ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

في المنتهى مع أنّه صرّح باعتبار الدفعة (١) أنكر على بعض الأصحاب ـ وهو المحقّق على ما هو ظاهر ما تقدّم ـ اعتبار الممازجة ، مصرّحا في الغديرين المتواصلين بكفاية الاتّصال الموجود هنا (٢).

فما عرفت عن جمال المحقّقين من أنّ في صورة إلقاء الكرّ دفعة يتحقّق الممازجة في حيّز المنع ؛ لعدم الملازمة بينهما كما لو وضع على الماء المتنجّس كرّ محرز في إناء على وجه يتحقّق معه المماسّة بين سطحيهما بدون مداخلة ، وعلى فرض تسليم استلزامه المداخلة لا محالة فهي ليست من الممازجة المقصودة هنا ، بل هي مداخلة في الجملة فتكون أعمّ أيضا.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّه تقييد في إطلاق كلامهم من وجهين ؛ فالتقييد الأوّل ينافي إطلاق اشتراطهم الدفعة كالمحقّق والعلّامة في المعتبر (٣) والمنتهى (٤) ، كما أنّ التقييد الثاني ينافي إطلاقهم في عدم انفعال الكرّ بالملاقاة ، المقتضي لعدم الفرق بين استواء السطوح واختلافها ، المستلزم لأن يكون كلّ من الأعلى والأسفل متقوّيا بالآخر كما في الكتابين أيضا.

والظاهر أنّ مرادهم بالدفعة ما يعمّ إلقاء تمام الكرّ عليه في آن واحد عرفي ، ووصله إليه إذا كان في غدير يمكن وصله إليه ، ومنه مسألة الغديرين المتواصلين ، لأنّ مناط نظرهم ـ على ما عرفت من الملازمة الثالثة ـ حصول عنوان الوحدة فيما بين الماءين من حين اللقاء ولا يتأتّى ذلك إلّا بأحد الوجهين ، هذا مضافا إلى ما ستعرف في الاعتراض على ما يأتي عن صاحب المدارك والمعالم.

وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ الاستصحاب ـ مع أنّ المقصود من اعتبار الدفعة إحراز شرط لا حاجة له عند التحقيق إليها وهو الوحدة بين الماءين ـ ليس في محلّه.

وأمّا الوجه الرابع : فلأنّ النصّ المدّعى وروده ممّا لا أثر له أصلا ، وإلّا كانت العادة قاضية بنقله إلينا وضبطه في الكتب لعموم البلوى به ومن هنا أنكره في المدارك (٥) ، ولو سلّم فهو مرسل لا جابر له ، إذ ما تقدّم ممّا ادّعي كونه جابرا لا يصلح جابرا كما هو

__________________

(١ و ٤) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٥٤ ـ ٥٣.

(٣) المعتبر : ١١.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

٥٦١

واضح ، مع إمكان كون مراد من ادّعاه به غير معناه المصطلح عليه على أن يكون عطف تصريح الأصحاب عليه تفسيرا له.

فتحقيق المقام أن يقال : إنّ الدفعة إن اريد بها ما يكون شرطا تعبّديّا فالمتّجه منع اعتبارها ، لانتفاء الدلالة عليه شرعا.

وإن أريد بها ما يكون مقدّمة لإحراز الوحدة بين الماءين ـ الكرّ والمتنجّس ـ الرافعة للتمييز بينهما ، فاعتبارها ممّا لا محيص عنه ، بناء على ما تقدّم من الملازمة المتوقّفة عليها.

ولكن ينبغي أن يراد بالدفعة حينئذ ما يعمّ الإلقاء في آن واحد ، وإيجاد الاتّصال بين الكرّ والمتنجّس في موضع عدم إمكان الإلقاء ، كما لو كانا في حوضين أو غديرين فوصل بينهما على وجه صارا حوضا أو غديرا واحدا ، وذلك ممّا لا يقتضي ممازجة ولا مداخلة ، ولا يكفي فيه إجراء الكرّ إليه على وجه يدخل فيه جزء فجزء وإن لم يحصل الانقطاع في الأثناء ، إذ لا يتحقّق معه الوحدة بينه وبين تمام الكرّ ؛ والوحدة الحاصلة بينه وبين أجزاء الكرّ ليست من الوحدة بينه وبين الكرّ ، وذلك يوجب انفعال كلّ جزء منه يدخل فيه ويتّحد معه ، لا لأنّ الكرّ يشترط في عدم انفعاله مساواة السطوح ، بل لأنّ الجزء المفروض بمجرّد اتّحاده مع الماء المتنجّس يخرج عن كونه جزء من الكرّ ويدخل في عنوان الجزئيّة للماء المتنجّس ، والمفروض أنّه بنفسه غير معتصم فينفعل لا محالة ، بل لو دخل فيه كرور كثيرة بهذا الوجه انفعل المجموع بانفعال أجزائها المجتمعة فيه المتّحدة معه ، كما لو القي عليه مياه قليلة بدفعات متكرّرة.

ولعلّه إلى ما ذكرنا من كفاية الاتّصال الحاصل في بعض الصور ينظر ما نسب إلى الشهيد في الذكرى ؛ وإن كان لا يوافق ما تقدّم عنه فيه (١) أيضا سابقا من الاكتفاء بإلقاء كرّ عليه متّصل مع عدم اشتراط الدفعة.

ولكنّ الإنصاف : أنّ ظاهر مراده بالاتّصال هنا اتّصال أجزاء الكرّ الملقى بعضها ببعض ، احترازا عمّا القي بدفعات متكرّرة على وجه يتحقّق الانفصال فيما بينها ؛ والاتّصال بهذا المعنى أحد المعاني المتقدّمة للدفعة ، فالقول بأنّه لم يشترط الدفعة بإطلاقه في غير محلّه.

ومن هنا ظهر أنّه لا وقع لما عن المحقّق الشيخ عليّ من الاعتراض عليه : « بأنّ فيه

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

٥٦٢

تسامحا لأنّ وصول أوّل جزء منه إلى النجس يقتضي نقصانه عن الكرّ ، فلا يطهّر حينئذ ولورود النصّ بالدفعة ، وتصريح الأصحاب بها » (١).

فإنّ وجه الاعتراض إن كان أنّه أهمل الدفعة بالمرّة ولم يعتبرها ، ففيه : أنّ الاتّصال الّذي صرّح به أحد معاني الدفعة.

وإن كان أنّه لم يعتبر الزيادة على الكرّ في مقام التطهير لئلّا يخرج عند الاتّصال عن الكرّيّة.

ففيه : منع خروجه عنها باتّصال أوّل جزء منه بالماء المتنجّس ، لأنّ مجرّد اتّصاله به بواسطة هذا الجزء يوجب تحقّق الوحدة فيما بينهما الّتي هي مناط حكم التطهير وموضوع الملازمة المتقدّمة المجمع عليها ، فإنّ في آن الاتّصال يحصل الوحدة ويقارنها طهره عند ذلك بلا تراخي زمان.

ولا ينافيه كون الوحدة شرطا مأخوذا في موضوع الملازمة فلا بدّ من تقدّمها على الطهر ، ضرورة تقدّم الشرط على مشروطه فكيف يقارنها الطهر في آن واحد ، لأنّ أقصى ما يقتضيه عنوان الشرطيّة ـ كما هو الحال في سائر المقدّمات ـ إنّما هو التقدّم بحسب الذات وهو حاصل في المقام ، ولا ينافيه المقارنة بحسب الزمان ، فلا [وجه] (٢) للاعتراض المذكور في شي‌ء من الاحتمالين.

