّأ منه؟ فقال لسائله : « إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضّأ منه ، وإن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه ، واغتسل » (١).

ويتّضح طريق الاستدلال بالأخبار المذكورة بعد حمل مطلقاتها على مقيّداتها ، وحمل ما ذكر فيه من الأوصاف واحدا أو اثنين على إرادة المثال ، أو على أنّه الوصف الغالب ممّا يحصل فيه التغيّر فلا تنافي بينها أصلا ، فالمسألة بحمد الله سبحانه في غاية الوضوح.

نعم ، يبقى في المقام أمران ينبغي التنبيه عليهما :

أحدهما : ما أشار إليه المحقّق الخوانساري ـ في شرح الدروس ـ من : « أنّه يشكل أن يستنبط من تلك الروايات أنّ تغيّر الطعم وحده موجب للنجاسة ؛ لأنّ في بعض نسخ التهذيب في صحيحة أبي خالد المتقدّمة « قد تغيّر ريحه أو طعمه ، » وفي النسخة المعتمدة « وطعمه » ويؤيّدها آخر الحديث ، والتعويل أيضا على الإجماع » (٢) ، وهو كما ترى أضعف شي‌ء يذكر في المقام.

أمّا أوّلا : فلعدم انحصار روايات الباب في الصحيحة المذكورة ، لما عرفت من أنّ فيها ما اشتمل على كلمة « أو » بلا اختلاف في النسخ.

وأمّا ثانيا : فلأنّ « الواو » كثيرا ما ترد مورد « أو » فلتحمل عليها كي يرتفع الإشكال.

فإن قيل : العكس أيضا ممكن.

لقلنا : بأنّ العكس يأباه اختلاف الروايات في التضمّن على الصفات المذكورة وحدانيّة وثنائيّة وثلاثيّة ، فإنّ كثيرا منها ما تضمّن واحدا منها ، وكلّ ذلك شاهد عدل بأنّ كلّا من الصفات مستقلّ بانفراده في السببيّة ، فيكون ذلك قرينة على ما ذكرناه من التجوّز دون العكس.

وثانيهما : أنّه قد يوجد في الروايات ما يعارض روايات الباب في الدلالة على كون التغيّر بالنجاسة مقتضيا لنجاسة الماء ، كما في الكافي مرسلا عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.

(٢) مشارق الشموس : ٢٠٣.

٦٨

قال : قلت : يسيل عليّ من ماء المطر الّذي فيه التغيّر وأرى فيه آثار القذر فتقطر القطرات عليّ ، وينتضح عليّ منه ، والبيت يتوضّأ على سطحه ، فكيف على ثيابنا؟ قال : « ما به (١) بأس ، لا تغسله ، كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر » (٢).

وهو أيضا كما ترى كلام ظاهريّ ، فإنّ هذه الرواية ـ مع أنّها مرسلة غير صالحة للمعارضة للروايات الكثيرة القريبة من التواتر ، بل المتواترة في الحقيقة ، الّتي منها ما هو الصحيح ومنها ما هو في حكمه من حيث الاعتبار ـ غير دالّة على ما ينافي مفاد روايات الباب ، بل هي عند التحقيق واردة لإعطاء قاعدة كلّيّة مجمع عليها ، مدلول عليها بالأخبار الكثيرة الّتي منها : ما استفاض عنهم عليهم‌السلام « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) ، ومحصّل مفاد الرواية ـ على ما يرشد إليه سياق السؤال ـ : أنّ السائل لمّا وجد التغيّر في الماء المفروض ومع ذلك وجد فيه القذر أيضا ، ولكن لم يتبيّن عنده أنّ هذا التغيّر مستند إلى القذر المفروض ، فسأل الإمام عليه‌السلام استعلاما ، لأنّ وجود القذر مع الماء المتغيّر هل يصلح أمارة على استناد التغيّر إليه أو لا؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام بما يرجع إلى منع صلوحه لذلك ، فنهاه عن غسل الثياب تنبيها على أنّ مدار النجاسة في الشريعة على العلم ، وأنت غير عالم بالاستناد فغير عالم بالنجاسة ، وقوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر » جواب عن سؤال آخر تعرّض له السائل بقوله : « والبيت يتوضّأ على سطحه » ، وغرضه بذلك ـ والله أعلم ـ أنّ النجاسة الّتي تتحقّق مع التوضّي على سطح البيت فيه هل تؤثّر في نجاسة ثيابنا بالقطرات الواقعة منه عليها بواسطة ماء المطر؟ فأجاب عنه الإمام عليه‌السلام بالعدم تعليلا بما أفاده.

