ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

يكون وصف الوجوب راجعا إلى القطع ، ولو لا ذلك لضعف : بأنّ المتوقّف على اجتنابهما معا ليس هو اجتناب النجس الواقعي بنفسه لاتّفاق حصوله تارة بالاجتناب عن أحدهما واخرى باجتنابهما بل المتوقّف عليه حينئذ العلم باجتناب النجس الواقعي.

وكيف كان فعن صاحب المدارك ـ وفاقا لشيخه الأردبيلي ـ (١) الاعتراض عليه : « بأنّ اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلّا مع تحقّقه بعينه لا مع الشكّ فيه ، واستبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه غير ملتفت إليه ، وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المنيّ في الثوب المشترك ، واعترف به الأصحاب في غير المحصور أيضا ، والفرق بينه وبين المحصور غير واضح عند التأمّل » (٢).

وأنت خبير بما فيه ، فإنّ تقييد أدلّة أحكام النجاسة بصورة العلم بتحقّق السبب وإن كان مسلّما ثابتا بالأدلّة المتقدّم إليها الإشارة ، لكن دعوى كون المعتبر في ذلك تحقّقه بعينه لا ترجع إلى محصّل ، إلّا تقييد الأدلّة المقيّدة بما يخرج معه علم يكون معلومه مجملا ، وهي كما ترى دعوى لا شاهد لها من عقل ولا نقل ، بل الشواهد العرفيّة والعقليّة والنقليّة متطابقة في خلاف تلك الدعوى كما تقدّم بيانه ، فمنع سقوط حكم هذه النجاسة ليس من جهة الاستبعاد الصرف ، مع ما في جعل ذلك استبعادا غير ملتفت إليه ، وتقييده بما لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه من التدافع الواضح ، ضرورة أنّ سقوط حكم هذه النجاسة في الواقع أو الظاهر يقتضي جواز المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه ، كما أنّ منع مباشرة الجميع اعتراف بعدم سقوط حكم النجاسة ولزوم الاجتناب عن الجميع الّذي حكم به العقل ووافقه الشرع ليس من أحكام هذه النجاسة من حيث هي حتّى يرتفع الاستبعاد عن سقوطه بل هو من أحكام العلم بعدم مباشرة النجاسة.

وأعجب ممّا ذكر مقايسة المقام على مسألة واجدي المنيّ في الثوب المشترك ، فإنّ وضوح الفرق بين المقامين كما بين السماء والأرض ، فإنّ المكلّف في محلّ البحث عالم بتوجّه طلب الشارع إليه لعلمه بتحقّق سبب النجاسة بالقياس إليه نفسه ، فينعقد معلومه بذلك تكليفا فعليّا في حقّه فيجب عليه امتثاله على وجه القطع به ، بخلاف المقيس عليه الّذي لا علم فيه لأحد من المشتركين في الثوب بتوجّه الخطاب إليه ، من

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨١.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

٨٢١

جهة عدم علمه بتحقّق السبب منه ، بل لو فرض استمرار العذر لهما معا يقبح على الشارع الحكيم توجيه الخطاب إليهما بطلب الاغتسال عنهما معا أو عمّن تحقّق منه السبب بحسب الواقع ، ضرورة عدم جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه ؛ وهو علم المأمور بتحقّق جهة صدور الطلب المتوقّف على علمه بتحقّق السبب منه بعينه ، ولا يجدي فيه علم الآمر بواقع الأمر ، لأنّ العبرة في صحّة الأمر بعلم المأمور لا بعلم الآمر.

وأضعف من الجميع الاستشهاد بما اعترف به الأصحاب من حكم الشبهة الغير المحصورة ، فإنّ هذا الاعتراف منهم إنّما نشأ عن وجوه غير جارية في المقام الّذي هو من أفراد الشبهة المحصورة ، وإلّا فلو لا قيام تلك الوجوه ثمّة لمكان الحكم الّذي اعترفوا به على خلاف القاعدة ، فالفرق بين المقامين واضح للمتأمّل.

ومنها : ما احتجّ به في المنتهى (١) تبعا للخلاف ـ (٢) على ما في شرح الدروس ـ (٣) من أنّ الصلاة بالماء النجس حرام ، فالإقدام على ما لا يؤمن معه أن يكون نجسا إقدام على ما لا يؤمن معه فعل الحرام ، فيكون حراما.

ولا يخفى ضعفه ، فإنّ حرمة الصلاة بالماء النجس إن اريد بها الحرمة الذاتيّة فالمتّجه منعه ، لعدم قيام دليل عليه من الشرع بالخصوص ، وإن اريد بها الحرمة التشريعيّة فالمتّجه منع كلّيّة المقدّمة الثانية ، لأنّه لا يأتي بالماء المذكور إلّا لرجاء إصابة الماء الطاهر ، فلا يعلم اندراجه في موضوع التشريع ليكون حراما.

ومنها : ما عن المعتبر (٤) من أنّ يقين الطهارة في كلّ منهما معارض بيقين النجاسة ولا رجحان ، فيتحقّق المنع.

وعن المعالم الإيراد عليه : « بأنّ يقين الطهارة في كلّ واحد بانفراده إنّما يعارضه الشكّ في النجاسة لا اليقين » (٥).

واستجوده شارح الدروس ، وأضاف إليه : « أنّه لو تمّ المعارضة من دون رجحان فما الوجه في المصير إلى المنع ، لم لا يصار إلى أصلي البراءة والطهارة » (٦).

والظاهر أنّ المراد بيقين الطهارة في الحجّة اليقين الفعلي بالطهارة المردّدة ظاهرا ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٧٦.

(٢) الخلاف ١ : ١٩٧ المسألة ١٥٣.

(٣ و ٦) مشارق الشموس : ٢٨١.

(٤) المعتبر : ٢٦.

(٥) فقه المعالم ١ : ٣٧٨.

٨٢٢

المتساوي نسبتها من جهة الاشتباه إليهما معا ، وهذا وإن كان ممّا يقتضي جواز الاستعمال ، غير أنّه يعارض اليقين الفعلي بالنجاسة المردّدة المتساوي نسبتها إلى كلّ واحد ، المقتضي لمنع الاستعمال.

وقوله : « ولا رجحان » أي لا مزيّة لأحد اليقينين لتوجب الأخذ به في حدّ ذاته ، لعدم تعيّن مورده ، فلا بدّ من مراجعة الخارج ، ومقتضاه المنع عن الجميع ، إمّا لحكم العقل بوجوب الإطاعة الّتي لا يحصل العلم بها إلّا بذلك ، أو لبناء العرف على تقديم أدلّة المنع على أدلّة الجواز وفهمه حكومة الاولى على الثانية.

وبالجملة مرجع هذه الحجّة ـ بناء على الظاهر ـ إلى ما قرّرناه وحقّقناه ، وعليه يضعّف ما ذكر في الإيراد عليه ، ولا سيّما الوجه الثاني ، فإنّ كلّا من أصلي البراءة والطهارة ممّا يصار إليه في غير موضع العلم بالخلاف ، وكأنّ مبنى الوجه الأوّل على توهّم إرادة اليقين السابق من يقين الطهارة ، فيقال في دفعه : إنّه لا مقابل له في كلّ واحد منفردا إلّا احتمال النجاسة ، وهو لا يصلح معارضا لليقين بالطهارة السابق على طروّ الاشتباه ، بل هو ممّا يحقّق الاستصحاب ومحلّه ، أو يوجب مراجعة أصل الطهارة الجاري في كلّ مشكوك في نجاسته.