إلّا أن يقال : بأنّ المقصود منه هو الاحتمال الأوّل ، لكن وجهها : أنّ الاتّصال بمعنى الدفعة بالمعنى المذكور ليست من الدفعة الّتي هي المقصودة في المقام اللازم اعتبارها ، لشموله ما لو دخل فيه الكرّ الواحد على سبيل التدريج والمفروض أنّه غير كاف على التحقيق ، فحينئذ كانت الاعتراض بنفسه متّجها غير أنّ صدر العبارة تأبى عن إرادة هذا المعنى ؛ وإنّما هو ظاهر في دعوى اعتبار الزيادة على الكرّ ، إلّا أن يقال أيضا : إنّ العبارة صدرا وذيلا تتضمّن دعوى اعتبار أمرين :

أحدهما : الزيادة على الكرّ ، وقد أشار إليه بصدر العبارة.

وثانيهما : الدفعة بالمعنى المبحوث عنه ، فأشار إليه بدعوى ورود النصّ والتصريح.

لكن يرد عليه في اعتبار الأمر الأوّل : أنّ مجرّد وصول الجزء إلى النجس لو كان

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٣٣.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

٥٦٣

مقتضيا للنقصان لما كانت الزيادة مجدية في رفع المحذور ، لأنّ ذلك الاقتضاء لا يستقيم إلّا مع سبق الجزء على الكلّ في الوصول إليه ، فلو فرض الإلقاء على نحو يستلزم سبق بعض الأجزاء على بعض في الوصول فهذا المعنى يتحقّق بالنسبة إلى ما يلحق الجزء الأوّل ، فإنّه أيضا سابق بالقياس إلى لاحقه وهكذا إلى أن ينتهي إلى النقصان بل إلى آخر الأجزاء ، فيلزم أن لا يطهّر أبدا ولو بإلقاء كرور على هذا الوجه ، وهذا كما ترى.

مع أنّ اعتبارهم الدفعة وتقييدهم إيّاها بالعرفيّة في معنى اعتبار عدم سبق بعض أجزاء الكرّ على بعض آخر في الملاقاة إذا اريد بالسبق وجودا وعدما ما يكون عرفيّا ، فإنّ عدم السبق العرفي متحقّق مع الدفعة العرفيّة جزما ، وإذا اريد به ما يكون عقليّا فلا يتحقّق الشرط أبدا فيلزم محذور عدم حصول الطهر أبدا.

وممّا يرشد إلى ما ذكرناه آنفا ـ من أنّ الاتّصال بالمعنى الّذي اكتفينا به بالنسبة إلى الغديرين أو الحوضين المتواصلين داخل في الدفعة المشترطة ما في منتهى العلّامة من تقييد العنوان بالدفعة (١) ، مع ما عرفت منه من التصريح بكفاية الاتّصال الموجود في الغديرين المتواصلين (٢) ، ولا ينبغي أن يكون مراده بالدفعة هنا مجرّد الاتّصال بين أجزاء الكرّ احترازا عمّا يلقى متفرّقة الأجزاء كما فهمه ثاني الشهيدين ـ فيما حكي عنه في شرح الدروس ـ (٣) لأنّ ذلك مناف لما سمعت عنه في دفع كلام الشيخ في المبسوط (٤) وما حكي عنه في التذكرة (٥) فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ لصاحب المعالم رحمه‌الله تفصيلا في المقام ، محكيّا عنه في كلام غير واحد من الأعلام ، قائلا في معالمه : « والتحقيق في ذلك أنّه لا يخلو إمّا أن يعتبر في عدم انفعال مقدار الكرّ استواء سطحه أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يشترط في التطهير حصول الامتزاج أو لا ، وعلى تقدير عدم الاشتراط إمّا أن يكون حصول النجاسة عن مجرّد الملاقاة أو مع التغيّر ، فهاهنا صور أربع :

الاولى : أن يعتبر في عدم انفعال الكرّ استواء السطح ، والمتّجه حينئذ اشتراط الدفعة في الإلقاء ، لأنّ وقوعه تدريجا يقتضي خروجه عن المساواة فينفعل الأجزاء الّتي

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٥٤.

(٣) مشارق الشموس : ١٩٣.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٦٥ ، المبسوط ١ : ٧.

(٥) التذكرة ١ : ٢٣.

٥٦٤

يصيبها الماء النجس ، وينقص الطاهر عن الكرّ فلا يصلح لإفادة الطهارة ، ولا فرق في ذلك بين المتغيّر وغيره لاشتراك الكلّ في التأثير في القليل ، والمفروض صيرورة الأجزاء بعدم المساواة في معنى القليل.

الثانية : أن يهمل اعتبار المساواة ولكن يشترط الامتزاج ، والوجه حينئذ عدم اعتبار الدفعة بل ما يحصل به ممازجة الطاهر بالنجس واستهلاكه ، حتّى لو فرض حصول ذلك قبل إلقاء تمام الكرّ لم يحتج إلى الباقي ، ولم يفرّق هنا أيضا بين المتغيّر وغيره ، لكن يعتبر في المتغيّر مع الممازجة زوال تغيّره ، فيجب أن يلقى عليه من مقدار الكرّ ما يحصل به الأمران.

ولو قدّر قوّة المتغيّر بحيث يلزم منه تغيّر شي‌ء من أجزاء الكرّ حال وقوعها عليه وجب مراعاة ما يؤمن معه ذلك الأمر بتكثّر الأجزاء أو بإلقاء الجميع دفعة.

الثالثة : أن لا يشترط الممازجة ولا يعتبر المساواة ويكون نجاسة الماء بمجرّد الملاقاة ، والمتّجه حينئذ الاكتفاء بمجرّد الاتّصال ، فإذا حصل بأقلّ مسمّاه كفى ولم يحتج إلى الزيادة منه.

الرابعة : الصورة بحالها ولكن كان النجاسة للتغيّر ، والمعتبر حينئذ اندفاع التغيّر كما في صورة اشتراط الامتزاج ، وحينئذ لو فرض تأثير المتغيّر في بعض الأجزاء يتعيّن الدفعة وما جرى مجراها كما ذكر ، وحيث قد تقدّم منّا الميل إلى اعتبار المساواة فاعتبار الدفعة متعيّن » (١) انتهى.

ولا يخفى ما في هذا التفصيل من الخروج عن السداد ، والعدول في جميع صوره عن جادّة الصواب.

أمّا الصورة الاولى : فيرد على ما حقّقه فيها أوّلا : منع ابتناء اعتبار الدفعة هنا على اشتراط مساواة السطوح في عدم انفعال الكرّ ، فإنّ القول باشتراط المساواة إنّما نشأ عن توهّم توقّف اعتصام الكرّ عن الانفعال على صدق عنوان الوحدة على ما يصدق عليه عنوان الكرّيّة ، ولا يتأتّى ذلك إلّا مع مساواة السطوح.

وكما أنّ اعتصام الكرّ عن الانفعال يتوقّف على صدق الوحدة عليه ـ على هذا

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٥٦٥

القول ـ فكذلك طهر الماء النجس بإلقاء الكرّ يتوقّف على صدق عنوان الوحدة على المجموع منه ومن الكرّ الملقى عليه ولا يتأتّى ذلك إلّا مع الدفعة ، إذ الوحدة الحاصلة مع التدريج حاصلة بينه وبين أبعاض الكرّ لا بينه وبين الكرّ ، ولازمه انفعال الأبعاض بمجرّد الملاقاة ، سواء قلنا باشتراط المساواة في الاعتصام عن الانفعال في غير الصورة المفروضة أو لم نقل ، فلا معنى لتفريع اشتراط الدفعة على أحد القولين دون الآخر.