المطلب الثاني :

في نبذة من الفروع المتعلّقة بالباب وهي امور :

أحدها : كلّ واحد من الصفات الثلاث القائمة بالنجاسة قد يكون في اقتضاء تغيّر

__________________

(١) في المصدر [ما بذا].

(٢) الكافي ٣ : ١٣ / ٣ ـ الوسائل ١ : ١٤٦ ، ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٣ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ، ح ٢ ـ الفقيه ١ : ٦ / ١.

٦٩

صفة الماء علّة تامّة ، وقد يكون جزء للعلّة ، بحيث لو لا انضمام مغيّر خارجي إليه من عمل شمس أو حرارة هواء أو تصرّف غيرها ممّا يتكوّن في الماء من الديدان ونحوها لا يكون صالحا للتأثير ، بل يكون التأثير قائما بالمجموع منها على الشركة من دون كفاية كلّ بانفراده في التأثير ، ففي كونه كافيا في توجّه الحكم بنجاسة الماء مطلقا ، أو عدمه كذلك ، أو إناطة الأمر بما يساعد عليه نظر العرف في صدق عنوان « التغيير » على وجه يسند إلى النجاسة (١) أو وصفها وعدمه وجوه.

من أنّ الحكم المخرج في الشرع على خلاف الأصل يجب فيه الاقتصار على القدر المتيقّن.

ومن أنّ إسناد التغيير إلى النجاسة أو وصفها الوارد في روايات الباب ليس على حقيقته ، بل هو وارد من باب التسبيب ، وظاهر أنّ هذا الإسناد كما أنّه يصدق عرفا فيما لو اعتبر إلى السبب التامّ كذلك يصدق فيما لو اعتبر إلى جزء السبب كما يفصح عنه قولهم : « أنبت الربيع البقل » ، المتّفق على كونه من باب المجاز في الإسناد بالقياس إلى السبب ، والربيع ليس إلّا أحد أجزاء العلّة ، فيكون ما ورد في الروايات شاملا لما يتحقّق مع النجاسة في صورة ما لو كانت سببا تامّا ، وما يتحقّق معها في صورة ما لو كانت جزء للسبب.

ومن أنّ اللفظ الوارد في خطاب الشرع ينزّل على ما يساعد عليه العرف ، فإن صحّ عرفا في صورة جزئيّة النجاسة القول بأنّ هذا ما غيّرته النجاسة يتبعه الحكم بالنجاسة وإلّا فلا.

ولكنّ الإنصاف أن يقال : إنّ الحكم في وجوده وعدمه يتبع العنوان الوارد في الأخبار ، المعلّق عليه ذلك الحكم ، وأنت بملاحظة الأخبار المتقدّمة تعرف أنّ ما أخذ فيها عنوانا لذلك الحكم شيئان ، هما عند التحقيق متلازمان وجودا وعدما.

أحدهما : غلبة وصف النجاسة على وصف الماء ، من ريح أو لون أو طعم.

وثانيهما : تغيير النجاسة أو وصفها المذكور لوصف الماء.

__________________

(١) بأن يقال عرفا أنّ الماء قد غيّرته النجاسة ، ولو مع العلم بكونها جزءا للعلّة ، وأنّ لها في إيراث التغيّر في الماء شريكا. (منه).

٧٠

ولا ريب أنّ العنوان الأوّل غير متحقّق مع الفرض ، لوضوح عدم غلبة لوصف النجاسة في فرض الجزئيّة على وصف الماء ، وأمّا ثاني العنوانين فهو وإن كان في نظر العقل ممّا لا مانع من إجرائه في مفروض الكلام غير أنّ العرف يأبى عنه ؛ ضرورة أنّ التغيير الوارد في الأخبار بأيّ صيغة كانت لو عرضناه على العرف كان ظاهرا في تمام السببيّة ، بحيث لا يكاد الذهن ينصرف إلى صورة الجزئيّة ، ولو كان ذلك باعتبار تركيب الكلام المتضمّن لهذا اللفظ ، فلاحظ وتأمّل كي يتّضح لك حقيقة الحال.

وقضيّة ذلك اختصاص الحكم بالنجاسة بما لو كان النجاسة أو وصفها علّة تامّة لتغيّر وصف الماء ، فيلحق المفروض بالأصل الأوّلي المقتضي للطهارة ، مضافا إلى اصول اخر جارية في المقام هذا ، ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه خصوصا في مشروط بالمائيّة.