وأنت خبير بما فيه من أنّه لا يجري في أكثر الصور المتقدّمة ، ولا سيّما صورة تأخّر الشبهة عن اليقين بنجاستهما معا عند إصابة المزيل لأحدهما المشتبه ، فينعكس فرض الاستصحاب حينئذ ، مع أنّ اليقين بالنجاسة ولو كانت مردّدة المفروض وجوده في المقام صالح لنقض اليقين السابق بالطهارة ، ضرورة أنّه يقين نقضناه بيقين مثله ، مع أنّ مقتضى القاعدة المتقدّمة المأخوذة من حكم العقل عدم الفرق بين الصور المشار إليها ، الّتي منها ما لو كان المشتبهان مسبوقين بالطهارة كما في مورد الرواية ، أو بالنجاسة ، أو غير معلوم الحالة السابقة.

ولعلّه لأجل ما أشرنا إليه من توهّم جريان الاستصحاب أو أصل الطهارة قد يقال : « ويحتمل ضعيفا الفرق بين الصور بالحكم بجواز ارتكاب أحدهما في الاولى دون الأخيرتين ، أو في الاولى والأخيرة دون الثانية » (١) ، بل ومقتضى القاعدة جريان الحكم في الشيئين

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٧٨.

٨٢٣

المختلفين في الماهيّة المعلوم بإصابة النجاسة لأحدهما لا بعينه كما نبّهنا عليه سابقا. وأمّا ما في المدارك من أنّه « يستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء وخارجه لم ينجّس الماء بذلك ، ولم يمنع من [استعماله] » (١) ، آخذا له مؤيّدا لما تقدّم منه من إنكار لزوم الاجتناب عن الجميع فغير واضح الوجه ، إذا كان كلّ من المشتبهين ممّا يحوج إلى استعماله المكلّف في مشروط بالطهارة ، بحيث لو فرض علم تفصيلي له بمورد النجاسة لكان مخاطبا بالاجتناب عنه خطابا فعليّا كثوب بدنه ، وماء إناءه الّذي يريد استعماله أو شربه ، والأرض الّتي يريد التيمّم بها ، أو ماء يريد شربه ، وأرض يريد التيمّم بها (٢) وما أشبه ذلك.

وليس في كلام الأصحاب ولا في أخبار الأئمّة الأطياب عليهم صلوات الله ربّ الأرباب ما يقضي بما ادّعاه تصريحا ولا تلويحا.

نعم ، في رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة في مواضع متكثّرة من الأبواب المتقدّمة ما ربّما يوهم ذلك حيث يقول : « عن رجل رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا ، فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ قال : إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه » (٣).

وقد تقدّم منّا ما يدفع ذلك ، فإنّ الرواية صريحة في إصابة الإناء ولا مدخل له بصورة الاشتباه ، والسؤال واقع عن صلاحية إصابة الإناء أمارة على إصابة الماء أيضا ليوجب الامتناع عنه في الوضوء ، فالمورد ليس إلّا من باب الشكّ الصرف في إصابة الماء ، وهذا من مجاري أصالة الطهارة ، ولذا أناط الإمام عليه‌السلام الامتناع عنه باستبانة الدم في الماء.

ويمكن تنزيل كلامه إلى ما لا يستلزم توجّه التكليف الفعلي بالاجتناب على تقدير العلم التفصيلي بموقع النجاسة ، بحمل « الخارج » الّذي هو أحد طرفي الشبهة على ما لا يقع موضع ابتلاء للمكلّف ، بحيث لو فرض توجّه التكليف إليه لعدّ عبثا ، لكنّه يخرج حينئذ عن كونه مؤيّدا لمطلوبه.

وبالجملة هاهنا صورتان ، إحداهما : ما لو كان كلّ من أطراف المشتبه من مواضع ابتلاء

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٨.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩ ـ الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦.

٨٢٤

المكلّف ، على وجه صحّ توجّه التكليف إليه فعلا على تقدير عدم الاشتباه ، مع كون التكليف الفعلي مسبّبا عمّا حصل الاشتباه في مورده.

واخراهما : ما لم يكن بعض الأطراف من مواضع ابتلاء المكلّف ، أو كان لكن كان الحكم بالاجتناب عن بعض معيّن ثابتا على كلا تقديري إصابة هذه النجاسة المردّدة وعدمها ، كما لو أصاب قطرة بول أو دم وتردّد بين إصابته الماء أو الثوب ، وإصابته الأرض النجسة أو العذرة الموجودة فيها أو البالوعة ونحوها.

ولا ريب أنّ محلّ الكلام ومورد حكم العقل هو الصورة الثانية ، إذ مع الابتلاء تنجّز التكليف الفعلي ويقوم العلم الإجمالي بتحقّق سببه مقام العلم التفصيلي حسبما ذكرنا.

وأمّا الصورة الثانية فالارتكاب فيها لمحلّ الابتلاء من أطراف الشبهة جائز قطعا ، والعلم الإجمالي بتحقّق النجاسة المردّدة بينه وبين غير محلّ الابتلاء لا يؤثّر في تنجّز التكليف أصلا ، فأصالة الطهارة فيه سليمة عن المعارض قطعا.

ومنه ما لو وقع النجاسة على ما يتردّد بين ثوبه وثوب شخص آخر الّذي لا يمسّ له الابتلاء بذلك ، ومنه ما لو تردّدت النجاسة الواقعة بين وقوعها في إنائه الّذي يريد التطهّر به أو استعماله في أكل أو شرب أو في الماء الكثير أو الجاري الموجود عنده ، فإنّ أمثال هذه الفروض من باب الشكّ الصرف في التكليف ، بالقياس إلى ما لو علم بتحقّق السبب فيه تفصيلا لكان مكلّفا بالاجتناب عنه فعلا.

ثمّ إنّ هاهنا فروعا ينبغي التعرّض لبيانها لما فيها من عموم النفع.

أحدها : إذا اتّفق ملاقاة طاهر للمشتبه ، فهناك صور.

الاولى : ما يتولّد معه العلم التفصيلي بالنجاسة ، كما لو اتّفق ملاقاته لكلا طرفي الشبهة.

الثانية : ما يتولّد معه العلم الإجمالي ، كما لو اتّفق ملاقاة طاهر لأحد طرفي الشبهة وآخر لطرفها الآخر.

الثالثة : ما يتولّد معه مجرّد الاحتمال.

ولا إشكال في الصورة الاولى لدخول المفروض في النجس المعلوم بالتفصيل ، ولا في الصورة الثانية لدخول المفروضين في الشبهة المحصورة فيلحقهما حكمها ، وأمّا

٨٢٥

الصورة الثالثة ففيها إشكال نشأ من جهة خلاف بين الأصحاب ، فقيل : بأنّه لا يلحقه حكم المشتبه ولا يجب اجتنابه ، صرّح به في المدارك (١) ، وحكى القطع به عن المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع (٢) ، والميل إليه عن جدّه قدس‌سره في روض الجنان (٣) ، لأنّ احتمال ملاقاة النجس لا يرفع الطهارة المتيقّنة ، وقد روى زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » (٤) ولأنّه لم يعلم ملاقاته لنجس ، وإنّما علم ملاقاته لما يجب الاجتناب عنه مقدّمة ، فهو باق على أصالة الطهارة ، ولا يجري فيه دليل وجوب الاجتناب عن النجاسة الواقعيّة بعد حكم الشارع بأنّه طاهر غير نجس.