ثمّ على القول باشتراط المساواة فالمقتضي لانفعال الأجزاء ليس هو صيرورتها من جهة عدم المساواة في معنى القليل ، بل خروجها بمجرّد الدخول في الماء المتنجّس عن جزئيّة الكرّ واتّحادها مع النجس ؛ بناء على الملازمة الثانية المتقدّمة.

وممّا ذكر جميعا انقدح ضعف ما ذكره في الصورة الثانية من اعتبار ما يحصل به الممازجة دون الدفعة ـ بناء على الإهمال في اعتبار المساواة ـ فإنّ ذلك غير كاف جزما ؛ هذا مضافا إلى بطلان ما ذكره من عدم الاحتياج إلى القاء تمام الكرّ لو فرض استهلاك الماء النجس بالطاهر قبل إلقاء التمام ، فإنّ الحكم معلّق على عنوان الكرّيّة مع تحقّق الوحدة بين الماءين كما عرفت ؛ وكيف يجتمع هذا العنوان قبل إلقاء التمام.

مع أنّ الاستهلاك لو اريد به مجرّد زوال الامتياز في نظر الحسّ فهو معتبر بالقياس إلى نفس الكرّ لا مجرّد ما حصل منه الممازجة بينه وبين النجس ، ولو اريد به مقهوريّة النجس في جنب الطاهر الممازج معه فهو كثيرا ما ـ بل دائما ـ يحصل بين ما لو كان الطاهر الملقى قريبا من الكرّ ، بل كثيرا غير بالغ حدّ الكرّيّة وكان النجس بالقياس إليه أقلّ قليل ، فبناء على عدم الحاجة إلى إلقاء تمام الكرّ على تقدير حصول الاستهلاك يلزم حصول الطهر في تلك الصورة أيضا ، لأنّ وجود ما لا يحتاج إلى إلقائه بمنزلة عدمه ؛ فأين اعتبار الكرّيّة المجمع على اعتبارها؟.

إلّا أن يقال : إنّ اعتبار التمام إنّما هو لحفظ المطهّر عن الانفعال ، لكنّه لا يجدي في دفع محذور عدم اعتبار الكرّيّة في مسألة التطهير.

وانقدح : بما ذكر أيضا عدم كون ما ذكره في حكم الصورة الثالثة على ما ينبغي ؛ فإنّ مسمّى الاتّصال غير كاف جزما حيث لم يرد فيه نصّ لفظي ؛ ولا أنّ الاتّصال مأخوذ عنوانا في الأدلّة اللفظيّة حتّى يكتفى بمسمّاه بناء على الإطلاق ، وإنّما الحكم مستفاد من الإجماع

٥٦٦

معلّق على وصفي الكرّيّة والوحدة ـ حسبما قرّرناه ـ فلا بدّ حينئذ من الاتّصال بقدر ما يجمع معه الوصفان ؛ على معنى أن يصدق الوحدة عرفا على الماء النجس مع الكرّ الملقى عليه وغيره ، ولو مع القول بعدم اشتراط الممازجة ولا المساواة في عدم انفعال الكرّ.

ومنه يظهر الضعف في حكم الصورة الرابعة ، فإنّ مجرّد الزوال غير كاف في الطهر لو فرض حصوله بما دون الكرّ أو ببعضه ، لما تبيّن سابقا من أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت لا لزوال التغيّر ، واعتبار زوال التغيّر المصرّح به في كلامهم ليس من جهة أنّه بنفسه مقتض للطهر كما قيل به في الكرّ أو الجاري المتغيّر ؛ بل من جهة أنّ وجوده وبقاءه مانع عن حصول الطهر بالكرّ ؛ وإذ قد عرفت أنّ الكرّ بشرط اتّحاده مع النجس مناط للحكم فلا بدّ من اعتبار الدفعة أو الاتّصال الرافعين للتمييز بين الماءين ، سواء زال التغيّر بدون ذلك أو لا ، وسواء أهملنا اعتبار الممازجة والمساواة أو لا.

فصار محصّل المقام : أنّ الدفعة بالمعنى الشامل للاتّصال الرافع للتمييز ممّا لا محيص عنه في كلّ التقادير ؛ ومن هنا وردت الفتاوى في اعتبار الدفعة مطلقة ، ولا يقدح في اعتبارها من جهة الإجماع على الملازمة الثالثة عدم ورود اعتبارها في كلام بعضهم ، أو تصريحه بعدم الاعتبار ، لأنّ ذلك مخالفة ـ على فرض تحقّقها واستقرارها ـ ترجع إلى أمر صغروي وهو أنّ الوحدة ربّما تحصل بدون الدفعة ، فإنّا أيضا نوافق على هذه الدعوى على تقدير صدق الفرض وصحّته ؛ ضرورة أنّ الدفعة إنّما نعتبرها توصّلا إلى إحراز الوحدة لا تعبّدا.

وثانيها : النظر في اعتبار الامتزاج وعدمه ، فإنّه أيضا ممّا اختلفت فيه كلمة الأصحاب ، وقد عرفت عن العلّامة في المنتهى (١) التصريح بكفاية الاتّصال في مسألة الغديرين عند دفع كلام المحقّق ، وعزى إليه أيضا في التحرير (٢) والنهاية (٣) ، وهو محكيّ عن المحقّق والشهيد الثانيين (٤) ، وهو ظاهر المحقّق في الشرائع (٥) حيث أطلق إلقاء

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٢.

(٤) والحاكي هو صاحب فقه المعالم ١ : ١٤٩ ـ جامع المقاصد ١ : ١٣٣ ـ الروضة البهيّة ١ : ٢٥٨.

(٥) لشرائع الإسلام ١ : ٧.

٥٦٧

الكرّ دفعة خلافا لجماعة ، قيل : ونسب إلى الأشهر.

وعن بعضهم : أنّ القول بالامتزاج لم يعرف ممّن قبل المحقّق في المعتبر (١) ، وربّما عزى إلى الشيخ في الخلاف مستشهدا بأنّه في الاستدلال على طهر الكثير المتغيّر ـ بأن يرد عليه من الكثير ما يزيل تغيّره ـ قال : « إنّ البالغ الوارد لو وقع فيه عين النجاسة لم ينجّس ؛ والماء المتنجّس ليس بأكثر من عين النجاسة » (٢) ، ثمّ ذكر في القليل النجس : « أنّه لا يطهّر إلّا بورود كرّ عليه لما ذكرنا من الدليل » (٣) انتهى.

قيل في وجه الاستشهاد بذلك : ولا ريب أنّ تمسّكه بأولويّة المتنجّس بالطهارة من عين النجاسة لا يصحّ إلّا مع امتزاجه بالكرّ واستهلاكه ؛ إذ مع الامتياز لا يطهر عين النجاسة حتّى يقاس عليه المتنجّس.

ولا يخفى ما فيه من الاشتباه الواضح ، فإنّ الأولويّة المشار إليها هنا مدّعاة في عدم انفعال الكثير الملقى على المتنجّس لتطهيره ، لا في طهر المتنجّس وزوال نجاسته ، وأحدهما ليس بعين الآخر.

