ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

أو سنّور أو كلب ، الحديث (١).

وقيل : بإمكان حملها على اشتباه الراوي ، لجواز عدم كون ما رآه عذرة ، وقد توهّم كونه عذرة هذا ، مع ما فيها من عدم صلوحها للمعارضة للأخبار المتواترة المانعة عن الوضوء بمثل ذلك.

ومنها : رواية عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أغتسل في مغتسل يبال فيه ، ويغتسل من الجنابة ، فيقع في الإناء ماء ينزو من الأرض؟ فقال : « لا بأس به » (٢).

وفيه : منع كون ما وقع في الإناء مرتفعا عن محلّ البول ، إذ الرواية تضمّنت كونه ينزو من الأرض وهي أعمّ ، فيكون السؤال واردا لاستعلام حال الاشتباه ، فأجاب له الإمام عليه‌السلام بما وافق أصل الطهارة الجاري في المياه المشتبهة وكون الأرض من الشبهة المحصورة لا يوجب تنجّس ملاقيها كما هو مقرّر في محلّه ، هذا مع عدم صلوحها للمعارضة مع ضعفها بـ « المعلّى » سندا.

ومنها : رواية الأحول قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء ، فيقع ثوبي في ذلك الماء الّذي استنجيت به؟ قال : « لا بأس به » (٣).

وفيه : ما تقدّم من خروج ماء الاستنجاء عن موضوع المسألة.

ومنها : مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال:سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (٤).

وفيه : منع واضح ، لعدم تعرّض الرواية لذكر ملاقاة النجاسة ، والغسالة أعمّ منها فلا يبقى إلّا الاحتمال وهو المنشأ للسؤال ومثله من مجرى الأصل والجواب مطابق له جدّا.

ومنها : رواية أبي بكّار بن أبي بكر ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يضع الكوز الّذي يغرف به من الحبّ في مكان قذر ، ثمّ يدخل الحبّ قال : « يصبّ من الماء ثلاثة أكف ، ثمّ يدلك الكوز » (٥).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٧٥ ب ٤٠ من أبواب النجاسات ح ٥.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢١ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٥ التهذيب ١ : ٨٥ / ٢٢٣.

(٤) التهذيب ١ : ٣٧٩ / ١١٧٦.

(٥) الوسائل ١ : ١٦٤ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٧ ـ الكافي ٣ : ١٢ / ٦.

٢٢١

وفيه : أنّها أظهر في الدلالة على خلاف المطلب ، نظرا إلى أنّ قوله عليه‌السلام : « يصبّ من الماء ثلاثة أكفّ ، ثمّ يدلك الكوز » تعليم لكيفيّة تطهير الكوز ، فيريد به صبّ ثلاثة أكفّ على الكوز لغسله ، والّذي أمر به عبارة عن غسله ، والمراد بقول السائل : « ثمّ يدخل الكوز » إرادة الإدخال لا تحقّقه ، والقرينة عليه أنّه لو كان فرض السؤال فيما بعد الإدخال لما كان للدّلك الّذي أمر به فائدة أصلا ، وشأن الحكيم أرفع من أن يأمر بما لا فائدة فيه أصلا ، وظنّي أنّ هذا المعنى الّذي استظهرناه واضح لا سترة عليه ، وقضيّة ذلك قلب الاستدلال بالرواية ، بأنّه لو لا الكوز المفروض موجبا لانفعال ماء الحبّ لما أمر بغسله قبل الإدخال فيه.

ومنها : رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى ، قال : وسألته عن جنب أصابت يده من جنابته ، فمسحه بخرقة أدخل يده في غسله قبل أن يغسلها هل يجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال : « إن وجد ماء غيره فلا يجزيه أن يغتسل به ، وإن لم يجد غيره أجزأه » (١).

وفيه : أنّها لا تلائم القول بالانفعال في شقّها الثاني ، فكذلك لا تلائم القول بالعدم ، لأنّ لازمه جواز الاغتسال بالماء المفروض وكونه مجزيا عن الفرض ، غايته أنّهم يقولون بكراهة استعماله ، كما عليه مبنى حملهم النواهي الواردة في المقام عن الاستعمال على الكراهة ، ولا ريب أنّ الكراهة لا تؤثّر في عدم الإجزاء ، وقد حكم به الإمام عليه‌السلام فالاستدلال بها ساقط من الطرفين.

إلّا أن يرجع إلى ابتنائها على قاعدة اصوليّة ـ قرّرناها في محلّها ـ من امتناع اجتماع الكراهة مع الوجوب والندب ، فكان المنع عن الاغتسال بالماء المفروض ـ على تقدير وجدان ماء غيره ـ استنادا إلى أنّ الاغتسال به ممّا لا أمر به لمكان الكراهة المانعة عنه ، بخلاف التقدير الآخر المحكوم عليه بالإجزاء ، من حيث إنّ عدم وجدان ماء آخر يوجب الاضطرار إلى الماء المفروض وهو يوجب ارتفاع الكراهة فيحصل الأمر ، اعتبارا لوجود المقتضي وفقد المانع ، وعليه يمنع كون ما أصاب اليد من الجنابة عبارة عن المنيّ ، لجواز كونه شيئا مشتبها به وبطاهر ، أو كون الماء المفروض قليلا لجواز كونه عند السائل مردّدا بين الكثير والقليل ، ولا ريب أنّ كلّا من ذلك ممّا يقتضي الاحتياط ويوجب كراهة الاستعمال من حيث كون الماء محتملا للنجاسة ، فأعطى له

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٨٠ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ٢٠٩ ح ٤٥٢.

٢٢٢

الإمام عليه‌السلام قاعدة كلّيّة متضمّنة للتفصيل المذكور ، المبتني على الكراهة وزوالها ، ومع ذلك كلّه فالرواية غير صالحة للمعارضة جزما.

ومنها : رواية دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن الغدير ، تبول فيه وتروث ، ويغتسل فيه الجنب؟ فقال : « لا بأس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأصحابه في سفر لهم على غدير ، وكانت دوابّهم تبول فيه وتروث ، فيغتسلون فيه ويتوضّئون ويشربون » (١).

وفيه : ما لا يخفى من عدم إشعارها بملاقاة النجاسة ، لعدم التعيّن في مرجع ضمير تبول ونحوه ، بل الظاهر كونه مرادا به « الدوابّ » ، كما يرشد إليه تأنيث الضمير وذكر « الدوابّ » في كلام الإمام عليه‌السلام عند حكايته الواقعة المفروضة ، ولا ريب أنّ الدوابّ لا تتناول مثل الإنسان ونحوه ممّا ليس بطاهر البول.