وقيل : بأنّه يلحقه حكم المشتبه الّذي منه وجوب غسله ، صرّح به العلّامة في المنتهى قائلا : « بأنّه لو استعمل أحدهما وصلّى به ، لم تصحّ صلاته ووجب غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقّن الطهارة كالنجس » (٥).

ثمّ حكى عن الحنابلة وجها بعدم وجوب غسله ، لأنّ المحلّ طاهر بيقين ، فلا يزول بشكّ النجاسة.

فأجاب عنه : « بأنّه لا فرق هنا بين يقين النجاسة وشكّها في المنع بخلاف غيره » (٦).

واجيب عنه : « بأنّ اليقين بالنجاسة موجب لليقين بنجاسة ما أصابه ، وأمّا الشكّ فيها فلا يوجب اليقين بنجاسة ما أصابه ، فيبقى على أصالة الطهارة ، وعدم الفرق بين اليقين والشكّ هنا شرعا إنّما هو في وجوب الاجتناب لا في تنجيس الملاقي » (٧).

والوجه في ذلك : أنّ الساري من حكم النجس الواقعي إلى كلّ من المشتبهين إنّما هو الحكم التكليفي أعني وجوب الاجتناب ، لأنّ الاجتناب عن كلّ واحد مقدّمة علميّة للواجب ، وأمّا الحكم الوضعي وهي نفس النجاسة فلا يعقل سرايتها إليهما ، بل هي قائمة بما هو نجس واقعا. ويظهر من صاحب الحدائق موافقة العلّامة ، حيث يقول : « بأنّ مقتضى القاعدة المستفادة من استقراء الأخبار الواردة في أفراد الشبهة المحصورة أنّ

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٨.

(٢) لم نجده في حاشية الشرائع.

(٣) روض الجنان : ١٥٦.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٧٧ ب ٤١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥.

(٥ و ٦) منتهى المطلب ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٧) كتاب الطهارة ـ للشيخ الانصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٨٣.

٨٢٦

الشارع أعطى المشتبه بالنجس والحرام حكمهما ، ألا ترى أنّ ملاقاة النجاسة بعض أجزاء الثوب مع الاشتباه بباقي أجزاءه موجب لغسله كملا » (١).

وردّ : بمنع عموم هذه الدعوى إن أريد بها جميع الأحكام ، وعدم جدواه إن اريد في الجملة.

وبمثل ذلك اعترض صاحب المعالم على ما ذكر في الاحتجاج على مذهب العلّامة ، من أنّ المفروض كون الاشتباه موجبا للإلحاق بالنجس في الأحكام ، فملاقيه إمّا نجس أو مشتبه بالنجس ، وكلاهما موجب للاجتناب ، قائلا : « وفساده ظاهر ، فإنّ إيجاب الاشتباه للإلحاق بالنجس إن كان في جميع الأحكام فهو عين المتنازع ؛ وإن كان في الجملة فغير مجد ، وكون مطلق الاشتباه موجبا للاجتناب في حيّز المنع ، وإنّما الموجب لذلك على ما هو المفروض اشتباه خاصّ » انتهى (٢).

وتحقيق المقام : أنّه لا يمكن مقايسة ملاقي المشتبه كائنا ما كان على نفس المشتبه في شي‌ء من أحكامه حتّى الحكم التكليفي المعبّر عنه هنا بوجوب الاجتناب ، لأنّ أصالة الطهارة أصل قرّره الشارع ـ حسبما تقدّم بيانه مفصّلا ـ لإحراز الطهارة في كلّ ماء ـ بل كلّ شي‌ء ـ مشكوك في نجاسته ، باعتبار الشكّ في عروض وصف النجاسة بتحقّق سببه وعدمه ، ولا ريب أنّ المقام من مجاريه ، السليمة عمّا يمنع جريانه ، ومعناه القاعدة المقتضية لإجراء جميع أحكام الطهارة وآثارها ، وعدم الاعتناء باحتمال طروّ النجاسة ـ ولو ظنّا ـ ما لم يستند إلى دليل شرعي.

وقضيّة ذلك كونه في مجاريه علما شرعيّا بالطهارة في ترتيب أحكامها ، كالدخول في الصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة ، متلبّسا بمورده باستعمال وغيره من أنواع الملاقاة ، وتناوله أكلا أو شربا أو نحو ذلك من أنواع التصرّفات المنوط جوازها بالطهارة ، فلا يعارضه أصل الشغل الجاري في الصلاة ونظائرها ، ولا استصحاب الأمر المقتضيين للعلم بالبراءة المتوقّف على ترك مباشرة المورد ، لأنّ العلم المأخوذ في مقتضاهما بملاحظة الأدلّة الشرعيّة القطعيّة ، الّتي عمدتها السيرة والإجماع الضروري والأخبار المتفرّقة في الأبواب الفقهيّة البالغة فوق حدّ التواتر ، معنى أعمّ من الشرعي

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥١٣ نقلا بالمعنى.

(٢) فقه المعالم ٢ : ٥٨١.

٨٢٧

الّذي هو موجود في المقام.

ولا يجري نظيره في نفس المشتبه لعدم كونه من مجاريه المأخوذ فيها الشك في عروض الوصف ، ضرورة أنّ أحد فردي المشتبه متيقّن طهارته والفرد الآخر متيقّن نجاسته ، ولا شكّ في شي‌ء منهما ، غاية الأمر حصول الاشتباه بين موردي الطهارة والنجاسة المتيقّنتين ، ومعه لا يعقل جريان الأصل المعلّق على الشكّ في عروض الوصف ، ولا ينفع في ذلك فرض الكلام في أحدهما المعيّن الّذي هو مشكوك في طهارته ونجاسته ، لأنّ هذا الشكّ شكّ في تعيين ما عرض له الوصف لا أنّه شكّ في عروض الوصف ، ومثله لم يعلم كونه مشمولا لأدلّة الأصل إن لم ندّع العلم بالعدم.

ولو سلّم عموم الأدلّة ، فهذا الأصل كما يمكن فرض جريانه في هذا المعيّن فكذلك يمكن جريانه في المعيّن الآخر ، وإعماله فيه دون صاحبه ترجيح بلا مرجّح ، وإعمالهما معا طرح لأدلّة النجس الواقعي المحرز لأحكامه جميعا فيما هو النجس الواقعي من الفردين ، واعتبار التخيير بينهما ممّا لم يقم عليه دليل من العقل ولا النقل ، فيبقى حكم العقل بلزوم اجتناب الجميع مقدّمة للعلم بالامتثال سليما عمّا يرفعه.

ولا يمكن استفادة التخيير من نفس أدلّة الأصل ، كما هو في سائر موارد التخيير المعلّق على الاضطرار ، ولذا كان التخيير الثابت فيها راجعا إلى حكم العقل الّذي هو هنا بعد حكمه بلزوم تحصيل المقدّمة العلميّة غير معقول.

وممّا ذكر جميعا يندفع ما توهّم في المقام من أنّ الموجب لسقوط أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى ـ بالفتح ـ وهي معارضتها بأصالة طهارة المشتبه الآخر موجود بعينه في الثالث الملاقي ـ بالكسر ـ ، فيسقط أصالة طهارته أيضا ، فيجب الاجتناب عنه مقدّمة للواجب الواقعي.