وتوضيح ذلك ـ بناء على ما تقدّم إليه الإشارة من الملازمة المجمع عليها ـ أنّ الكثير إذا القي على المتنجّس فلا محالة إمّا أن يتأثّر هو من المتنجّس فينجس ، أو يتأثّر المتنجّس منه فيطهر ، والأوّل ممّا لا سبيل إليه ، لأنّ الكثير من حكمه أن لا ينجس بمجرّد ملاقاة عين النجاسة فكيف بالمتنجّس وهو أهون من العين ، فإنّه أولى بعدم التأثير لعرضيّة نجاسته ، فتعيّن الثاني لبطلان الواسطة بالإجماع على الملازمة ، وهذا المعنى على ما هو صريح العبارة ممّا لا ربط له بما ذكر ولا فيه إشعار باعتبار الممازجة.

وقد يستظهر القول بالامتزاج من كلّ من ذكر في الجاري المتغيّر أنّه يطهّر بتدافع الماء من المادّة وتكاثره حتّى يزول التغيّر ، كما في المقنعة (٤) والمبسوط (٥) والسرائر (٦) والوسيلة ؛ (٧) فإنّ اعتبار زوال التغيّر بالتدافع والتكاثر لا يكون إلّا لاعتبار الامتزاج ، إذ لو

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة عن شارح الروضة ١ : ١٣٨ ـ لاحظ المناهج السويّة (مخطوط) : ٣٠ ـ المعتبر : ١١.

(٢ و ٣) الخلاف ١ : ١٩٣ المسألة ١٤٨ و ١٤٩.

(٤) المقنعة : ٦٦.

(٥) المبسوط ١ : ٦.

(٦) السرائر ١ : ٦٢.

(٧) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤).

٥٦٨

كفى الاتّصال كان الطهر بمجرّد زوال التغيّر كما في اللمعة (١) والجعفريّة (٢).

وهذا أيضا بمكان من الوهن ، فإنّ إفراد الجاري المتغيّر بهذا التعبير وجعل اعتبار الوصفين مغيّا بغاية زوال التغيّر ـ على فرض استلزامهما الامتزاج ـ يأبى عن كون ذلك لتوقّف الطهر عليه ، مع ملاحظة أنّ توقّف زوال التغيّر في الغالب عليهما أمر حسّي لا يقبل الإنكار.

وظنّي أنّ هذا التعبير في الجاري المتغيّر نظير تعبيرهم في القليل المتغيّر بأنّه يطهّر بإلقاء كرّ عليه فما زاد كما في الشرائع (٣) وغيره ؛ مع إجماعهم على أنّ الزيادة على الكرّيّة لا تعتبر إلّا حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر.

وقال في المنتهى : « والواقف إنّما يطهّر بإلقاء كرّ عليه دفعة من المطلق بحيث يزول تغيّره ، وإن لم يزل فبإلقاء كرّ آخر عليه وهكذا » (٤) وقال أيضا بعد ذلك بقليل : « الماء القليل وإن لم يتغيّر بالنجاسة فطريق تطهيره بإلقاء كرّ عليه أيضا دفعة ، فإن زال تغيّره فقد طهر إجماعا ، وإن لم يزل وجب إلقاء كرّ آخر وهكذا إلى أن يزول التغيّر » (٥).

فاعتبار التدافع والتكاثر في كلامهم ليس إلّا من حيث توقّف زوال التغيّر عليهما ، ولذا أنّ العلّامة في المنتهى صدر منه العبارة المذكورة بعينها مع أنّ ظاهره فيه بل صريحه في بعض مواضع منه كفاية مجرّد الاتّصال وعدم اعتبار الامتزاج ، فما عن جامع المقاصد (٦) أيضا من جعله التعبير بتلك العبارة مبنيّا على اعتبار الامتزاج ، ليس على ما ينبغي.

فالإنصاف : أنّ هذا القول صريحا لم يثبت إلّا من المحقّق والعلّامة والشهيد في المعتبر والتذكرة والذكرى ، فعن المعتبر في مسألة الغديرين المتواصلين ما تقدّم من قوله : « لو نقص الغدير عن كرّ فوصل بغدير آخر فيه كرّ ففي طهارته تردّد ؛ والأشبه بقاؤه على النجاسة لأنّه ممتاز عن الطاهر ، والنجس لو غلب الطاهر ينجّسه مع ممازجته فكيف مع مباينته » (٧).

وربّما يستظهر ذلك من كلامه الآخر فيه ، قائلا ـ في الاستدلال على طهارة القليل النجس بورود كرّ من الماء عليه ـ : « بأنّ الوارد لا يقبل النجاسة والنجس مستهلك » (٨) فإنّه كالصريح في اعتبار الامتزاج.

__________________

(١) اللمعة الدمشقيّة : ١٥.

(٢) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ٧. (٤ و ٥) منتهى المطلب ١ : ٦٤ و ٦٥.

(٦) جامع المقاصد ١ : ١٣٥.

(٧ و ٨) المعتبر : ١١.

٥٦٩

وضعفه واضح بعد ملاحظة ما ذكرناه في المسألة المتقدّمة من ظهور كون الاستهلاك بالنسبة إلى النجس مرادا به فوات التمييز بينه وبين الكرّ ، وهذا كما ترى يحصل بغير الامتزاج أيضا ، كيف لا مع أنّ الاستهلاك بالمعنى الّذي يحصل من المداخلة والامتزاج في كثير من صور المسألة متساوي إلى الطاهر والنجس ، كما لو كان النجس أقلّ من الكرّ الطاهر بيسير ، فالقول بتحقّق الاستهلاك في مثل ذلك بالنسبة إلى النجس ليس بأولى من القول بتحقّقه بالنسبة إلى الكرّ الطاهر ؛ فلو لا أنّ المناط حينئذ انتفاء التمايز بينهما الموجب لجريان الملازمة المجمع عليها ـ المتقدّم إليها الإشارة ـ لاتّجه الحكم بنجاسة الطاهر لمكان الاستهلاك الموجب للنجاسة عندهم ، فتأمّل.

وقال العلّامة في التذكرة ـ على ما حكي عنه ـ : « لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا إن اعتدل الماء ، وإلّا ففي حقّ السافل ، فلو نقص الأعلى عن الكرّ انفعل بالملاقاة ؛ فلو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتّصال ، وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة. لأنّ النجس لو غلب على الطاهر نجّسه مع الممازجة فمع التمييز يبقى على النجاسة » (١).

وعن الذكرى : « ويطهّر القليل بمطهّر الكثير ممازجا ، فلو وصل بكرّ مماسّة لم يطهّر ، للتمييز المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه (٢) الخ ».

وربّما يستظهر ذلك عن كلامه الآخر قائلا ـ عقيب ما ذكر ـ : « لو نبع الكثير من تحته ـ كالفوّارة ـ فامتزج طهّره ، لصيرورتهما ماء واحدا ، أمّا لو كان رشحا لم يطهّر لعدم الكثرة الفعليّة » (٣) نظرا إلى أنّ مراده من الكثرة الفعليّة ما يحصل به الامتزاج لا بلوغ الكرّ ، إذ لا يعتبر عنده الكرّيّة في النابع ، ولو فرض النابع في كلامه بئرا أو كونه قائلا بانفعال مطلق النابع القليل كان اللازم تعليل الحكم بنجاسة النابع بالملاقاة كما في المعتبر (٤) والمنتهى (٥).

وأنت خبير أيضا بما فيه من الخروج عن استقامة السليقة ، فإنّه فرض النبع في الكثير إذا تحقّق من تحت النجس كالفوّارة ، فليس مراده به النابع المصطلح عليه في الجاري حتّى يقال : بأنّه لا يقول بانفعال قليله ، ومن المعلوم أنّ مطهّر القليل اتّحاده مع

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢٣.

(٢ و ٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٤) المعتبر : ١١.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٦٥.