وثانيها : إذا تغيّر الماء بالنجاسة لا عن وصف النجاسة ـ على معنى تغيّره في وصف مغاير لوصف النجاسة جنسا أو نوعا ، كتغيّر لونه بذي الطعم أو الرائحة ، أو طعمه بذي اللون أو الرائحة ، أو رائحته بذي الطعم أو اللون ـ فهل يقتضي ذلك نجاسة الماء كما يقتضيها لو حصل في الوصف الموافق أو لا؟

والأوّل أولى ، عملا بإطلاق الإجماعات وفتاوي الأصحاب ، وإطلاق جملة كثيرة من روايات الباب ، وخصوص المرسلة الواردة في مختلف العلّامة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه » (١) ، وصحيحة هشام بن عبد ربّه المشتملة على قوله : « فما التغيّر؟ قال : الصفرة » (٢) ، نظرا إلى أنّ ظاهر السياق بقرينة ما سبق كون السؤال عن الجيفة الّتي تكون وصفها الغالب هو الريح.

مضافا إلى أنّ المعلوم من طريقة الشارع كون مناط الحكم هو التغيّر المستند إلى النجاسة بأيّ نحو اتّفق ، ولا ينافي شيئا من ذلك ما في رواية العلاء بن الفضيل من قوله : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٣) ؛ لعدم ابتناء روايات الباب على الضبط

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨ وفيه : « اذا غلبت رائحته » الخ.

(٢) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ بصائر الدرجات : ٢٥٨ / ١٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٣.

٧١

والحصر ، كما يفصح عنه اختلافها زيادة ونقيصة في الاشتمال على الأوصاف الثلاثة.

فما عن المعتبر من قوله : « وكلّه ينجّس باستيلاء النجاسة عليه ، ونريد باستيلاء النجاسة غلبة ريحها على ريح الماء وطعمها على طعمه ولونها على لونه » (١) ، ليس بسديد إن أراد به الاشتراط.

والعجب عن شيخنا في الجواهر (٢) أنّه ـ بعد ما ذكر الاحتمالين في مفروض المسألة ـ قوّى الاحتمال الثاني استنادا إلى استصحاب الطهارة ، مع الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن ، فإنّه كما ترى اجتهاد في مقابلة النصّ ، واتّكال بالأصل في موضع الدليل.

فعلى ما قوّيناه لو وقع في الماء نجاسات متعدّدة مختلفة اللون فحصل له من جهتها لون آخر غير موافق للون شي‌ء منها كان نجسا ، ولا يقدح فيه مخالفة لونه لألوانها بحسب النوع.

بل وبما عرفت من التحقيق تعرف أنّه لو وقع فيه نجاسة لا وصف لها من حيث الجهات الثلاث المعهودة ، فامتزجت معه وأورثت فيه بمقتضى اختلاط مزاجيهما تغيّرا في إحدى من جهاته الثلاث كان نجسا ، بل قضيّة بعض ما سبق ـ مضافا إلى أنّ مورد أكثر روايات الباب إنّما هو الميتة أو الجيفة ـ عدم الفرق بين ما لو كان الوصف الغالب من النجاسة على وصف الماء من لوازم طبعها ومقتضيات ماهيّتها كحمرة الدم ونحوها ، أو من الطوارئ اللاحقة بها بعد انقضاء مدّة مثلا ، كنتن الجيفة الّتي أصلها الميتة ، وهي ما لم ينقض عنها زمان اقتضى فيها الفساد ممّا ليس لها وصف مغيّر.

وثالثها : لو وقع في الماء ما يغيّره وكان مردّدا بين الطاهر والنجس لا يخرج الماء عن طهارته الأصليّة ، للأصل السليم عن المعارض ، مع استصحاب الطهارة ، كما أنّه كذلك لو ظنّ بكونه نجسا ، ما لم يقم على اعتبار هذا الظنّ دليل بالخصوص ، ولو وقع فيه من النجس ما يصلح للتغيير فاستعقب تغيّرا في الماء مع عدم العلم باستناده إليه كان باقيا على طهارته ، كما أنّه لو وقع فيه ما شكّ في كونه صالحا للتغيير فتعقّبه التغيّر مع

__________________

(١) المعتبر : ٨.

(٢) جواهر الكلام ١ : ١٩٤.

٧٢

احتمال استناده إلى غيره كان طاهرا.

وكذلك لو وقع فيه طاهر ونجس وتعقّبهما التغيّر مع الشكّ في استناده إلى الطاهر أو النجس ، نعم لو علم باستناده إلى أحدهما معيّنا يلحقه حكمه من طهارة أو نجاسة ، وأمّا لو علم باستناده إليهما معا على نحو الشركة فهو من جزئيّات الفرع الأوّل وقد تبيّن حاله.