هذا مع أنّ المعارضة بين الأصلين بالنسبة إلى المقام إنّما تتأتّى فيما كان الأخذ بأحد الأصلين منافيا للعلم بحصول امتثال الأمر بالاجتناب عن النجس الواقعي ، كما في الأصل الجاري في كلّ من المشتبهين ، ولا ريب أنّ ما يجري في الملاقي بالكسر ليس بهذه المثابة ، لعدم دخول مورده في أطراف العلم الإجمالي المحرز للتكليف الفعلي.

فإن قلت : مقتضى الخطاب بالاجتناب عن النجس الواقعي وجوب ترتيب جميع

٨٢٨

آثار النجس على المشتبه ، الّتي منها الاجتناب عن ملاقيه ، كما أنّ منها الامتناع عن تناوله أكلا وشربا ، ولا يعلم امتثال هذا الخطاب إلّا بالامتناع عن ملاقي المشتبه أيضا ، فيكون ذلك أيضا مقدّمة علميّة للامتثال.

قلت : آثار النجس الواقعي على قسمين :

أحدهما : ما ليس له في ترتّبه موضوع سوى نفس النجس المعلوم وجوده هنا فيما بين المشتبهين ، كحرمة تناوله أكلا وشربا ، وعدم إجزاء استعماله في مشروط بالطهارة.

وثانيهما : ما له في ترتّبه موضوع أثبته الشارع ، لا يترتّب ذلك الحكم إلّا بعد كون ذلك الموضوع محرزا ، كوجوب الاجتناب عن ملاقي النجس ، فإنّه حكم تابع لموضوعه وهو الملاقاة ، وهو في المقام غير محرز ، لعدم تبيّن كون الملاقى ـ بالفتح ـ هو النجس الواقعي ، ومجرّد الاحتمال غير كاف في ذلك ، فحينئذ لم يعلم كون الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ المفروض هنا من آثار النجس المشتبه ، كما علم ذلك في الملاقي لكلا المشتبهين.

وبجميع ما ذكر ينقدح أنّه لو فقد المشتبه الملاقي لم يكن المشتبه الآخر مع الملاقى من باب الشبهة المحصورة كما قد يتوهّم.

نعم ، لو اتّفق اشتباه الملاقى بالمشتبه الملاقي أو صاحبه استقرّت الشبهة بين الجميع ، لدخول الملاقى في دائرة العلم الإجمالي.

وثانيها : لو انصبّ أحد الإنائين بعد ملاقاة النجاسة وقبل العلم بها ، فإذا علم بها حصل الاشتباه في محلّ الملاقاة هل هو الإناء المنصبّ أو الباقي؟ لم يجب الاجتناب عن الباقي لا أصالة ولا مقدّمة.

أمّا الأوّل : فلعدم تبيّن كون الملاقاة بالنسبة إليه.

وأمّا الثاني : فلعدم تنجّز التكليف بذي المقدّمة ، أمّا قبل الانصباب فلعدم العلم بتحقّق السبب ، وأمّا بعده فلعدم العلم ببقاء الموضوع.

ومن هذا الباب ما لو انصبّ أحد الإنائين بعد الاشتباه الطاري لمحلّ الملاقاة المعلومة ، ضرورة أنّ ارتفاع موضوع الحكم من مسقطاته ، وبقاؤه مع هذا الفرض غير معلوم ، ومعه لا يعلم ببقاء التكليف. ولا يمكن إبقاء الموضوع بحكم الاستصحاب ، لأنّ

٨٢٩

الانصباب قد حدث بيقين والشكّ في المنصبّ ، ولا يعقل تعيينه بالأصل ، ولا يمكن أيضا استصحاب وجوب الاجتناب كما توهّم ، إذ لو اريد به الوجوب الأصلي المعلّق على النجس الواقعي فبقاء موضوعه غير محرز ، ولو اريد الوجوب المقدّمي فهو ـ مع أنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة ووجوده ـ حكم قد ثبت من العقل الّذي هو موجود مع الفرض ، فينبغي المراجعة إليه نفسه لا استصحاب حكمه ، ولا نجده بعد المراجعة إلّا ساكتا ، كيف وحكمه كان مبنيّا على عدم اقتناعه باحتمال الامتثال في موضع تيقّن الاشتغال ، وهو في الفرض غير متيقّن.

فما يقال هنا : من أنّه يجب الامتناع عن الآخر الباقي لبقاء حكم العقل الثابت قبل الانصباب ، ولا معنى لارتفاعه بتعذّر الامتناع عن المنصبّ ، شي‌ء لا نعقله ، فحينئذ لو اشتبه طاهر آخر بذلك المشتبه الباقي لا يوجب اندراجهما في عنوان الشبهة ، فما في منتهى العلّامة من أنّه « لو كان أحدهما متيقّن الطهارة والآخر مشكوك النجاسة ، كما لو انقلب أحد المشتبهين ثمّ اشتبه الباقي بمتيقّن الطهارة ، [وكذا لو اشتبه الباقي بمتيقّن النجاسة] وجب الاجتناب » (١) ليس بسديد.

نعم ، قوله : « وكذا لو اشتبه الباقي بمتيقّن النجاسة وجب الاجتناب » سديد.

هذا كلّه إذا كان النظر إلى إثبات الحكم من جهة القاعدة ، وأمّا بناء على الاقتصار على النصّ فيمكن استفادة الإلحاق منه في مورده بناء على عدم التعدّي عنه إلى غيره ، نظرا إلى أنّه لو كان انصباب أحدهما وسيلة إلى رفع التكليف بالاجتناب المسوّغ لاستعمال الباقي في طهارة وغيرها لكان على المعصوم عليه‌السلام الإرشاد إليه بالأمر باهراق أحد الإنائين دون الجميع ، فالأحوط إذن الاجتناب عن الباقي وطاهر مشتبه به أيضا ، ولا يترك هذا الاحتياط البتّة.

وثالثها : إذا تمكّن المكلّف عن ماء آخر غير المشتبهين لصلاته حدثا أو خبثا تعيّن بلا إشكال ولا خلاف ، ولا يسوغ معه العدول عن المائيّة إلى التيمّم ، وإذا لم يتمكّن عن ماء آخر فإن لم يمكن له الصلاة بالطهارة المتيقّنة عن الحدث فالظاهر أنّه لا إشكال أيضا عندهم في تعيّن العدول إلى التيمّم ، وإن أمكن له الصلاة بالطهارة المتيقّنة كما لو

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٧٨.

٨٣٠

تطهّر بأحدهما وصلّى ، ثمّ تطهّر بالآخر وصلّى بعد ما غسل من أعضائه ما لاقاه الأوّل ، فالمصرّح به في كلام جمع المنع عنه أيضا ، بل في الحدائق : « الظاهر أنّه لا خلاف في الحكم المذكور » (١) ، والمنقول عن المعتبر في تعليله : « أنّه ماء محكوم بالمنع منه ، فيجري استعماله مجرى النجس » (٢) ، وعن بعضهم : « أنّه يصدق عليه بعد الطهارة الاولى أنّه متيقّن الحدث شاكّ في الطهارة ، ومن هذا [شأنه] لا يسوغ له الدخول في الصلاة نصّا وإجماعا ، والوضوء الثاني يجوز أن يكون بالنجس ، فيكون قد صلّى بنجاسة » (٣).