ومنها : صحيحة شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : ـ في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء ، وينضح الماء من الأرض فيصير في الإناء ـ « أنّه لا بأس بهذا كلّه » (٢).

وفيه : ما لا يخفى أيضا من عدم إشعاره بنجاسة الأرض ولا الجسد ، ولا ينبغي التمسّك بالإطلاق لوروده مقام إفادة حكم آخر ، وهو عدم مانعيّة ما تقاطر في الإناء من قطرات غسالة الاغتسال عن صحّة الغسل.

ونظيره الكلام في صحيحة فضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : في الرجل الجنب يغتسل فينضح من الماء في الإناء؟ فقال : « لا بأس (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) » (٣).

ومنها : رواية الوشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنّه كره سؤر ولد الزناء ، وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك ، وكلّما خالف الإسلام ، وكان أشدّ عنده سؤر الناصب » (٤).

وفيه : أنّ الكراهة في أخبار الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ شائع استعمالها في التحريم ، فلا ينبغي حملها على المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء ، غير أنّه ينبغي حملها على ما يعمّ المعنيين بقرينة السياق الجامع بين ولد الزناء وغيره من الطوائف المذكورة ، مضافا

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ١١٢.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ٢١٢ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٦ و ٥ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٦ و ٧.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٩ ب ٣ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٣٩.

٢٢٣

إلى أنّه طريق جمع بينها وبين الأخبار الدالّة على الانفعال صراحة وظهورا.

فهذه هي الأخبار الّتي عثرنا عليها للقول بعدم الانفعال ، ولا ريب أنّ الاستناد إليها لهذا الحكم خروج عن قانون الفقاهة ، بعد وجود أخبار اخر متواترة دالّة على الانفعال ، فإنّ ذلك لا ينشأ إلّا عن قصور البال.

ثمّ عن الكاشاني كلمات اخر في تشييد مذهبه المخالف للنصوص المتواترة ، وهي لغاية سخافتها وإن كانت ممّا لا ينبغي الالتفات إليها ، وتضييع الوقت بالتعرّض لنقلها وتزييفها ، غير أنّ مزيد انكشاف شناعة ما صار إليه وما اعتمد عليه يدعونا إلى التعرّض لذلك.

فنقول : إنّ من جملة ما حكي عنه : أنّه أيّد ما صار إليه من عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، بورود الأخبار المصرّحة بطهارة ماء الاستنجاء.

وفيه : أنّ حكم الانفعال إنّما ثبت من باب القاعدة ، ولا شي‌ء منها إلّا وهي قابلة للتخصيص ، وما ذكر مخصّص لها ، كما ثبت نظيره في المطر بالإجماع ونحوه ، والبئر والجاري على القول بعدم انفعال القليل فيهما ، فلو صلح ما ذكر مؤيّدا لمذهبه الفاسد لكان هذه منه ، فلا وجه للاقتصار عليه.

مع ما قيل عليه : من أنّ تخصيص الحكم بماء الاستنجاء في الروايات يشعر بالمغايرة لغيره من المياه الملاقية للنجاسات ، فلأن يكون ذلك من مؤيّدات القول بالانفعال طريق الأولويّة دون العكس.

ومن جملة ما حكي عنه : أنّه جمع بين الروايات الّتي تمسّك بها لمصيره إلى عدم الانفعال ، والأخبار المصرّحة باشتراط الكرّيّة ، بحملها على أنّها مناط ومعيار للقدر الّذي لا يتغيّر من الماء بما يعتاد وروده من النجاسات.

قائلا في الوافي : « وعلى هذا فنسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء ، كنسبة مقدار أقلّ من تلك النجاسة إلى مقدار أقلّ من ذلك الماء ، ومقدار أكثر منها إلى مقدار أكثر منه ، فكلّما غلب الماء على النجاسة فهو مطهّر لها بالاستحالة ، وكلّما غلب النجاسة عليه بغلبة أحد أوصافها فهو منفعل منها خارج عن الطهوريّة بها » (١).

وعنه أيضا أنّه بعد ما أورد صحيحة صفوان ، المتضمّنة للسؤال عن الحياض الّتي

__________________

(١) الوافي ٦ : ١٩.

٢٢٤

بين مكّة والمدينة ، قال : « ولمّا كانت الحياض بين الحرمين الشريفين معهودة معروفة في ذلك الزمان ، اقتصر عليه‌السلام على السؤال عن مقدار الماء في عمقها ، ولم يسأل عن الطول والعرض ، وإنّما سأل عن ذلك ليعلم نسبة الماء إلى تلك النجاسات المذكورة ، حتّى يتبيّن انفعاله منها وعدمه ، فإنّ نسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء في التأثير والتغيير كنسبة ضعفه إلى ضعفه مثلا وعلى هذا القياس » (١).

وعنه أيضا : أنّه أيّد هذا المعنى الّذي أوّل الأخبار إليه باختلاف تلك الأخبار ، قائلا : « بأنّه يؤيّد ما قلناه ـ من أنّه تخمين ومقايسة بين قدري الماء والنجاسة ـ أنّه لو كان أمرا مضبوطا وحدّا محدودا لم يقع الاختلاف الشديد في تقديره لا مساحة ولا وزنا ، وقد وقع الاختلاف فيهما معا ، والوجوب لا يقبل الدرجات بخلاف الاستحباب ، وقد اعترف جماعة منهم بمثل ذلك في ماء البئر » (٢) انتهى.

وفيه : إن أراد بما أفاده من الحمل دعوى الملازمة بين الكرّيّة وعدم قبول التغيير فهو ممّا يشهد بكذبه الضرورة والعيان ، فكم من كرّ بل كرور يقبل التغيّر ، فلذا ترى كلماتهم مشحونة في بحث التغيّر بالتصريح بعدم الفرق فيه بين الكرّ وغيره ، وإن أراد به دعوى الملازمة بينها وبين مقدار معيّن من النجاسة الواقعة في الماء ، ككون وقوعها فيه ممّا جرت العادة عليه.

ففيه : مع أنّه ممّا لم يستقرّ له عادة ، بل لم يحصل له حدّ عادي ، أنّه يوجب أوّلا ارتكاب التجوّز في لفظ « ينجّسه » الوارد في تلك الأخبار بحمله على « يغيّره » ، والتقييد ثانيا بحمل « شي‌ء » على ما يعتاد وقوعه من النجاسات ، مع لزوم تقييد آخر بحمله على ما كان صالحا للتغيير ليخرج عنه مباشرة الكافر والكلب ونحوهما ممّا لا يوجب تغيّر أصلا ، وأيّ دليل على هذه كلّها.