ولو تغيّر بعض الزائد على الكرّ فإن كان الباقي كرّا اختصّ النجاسة بالمتغيّر ، بخلاف ما لو كان الباقي دون الكرّ فإنّه ينجّس الجميع ، أمّا البعض المتغيّر فللتغيّر ، وأمّا الباقي فبالملاقاة ، وأمّا لو شكّ في كرّيّة الباقي كان محكوما عليه بالطهارة للأصل والاستصحاب.

وأمّا ما يسند إلى بعض الشافعيّة (١) ـ من القول بنجاسة الجميع وإن كثر وتباعدت أقطاره ، لأنّ المتغيّر نجس فينجّس ما يلاقيه ثمّ ينجّس ملاقي ملاقيه وهكذا ـ فضعيف جدّا ؛ لأنّ ملاقي النجس إذا كان كثيرا لا ينجّس بالملاقاة إجماعا كما يأتي تحقيقه.

ولو تغيّر الماء بالنجاسة في غير الصفات الثلاثة ، من الحرارة والبرودة أو الخفّة والغلظة أو الصفاء والكدورة أو التأثير والخاصّيّة لم ينجّس قولا واحدا فتوى وعملا ؛ لاختصاص أدلّة التنجيس بغير تلك الصفات من الصفات الثلاثة ، ولا ينافيه ما فيها من المطلقات بعد إعمال قاعدة حمل المطلق على المقيّد ، الّذي هو عبارة عن الحصر المستفاد من ملاحظة مجموع الروايات ، حيث لم يقع فيها إشارة إلى اعتبار التغيّر فيما عدا الأوصاف الثلاث بالخصوص.

ولو تغيّر بالمجاورة ومرور رائحة النجاسة القريبة منه إليه من دون ملاقاتها له لم ينجّس أيضا ، وفي الحدائق قولا واحدا (٢) ؛ لأنّ الرائحة ليست بنجاسة فلا تؤثّر تنجيسا ، وهو كما ترى في غاية الجودة ، وإن كان لا يخلو عن ضرب من القصور في التأدية.

فتوضيحه : أنّ الحكم في أكثر روايات الباب معلّق على أعيان النجاسات من الدم والبول والجيفة على فرض وقوعها في الماء وكونها بأعيانها فيه ، ولا ريب أنّ اللون في مفروض المسألة ليس بعين نجسة ، كما أنّ العين فيها ليست بواقعة في الماء ، ومعه

__________________

(١) المغني لابن قدامة ١ : ٢٩.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٧.

٧٣

لا داعي إلى الحكم بالنجاسة في تلك الصورة.

نعم ، في جملة من الروايات ما يوهم في ابتداء النظر عدم الفرق بين ما لو كان التغيّر عن عين النجاسة أو عن مجاورتها ومرور رائحتها ، كالنبوي المتقدّم (١) ، والأولى من روايتي دعائم الإسلام (٢) ، ورواية الشهاب (٣) بما في ذيلها ، ورواية حريز (٤) ، وروايتي محمّد بن إسماعيل (٥) الواردتين في البئر ، ولكن ليس شي‌ء منها بشي‌ء.

أمّا النبوي فللقدح في سنده أوّلا ، ودلالته ثانيا.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من كونه عامّيّا مرسلا وإن ادّعي كونه متواترا ، ولا جابر له في خصوص المقام لما عرفت من ذهاب الأصحاب إلى خلاف ما اقتضاه إطلاقه أو عمومه ، بل ولو فرضنا سنده صحيحا لسقط عن الاعتبار في خصوص هذا الحكم ، بملاحظة إعراض الأصحاب عنه من هذه الجهة وعدم الاعتناء به.

وأمّا الثاني : فلمنع عموم أو إطلاق في الرواية بحيث يشمل المبحوث عنه أيضا ؛ فإنّ « شيئا » في قوله : « لا ينجّسه شي‌ء ، » لا يراد منه ما يصدق عليه الشي‌ء في الخارج كائنا ما كان ، وإن كان عامّا من جهة وقوعه في سياق النفي ، بل يراد به بملاحظة تركيب الكلام وتضمّنه للفظ « ينجّسه » جميع الأفراد ممّا كان من سنخ المتنجّس ، كما أنّه لو قال لأحد : « ما أكلت اليوم شيئا » ، لا يتناول ذلك العامّ ما ليس من أفراد المأكول أصلا ، بل هو عامّ في خصوص أفراد المأكول ، فيكون حاصل تقدير الرواية : أنّه لا ينجّسه شي‌ء من المنجّسات ، فيكون قوله : « إلّا ما غيّر لونه » الخ استثناء عن الشي‌ء بهذا المعنى ، وحاصله : إلّا متنجّس غيّر لونه الخ.