وعلّله في المدارك : « بأنّ هذين الماءين قد صارا محكوما بنجاستهما شرعا ، واستعمال النجس في الطهارة ممّا لا يمكن التقرّب به ، لأنّه بدعة » ، ثمّ قال : « وفيه ما فيه » (٤) ولعلّه لمنع المقدّمة الاولى ، حيث إنّ هذين الماءين إنّما حكم بالاجتناب عنهما لا بنجاستهما معا ، ولا ملازمة بين وجوب الاجتناب عن شي‌ء ونجاسته ، والمانع عن قصد التقرّب إنّما هو النجاسة المتيقّنة ، وهي مع الصلاة بكلّ واحد بعد استعماله منفردا ثمّ غسل ما لاقاه الأوّل غير حاصلة ، ومقارنة رجاء إدراك الصلاة مع الطهارة الحدثيّة رافعة لعنوان البدعة ، واحتمال فوات الطهارة الخبثيّة عند كلّ صلاة لا يعارض اليقين بوقوع إحداهما مع الطهارة لا محالة.

نعم ، إنّما يترتّب الأثر على هذا الاحتمال فيما لم يتخلّل صلاة بين الوضوءين ، بأن توضّأ بأحدهما ثمّ توضّأ بالآخر بعد ما غسل به العضو الملاقي للأوّل ثمّ صلّى ، فإنّ الغسل وإن كان يمنع عن يقين وجود النجاسة في العضو حين الوضوء الثاني والصلاة به ، غير أنّه يوجب اليقين بطروّ النجاسة للعضو المردّد بين كونه بالوضوء الأوّل أو غيره لا محالة ، مع عدم اليقين بزوالها بمجرّد ذلك الغسل لجواز كونه باعثا على طروّها ، ولا ريب أنّ المقام حينئذ من مواضع الاستصحاب ، والنجاسة المستصحبة كالنجاسة المتيقّنة في اقتضاء المنع ، وليس كذلك الحال في الفرض المتقدّم لاستلزامه وقوع إحدى الصلاتين بالطهارة المتيقّنة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥١٧ ، وفيه : « الّذي صرّح به جمع من الأصحاب المنع وهو الظاهر ».

(٢) المعتبر : ٢٦.

(٣) حكاه عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٥١٧.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٠٩.

٨٣١

نعم ، قضيّة ما نبّهنا عليه من تقرير الاستصحاب تحقّق المنع في هذا الفرض أيضا عن الصلاة الثانية ولو بمعونة أصالة تأخّر الحادث ، بملاحظة أنّ استعمال الماء الثاني في غسل العضو والوضوء بعده مع استلزامه حصول اليقين بطروّ النجاسة للعضو لا محالة مردّد بين كونه مقتضيا لطروّها أو رافعا للطاري ، فلا يمكن الحكم عليه بأحد العنوانين معيّنا ، لكن أصالة تأخّر الحادث يقتضي مقارنة طروّها له ، ولا يمكن الاستناد إلى أصل الطهارة بالقياس إلى العضو لانقطاعه باليقين المذكور ، فالإقدام على الصلاة ثانيا حينئذ إلقاء للنجاسة المستصحبة ونقض لليقين بها بمجرّد الشكّ ، فهذه الصلاة محكوم بفسادها جدّا ، وإن لم نقل بحرمة فعلها من جهة تحقّق عنوان البدعة فيها ، أو حرمة مخالفة الاستصحاب ، أو حرمة الصلاة بالنجاسة ـ ولو مستصحبة ـ حرمة ذاتيّة.

ومن هنا لا يبعد طرد نظير هذا الكلام إلى الصلاة الاولى أيضا ، بملاحظة أنّه حين الإقدام عليها شاكّ في شرط الصحّة من طهارة حدثيّة وخبثيّة معا ، ومعلوم أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط ، والشكّ في الصحّة كاف في الحكم بالفساد ، إذ لا بدّ في الإقدام عليها على وجه الصحّة من كون شروط الصحّة محرزة ولا محرز لهذين الشرطين.

ولو سلّم أنّ الطهارة الخبثيّة ممّا يحرز بالأصل فلا يتمّ ذلك في الطهارة الحدثيّة ، بل الأصل بالنسبة إليها يقتضي الخلاف كما لا يخفى ، فالمانع عن الإقدام على هذه الصلاة هو استصحاب الحدث ، كما أنّ المانع عن الصلاة الثانية هو استصحاب الخبث.

ومع قيام هذين المانعين فكيف يكتفي بهاتين الصلاتين في إحراز الصحّة وامتثال الأمر بالصلاة ، ولعلّه إلى ما قرّرناه ينظر الثاني من الوجوه المتقدّمة في سند المنع ، فتبيّن أنّه أوجه من الوجهين الآخرين.

فما يقال : من أنّ الأقوى وجوب الجمع بين الوضوءين مع التيمّم على تقدير إمكان غسل العضو الملاقي لأوّل الماءين ثمّ الصلاة عقيب كلّ وضوء غير واضح الوجه ، فإنّ الوضوءين لاقتران كلّ منهما بما يقتضي بطلان الصلاة معه يكون وجودهما بمنزلة عدمهما ، فهما مع التيمّم كالحجر الموضوع جنب الإنسان.

إلّا أن يقال : بأنّ المكلّف قبل الإقدام على إيجاد الوضوءين يعلم أنّ أحدهما يقع

٨٣٢

بماء طاهر على محلّ طاهر ، فيعلم أنّ إحدى الصلاتين تقع جامعة لشرطي الطهارة الحدثيّة والخبثيّة معا ، وإن كان لا يعلم به عند إيجاد كلّ بعينه ، فهو من أوّل الأمر قاصد لإيجادهما بداعي إدراك المأمور به الواقعي وهو الصلاة الجامعة للشرطين ، كما في الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة بشرط أن لا يقصد عند إيجاد كلّ كونه بعينه المأمور به الواقعي ، ولا كونه بعينه مقدّمة علميّة ، بل يأتي بكلّ على أنّه بعض من العدد المندرج فيه المأمور به الواقعي ، فالاشتباه لا ينافي قصد التقرّب والنيّة الّتي هي الداعي في الحقيقة ، وانضمام التيمّم حينئذ إلى الوضوءين إنّما هو للخروج عن شبهة الحرمة الذاتيّة في التطهّر بالماء النجس الموجبة لسقوط الأمر بالمائيّة ، لعدم إمكانها بعد فرض وجوب الاجتناب عن الجميع مقدّمة علميّة للاجتناب الواجب ، الثابت وجوبه بالقياس إلى ما هو نجس في الواقع ، كما هو الحال بالقياس إلى مقام الاستعمال في الأكل والشرب ، فيكون الوجه في وجوب الجمع حينئذ هو الاحتياط الّذي هو واجب في نظائر المقام.

لكن يشكل ذلك : بأنّ الالتزام بذلك الاحتياط رعاية لتحصيل الطهارة الحدثيّة على وجه اليقين ترك للاحتياط بالقياس إلى رعاية الطهارة الخبثيّة ، لما عرفت من أنّ الغسل المتخلّل بين الوضوءين مورث لطروّ النجاسة اليقينيّة ، ومحرز لموضوع استصحاب تلك النجاسة المتيقّنة إلى أن يقارن الوضوء والصلاة الثانيين للنجاسة المستصحبة في العضو ، ومعه لا يعقل كونهما بعضا من العدد المندرج فيه المأمور به الواقعي.