ولو سلّم أنّ الداعي إلى ذلك إرادة الجمع بينها وبين ما دلّ بإطلاقه على عدم الانفعال ، فتطرّق التأويل إليها ليس بأولى من تطرّقه إلى تلك المطلقات بحملها في اقتضاء عدم الانفعال على الكرّ ، مع أنّه لو اعتبر المفهوم مع هذا التأويل كان مفاده أنّ ما دون الكرّ يلازم التغيير وهو خلاف الحسّ ، وإلّا لزم خلاف أصل آخر وهو إلغاء المفهوم.

__________________

(١ و ٢) الوافي ٦ : ٣١ و ٣٦.

٢٢٥

وأمّا ما استنبطه من النسبة فالظاهر أنّ معناها : أنّ ما يعتاد وروده على الماء من النجاسة إذا لم يكن مغيّرا للكرّ ، فبعض منه بنسبة مخصوصة إذا وقع في بعض من الكرّ بتلك النسبة لم يكن مغيّرا له أيضا ، لوضوح اتّحاد البعض للكلّ في الحكم ، فحينئذ لو أنّ ثلثا من الكرّ ـ مثلا ـ إذا وقع فيه بعض من النجاسة المعتاد وقوعها في الماء ، فلا بدّ من استعلام الحال بأخذ النسبة بين ذلك البعض وكلّه ، فإن بلغ ثلثه لم يكن مغيّرا لما هو واقع فيه ، كما أنّه لو قصر عنه لم يكن مغيّرا له ، وإن تجاوز الثلث كان مغيّرا له ، ولو أنّ ربعا ممّا يعتاد وقوعه وقع على بعض من الكرّ يجب مراعاة النسبة بينهما ، فإن بلغ ربعه أيضا لم يكن الواقع فيه مغيّرا له ، كما أنّه كذلك لو قصر عنه ، وأمّا لو زاد عليه كان مغيّرا له ، وهكذا إلى آخر الفروض.

وأنت خبير : بوضوح فساد ذلك ، وعدم كونه ممّا ينساق عن تلك الأخبار ، فإنّ هذا ممّا لا ينضبط أبدا ، ومراعاة تلك النسبة ممّا لا يبلغ إليه فهم كافّة المكلّفين عدا الأوحدي من الخواصّ ، ومع ذلك فالغالب وقوعه من النجاسات على المياه ما يقع بغتة بلا معلوميّة مقداره ، مع تعذّر استعلامه بعد ذلك أيضا ـ كما لو كان من المائعات ـ فكيف يسوغ على الشارع الحكيم أن ينوط حكمه الّذي يعمّ به البلوى في قاطبة الأعصار وكافّة الأمصار على قاعدة لا يدركها إلّا الأوحدي من البعض ، مع تعذّر إعمالها في غالب موارد موضوعها ، مع أنّه لا يدري أنّ اعتبار هذه النسبة والإرشاد إلى هذا التخمين والمقايسة لأيّ فائدة هو؟ بعد ما كان أصل التغيّر أمرا حسّيّا غير محتاج إلى الكاشف.

ومن هنا يتوجّه إشكال آخر ، من جهة لزومه حمل كلام الشارع على ما ليس بيانه من شأنه ، وهو إعطاء الضابط والميزان لما هو من مقولة الحسّيّات ، وما اعتذر له المحدّث ـ في جملة من كلامه ـ « بأنّه ربّما يشتبه التغيّر مع أنّ الماء قد تغيّر أوصافه الثلاثة بغير النجاسة فيحصل الاشتباه » (١).

ففيه : مع قضائه بحمل الكلام على موارده النادرة ، أنّ الاشتباه يرتفع بأصل الطهارة الّذي قرّره الشارع ، مضافا إلى خصوص قوله : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٢) الّذي عرفت اختصاصه بمواضع الاشتباه.

__________________

(١) الوافي ٦ : ٣٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

٢٢٦

وأمّا ما ساق إليه التأويل المذكور ، بل استشهد به لمختاره من صحيحة صفوان بن [مهران] الجمّال (١) ، ففيه : أنّ سياق السؤال الوارد فيها يأبى عن ذلك ، حيث لم يذكر فيه من النجاسات ما يوجب تغيّر الماء عادة ، كما لا يخفى على المتأمّل فيه.

وأمّا ما أيّد به مختاره من اختلاف الأخبار المقدّرة للكرّ وزنا ومساحة.

ففيه : أوّلا : عدم قيام ما يقضي بكون الاختلاف من جانب الشارع ، فلعلّه اختلاف نشأ من الرواة أو الجاعلين للأخبار الكاذبة ، والتأييد إنّما يحصل على التقدير الأوّل دون الأخيرين.

وثانيا : أنّه كم من هذا القبيل في أخبار أئمّتنا المعصومين ، الواردة في جميع أبواب الفقه ، فلو كان ذلك منشأ للأثر وموجبا لتطرّق التأويل إلى الأخبار الظاهرة والنصوص المحكمة ، لم ينضبط قاعدة من قواعد الفقه.

وثالثا : أنّ ذلك لو صلح إشكالا لكان مشترك الورود ، فيتوجّه إلى ما صار إليه بل بطريق أولى ؛ لأنّ مرجع كلامنا إلى أنّ أخبار الكرّ واردة لإحراز موضوع لحكم شرعي معلّق عليه وهو الكرّيّة الّتي ينوط بها عدم الانفعال بشي‌ء ، ومرجع كلامه إلى أنّها إنّما وردت لإعطاء ضابط كلّي وميزان مطّرد لمعرفة موضوع حكم وهو التغيّر المورّث للانفعال ، فإذا كان الأوّل مقتضيا لكون مفادها أمرا مضبوطا وحدّا محدودا ، فكان الثاني أولى بالاقتضاء كما لا يخفى.

ثمّ إنّه بقى الكلام في مقامين ، ينبغي سوق عنان النظر إليهما.

أحدهما : النظر في معمّمات المسألة.

وثانيهما : في مستثنياتها من محلّ وفاق أو خلاف ، فاستمع لما يتلى عليك.

أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فمن جهات :

الجهة الاولى : يظهر من صاحب المدارك بعد ما صار إلى انفعال القليل بالملاقاة ، التشكيك في انفعاله بكلّ نجس قائلا فيه : « لكن لا يخفى أنّه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، بل ولا على انفعاله بكلّ ما يرد عليه من النجاسات » (٢) الخ.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٢ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

٢٢٧

والعجب منه أنّه ذكر ذلك مع تمسّكه على ما صار إليه بصحيحتي محمّد بن مسلم (١) ، ومعاوية بن عمّار « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٢) وكأنّه مبنيّ على منع العموم في المفهوم ، كما صار إليه جماعة منهم الكاشاني فيما تقدّم عنه من جملة اعتراضاته على الأخبار الواردة بهذا المضمون ، وقد أشرنا إجمالا إلى ما يدفعه.

ونقول هنا أيضا : أنّ المفهوم على ما يساعد عليه العرف وطريقة أهل اللسان ، يتبع المنطوق في عمومه وخصوصه ، وما توهّم : من منع العموم في المفهوم مع كون المنطوق مشتملا على النكرة في سياق النفي ، إنّما يتّجه لو فسّر مفاد منطوق قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » بأنّه لا ينجّس بجميع أفراد النجس ، ليكون محصّله السلب الجزئيّ المستلزم لكون المفهوم إيجابا جزئيّا ، وهو كما ترى بعيد عن هذه العبارة غاية البعد ، بل لا يكاد ينساق منها عرفا ، بل معناه : أنّه لا ينجّس بشي‌ء من أفراد النجس ، فيكون مفهومه : أنّه ينجّس بكلّ فرد منه ، ومع الغضّ عن ذلك يكفينا في إثبات العموم عموم التعليل في قوله : « رجس نجس » الوارد في الكلب (٣) حسبما قرّرناه.

مضافا إلى إطلاق « القذر » الوارد في كثير من أخبار الباب ، مع كفاية ملاحظة مجموع الروايات المتضمّن كلّ واحد منها لنوع أو نوعين أو أنواع من النجاسات ، حتّى أنّه لا يشذّ منها شي‌ء ظاهرا ، مع الإجماع المركّب أيضا ، كما في كلام غير واحد من الفحول.

مع أنّ المسائل الفرعيّة الّتي كلّها ضوابط كلّيّة وقواعد مطّردة يقتبس أغلبها ـ من الطهارات إلى الديات ـ من موارد جزئيّة من جزئيّات موضوعاتها ، من غير أن يرد فيها لفظ عامّ شامل لجميع الجزئيّات ، وعليه طريقة الفقهاء قديما وحديثا ، ولذلك تراهم لا يزالون يستدلّون على الأحكام الكلّيّة بما ورد من الأخبار في بعض الجزئيّات ، وكأنّ ذلك من جهة أنّه علموا من طريقة الشارع أنّه يعطي الضوابط الكلّيّة بخطابات جزئيّة وبيانات شخصيّة.

مع إمكان دعوى تنقيح المناط في خصوص المقام ـ لو سلّم عدم ورود جميع أنواع النجاسات في الأخبار الواردة فيه ـ بتقريب : أنّ القطع يحصل بأنّ الانفعال بالنسبة إلى الموارد الخاصّة الواردة في تلك الأخبار ، ليس مستند إلّا إلى ما في تلك الموارد من

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٣٩ / ١٠٧ و ١٠٩.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦.

٢٢٨

الوصف العنواني الّذي يعبّر عنه بـ « النجاسة » ، من غير مدخليّة في ذلك لما فيها من الخصوصيّة الراجعة إلى ذاتيّاتها أو عرضيّاتها من غير جهة هذا الوصف ، هذا.

الجهة الثانية : ربّما يحكى في المسألة عدم تنجيس المتنجّس ، الّذي لازمه أن لا ينفعل القليل به ، ويظهر من المحقّق الخوانساري الميل إليه (١) ، وإن كان جعل الانفعال أولى بعد ما نسبه إلى ظاهر كلام الأصحاب ، ويظهر من شيخنا في الجواهر (٢) الفرق بين متنجّس لا يفيد الماء طهره فالانفعال ، ومتنجّس يفيد الماء طهره فعدم الانفعال ، ويظهر ذلك أيضا من محكيّ المصابيح (٣) فيما لو ورد عليه الماء مفيدا طهره ، ومنشؤه على ما صرّح به في الجواهر (٤)طهارة الغسالة ـ على ما صار إليه ـ جمعا بين القاعدتين : انفعال القليل بالملاقاة ، وطهارة الغسالة.

وصحّة هذا التفصيل ـ على أحد الوجهين ـ وسقمه مبنيّتان على النظر في حكم الغسالة ، والكلام مع المدّعين لطهارتها وستعرفه في محلّه ، وأمّا منع الانفعال بالمتنجّس مطلقا فلم نقف له على وجه ، ولعلّه غفلة عن التدبّر في روايات الباب ، أو مبنيّ على توهّم انحصار أدلّة الانفعال في مفهوم قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (٥) مع منع العموم فيه بحيث يشمل المتنجّس أيضا ، وكيف كان فهو في غاية الضعف.

أمّا أوّلا : فللمفهوم المشار إليه ، فإنّه عامّ بالقياس إلى جميع مصاديق « شي‌ء » ومنها المتنجّس ، غاية الأمر خروج ما كان منها طاهرا بالتخصيص أو التخصّص ، بدعوى : عدم صلاحيّة الطاهر مشمولا للمنطوق ، نظرا إلى كون بيان الحكم بالنسبة إليه من باب توضيح الواضحات وهو سفه ، فليس من شأن الحكيم بل ويقبح ذلك عليه ، وقضيّة ذلك خروجه عن المفهوم من أوّل الأمر من دون حاجة له إلى المخرج.

ولكن فيه : أنّ المراد بالخروج في مواضع التخصيص ليس هو الخروج الحقيقي لاستحالة البداء من الحكيم العالم ، بل المراد به انكشاف خروجه بملاحظة الخارج الّذي يعبّر عنه بالمخصّص ، ولا ريب أنّ ذلك الخارج الّذي يوجب الانكشاف كما أنّه

__________________

(١) مشارق الشموس : ١٩٠.

(٢ و ٤) جواهر الكلام ١ : ٢٣٨.

(٣) مصابيح الأحكام ـ الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٤٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩.

٢٢٩

قد يكون لفظا فكذلك قد يكون عقلا قاطعا ، وما قرّرناه في وجه استحالة شمول المنطوق للطاهر ليس إلّا عقلا قاطعا قام في المقام وكشف عن حقيقة المراد ، وإلّا فاللفظ بما هو هو ـ أي مع قطع النظر عن ذلك ـ صالح للشمول جزما ، فيكون خروجه المذكور عن المنطوق من باب التخصيص ، ويتبعه في ذلك المفهوم ويكون مخصّصا بخروج ما ذكر ، ويبقى الباقي ومنه المتنجّس ؛ إذ لا استحالة في كونه مرادا في المنطوق فيكون كذلك في المفهوم ؛ إذ لا مخرج له من عقل ولا نقل.