ولا ريب أنّه بهذا المعنى لا يتناول نظائر المقام ولو فرضناه عامّا ، بناء على القول بكون الموصولات من العمومات ؛ إذ العامّ إنّما يشمل أفراده بعد الفراغ عن إحراز فرديّتها له ، وكون مرور الرائحة إلى الماء من النجاسة وتغيّره بالمجاورة منجّسا له ممّا

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٩ / ٦.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١١١.

(٣) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(٤). التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ـ الوسائل ١ : ١٣٧ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٦ ـ الوسائل ١٧٢ : ١ ، ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

٧٤

لم يكن محرزا ؛ لعدم قيام دليل من الشرع على أنّه أيضا يوجب نجاسة الماء فيكون مشكوكا في فرديّته ، ومعه لا يعقل العموم بالقياس إليه.

وأمّا رواية دعائم الإسلام فللقدح فيها أيضا سندا ودلالة.

أمّا الأوّل : فقد اتّضح ، وأمّا الثاني : فلانصراف قوله : « وليس ينجّسه شي‌ء ما لم يتغيّر أوصافه » إلى الامور المذكورة أوّلا من الجيف والعذرة والدم ، فيكون التغيّر ظاهرا فيما يستند إليها ، وهو ظاهر فيما يستند إلى أعيانها.

ودعوى : أنّ المورد لا يصلح مخصّصا للوارد.

يدفعها : أنّ الحمل المذكور ليس من باب التخصيص بل هو عند التحقيق أخذ بما هو من مقتضى التخصّص.

وبيان ذلك : أنّ لفظ « شي‌ء » حيثما طرأه العموم المصطلح ليس على حدّ غيره من ألفاظ العموم الّتي لمدلولها أفراد مضبوطة معيّنة لا يتجاوزها الألفاظ إلّا بالتخصيص ، بل هو في إفادته العموم وكمّيّة ما يعمّه يتبع المقام ، ويأخذ من الأفراد ما يناسبه ويساعد عليه سياق الكلام ، فقوله : « ليس ينجّسه شي‌ء » إنّما ينصرف عرفا إلى ما سبقه من النجاسات المذكورة ، فيكون عامّا في أفرادها لا مطلقا.

وأمّا الثالث : فلظهور أنّ المراد بالماء الراكد بقرينة ما سبق الماء الراكد الّذي فيه الجيفة.

لا يقال : لو صحّ ذلك لكان إضمار السؤال عن أحدهما مغنيا عنه في الآخر لكون كلّ من الغدير والراكد من واد واحد.

لأنّا نقول : إنّهما موضوعان متغايران وإن كان الثاني أعمّ من الأوّل ، فإنّ الغدير هو الماء الّذي تغادره السيول أي تخلّفه ، والراكد هو الماء الساكن الغير الجاري ، فلعلّ السائل قد أضمر السؤال عن كليهما لتوهّمه الفرق بينهما في الحكم باعتبار خصوصيّة من الخصوصيّات ، لعلمه بأنّ مبنى الشرع على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتّفقات.

وأمّا الرابع : فلأنّ المتبادر من قوله : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة » ما اعتبر غلبة وصفه على الجيفة الواقعة فيه الملاصقة له ، لا مطلقا.

وأمّا الخامس : فلأنّ المراد بـ « الإفساد » الوارد في الروايتين إنّما هو الإفساد الشرعي المانع عن استعمال الماء في مشروط بالطهارة وهو التنجيس ، فيرجع مفاده إلى ما قرّرناه في

٧٥

النبوي ، فلا يتناول عمومه للمجاورة ونحوها لمكان الشكّ في كونها من المنجّسات.

ولو تغيّر الماء في أحد أوصافه الثلاثة المعروفة بالمتنجّس دون عين النجس ـ كالدبس النجس وما شابهه ـ ففي قبوله النجاسة به وعدمه وجهان ، بل قولان على ما قيل ، فالمعظم إلى الثاني ، وعن كشف اللثام : « أنّه ظاهر الأكثر » (١) ، وفي الرياض : « أنّه الأشهر » (٢) ، وعن شرح المفاتيح : « أنّه مذهب جميع من عدا الشيخ » (٣) ، وعن ظاهر الشيخ في المبسوط (٤) الأوّل ، فلا فرق في نجاسة الماء بالتغيّر عنده بين ما لو كان التغيّر بعين النجس أو بالمتنجّس ، وربّما يعزى إلى ظاهر السيّد في الجمل (٥) أيضا بل عن المصابيح (٦) أنّه استظهره من المعتبر (٧) والتحرير (٨) ، وقد يستظهر الموافقة من السرائر (٩) كما في الجواهر (١٠) ، بل في مناهل السيّد (١١) : « أنّه قد يستظهر من الكتب الّتي أطلقت التنجّس بالتغيّر مصرّحة بأنّه لا ينجّس الجاري إلّا أن يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، كالمقنعة (١٢) ، وجمل العلم (١٣) ، والجمل والعقود (١٤) ، والغنية (١٥) ، والتبصرة (١٦) ، والدروس (١٧) ، والبيان (١٨) ، والجعفريّة (١٩) ، ومجمع الفائدة (٢٠).