٥٧٠

الكرّ الفعلي ، بأن يتّحد مع نفس الكرّ دون ما يرشّح منه شيئا فشيئا ، فمراده بعدم الكثرة الفعليّة ـ كما تقدّم الإشارة إليه أيضا ـ الكرّيّة الفعليّة فيما يحصل الاتّحاد بينه وبين المتنجّس الّتي هي مناط التطهير.

وكيف كان فالعبارات المذكورة من هؤلاء الأساطين صريحة في اعتبار الممازجة ، غير أنّه لا يتحقّق بمجرّد ذلك إجماع ولا شهرة في الاعتبار ، فلا ندري أنّ دعوى الشهرة أو الأشهريّة من أين حصلت؟ مع أنّها معارضة بعباراتهم الاخر الّتي هي بين صريحة وظاهرة في عدم الاعتبار كما عرفته عن العلّامة في كتبه المتقدّم إليها الإشارة ؛ (١) وعن ظاهر الشرائع وهو المحكيّ عن اللمعة ، فيحتمل حينئذ رجوعهم عمّا بنوا عليه الأمر أوّلا من اعتبار الممازجة ، مع أنّ التعليلات الواردة في عباراتهم المتقدّمة تقضي بأنّه ليس بشرط تعبّدي ، وإنّما هو معتبر لإحراز الوحدة بين الماءين ورفع التمييز الّذي يوجب لأن يلحق كلّ واحد حكمه السابق.

وإذا كان مناط الحكم هو هذا ، فنحن نقول : إنّه قد يتأتّى مع عدم الممازجة أيضا ، فقضيّة ذلك إناطة الحكم بالوحدة الرافعة للتمييز ، وجعل الممازجة وغيرها كالدفعة ـ على ما بنينا عليه ـ مقدّمة لها ، فيقال باعتبار كلّ في موضع التوقّف عليه لا مطلقا.

وقد ينقل في المقام قول ثالث ، وهو التفصيل بين الجاري وماء الحمّام وبين غيرهما ، فيشترط الامتزاج في الأوّلين ، ونسب إلى ظاهر المنتهى والنهاية والتحرير والموجز وشرحه (٢) من حيث إنّهم حكموا بالطهارة بتواصل الغديرين (٣) ، وعبّروا في الجاري بأنّه يطهّر بالتدافع والتكاثر (٤) ، واعتبروا في طهارة ماء الحمّام استيلاء الماء من المادّة عليه إمّا مطلقا ـ كما في كتب العلّامة ـ أو مع عدم تساوي سطح الطاهر والنجس كما في الأخيرين (٥).

وبما ذكرناه في توجيه ما ذكروه في الجاري يظهر ضعف هذا الاستظهار بالنسبة إلى الجاري من العبارة المذكورة ؛ وأمّا بالنسبة إلى ماء الحمّام فقد قيل في ردّه : « بظهور

__________________

(١) تقدّم تخريج كلمات هؤلاء الأعلام آنفا ، فلا نعيد.

(٢) نسب إليهم المحقّق الشيخ أسد الله الكاظمي في مقابس الأنوار : ٨٢.

(٣ ـ ٥) منتهى المطلب ١ : ٥٣ ، نهاية الإحكام ١ : ٢٥٩. تحرير الأحكام ١ : ٤ ، الموجز الحاوي (الرسائل العشر : ٣٦) ، كشف الالتباس ١ : ٤٨ و ٤٢ و ٤٣.

٥٧١

عدم قائل بكون ماء الحمّام أغلظ حكما من غيره » ، هذا مع ما عن الموجز وشرحه (١) من أنّ صريحهما عدم الفرق بين ماء الحمّام وغيره من الحياض الصغار.

وقد يحكى (٢) هذا الفصل بعكس ما ذكر من أنّ الامتزاج يختصّ بغير الجاري وماء الحمّام تعويلا على صحيحة ابن بزيع ـ المتقدّمة ـ (٣) المعلّلة بوجود المادّة ، ومرسلة الكاهلي المتقدّمة : « كلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر » (٤) ، وقوله عليه‌السلام « ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٥) ، ومستنده على فرض ثبوته ضعيف كما ستعرفه.

وأمّا القول بالاعتبار مطلقا فلا مستند له إلّا وجهان :

أحدهما : ما يستفاد من بعض تعليلاتهم ـ كما عرفت ـ من توقّف صدق عنوان الوحدة وزوال امتياز الماءين على الممازجة.

وجوابه : ما سمعت مرارا من منع التوقّف.

لكن ربّما يشكل ذلك لو كان الحكم المجمع عليه منوطا بزوال الامتياز ، بدعوى : أنّ المانع عن الطهر هو الامتياز كما سمعته في عبارتي المعتبر (٦) والذكرى (٧) لإمكان الفرق بين الوحدة وعدم الامتياز بنحو ما يفرّق به بين العامّ والخاصّ المطلقين ، لإمكان فرض الوحدة مفارقة عن عدم الامتياز كما في وصل الغديرين أحدهما إلى الآخر على وجه يفرض بينهما في الذهن ـ بل الخارج أيضا ـ حدّ فاصل ، كما لو علّم موضع تلاقيهما من خارج حيّزيهما ، فالمجموع بملاحظة ما حصل بينهما من الاتّصال الحسّي ماء واحد ، وكلّ واحد بملاحظة الحدّ الفاصل أو الموضع المعلّم ماء ممتاز عن صاحبه ، وحينئذ فلم يثبت كون معقد الإجماع هو الوحدة فقط ، ومع مانعيّة الامتياز لا محيص عن اعتبار الامتزاج إحرازا لرفع المانع.

__________________

(١) الموجز الحاوي (الرسائل العشر : ٣٦) ـ كشف الالتباس ١ : ٤٣.

(٢) حكاه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ١٥٠ عن بعض معاصريه ، ولعلّه صاحب الجواهر ، راجع جواهر الكلام ١ : ١٤٩ ، قوله : « هذا كلّه في إلقاء الكرّ ... » الخ.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٦ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٦) المعتبر : ١١.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

٥٧٢

ويدفعه : أنّ ظاهرهم كون اعتبار الامتياز وجودا وعدما ، والتعليل به في صورة الحكم بعدم الطهر وارد في كلامهم أيضا لتوهّم كونه مساوقا لعدم الوحدة ، وكون زواله مساوقا للوحدة وإلّا فالحكم منوط بالوحدة ، ألا ترى أنّ الشهيد في أوّل كلامه في العبارة المتقدّمة منه في الذكرى علّل الحكم بعدم الطهر لمجرّد الوصل بالتمييز ، المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه ؛ ثمّ قال : « ولو نبع الكثير من تحته ـ كالفوّارة ـ فامتزج طهّره لصيرورتهما ماء واحدا » (١) وهذا كالصريح في أنّ اعتبار الامتزاج وإن كان لإحراز عدم التمييز بين الماءين غير أنّ عدم التمييز مساوق للوحدة الّتي هي مناط الحكم ، وإلّا لزم كون تعليله بصيرورتهما ماء واحدا تعليلا للحكم المعلّق على الخاصّ بالعامّ كما لا يخفى وهو قبيح.

وقد عرفت في المسألة السابقة عن المحقّق أنّ تعليله بقوله : « لأنّه ممتاز عن الطاهر » (٢) إنّما هو في موضع حكم فيه على الماء بكونه كالماء الواحد ، المقتضي بظاهر التشبيه انتفاء الوحدة الحقيقيّة ؛ فغرضه من اعتبار الممازجة الّتي لا تتأتّى مع الامتياز إنّما هو إحراز كون الماءين ماء واحدا بعنوان الحقيقة ، لعدم كفاية مجرّد كونهما كالماء الواحد هنا كما كان كافيا في حكم عدم الانفعال المنوط بصدق عنوان الكرّيّة دون صدق عنوان الوحدة الحقيقيّة ، كما تقدّم شرحه مفصّلا.