لا يقال : إنّ العامّ بالقياس إليه مجمل إذ لا ريب ـ على ما اعترفت به ـ في ورود تخصيص عليه ، والقدر المتيقّن ممّا يشمله المخصّص إنّما هو الطاهر ، كما أنّ القدر المتيقّن ممّا يشمله العامّ إنّما هو نفس النجاسة ، وأمّا المتنجّس فيبقى متردّدا بين كونه مشمولا للعامّ أو المخصّص ، ومعه لا معنى للتمسّك بالعموم بالنسبة إليه.

لأنّا نقول : بمنع كون هذا النوع من التردّد موجبا لإجمال العامّ ، وإنّما هو في الشبهة المصداقيّة أو المفهوميّة بالقياس إلى مسمّى موضوع المخصّص ، والمقام ليس بشي‌ء منهما ، بل التردّد المذكور فيه ابتدائي ينشأ من احتمال زيادة التخصيص ، فيرتفع بملاحظة ظهور اللفظ نوعا ، وأصالة عدم الزيادة في التخصيص.

ولو سلّم عدم ارتفاعه فليس بقادح في جواز التمسّك بالعامّ ، لكون اعتبار ظواهر الألفاظ ثابتا بالنوع ، وكون قلّة التخصيص أولى من كثرته ـ حيثما دار الأمر بينهما ـ باب معروف متسالم عليه عندهم ، فلا وجه للمناقشة في العموم.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قذارة اليد الواردة في أكثر روايات الباب الموجبة للانفعال تشمل ما لو كانت متنجّسة ، وحملها على ما لو كانت العين باقية فيها بعيد عن الانفعال (١) وينفيه ترك الاستفصال.

ودعوى : ظهور « القذر » في العين ، يدفعها : ما في صحيحة البزنطي « عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة » (٢) وما في قويّة أبي بصير « إذا كانت يده قذرة فأهرقه » (٣).

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٩ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٤ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ التهذيب ١ : ٣٠٨ / ١٠٣.

٢٣٠

وأمّا ثالثا : فلخصوص صحيحة عليّ بن جعفر المشتملة في ذيلها على قوله عليه‌السلام : « إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء » (١) إلخ وموثّقة عمّار المتضمّنة لقوله : وعن الإبريق يكون فيه خمر ، أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » (٢) ، ورواية عليّ بن جعفر المتضمّنة لقوله عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية؟ قال عليه‌السلام : « إذا غسله فلا بأس » (٣) ، وروايتي عليّ بن يقطين (٤) ، وعيص بن القاسم (٥) الواردتين في سؤر الحائض وفضلها الحاكمتين بأنّه إذا كانت مأمونة فلا بأس ، أو توضّأ منه إذا كانت مأمونة.

الجهة الثالثة : عزي إلى المشهور عدم الفرق في النجاسة الموجبة للانفعال بين كثيرها وقليلها حتّى ما لو كان منها ممّا لا يدركه الطرف مثل رءوس الإبر الّتي لا تحسّ ولا تدرك ولو كان دما ، وعن الحلّي (٦) دعوى الإجماع عليه ، وعليه الشيخ على ما حكي عنه في سائر كتبه سوى المبسوط والاستبصار ، وأمّا فيهما فخالف المشهور وذهب إلى الفرق بين الكثير والقليل الّذي لا يدركه الطرف فخصّ الحكم بالأوّل دون الثاني ، قائلا في المبسوط ـ على ما حكي ـ : « وحدّ القليل ما نقص عن الكرّ ، وذلك ينجّس بكلّ نجاسة تحصل فيه ، قليلة كانت النجاسة أو كثيرة ، تغيّرت أوصافه أو لم يتغيّر ، إلّا ما لا يمكن التحرّز منه مثل رءوس الإبر من الدم وغيره ، فإنّه معفوّ عنه لأنّه لا يمكن التحرّز منه » (٧).

وعنه أنّه خصّ ذلك في الاستبصار بالدم (٨) ، كما أنّ العلّامة حكاه عنه في المختلف (٩) مخصوصا به من غير تعرّض لتعيين كتابه ، ولعلّه أيضا وهم نشأ عن كلامه في الاستبصار ، ولأجل ذلك توهّم جماعة على ـ ما حكي ـ كون أقواله ثلاثة والإنصاف يقتضي خلافه ، إذ لا إشعار في كلامه في الاستبصار باختصاص الحكم

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٧ / ١١١٥.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٤ ب ٥١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٣ / ٨٣٠.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٦٩ ب ٣٠ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٥ ـ قرب الإسناد : ١١٦ ـ مسائل عليّ ابن جعفر : ٥١٤ / ٢١٢.

(٤) الوسائل ١ : ٢٣٧ ب ٨ من أبواب الأسآر ح ٥.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٤ ب ٧ من أبواب الأسآر ح ١.

(٦) السرائر ١ : ١٨٠.

(٧) المبسوط ١ : ٧.

(٨) الاستبصار ١ : ٢٣.

(٩) مختلف الشيعة ١ : ١٨٢.

٢٣١

بالدم ، كما لا يخفى على من يراجعه في ذيل باب القليل الّذي تحصل فيه النجاسة (١)

وكيف كان ففي المختلف (٢) احتجّ الشيخ رحمه‌الله بوجهين :

الأوّل : رواية عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل امتخط فصار الدم قطعا فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال : « إن لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه » (٣).

الثاني : أنّ وجوب التحرّز عن ذلك مشقّة عظيمة وضرر كثير فيسقط ، لقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤).

وقد يقال : إنّ دلالة الرواية مبنيّة على إرادة السائل إصابة الماء من الإناء تسمية باسم المحلّ ، لأنّ إرادة خصوص الظرف لا يناسب السؤال.

ولا يخفى بعده لكونه مجازا بلا قرينة واضحة ، ولا يلائمه قوله عليه‌السلام : « في الماء » لكونه على التوجيه المذكور في موضع الإضمار ، مع توجّه المنع إلى ابتناء دلالتها على ذلك ، لجواز تقريرها بأنّ السؤال وإن كان لا قضاء له بإصابة الدم للماء غير أنّ الجواب يشمل بعمومه ما هو المقصود بالاستدلال في وجه ، أو هو مختصّ بالمقصود في آخر.