فالأقوى إذن الاكتفاء بصلاة واحدة مع الوضوء بإحدى الماءين مع انضمام التيمّم إليه ، هذا كلّه على حسب القواعد مع قطع النظر عن النصّ ، ولعلّه عليه يبتني كلام الأصحاب في الاستدلال على المنع من الاستعمال رأسا بالوجوه المتقدّمة وإلّا فالنصّ المتقدّم ذكره في الإناءين صريح في المنع من الاستعمال مطلقا والأمر بالتيمّم ، فالأخذ بمقتضى النصّ يستدعي تعيّن التيمّم ، وكون التكليف في الصلاة معه فقط.

إلّا أن يقال : بأنّه حكم ثبت في محلّ خاصّ ولا عموم في النصّ ليشمل ساير أفراد الشبهة الحاصلة في الماءين.

وأمّا ما في كلام بعض مشايخنا (١) من احتمال تنزيله على صورة عدم التمكّن من

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٢٨٧.

٨٣٣

إزالة النجاسة المتيقّنة عن بدنه ، فإنّ تكرار الصلاة مع كلّ وضوء وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه قد لا يمكن إزالة النجاسة للصلاة الآتية ولسائر استعمالاته المتوقّفة على طهارة يده ووجهه ، مع كون المقام من مواضع ترك الاستفصال المفيد للعموم في المقال ، ليس على ما ينبغي ، إذ لم يعلم بقاطع ولا موهن له في المقام.

فتقرّر بجميع ما ذكر : أنّ الأقوى الاقتصار على التيمّم في مورد النصّ خاصّة ، والجمع بينه وبين استعمال أحد الماءين في غيره عملا بالاحتياط.

ورابعها : ما تقدّم من الكلام إنّما هو في استعمال أحد الماءين أو كليهما للطهارة عن الحدث ، وأمّا بالقياس إلى الطهارة عن الخبث ففي جوازه بأحدهما ، أو بهما معا ، أو عدم جوازه مطلقا وجوه ، نسب أوسطهما إلى جماعة منهم العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله القائل في منظومته

« وإن تواردا على رفع الحدث

لم يرتفع ، وليس هكذا الخبث » (١).

وهذا هو الأقوى عملا بالطهارة المتيقّنة المشكوك في استناد حصولها إلى الغسل بالماء الأوّل أو الغسل بالماء الثاني لكن بعد انضمام أصالة التأخّر ، لأنّها أمر حادث يشكّ في بدو زمان حدوثه ، فأصل العدم يقتضي حدوثه بالغسل الأوّل ، وليس في المقام أصل يقتضي النجاسة ، إذ لو اريد بها النجاسة السابقة على الغسلين فالأصل بالنسبة إليهما منقطع بالقطع بأنّ أحد الغسلين قد أثّر طهارة لا محالة ، ولو اريد بها ما يستند طروّها إلى ملاقاة النجس الواقعي من هذين الماءين المقطوع بتحقّقها.

ففيه : أنّ هذه الملاقاة هنا غير معلوم التأثير ، لأنّ المنجّس إنّما يفيد تنجيسا إذا ورد محلّا فارغا عن النجاسة ومن الجائز مصادفة الغسل بالماء النجس نجاسة المحلّ ، بأن يكون هو أوّل الغسلين ، ولا أثر له في إفادة التنجيس ، ومصادفته طهارة المحلّ بأن يكون هو ثاني الغسلين ، فيكون موجبا لنجاسة المحلّ ثانيا ، وقضيّة ذلك كون النجاسة الثانية مشكوكا في حدوثها رأسا ، فلا يعقل بالنسبة إليها أصل.

ولو سلّم أنّ المتنجّس قابل للتنجيس ثانيا ، فأقلّه معارضة الأصل المقتضي لتأخّر تلك النجاسة للأصل المتقدّم المقتضي لتأخّر الطهارة الحاصلة من الغسل بطاهر

__________________

(١) الدرّة النجفيّة : ٨ وفيها : « ولو تعاقبا على رفع الحدث ».

٨٣٤

الماءين ، فيتساقطان ، فيرجع إلى أصالة الطهارة في الأشياء ، ولا معارض لها بعد تساقط الأصلين وانقطاع الأصل بالنسبة إلى النجاسة السابقة.

فبجميع ما ذكر يندفع ما يقال ـ في وجه الاحتمال الثالث ممّا تقدّم ـ من : أنّ المرجع بعد تساقط الأصلين عموم ما دلّ على وجوب غسل الثوب من النجاسة المردّدة مثلا إذا فرضناها بولا ، دلّ قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) على وجوب الغسل عقيب كلّ بول ، والأمر بالغسل وإن لم يعلم بقاؤه ، إلّا أنّ الاحتياط اللازم عند الشكّ في سقوط الأمر يقتضي وجوب الغسل ، فإنّ وجوب الاحتياط يدفعه الأصل المشار إليه ، واستحبابه غير مفيد.

نعم ، مقتضى الاحتياط واستصحاب النجاسة السابقة لزوم الغسل بكلّ من الماءين وعدم الاقتصار على أحدهما.

فما يقال ـ في وجه الاحتمال الأوّل ممّا تقدّم ـ : من أنّ إطلاقات الغسل بالماء يقتضي ذلك ، غاية الأمر أنّه خرج منها ما علم نجاسته وبها يدفع استصحاب نجاسة المحلّ ، واضح الضعف ، فإنّ المنساق من الإطلاقات كون الغسل حاصلا بالماء الطاهر ، فالمفروض غير معلوم الاندراج فيها.

ولو سلّم الشمول لكن دليل اشتراط الطهارة في الغاسل المسلّم عند المستدلّ ـ كما يفصح عنه قوله : « خرج منها ما علم نجاسته » ـ قيدها بصورة الطهارة ، والشرط غير معلوم الحصول فيحصل به موضوع استصحاب النجاسة في المحلّ ، وهو محرز لموضوع تلك الإطلاقات وهو النجاسة ، ضرورة أنّ النجاسة الّتي يجب الغسل عنها أعمّ من النجاسة المستصحبة ، ومع ذلك فكيف يندفع بها الاستصحاب المذكور.

نعم ، يندفع بحصول ما علم كونه رافعا بحسب الشرع وهو غير معلوم الحصول كما عرفت.

ثمّ لو انصبّ أحد الماءين ففي وجوب الغسل بالآخر عند انحصار الماء فيه وعدمه وجهان ، من أنّ النجاسة المستصحبة كالنجاسة المتيقّنة في اقتضاء المنع ووجوب الغسل ونحو ذلك من سائر أحكام النجاسة ، والغسل المذكور لا يوجب ارتفاع شي‌ء

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ ب ٨ من أبواب النجاسات ، ح ٢ و ٣ ـ الكافي ٣ : ٥٧ / ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٦٤ / ٧٧٠.

٨٣٥

من تلك الأحكام ، بل غاية ما يوجبه إنّما هو نقل النجاسة المتيقّنة إلى النجاسة المستصحبة ، فالأحكام بعد باقية ، فلم يترتّب عليه فائدة ، فلا وجه لإيجابه.