نعم في عبارة العلّامة ـ المتقدّمة عن التذكرة ـ (٣) ما ربّما يوهم كون الحكم بعدم الطهارة مع عدم الممازجة واردا فيما يعمّ صورتي صدق الوحدة وعدمه ؛ بناء على أنّ قوله : « فلو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتّصال ؛ وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة » ابتداء كلام في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية شامل لكلتا صورتي اعتدال الماء ومساواة سطحه ، المقتضي لاتّحاد الماءين ، وعدمهما المقتضي لعدم الاتّحاد وارد على خلاف حكم التقوّي والاعتصام عن الانفعال الّذي فصّل فيه بين صورتي الاعتدال المقتضي لكون كلّ من الغديرين متقوّيا بالآخر فلا يطرأهما الانفعال. وعدمه المقتضي لاختصاص التقوّي بالأسفل دون الأعلى الّذي يلزم منه انفعال الأعلى بملاقاته النجاسة لو نقص عن الكرّ ، فإطلاق الحكم ببقاء النجس على حاله عند عدم الممازجة من غير تفصيل الشامل للصورتين معا ممّا ينفي كون العبرة في مسألة التطهير

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٢) المعتبر : ١١.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.

٥٧٣

بمجرّد الوحدة ، ويقضي بإناطة الحكم بالممازجة الّتي هي أخصّ من الوحدة.

ولكن يدفعه أيضا : ظهور كون قوله هذا ، كقوله المتقدّم عليه : « فلو نقص الأعلى عن الكرّ انفعل بالملاقاة » (١) من فروع صورة عدم اعتدال الماء واختلاف سطوحه فيكون كلّ من الحكمين في نظره مستندا إلى عدم الاتّحاد الّذي لا يتأتّى في تلك الصورة بمجرّد الاتّصال.

وبالجملة : نحن لا نفهم من كلماتهم إلّا إناطة الحكم بالوحدة الّتي قد تتأتّى بدون الممازجة ، وإن كان بعض عباراتهم يقضي بتوهّم توقّفها عليها فيعود النزاع صغرويّا ، لكن فيه بعد شي‌ء يتبيّن وجهه عن قريب.

وثانيهما : ما هو العمدة المعوّل عليه في كلام غير واحد ـ خصوصا فحول مشايخنا المعاصرين ـ من أصالة النجاسة وعدم الدليل على الطهارة إلّا بالممازجة ، لضعف ما تمسّكوا به على الطهارة بدونها ، وهذا كما ترى تتضمّن ثلاث مقدّمات.

إحداها : أنّ أصالة النجاسة تقتضي ثبوتها إلى أن يثبت ما يرفعها.

وثانيتها : أنّ الدليل قائم على الطهارة مع الممازجة.

وثالثتها : أنّ أدلّة القول بالطهارة مع عدم الممازجة ضعيفة ، وهذه المقدّمة مسلّمة في الجملة لا شبهة فيها لما ستعرفه.

أمّا المقدّمة الاولى فستعرف أيضا حالها من صحّة أو سقم.

وأمّا المقدّمة الثانية فيستند عليها بوجوه :

منها : الإجماع على أنّ الكرّ الممتزج بالنجس مطهّر له كما ادّعي ؛ وهو كما ترى لا يقضي بأزيد من حصول الطهر به ، وإلّا فالمجمع عليه المتوقّف عليه الطهر حقيقة هو الكرّ المتّحد مع المتنجّس ، فيكون فرض الامتزاج معه مع عدم مدخليّته في الحكم كالحجر الموضوع في جنب الإنسان ، إلّا على توهّم توقّف الاتّحاد عليه لكن لا مطلقا بل بالمعنى الّذي سنقرّره.

ومنها : أنّ الكرّ إذا فرض عدم قبوله الانفعال بالملاقاة وامتزج مع المتنجّس فإن طهّره فهو المطلوب وإلّا فإن تنجّس به لزم خلاف الفرض ؛ وإن اختصّ بالطهارة لزم

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢٣.

٥٧٤

تعدّد حكم الماءين الممتزج أحدهما بالآخر ، بل يلزم عدم جواز استعمال الكرّ فيما يشترط فيه الطهارة ، لاشتمال كلّ جزء منه على جزء من المتنجّس وهذا في الحقيقة في معنى انفعاله ، إذ لا يجوز شربه ولا التوضّؤ منه ولا تطهير الثوب به ، وقد تبيّن في صدر المسألة ضعف ذلك بجميع فقراته ، إلّا إذا استند في دعوى عدم جواز تعدّد حكم الماءين الممتزج أحدهما بالآخر إلى الإجماع ، ليرجع إلى ما تقدّم من الملازمة الثالثة ، لكن يبقى المناقشة في كون الامتزاج مأخوذا في موضوع تلك الملازمة على جهة الاستقلال.

ومنها : فحوى ما دلّ على طهارة نجس العين بالاستهلاك ، كرواية العلاء بن الفضيل ـ المتقدّمة في باب الكرّ ـ عن الحياض يبال فيها ، قال : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (١) فإنّ وقوع النجاسة العينيّة يستلزم تغيّر ما اكتنفتها من أجزاء الماء فينجّس ، وقد حكم الشارع بنفي البأس عن ذلك وليس إلّا لامتزاجه بباقي أجزاء الكرّ ، فدلّ على حصول الطهارة بالامتزاج.

وفيه : منع دلالة الرواية على تحقّق الممازجة والاستهلاك ، ولو سلّم فكونهما مؤثّرين في الحكم في موضع المنع ؛ ولو سلّم فلعلّه حكم مختصّ بعين النجاسة حيث إنّها لا تنتقل إلى الطهارة إلّا بانقلاب الماهيّة وتبدّل العنوان الغير المعقولين في المقام. الغير الحاصلين في غير صورة الاستهلاك الّذي هو فوق الامتزاج.

ولو سلّم الدلالة على الامتزاج بالمعنى المتنازع فيه على جهة الاعتبار ، فلعلّه لكونه مقدّمة لزوال التغيّر عن الأجزاء المكتنفة من الماء بالنجس المغيّر لها حسبما فرضه المستدلّ ؛ والحاصل كون اعتباره على فرض الدلالة عليه لأجل مدخليّته في الطهر دون زوال التغيّر المقتضي للنجاسة موضع منع.

ومنها : أنّه حيث يكون طاهرا ووصل دخل تحت قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ » بخلاف ما إذا كان نجسا لاشتراط كون ذلك الماء طاهرا وإلّا لم يكن وجه لقوله : « لم ينجّسه شي‌ء ».

نعم على رواية « لم يحمل خبثا » ربّما يكون داخلا لكن لا نقول بمقتضاها ، كما سيظهر في مسألة إتمام القليل المتنجّس كرّا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

٥٧٥

وهذا بظاهره كما ترى لا ينتج شيئا إلّا أن يوجّه : بأنّ الماء النجس إذا وصل بكرّ لا يمكن إثبات طهره بمجرّد ذلك الوصل تعويلا على الرواية ، لتوقّف صدق قضيّة « لم ينجّسه شي‌ء » على كون الطهارة محرزة قبل الوصل والملاقاة ، فلا يمكن إحرازها بعد الملاقاة بتلك القضيّة ، فلا بدّ من اعتبار أمر زائد على الكرّيّة ليفيد طهارته وليس ذلك إلّا الامتزاج.