أمّا على ما في بعض النسخ من نصب « شي‌ء » ، فلعود الضمير في الفعل الناقص إلى « الدم » بنفسه ، أو بوصف كونه مصيبا للإناء ، وكون الجملة المتعقّبة له صفة للشي‌ء والظرف متعلّقا بها ، فيكون المعنى : إن لم يكن الدم أو ما أصاب الإناء شيئا يستبين في الماء فلا بأس ، وهذا كما ترى يعمّ ما لو لم يكن فيه شي‌ء أصلا ، أو كان ولم يكن مستبينا فيه ، بناء على رجوع النفي إلى كلّ من الوصف والموصوف ، فثبت به المطلوب أيضا.

ولكنّ الحمل عليه لعلّه ليس على ما ينبغي ؛ لعدم كون إفادة الحكم لصورة انتفاء الدم بالمرّة من شأن السائل ولا المسئول ، مضافا إلى أنّ النفي والإثبات يرجعان في الكلام إلى القيد ، وكما أنّ الإثبات في الفقرة الثانية من الرواية يدور على القيد فكذلك

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢٣.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ١٨٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

(٤) الحجّ : ٧٨.

٢٣٢

في النفي ، فيكون حاصل معنى الفقرة الاولى : إن كان ما أصاب الإناء شيئا غير مستبين في الماء فلا بأس ، وهذا عين المطلوب.

وأمّا على ما في أكثر النسخ ـ على ما وجدناه في الكافي والتهذيب والاستبصار ـ من رفع « شي‌ء » فيكون « شي‌ء » اسما للفعل الناقص ، وخبره الجملة المستعقبة للظرف الّذي هو متعلّق بها ، أو الظرف والجملة صفة للشي‌ء ، فيكون المعنى ـ بناء على رجوع النفي إلى الخبر أو إلى الصفة ـ : إن كان شي‌ء غير مستبين في الماء فلا بأس ، أو إن كان شي‌ء غير مستبين حاصلا في الماء ، أي إن حصل في الماء شي‌ء غير مستبين فلا بأس ، وهذا أيضا عين المطلوب.

وبما قرّرناه يندفع ما أورد عليه غير واحد بأنّه لا يدلّ على إصابة الدم للماء الّتي هي محلّ الكلام ، قال العلّامة في المختلف : « والجواب أنّه غير دالّ على محلّ النزاع ، لأنّه ليس في الرواية دلالة على أنّ الدم أصاب الماء ، ولا يلزم من إصابته الإناء إصابته للماء ، وإن كان يفهم منه ذلك لكن دلالة المفهوم ضعيفة » (١).

وقد يجاب عنه ـ كما في المختلف أيضا ـ : بأنّه معارض برواية عليّ بن جعفر ـ في الصحيح ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ ، فيقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : « لا ». (٢)

وهو كما ترى بمكان من الوهن ، فإنّ الفرق بين القطرة وما لا يدركه الطرف المفسّر في كلام الشيخ برءوس الإبر كما بين السماء والأرض ، فهي معارضة بما ليس من محلّ النزاع في شي‌ء.

ودون هذا الجواب ما قيل أيضا : من أنّ عدم استبانة الدم في الماء لا يقضي بلوغ قطع الدم في الصغر إلى حدّ رءوس الإبر ، فإنّه قد لا يستبين في الماء وهو أعظم ممّا ذكر ، ووجهه : أنّ ذلك مذكور في كلام الشيخ من باب المثال لا من باب الانحصار ، وإلّا فمناط كلامه إنّما هو عدم الاستبانة كائنا ما كان.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

٢٣٣

وأدون من الجميع ما عن الذخيرة من : « أنّ مورد الرواية دم الأنف ، فالتعميم لا يخلو عن إشكال ، وأشكل منه إلحاقه في المبسوط كلّ ما لا يستبين » (١) ، ووجهه : أنّ المناط عند القائلين بانفعال القليل بالملاقاة واحد ، وهو مباشرة وصف النجاسة الّتي هي حاصلة في الجميع ، ولذا يدّعي إجماعهم المركّب على التعميم في أصل المسألة.

والأولى في هدم الاستدلال بالرواية منع دلالة ما فيها من الجواب المفصّل بين الاستبانة وعدمها ، بل هي عند التحقيق تقضي بما ذهب إليه المشهور من إطلاق القول بالانفعال ، فإنّ « الاستبانة » لغة وعرفا ضدّ الخفاء ، يقال : « استبان الأمر » ، أي اتّضح وتبيّن وانكشف أي زال خفاؤه ، وكما أنّ الشي‌ء قد يخفى على الحسّ فلا يرى أو لا يسمع ، فكذلك يخفى على الذهن فلا يدرك ، يقال : « خفي الحقّ عليّ » ، كما يقال : « خفي الهلال على بصري ».

وقضيّة ذلك أن يكون التبيّن ـ على معنى زوال الخفاء ـ مقولا بالاشتراك على التبيّن في الحسّ والتبيّن في الذهن معا ، ولذا لو حصل لك العلم بفسق أحد تقول : « قد خفي عليّ فسقه فتبيّن لي أنّه فاسق » ، ولا يصحّ أن تقول : « ما تبيّن لي فسقه » ، كما أنّه إذا رأيت الهلال تقول : « قد خفي على بصري الهلال فتبيّن » ، ولا يصحّ أن تقول : « لم يتبيّن ».

وقضيّة ذلك أن يكون الحكم المعلّق على الاستبانة بهذا المعنى ، معلّقا عليها بالمعنى الأعمّ الّذي هو القدر المشترك بين النوعين ، فيكون مفاد الرواية حينئذ إناطة حكم النجاسة المانعة عن الوضوء بزوال خفاء مباشرة الدم للماء ، الّذي يتحقّق تارة عند البصر كما لو رأيناه فيه بعينه ، واخرى عند الذهن كما لو علمنا بوقوعه فيه وإن خفي على أبصارنا بعد الوقوع ، فيكون المعنى ـ على نسخة النصب ـ : إن كان الّذي أصاب الإناء شيئا يخفى عليك كونه في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا لا يخفى عليك كونه في الماء فلا يتوضّأ منه ، ولا ريب أنّه إذا علمنا بوقوع قليل من الدم أو غيره ولو صغيرا بقدر رءوس الإبر في الماء ، لصدق في حقّنا قضيّة القول بعدم خفاء كونه في الماء ، ولم يصدق لو قلنا : أنّه شي‌ء خفي علينا كونه في الماء.