وقد يدّعى استفادته أيضا من الكتب الّتي صرّحت بأنّه لا ينجّس إلّا باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه ، كالوسيلة (٢١) ، والمراسم (٢٢) ، والنافع (٢٣) ، والشرائع (٢٤) ،

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٥٦.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣٤.

(٣) مصابيح الظّلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخلوط) الورقة : ٥١٧.

(٤) المبسوط ١ : ٥.

(٥ و ١٣) الجمل والعلم (رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٢٢).

(٦) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (المخطوط) الورقة : ١١. (٧) المعتبر : ٨.

(٨) تحرير الأحكام : ١ : ٥.

(٩) السرائر ١ : ٦٢. (١٠) جواهر الكلام ١ : ٢٠٤.

(١١) المناهل ـ : كتاب الطهارة (مخطوط) ـ ص : ٨٧.

(١٢) المقنعة ١ : ٦٤. (١٤) الجمل والعقود (في ضمن الرسائل العشر : ١٦٩).

(١٥) غنية النزوع (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٣٧٩). (١٦) تبصرة المتعلّمين ١ : ٢٣.

(١٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩. (١٨) البيان : ٩٨.

(١٩) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣). (٢٠) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٠.

(٢١) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤). (٢٢) المراسم العلويّة : ٣٧.

(٢٣) المختصر النافع : ١٤١.

(٢٤) شرائع الإسلام : ١ : ٧.

٧٦

وحاشيته (١) ، ومن الكتب الّتي صرّحت بأنّه لا ينجّس إلّا بتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة كالنهاية (٢) والإرشاد (٣) والقواعد (٤) والسرائر (٥) ونهاية الإحكام (٦) والجامع (٧) واللمعة (٨) والروضة (٩) ، لأنّ النجاسة يعمّ المتنجّس في كلمات الأصحاب.

وأنت خبير : بأنّ كلّ هذه الاستظهارات وارد على خلاف التحقيق ، فإنّ لفظ « النجاسة » أو « النجس » ليس ممّا ورد في أخبار الباب ، ولا أنّه اخذ بهذا العنوان الكلّي عنوانا في أدلّة المسألة ، بل هو مفهوم كلّي انتزعه الفقهاء عن الموارد الخاصّة الواردة في الروايات والأعيان المخصوصة من النجاسات المعلّق عليها الحكم في أخبار الباب ، كالبول والدم والميتة والجيفة ، بعد إسقاط الخصوصيّة وإلغاء الفارق بينها وبين سائر أنواع النجاسات ، ولا ريب أنّ ما ينتزع عن شي‌ء لا يراد منه عند الإطلاق إلّا ما ينطبق على المنتزع عنه ، وليس المتنجّس من جملته ؛ ضرورة عدم وروده في الروايات بهذا اللفظ ، ولا أنّ فيها إشارة إليه ، ولا أنّ شيئا من مصاديقه مذكور في أسئلتها ولا أجوبتها ، حتّى يقال : بأنّ ما ذكر من المفهوم الكلّي منتزع عمّا يعمّه والموارد الخاصّة من أعيان النجاسة ، ومعه كيف يجترئ على الفقهاء باستظهار كون مرادهم من النجاسة في عناوينهم المطلقة ما يعمّ الأمرين.

كيف ولو كانت قضيّة الاستظهار صادقة على النهج المذكور لزم كون القول بنجاسة الماء إذا تغيّر بالمتنجّس مذهبا للمشهور ، وهو كما ترى ينافي خلوّ كلامهم كافّة عن التصريح بذكره عنوانا ومثالا ، وكأنّ الحال في استظهار هذا القول أيضا من الشيخ والسيّد من هذا القبيل ، بل هو كذلك عند التحقيق ؛ لقصور العبارة الّتي استظهر منها هذا القول عن إفادته والدلالة على اختياره ، وهي ـ على ما حكي عنه ـ قوله : « ولا طريق إلى تطهير المضاف إلّا بأن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة ، ثمّ ينظر فيه فإن سلبه إطلاق اسم الماء وغيّر أحد أوصافه ، إمّا لونه أو طعمه أو رائحته فلا يجوز

__________________

(١) حاشية شرائع الإسلام ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٣.