وفيه : أنّ مستند القول بالطهارة بمجرّد الوصل ليس هو الرواية ليصحّ دفعه بما ذكر ، ثمّ أنّه أيّ دليل على تأثير الامتزاج بما هو امتزاج في الطهارة ليفيد اعتباره زائدا على وصف الكرّيّة؟

فإن قلت : الإجماع قائم بأنّ الماء المتنجّس الممتزج بالكرّ ينتقل حكمه إلى الطهارة.

قلت : قصارى ما يقتضيه الإجماع المذكور أنّ الامتزاج لا ينافي الطهارة ، وهو ليس من دعوى كونه مؤثّرا في شي‌ء.

فإن قلت : إنّما يشهد بكونه مؤثّرا وقوع اعتباره في كلام جماعة من المجمعين.

قلت : مع أنّه معارض بعدم وقوعه في كلام الآخرين ، بل التصريح بعدم التأثير في كلام غير واحد منهم ، قد عرفت الوجه في اعتباره وأنّه ليس اعتبارا للامتزاج بعنوان أنّه امتزاج بل بعنوان أنّه محصّل للوحدة.

ومنها : أنّ المعروف من الماء المطهّر ـ حيث يطهّر ـ أنّ المطهّر يتخلّل في أجزائه ويجري عليه حيث يكون جسما قابلا لذلك ، وإلّا فلا معنى للقول بطهارة الطرف البعيد المتناهي في البعد بمجرّد ملاقاته لأوّل أجزاء الطرف الآخر ، والقول بأنّ الأجزاء الملاقية طهرت بالملاقاة وهي طهّرت غيرها للملاقاة والامتزاج ، وهكذا خيال حكمي لا يصلح لأن يكون مستندا للحكم الشرعي من غير دليل ، على أنّه مبنيّ على السراية وهي مخالفة للأصل من وجه.

وفيه : أنّ الجزء الأوّل من الدليل لا يرجع إلى محصّل إلّا القياس الباطل ، إذ المداخلة والتخلّل والجريان قد ثبت اعتبارها في التطهير بالقياس إلى غير موضع النزاع كالثوب ونحوه ؛ ولو اريد به الإلحاق بمورد الغالب فهو ظنّي لا يعبأ به ، والجزء الثاني منه استبعاد صرف لا يصلح مستندا في المقام بعد ما قام من الشرع ما يقضي به ، والمتّبع هو الإجماع القائم في المقام وقد تبيّن مفاده ومعقده.

٥٧٦

وأمّا القول بعدم الاعتبار مطلقا ، فمستنده وجوه :

منها : الأصل الّذي حكي التمسّك به عن بعض الأفاضل ، والظاهر أنّ المراد به أصالة عدم الشرطيّة.

واجيب عنه : بأنّ الأصل يقتضي النجاسة ، وكأنّ المراد به استصحاب النجاسة.

ووجهه : أنّ تطهير الماء بعد تيقّن النجاسة حكم ورد من الشارع على خلاف الأصل ، ومن البيّن أنّ كلّ حكم مخالف للأصل يجب الاقتصار فيه على القدر اليقيني الرافع منه لموضوع الأصل ، وقضيّة ذلك القول بمدخليّة كلّ ما يشكّ في مدخليّته معه ، ومنه الامتزاج في خصوص المقام تحصيلا للرافع اليقيني للنجاسة.

ولكن يشكل ذلك أوّلا : بأنّ التمسّك باستصحاب النجاسة هنا إنّما يستقيم لو كان النزاع في أمر تعبّدي وقد عرفت منعه بما لا مزيد عليه ، لرجوع الكلام إلى تحقّق موضوع الطهارة وهو الوحدة بدون الممازجة وعدمه ، ونحن في علم بتحقّقها بدونها ومعه لا يعقل الاستصحاب.

ويمكن دفعه : بأنّ هذا إنّما يتّجه إذا اريد بالوحدة في موضوع الطهارة ما يكون كذلك في نظر الحسّ ، ولم لا يجوز أن يراد به ما هو كذلك في نظر العرف؟

وبعبارة اخرى : ما يصدق عليه الماء الواحد حال الاتّصال عند العالم بالحال والجاهل بها ، ومجرّد الاتّصال غير كاف في ذلك ، لأنّ أقصى ما فيه صدق الوحدة عند الجاهل ؛ وأمّا العالم فلعلمه بسبق الانفصال وطروّ الاتّصال لا يحسبه من الماء الواحد إلّا بعد المداخلة وتحقّق الممازجة وهو المراد بالوحدة العرفيّة ، لأنّها عبارة عمّا لا يختلف العرف في وصفه بالوحدة ، وإليه يشير تعليلاتهم المتقدّمة بالامتياز ، فالوحدة بهذا المعنى إن لم يتيقّن دخولها في معقد الإجماع فلا أقلّ من احتمال دخولها فيه ، فيكون المقام من مورد الاستصحاب.

وثانيا : أنّ التمسّك بالاصول إنّما يصحّ إذا لم يكن في المقام أصل موضوعي رافع لموضوعها ؛ ولا ريب أنّ الشبهة راجعة إلى موضوع حكم المطهّريّة الّتي أثبتها الشارع ، والاستصحاب لا يتعرّض لذلك الموضوع نفيا وإثباتا وإلّا كان أصلا مثبتا ؛ وقد دلّ الإجماع على قيام المطهّريّة بالكرّ الملقى المتّصل مع الماء المتنجّس ، وحصل الشكّ في مدخليّة

٥٧٧

الممازجة في ذلك الموضوع وعدمها ، وأصالة عدم الشرطيّة تتعرّض له وتوجب عدم المدخليّة ، فإذا ثبت به المطهّر الرافع للنجاسة ثبوتا شرعيّا وصادف الماء المتنجّس فقد أوجب ارتفاع الشكّ في الطهارة ارتفاعا شرعيّا ومعه لا وجه للاستصحاب أيضا.

وتوضيح المقام : أنّ الأصل المقتضي للنجاسة ممّا لا معنى له إلّا استصحاب النجاسة المستند إلى عموم قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين إلّا بيقين مثله » (١) المقتضي لوجوب إجراء حكم النجاسة هنا إلى أن تتحقّق رافع يقيني ، وهذا الأصل ممّا لا إشكال في كبراه ؛ ولكنّ الكلام في صغراه حيث إنّ أصالة عدم الشرطيّة ـ فيما لا يبيّنه إلّا الشرع ولم يبيّنه في مفروض المقام بعد ما بيّن أصل الرافع في الجملة ، وهو الكرّ الملقى دفعة محصّلة للوحدة بينه وبين ما يلقى عليه ـ أصل يقيني أو ظنّي بالظنّ الخاصّ القائم مقام اليقين ، ناف لاحتمال شرطيّة الامتزاج مقتض لكون ما ذكر هو الرافع اليقيني ، أو القائم مقام الرافع اليقيني المأخوذ غاية لحكم الاستصحاب المقتضي للنجاسة ، وقضيّة ذلك كون المقام مندرجا تحت تلك الغاية ـ نظير ما لو ورد نصّ خاصّ بعدم شرطيّة الامتزاج قطعي أو ظنّي معتبر ـ ، لا أنّه مندرج في المغيّى ومعه لا معنى للاستصحاب بعد فرض كونه مغيّا بغاية حاصلة [حتّى] (٢)