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٢٥.

٢٣٤

وعلى نسخة الرفع : إن كان شي‌ء من الدم أو غيره خفي كونه في الماء فلا بأس به ، وإن كان شيئا لا يخفى كونه في الماء فلا يتوضّأ منه ، ولا ريب أنّ الرواية بكلّ من التقديرين واضحة الدلالة على أنّ إدراك مباشرة النجاسة بالحسّ أو الذهن موجب لترتّب النجاسة وأحكامها ، وهو عين ما صار إليه المشهور ، ولا شهادة لها بما صار إليه الشيخ ، ومحصّل مفادها ـ على ما أشرنا إليه غير مرّة ـ إفادة النجاسة وأحكامها منوطة بالعلم بالمباشرة ولو بتوسّط الحسّ ، ويكون موردها كما يرشد إليه السؤال المصرّح بإصابة الدم للإناء صورة الاشتباه والاحتمال ظنّا أو وهما أو شكّا ، لصدق الخفاء المعلّق عليه عدم المنع على الجميع عرفا ، ولا ريب أنّها ممّا يحسن معها السؤال ، بل السؤال عن مثلها ممّا ينبعث عن التقوى وكمال الاعتناء بآثار الشرع وأحكامه ، كما هو من دأب المحتاطين وديدن المتّقين ، لا سيّما الّذين لهم حظّ من العلم والفقاهة في مسائل الدين.

فما أورد على القول بمنع دلالة الرواية إلّا على إصابة الإناء ، من أنّ ذلك غير لائق بعلوّ شأن السائل وهو عليّ بن جعفر ؛ لكونه فقيها جليل القدر عظيم الشأن من أهل العلم والمعرفة ، فكيف يسأل عن حكم إصابة النجاسة للإناء دون الماء ، مع وضوحه وبداهة أنّ إصابة الإناء ممّا لا يعقل لها تأثير في المنع ، ليس على ما ينبغي.

لا يقال : السؤال إنّما ينبعث عن الجهل ، ومن البعيد أن لا يكون عليّ بن جعفر عالما بحكم صورة الاشتباه ، وما قرّر لها من الأصل الّذي يرجع إليه معها ، لأنّه لا يناسب ما فيه من الفقاهة وجلالة الشأن وعلوّ المرتبة ، لمنع اقتضاء كلّ ذلك ما ذكر من الاستبعاد ، فإنّ البحر قد يشذّ منه القطرة ، مع أنّ الفقاهة إنّما تحصل تدرّجا فلم لا يجوز كون الرواية صادرة في أوّل الأمر ، أو أنّه علم الأصل بالاجتهاد ومع ذلك راعى السؤال أخذا بالأوثق ، أو أنّ السؤال إنّما ورد تنبيها للغير على حكم المسألة ممّن خفي عليه الأمر.

وبما قرّرناه في دفع دلالة الرواية على ما صار إليه الشيخ ، وقعنا في فراغ عن القدح في سندها ، والحكم عليه بالضعف من جهة الجهالة ، فإنّ في طريقها محمّد ابن أحمد العلوي وهو مجهول حاله ، غير منصوص في كلام علماء الرجال بمدح ولا قدح ، حتّى يعارض بكون توثيقه مستفادا من تصحيح العلّامة رواياته في المختلف والمنتهى ،

٢٣٥

سيّما هذه الرواية الّتي صحّحها العلّامة في المختلف (١) بخصوصها.

وأمّا الوجه الثاني : ممّا احتجّ به الشيخ فمنعه واضح غاية الوضوح ، وتفصيل القول عليه منع الصغرى أوّلا : ـ سواء أراد بالمشقّة العظيمة العسر والحرج المنفيّين في الشريعة ، أو ما فوق ذلك ـ ومنع الكبرى ثانيا : فإنّ أقصى ما يترتّب على المشقّة ارتفاع الحكم التكليفي كما هو نتيجة الدليل المصرّح بها في متن الاستدلال المعبّر عنها بالعفو ، ولا يلزم منه عدم انعقاد الحكم الوضعي وهو النجاسة وتحقّق الانفعال ، كما أنّه ممّا لا يلزم منه ارتفاع الحكم الوضعي ، كما ثبت نظيره في غير موضع من الشرعيّات كقليل الدم في لباس المصلّي أو بدنه ، ومثله دم القروح والجروح فيهما ونحو ذلك ، ولا ريب أنّ المتنازع فيه هو الثاني دون الأوّل كما لا يخفى ، فثبت إذن أنّ الأقوى ما صار إليه المشهور عملا بعموم الأخبار منطوقا ومفهوما ، سيّما عموم التعليل الوارد في الكلب.

ومنع ذلك ـ كما عن جماعة ويظهر من المحقّق السبزواري (٢) أيضا ـ ليس بوجيه ، فإنّ المستفاد من ملاحظة مجموع الروايات ـ خصوصا ما ورد من التعليل بالنجاسة ـ كون الحكم منوطا بنفس الوصف مع قطع النظر عن خصوصيّة موصوفه ، ولا ريب أنّه يتحقّق مع الكثير ومع القليل أيضا في أيّ مرتبة من مراتبه ، والتشكيك في مثل ذلك خروج عن جادّة الاستقامة واجتهاد في مقابلة النصّ ، وتبقى الرواية المتقدّمة بالمعنى الّذي فسّرناها به دليلا آخرا ومؤيّدة للدليل ، فاحفظ هذا واغتنم.

الجهة الرابعة : قد استفاض نقل الشهرة في عدم الفرق في انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة بين ورودها عليه ، أو وروده عليها ، أو تواردهما ، كما لو سالا عن ميزابين ونحوهما فاختلطا ، كما أنّه اشتهر المخالفة في ذلك عن السيّد المرتضى في الناصريّات لذهابه إلى الفرق بتخصيصه الانفعال بالماء الّذي يرد عليه النجاسة دون العكس ، وهو محكيّ عن الشافعي من العامّة ، ولكن العبارة المحكيّة عن السيّد غير دالّة على استقرار هذه المخالفة منه ، لأنّه عند حكاية القول بعدم الفرق بين الورودين عن جدّه الناصر ، قال في الناصريّات : « قال الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة على الماء.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٢.

(٢) ذخيرة المعاد : ١٢٥.