(٢) النهاية : ٣.

(٣) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٥.

(٤) قواعد الاحكام ١ : ١٨٢.

(٥) السرائر ١ : ٦٢.

(٦) نهاية الأحكام ١ : ٢٢٨.

(٧) الجامع للشرائع : ٢٠.

(٨) اللمعة الدمشقيّة : ١ : ٢٥١. (٩) الروضة البهيّة ١ : ٢٥١.

٧٧

استعماله بحال ، وإن لم يتغيّر أوصافه ولا سلبه إطلاق اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه المطلقة » (١).

فإنّ مفاد هذه العبارة ـ كما ترى ـ أنّه صرّح فيما يحكم عليه بعدم جواز الاستعمال باعتبار اجتماع الأمرين من سلب إطلاق الاسم والتغيّر ، وفيما يحكم عليه بجواز الاستعمال باعتبار انتفاء الأمرين معا ، فيبقى ما انتفى عنه أحد الأمرين واسطة بين القسمين ، وهو كما يمكن لحوقه بالقسم الأوّل فكذلك يمكن لحوقه بالقسم الثاني فيكون أعمّ ، ومن البيّن أنّ العامّ لا يصلح دليلا على الخاصّ.

بل لنا أن نقول : بإمكان كون ما انتفى عنه التغيّر دون عدم سلب إطلاق الاسم ملحقا بالقسم الأوّل في الجملة ؛ لأنّه مضاف حينئذ وهو ممّا لا يجوز استعماله في مشروط بالمائيّة ، وما انتفى عنه سلب الإطلاق دون التغيّر ملحقا بالقسم الثاني.

هذا مع أنّ الظاهر كون عطف « التغيّر » على سلب إطلاق الاسم عطفا تفسيريّا مرادا به بيان ما يحقّق سلب الإطلاق ويتحقّق معه عدم صدق الاسم ، بناء على كون المراد بتغيّر الماء حينئذ اكتسابه شيئا من أوصاف المضاف طعما أو لونا أو رائحة ، لا اكتسابه شيئا من صفات النجاسة الواقعة كما هو الظاهر الّذي يساعد عليه الاعتبار ، ولا ينافيه الحكم عليه حينئذ بعدم جواز الاستعمال بحال ، لأنّه إذا اكتسب شيئا من أوصاف المضاف انقلب مضافا فيلحقه النجاسة ، لأنّ المضاف كائنا ما كان ينفعل بملاقاة النجاسة والمتنجّس معا إجماعا ، كانفعال الماء القليل الملاقي بهما ، فحينئذ يكون عبارته أجنبيّة عمّا فهموه بالمرّة ، ولا يعقل معه الاستظهار المذكور.

فالإنصاف : أنّه لم يظهر من أصحابنا من كان قائلا بنجاسة الماء المتغيّر بالمتنجّس صراحة ولا ظهورا ، ومن هنا يمكن استظهار الإجماع على عدم النجاسة ، كيف وأنّه مقتضى الأصل والاستصحاب كما استند إليه المعظم ، ولم يوجد في روايات الباب ما ينافيهما صريحا ولا ظهورا ولا إشعارا.

نعم ، الروايات المطلقة في الحكم بالنجاسة لمجرّد التغيّر ـ الّتي منها النبوي (٢) ـ

__________________

(١) المبسوط ١ : ٥.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١١١.

٧٨

ربّما توهم ذلك ، ولكنّه يندفع بملاحظة مجموع روايات الباب من مطلقاتها ومقيّداتها ؛ فإنّ الّذي يظهر منها ـ والله أعلم ـ أنّ هذه المطلقات ليست بإطلاقها كما توهّم ، بل هي منزّلة على المقيّدات وناظرة إليها ومنطبقة عليها حرفا بحرف وقذّا بقذّ ، وكأنّ الوجه في ورودها مطلقة تبيّن الأمر للمشافهين بها من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام باعتبار الخارج من قرينة حال أو مقال.

ولو سلّم عدم ظهور ذلك ، فلا أقلّ من صيرورة الإطلاق الّذي فيها بملاحظة ما ذكرناه ـ مضافا إلى مصير المعظم إن لم نقل مصير الكلّ إلى خلافه ـ موهونا ساقطا عن درجة الاعتبار والحجّيّة ، ومعه يبقى الأصلان المذكوران سليمين عن المعارض.