ومن أنّ النجاسة الغير المعلومة أهون في نظر الشارع من معلومتها ، فلذا القي أحكام النجاسة الواقعيّة بمجرّد انتفاء العلم بها ، والأوّل اولى للأصل وإن كان أحوط.

وخامسها : اختلفوا في وجوب إراقة الماءين الواردة في النصّ المتقدّم في الإنائين ، فعن الشيخين (١) والصدوقين (٢) الوجوب لظاهر الأمر الوارد في النصّ ، وعن ابن إدريس (٣) ومن تأخّر عنه الثاني ، وعليه العلّامة في المختلف (٤) وغيره ، وعن بعض الأصحاب (٥) أنّ علّة الأمر بالإراقة ليصحّ التيمّم ، لأنّه مشروط بعدم الماء.

وقد يعدّ ذلك قولا على حدة في مقابلة الأوّل ، حملا له على وجوبها تعبّدا وذلك على وجوبها مقدّمة للتيمّم.

وردّه غير واحد ـ كما في المختلف (٦) ، وعن المعتبر (٧) ، أيضا ـ : « بأنّ وجود الماء الممنوع من استعماله لا يمنع التيمّم كما في المغصوب ».

وحاصله : أنّ شرط التيمّم عدم التمكّن من استعمال الماء لا مجرّد عدمه ، ومنع الشارع عن استعمال هذا الماء رافع لتمكّن الاستعمال ، فالشرط حاصل ، ومعه لا حاجة إلى إراقة الماء.

وهذا كما ترى مبنيّ على حرمة الاستعمال ذاتا حتّى في رفع الحدث ، وهو محلّ إشكال.

والأولى في دفع هذا القول أن يقال : إنّ التيمّم مع وجود هذا الماء إمّا أن يكون سائغا أو لا ، فعلى الأوّل لا مقتضي للإراقة ، وعلى الثاني يتعيّن المائيّة بذلك الماء ، وذلك يكشف عن عدم المنع من استعماله في الطهارة ، ضرورة امتناع التكليف بالمتناقضين كامتناع عدم ثبوت التكليف بشي‌ء من البدلين.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكر في توجيه الأمر الوارد في النصّ ، نعم إنّما يتّجه ذلك

__________________

(١) وهما الشيخ الطوسي كما في النهاية ١ : ٢٠٧ والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٩.

(٢) المقنع : ٢٨ ـ الفقيه ١ : ٧.

(٣) السرائر ١ : ٨٥.

(٤ و ٦) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٩ و ٢٥٠.

(٥) حكاه عنه في المعتبر : ٢٦.

(٧) المعتبر : ٢٦.

٨٣٦

فيمن يشكّ في حصول شرط التيمّم والحال هذه ، فيلتزم بإراقة الماء إحرازا للشرط المشكوك فيه ، وهو مستحيل على المعصوم عليه‌السلام.

فالأقوى إذن عدم وجوب الإراقة للأصل ، ولا ينافيه الأمر الوارد لظهور كونه كناية عن النجاسة والمبالغة فيها ، كما في كثير من الأخبار بالقياس إلى غير المقام ، المتقدّمة في بحث انفعال القليل ، وإطلاق مثل هذا اللفظ في موضوع إرادة المبالغة في عدم ترتّب الفائدة المطلوبة من الشي‌ء شايع في العرف والعادة.

ويؤيّده : أنّه لو كان مكان الماءين عين النجس لم يجب إراقته بالضرورة.

المقام الثاني : في الماء المشتبه بالمغصوب ، والكلام فيه أيضا كسابقه في وجوب الاجتناب عن الجميع ، وعدم جواز ارتكاب شي‌ء كلّا ولا بعضا ، والدليل عليه أيضا ما تقدّم على جهة التفصيل ، وما عن بعض أفاضل متأخّري المتأخرين من استشكاله في ذلك استنادا إلى قوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (١) ، ليس بشي‌ء.

والمعروف عن علماء الاصول في تلك المسألة ونظائرها الّتي منها المسألة المتقدّمة المندرج جميعها في عنوان « الشبهة المحصورة » أقوال ، قد استقصينا الكلام في جرحها وتعديلها في المسألة الاصوليّة ، فلو ارتكب كليهما أو أحدهما فعل حراما ، لكن لو توضّأ أو اغتسل بهما ففي صحّته أقوال.

أحدها : الصحّة ، لأنّ أحدهما ماء مباح ، ولا شكّ أنّه قد وقع الطهارة ، فيستلزم أن تكون صحيحة ، وكون كلّ منهما حراما منهيّا عنه لا يوجب الفساد ، بعد منع دلالة النهي على فساد العبادة ، حكى التصريح به عن بعض محقّقي متأخّري المتأخّرين.

وثانيها : عدم الصحّة ، صرّح به غير واحد من متأخّري أصحابنا ، وقوّاه العلّامة في المنتهى (٢) تعلّقا بنهي العبادة المقتضي للفساد ، ويقين الاشتغال المقتضي ليقين البراءة الغير الحاصل هنا ، لعدم حصول الجزم بالتقرّب ، بل التقرّب بما يحتمل كونه حراما احتمالا مساويا ربّما يعدّ قبيحا ، بل هو الظاهر ، فلا يقع الامتثال.

وثالثها : الفرق بين صورتي انحصار الماء فيهما فلا يصحّ ، وعدمه فيصحّ ، لأنّ

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٧.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٧٩.

٨٣٧

الانحصار يوجب ارتفاع الأمر بالمائيّة وعدم تعلّقه رأسا ، لامتناع الأمر باستعمال ما نهي عن استعماله ، بخلاف صورة عدم الانحصار فإنّ الأمر بالمائيّة متوجّه جزما ، ومباح الماء موجود بين المشتبهين ، فالمكلّف قبل اشتغاله باستعمال هذا وذاك قاصد باستعمالهما لإدراك الطهارة بالمباح الموجود فرضا ، وبذلك يتحقّق قصد التقرّب وإن لم يستتبع حصوله بفعله المنهيّ عنه ولو مقدّمة ، فإنّ شرط الصحّة قصد التقرّب لا حصوله ، بل الشرط في الحقيقة قصد الامتثال الموجب للتقرّب ، فالتعبير عنه به تعبير باللازم.

فلو سلّم حينئذ أنّه مع تفطّنه بأنّه يفعل المحرّم جازم بعدم حصول التقرّب ، ومعه يستحيل منه القصد ، نقول : إنّ استحالة قصد التقرّب لا تستلزم استحالة قصد الامتثال.

وفيه : منع إمكان حصول قصد الامتثال ، بل عدم إمكان قصد التقرّب لعدم إمكان قصد الامتثال ، ضرورة أنّ الامتثال بمعنى موافقة الأمر فرع الأمر ، وإيجاد الطهارة بهذين الماءين بعد فرض كونه محرّما فكيف يعقل كونه موردا للأمر ، والمفروض أنّه ليس إلّا أمرا واحدا ، والأمر الواحد لا يصلح موردا للأمر والنهي ، وكونه موردا لأحدهما دون الآخر خلاف الفرض أو مثبت للمطلوب من انتفاء الأمر ، فلا جرم يتقيّد المأمور به بغير هذين الماءين وإن كان بينه وبين استعمالهما المنهيّ عنه عموم من وجه ، لضابطة ما تقرّر في الاصول من امتناع اجتماع الأمر والنهي وإن كان أحدهما مقدّميّا الموجب للتصرّف في الأمر ، ومجرّد كون أحد الماءين مباحا ذاتيّا مع فرض الحرمة العرضيّة المانعة عن تعلق الأمر غير مجد كما لا يخفى ، فالأقوى إذن عدم الصحّة.