وبالجملة : أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا مدفع له إلّا منع صغراه ، بأن يقال : أصل معلّق على عدم وصول البيان واستصحاب النجاسة ـ حسبما فرضه الخصم ـ كاف في وصوله هنا ، أو منع كبراه بأن يقال : إنّ هذا الأصل ممّا لا مدرك له بالنسبة إلى القضايا الوضعيّة الّتي منها المقام ، إذ غاية ما قام عليه الدليل من الشرع قطعا أو ظنّا خاصّا إنّما هو أصل البراءة الغير الجارية إلّا في القضايا التكليفيّة ، نظرا إلى أنّ الأدلّة المقامة عليها منها ما هو مقيّد بالعلم الّذي هو موضوع للتكليف ، دون الموضوع الّذي هو أمر واقعي لا يدخل فيه العلم شطرا ولا شرطا إلّا في موضوع قام على جزئيّته الدليل ، كما في النجاسة فيما يحكم عليه بالنجاسة بناء على ما تقدّم تحقيقه من أنّ أحكام النجاسة مرتّبة في نظر الشارع على العلم بها الّذي يقوم مقامه الاستصحاب.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ ب ١ من أبواب نواقض الوضوء ح ١ ـ وفيه : « لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ وانّما تنقضه بيقين آخر ».

(٢) كذا في الأصل.

٥٧٨

ومنها ما هو ناف للمؤاخذة والعقاب عند عدم البيان اللذين لا يعقلان إلّا في التكاليف.

ومنها ما هو ناف للحكم حتّى يرد فيه أمر أو نهي ، فلا يجري أيضا إلّا في التكاليف.

والأوّل : ممّا لا سبيل إليه جزما ، لأنّ الاستصحاب لا يقتضي إلّا ترتّب أحكام النجاسة على المورد وإلّا كان أصلا مثبتا ، فهو إنّما يرفع صغرى الأصل المقتضي للطهارة ، وهو أنّ شرطيّة الامتزاج في التطهير ممّا لم يبيّنه الشارع إذا اقتضى شرطيّة الامتزاج ؛ والمفروض أنّه غير صالح له فيبقى الصغرى المذكورة صادقة ؛ وإذا انضمّ إليها الكبرى المذكورة كان مفاديهما نفي الشرطيّة فيرتفع به صغرى الاستصحاب ، هذا مع أنّ جعل الاستصحاب رافعا لصغرى أصالة عدم الشرطيّة يؤدّي إلى الدور المستحيل ، لأنّ جريان الاستصحاب هنا موقوف على ثبوت صغراه وهو تيقّن النجاسة مع عدم تيقّن ما يرفعها ، وهو موقوف على عدم جريان كبرى أصالة عدم الشرطيّة (١) ، وهو موقوف على انتفاء صغراها ، إذ المفروض في منع الصغرى كون الكبرى مسلّمة وإلّا رجع الكلام إلى المنع الثاني وهو خلاف الفرض ، فلو توقّف انتفاء هذه الصغرى على جريان الاستصحاب لزم توقّف جريان الاستصحاب على نفسه.

ولا يرد نظير ذلك في صورة العكس ، لأنّ جريان أصالة عدم الشرطيّة وإن كان موقوفا على عدم جريان استصحاب النجاسة لكن عدم جريان استصحاب النجاسة أعمّ من أن يكون من جهة عدم صغراه المتوقّف على جريان أصالة عدم الشرطيّة ، أو من جهة عدم ثبوت كبراه هنا بالخصوص ؛ ولمّا كان الأوّل باطلا لاستلزامه الدور المستحيل فتعيّن الثاني ؛ وهو لا يستتبع محذورا لأنّ غاية ما يترتّب عليه خروج كبرى الاستصحاب عن الكلّيّة لا بطلانها رأسا.

وقضيّة ذلك لزوم تخصيص في دليل الاستصحاب ، بأن يكون مفاده لزوم العمل بكلّ استصحاب إلّا ما عارضه أصالة عدم الشرطيّة ، وهو بعد ما قام عليه الدليل ـ ولو من جهة العقل ـ ممّا لا ضير فيه.

__________________

(١) وحاصله : أنّ منع هذه الكبرى تارة بمنع ثبوت أصلها رأسا ، بأن يقال : إنّ أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا دليل عليها في الشريعة ، أو بمنع جريانها في خصوص المقام لانتفاء صغراها ، والأوّل خلاف الفرض ، فتعيّن الثاني ومعه يلزم الدور. (منه عفى عنه).

٥٧٩

ولا يمكن جريان نظير ذلك في أصالة عدم الشرطيّة بأن يقال في منع الدور : إنّ عدم ثبوت صغرى الاستصحاب وإن كان موقوفا على عدم جريان أصالة عدم الشرطيّة ، لكنّه أعمّ من أن يكون من جهة عدم ثبوت صغراها المتوقّف على جريان الاستصحاب ؛ أو من جهة عدم ثبوت كبراها هنا بالخصوص ؛ ولمّا كان الأوّل باطلا لاستلزامه الدور المستحيل فتعيّن الثاني ، لأنّه لو بنى في ذلك على منع الكبرى لزم بطلانها رأسا فيلزم بقاء أصالة عدم الشرطيّة والدليل عليها بلا مورد كما لا يخفى على المتأمّل ؛ وهو كما ترى.

وممّا ذكر يتبيّن وجه تقدّم الاستصحاب على أصل البراءة حيثما يتقدّم عليه ، ووجه تقدّم أصل البراءة على الاستصحاب حيثما يقدّم عليه ، فإنّ الأوّل من جهة كون الاستصحاب واردا على أصل البراءة رافعا لموضوعه كما هو واضح بخلاف الثاني ؛ فإنّ تقدّمه على الاستصحاب إنّما هو من جهة حكومة دليله على دليل الاستصحاب وتعرّضه له بالتخصيص ولا يعقل كونه من باب الورود ؛ لأنّ فرض وروده على الاستصحاب يقضي بكونه متعرّضا لصغرى الاستصحاب مع كون كبراه سليما عن المعارض ؛ والمفروض أنّه أيضا لعموم دليله وسلامة كبراه عن المعارض متعرّض لصغرى أصل البراءة لئلّا يلزم بقاء دليله في مظانّ الشكّ في الشرطيّة بلا مورد ؛ فيلزم الدور في الجانبين كما يظهر بالتأمّل فيما سبق.

نعم ، فرض الورود بالنسبة إلى الاستصحاب إنّما يصحّ فيما لو عارضه استصحاب آخر وكان شكّه سببيّا كما في استصحاب طهارة الماء المشكوك في كرّيّته عند ملاقاته النجاسة ؛ فإنّ تقديم استصحاب القلّة وعدم الكرّيّة على استصحاب الطهارة لا يمكن كونه من باب الحكومة ؛ لأنّه ليس مدلولا لدليل يعارض دليل استصحاب الطهارة حتّى يفرض ذلك الدليل مخصّصا لدليل استصحاب الطهارة ، لكونهما مدلولي دليل واحد ، والمفروض أنّ دخول بعض أفراد العامّ تحته عند التنافي بينه وبين البعض الآخر لا يعقل كونه مخصّصا له مخرجا لذلك الفرد المنافي عن تحته لامتناع الترجيح بغير مرجّح ؛ ضرورة كون أفراد العامّ المندرجة فيه متساوية الإقدام بالنسبة إليه ؛ فلا بدّ في تقديمه من اعتبار مقدّمة اخرى بأن يقال : إنّ الشكّ في الكرّيّة لمّا كان علّة للشكّ في النجاسة والعلّة متقدّمة بالذات على معلولها فهو حين طروّه المتقدّم بالذات على الشكّ

٥٨٠