فتحقيق المقام ـ على ما يقتضيه القواعد المقرّرة والاصول المسلّمة ـ أن يقال : إنّ الوصف الحاصل في الماء عند دخول المتنجّس فيه ، إمّا أن يعلم كونه من أوصاف نفس المتنجّس كحلاوة الدبس ، ورائحة ماء الورد ، وحمرة ماء البقّم (١) مثلا ، أو يعلم كونه من أوصاف النجاسة الّتي مع ذلك المتنجّس كحمرة الدم إذا كان المتنجّس متنجّسا من جهته ، أو يعلم كونه من وصفيهما معا على معنى استناد تغيّره إليهما على جهة الشركة ، أو لا يعلم شي‌ء من ذلك.

أمّا الأوّل : فالمتّجه فيه عدم النجاسة لعين ما مرّ.

وأمّا الثاني : فالمتّجه فيه النجاسة لصدق كونه متغيّرا بعين النجاسة فيشمله الأدلّة.

وأمّا الثالث (٢) : فهو من جزئيّات الفرع الأوّل الّذي تقدّم الكلام فيه.

وأمّا الرابع : فهو كالأوّل ، لسلامة الأصلين بالنسبة إليه عن المعارض.

وهذا التفصيل يظهر عن غير واحد من متأخّري أصحابنا ، منهم ثاني الشهيدين في الروضة ، كما أشار إليه بقوله : « فإنّه لا ينجّس بذلك كما لو تغيّر طعمه بالدبس [المتنجّس] (٣) من غير أن تؤثّر نجاسته فيه » (٤) ، وإن كان إطلاق القيد يشمل في كلامه ما

__________________

(١) البقّم : بتشديد القاف ، صبغ معروف ، قيل عربيّ ، وقيل معرّب قال الشاعر : كمرجل الصبّاغ جاش بقّمه (المصباح المنير ؛ مادة « البقّم » : ٥٨).

(٢) وفي الأصل و « أمّا الثاني » ، ومن المقطوع كونه سهوا من قلمه الشريف ، ولذا صحّحناه بما في المتن.

(٣) وفي الأصل : « النجس ».

(٤) الروضة البهيّة ١ : ٢٥١.

٧٩

لو كان تأثير النجاسة فيه على سبيل الجزئيّة ، فإنّ قضيّة ذلك توجّه الحكم فيه بالنجاسة أيضا وإن كان ذلك خلاف التحقيق كما عرفت سابقا.

وممّن صرّح بهذا التفصيل في الجملة السيّد الطباطبائي في مصابيحه ـ على ما حكي ـ قائلا : « بأنّه لا يتوهّم من إطلاق الأصحاب بعدم نجاسة الماء بتغيّره بالمتنجّس ، أنّه لا ينجّس بتغيّره بالنجاسة بواسطة المتنجّس أيضا ، بناء على أنّ التغيّر بالواسطة تغيّر بالمتنجّس أيضا لا بالنجاسة ، ومن ثمّ ترى الأصحاب مثّلوا له بالدبس المتنجّس ونحوه ممّا يوجب التغيّر بصفته الأصليّة دون العارضة بواسطة النجاسة إلخ » (١) ، وظاهر هذه العبارة بل صريحها أنّ هذا التفصيل مذهب للأصحاب أيضا.

المطلب الثالث :

التغيّر قد يكون حسّيّا وقد يكون تقديريّا ، والمراد بالأوّل ما من شأنه أن يكون مدركا بإحدى الحواسّ الظاهرة من البصر والذوق والشمّ ، وبالثاني ما لا يكون كذلك من جهة كون النجاسة الواقعة في الماء مسلوب الصفات الأصليّة موافقة له في صفاته بالعارض ، ولكن كانت في المقدار بحيث لو كانت على صفاتها الأصليّة المخالفة لصفات الماء كانت موجبة لتغيّره غالبة صفاتها على صفاته ، فهل المعتبر في التغيّر الموجب لتنجّس الماء أن يكون حسّيّا ، فلا يكفي فيه مجرّد التقدير ما لم يكن التغيّر ممّا يدركه الحسّ ، أو لا؟ بل هو موجب للتنجّس ولو تقديريّا ، بحيث لو لم يكن محسوسا يجب تقدير الأوصاف في النجاسة ، فلو كانت ممّا يتغيّر بها الماء على تقدير وجودها نجس الماء وإلّا فلا.

اختلف فيه الأصحاب على قولين :

أوّلهما : ما عليه الأكثر كما في الرياض (٢) ، وهو قول أكثر الأصحاب كما عن الذخيرة (٣) ، وهو المشهور كما في الحدائق (٤) ، وهو لظاهر المعظم وثاني الشهيدين

__________________

(١) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٢.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٦.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ١٨١.

٨٠