نعم ، لو استعملهما أو استعمل أحدهما في رفع الخبث كان مجزيا ، لا لحصول الامتثال ، بل لسقوط الأمر بحصول الغرض في الخارج.

والمقام الثالث : في الماء المشتبه بالمضاف ، المصرّح به في كلام الأصحاب وجوب التطهير بكلّ منهما ، وهو كذلك لوجود الماء جزما والتمكّن قطعا ، فيثبت الأمر بالمائيّة لوجود المقتضي وفقد المانع ، ولا يحصل يقين الامتثال إلّا بالجمع ، فيجب تحقيقا لمقتضى يقين الاشتغال.

والمناقشة فيه : بأنّه لا بدّ من الجزم كما في النيّة ، ولا جزم هنا عند شي‌ء من الطهارتين ، قد عرفت ما فيها من أنّ الجزم هنا حاصل قبل التشاغل ، فإنّه جازم بأنّ

٨٣٨

أحد المشتبهين ماء وهو باستعمالهما معا يدرك استعمال الماء المأمور به ، فينوي من حينه امتثال الأمر وأداء المأمور به ، فيأتي بهذا وذاك بداعي هذه النيّة ، مع مقارنتها من حينها لنيّة كون الجمع بينهما مقدّمة للعلم ، من غير أن ينوي في كلّ بخصوصه عنوان المقدّميّة ، ولا عنوان كونه مأمورا به على جهة الاستقلال ، غاية الأمر أنّه ينوي عند إيجاد كلّ إيجاد الوضوء أو الغسل بشرائطهما وآدابهما المقرّرة في الشريعة.

وأمّا ما يقال في دفعها : من منع اشتراط مثل هذا الجزم في النيّة ، ولو سلّم فهو في صورة تيسّر الجزم أو الظنّ ، وأمّا مع عدم التيسّر فلا ، فإن اريد به منع اعتبار الجزم في الخصوصيّتين بدعوى : كفاية الجزم الإجمالي في تيسّر نيّة التقرّب فهو راجع إلى ما ذكرناه ، وإن اريد به منع اعتبار الجزم رأسا فهو واضح الضعف ، كيف وهو ـ عند التحقيق ـ راجع إلى إنكار اعتبار نيّة التقرّب في صحة العبادة ، ضرورة أنّها غير ممكن الحصول مع عدم الجزم ولا الظنّ المعتبر بوجود المأمور به مع المأتيّ به لا تفصيلا ولا إجمالا.

وما يقال : من أنّ احتمال المطلوبيّة ولو مرجوحا يكفي في تأتّي قصد التقرّب ، فإنّما يسلّم إذا جامع هذا الاحتمال للجزم الإجمالى بوجود المأمور به الواقعي مع المأتيّ به ، بأن يكون الاحتمال بالقياس إلى الخصوصيّة والجزم في الأمر المردّد بينها وبين خصوصيّة اخرى ، كما في اشتباه القبلة ونحوها ، ولا يوجب ذلك الترديد في النيّة ، لأنّه إنّما يلزم إذا كان التردّد بين أن يفعل وأن لا يفعل ، لا إذا تردّد المأمور به اليقيني بين هذا وذاك.

ثمّ إنّ هذا الحكم عند عدم التمكّن عن ماء آخر غير مشتبه واضح ، وأمّا مع التمكّن عنه فالمحكيّ عن ثاني الشهيدين في شرحه للإرشاد (١) عدم الصحّة ، للقدرة على الجزم التامّ في النيّة فلا تصحّ بدونه ، ومرجعه إلى عدم الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن عن الامتثال التفصيلي ، ولا يخلو عن قوّة كما تقدّم الإشارة إليه في مباحث النزح.

وهاهنا مسألة اخرى وهي : أنّه لو انقلب أحد المشتبهين بحيث تعذّر استعماله ، فالمنقول في المدارك عن الأصحاب « أنّهم قطعوا على وجوب الوضوء بالباقي مع التيمّم ، مقدّما للأوّل على الثاني » (٢) انتهى.

__________________

(١) روض الجنان : ١٥٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٩ مع اختلاف يسير.

٨٣٩

ونقل القطع عن الأصحاب كما ترى لا تقصر عن نقل إجماعهم على المسألة ، غير أنّه على كلّ تقدير يشكل التوفيق بينه وبين المحكيّ عن جدّه في روض الجنان (١) من الاستناد لأصل الحكم إلى القواعد العمليّة من أصل الشغل والاستصحاب ، القاضي بعدم كونه بالخصوص مأخوذا من المعصوم ، ونظير هذه القواعد ممّا لا سبيل له إلى إعطاء القطع إلّا أن يفرض بالقياس إلى الحكم الفعلي الظاهري.

وكيف كان فالعبارة المنقولة عن روض الجنان ما هذه صورته : « ولو فرض انقلاب أحدهما قبل الطهارة وجب الطهارة بالآخر ثمّ التيمّم ، لما تقدّم من أنّ الجمع مقدّمة الواجب المطلق ، ولأنّ الحكم بوجوب الاستعمال تابع لوجود المطلق ، وقد كان وجوده مقطوعا به فيستصحب إلى أن يثبت العدم ، ويحتمل ضعيفا عدم الوجوب فيتيمّم خاصّة ، لأنّ التكليف بالطهارة مع تحقّق وجود المطلق وهو منتف ، ولأصالة البراءة من وجوب الطهارتين.

وجوابهما : يعلم ممّا ذكرناه ، فإنّ الاستصحاب كاف في الحكم بوجود المطلق ، وأصالة البراءة منتفية بوجوب تحصيل مقدّمة الواجب المطلق وهي لا تتمّ إلّا بفعلهما معا.

فإن قيل : ما ذكرتم من الدليل يقتضي عدم وجوب التيمّم ، فإنّ استصحاب وجود المطلق ـ إن تمّ ـ لا يتمّ معه وجوب التيمّم ، إذ هو مع الاشتباه لا مع تحقّق الوجود.

قلنا : الاستصحاب المدّعى إنّما هو استصحاب وجوب الطهارة بناء على أصالة عدم فقد المطلق ، وذلك لا يرفع أصل الاشتباه ، لأنّ الاستصحاب لا يفيد ما في نفس الأمر ، فالجمع بين الطهارتين يحصّل اليقين » (٢) انتهى.

وكأنّ مراده بالواجب المطلق الّذي يجعل الجمع مقدّمة له يقين البراءة الّذي يستدعيه يقين الشغل بالصلاة مع الطهارة المردّدة بين المائيّة والترابيّة ، الواجب بحكم العقل ، المتوقّف على الجمع بين الطهارتين ، وعليه فهذا هو الوجه الّذي لا محيص عنه ، فيكون القول بوجوب الجمع ـ كما نقل القطع به عن الأصحاب ـ ممّا لا بدّ من المصير إليه.

وأمّا التمسّك باستصحاب وجود المطلق ففي غاية الوهن ، ضرورة أنّه لا يجدي إلّا مع الحكم من جهته بكون هذا الموجود هو الماء المطلق ، وهو محال بعد ملاحظة أنّ

__________________

(١) روض الجنان : ١٥٦.

(٢) روض الجنان : ١٥٦.

٨٤٠