٢٣٦

قال السيّد : وهذه المسألة لا أعرف لها نصّا لأصحابنا ولا قولا صريحا ، والشافعي يفرّق بين ورود الماء عليها ، وورودها عليه فيعتبر القلّتين في ورود النجاسة على الماء ، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة ، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة ، والّذي يقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمّل لذلك. صحّة ما ذهب إليه الشافعي ؛ والوجه فيه : إنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة لأدّى ذلك إلى أنّ الثوب لا يطهّر من النجاسة إلّا بإيراد كرّ من الماء عليه وذلك يشقّ ، فدلّ على أنّ الماء الوارد على النجاسة ، لا يعتبر فيه القلّة والكثرة كما يعتبر فيما يرد عليه النجاسة » (١).

وهذا كما ترى ممّا لا يقضي بأنّه أخذ ذلك مذهبا لنفسه على سبيل الإذعان ، ولا على استقراره عليه لو فرض إذعانه به حين إنشاء تلك العبارة ، وعلى أيّ حال فلم نقف من أصحابنا على من وافقه على ذلك عدا صاحب المدارك من المتأخّرين ، في قوله ـ بعد ما رجّح في مسألة الانفعال خلاف مذهب العمّاني ـ : « لكن لا يخفى أنّه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، ولا على انفعاله بكلّ ما يرد عليه من النجاسات ، ومن ثمّ ذهب المرتضى رحمه‌الله في جواب المسائل الناصريّة إلى عدم نجاسة القليل بوروده على النجاسة وهو متّجه » (٢) انتهى.

نعم ، عن الحلّي في السرائر أنّه قال ـ بعد ما نقل العبارة المتقدّمة عن السيّد ـ قال : « محمّد بن إدريس وما قوي في نفس السيّد هو الصحيح ، المستمرّ على أصل المذهب وفتاوي الأصحاب » (٣) انتهى.

وما أبعد بين كلامه رحمه‌الله وعبارة السيّد المتقدّمة حيث إنّ ظاهره الإجماع على الفرق المذكور ، ومن البعيد أن يكون مسألة إجماعيّة ولم يعرف السيّد فيها نصّا ولا قولا صريحا لأصحابنا ، وهو أقدم منه وأعرف بفتاوي من سلف منهم واصول مذهبهم ، ولعلّه أراد بما نقله ما تحقّق متأخّرا عن عصر السيّد ، أو ما تحقّق بين أهل عصره بالخصوص ، وهو أيضا بمكان من المنع ، حيث لم يوافقه أحد على ذلك النقل ، وربّما يمكن القول بأنّه وهم نشأ عن ملاحظة ما استقرّ عليه المذهب واجتمعت عليه فتاوي الأصحاب ، من أنّ الماء القليل الوارد

__________________

(١) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧).

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

(٣) السرائر ١ : ١٨١.

٢٣٧

على المتنجّس يفيد طهارة المحلّ بزعم أنّه ممّا لا يتأتّى إلّا على فرض طهارة الماء.

وربّما يحمل كلام السيّد فيما تقدّم على أن يكون مراده بعدم نجاسة الوارد عدم نجاسة العالي بالسافل ، حتّى يكون لما ذكره ابن إدريس من أنّ فتاوي الأصحاب به وجه صحّة فيرتفع الخلاف في البين ، وهو كما ترى في وضوح من البعد ، وعن ظاهر الشهيد في الذكرى (١) أنّ كلامهما في الغسالة خاصّة ، فلا مخالفة لهما في مسألة الورودين ، ويقوى ذلك بملاحظة جملة من العبارات المحكيّة عنهما الظاهرة في موافقة المشهور.

فعن السيّد ـ في مسألة التطهير بالمستعمل في رفع الحدث ـ : « أنّه يجوز أن يجمع الإنسان وضوءه عن الحدث أو غسله من الجنابة في إناء نظيف ويتوضّأ به ، ويغتسل به مرّة اخرى ، بعد أن لا يكون في بدنه شي‌ء من النجاسة ، بناء على أنّ اعتبار نظافة الإناء وخلوّ البدن عن النجاسة إنّما هو لحفظ الماء الوارد عليهما عن الانفعال كما هو الظاهر ، لا لأنّ غسالة النجس لا تصلح مطهّرة ، وإن كانت طاهرة » (٢).

وعن ابن إدريس في مواضع :

منها : ما حكي عن أوّل السرائر ، من قوله : « والماء المستعمل في تطهير الأعضاء والبدن الّذي لا نجاسة عليه إذا جمع في إناء نظيف كان طاهرا مطهّرا ، سواء كان مستعملا في الطهارة الكبرى أو الصغرى على الصحيح من المذهب » (٣) والتقريب فيه أيضا نظير ما تقدّم.

ومنها : ما حكي أيضا في مسألة ماء الاستنجاء وماء الاغتسال من الجنابة ، من قوله : « متى انفصل ووقع على نجاسة ثمّ رجع إليه وجب إزالته » (٤) ، وهذا كما ترى كالصريح في موافقة المشهور في غير الغسالة.

ومنها : ما حكي أيضا من أنّه ادّعى الإجماع والأخبار على نجاسة غسالة الحمّام ، بناء على أنّها في الغالب من المياه الواردة على النجاسة (٥).

وقد يستظهر القول المبحوث عنه من الشيخين في المقنعة والمبسوط ؛ لأنّ الأوّل ـ بعد ما حكم بطهارة ما يرجع من ماء الوضوء إلى بدن المتوضّي أو ثيابه ـ قال :

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٤.

(٢) المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٨ ، المسألة السادسة).

(٣ و ٥) السرائر ١ : ٦١ و ١٨٤ و ٩٠.

٢٣٨

« وكذلك ما يقع على الأرض الطاهرة من الماء الّذي يستنجى به ثمّ يرجع عليه لا يضرّه ولا ينجّس شيئا من ثيابه وبدنه ، إلّا أن يقع على نجاسة ظاهرة فيحملها في رجوعه ، فيجب غسل ما أصابه منه » (١).

والثاني قال : « لو كان على جسد المغتسل نجاسة أزالها ثمّ اغتسل ، فإن خالف واغتسل أوّلا ارتفع حدث الجنابة ، وعليه أن يزيل النجاسة إن كانت لم تزل بالاغتسال » (٢) ، فإنّ حكمه بارتفاع حدث الجنابة مبنيّ على عدم انفعال الماء الوارد على النجاسة الّتي تكون في الجسد ، وإلّا لم يكن لما ذكره وجه ، بناء على اشتراط الطهارة في ماء الغسل.

واجيب عن الأوّل : باحتمال أن يكون مراد المفيد من حمل الماء النجاسة تنجّسه بها ، كما في قوله عليه‌السلام : « لم يحمل خبثا » (٣) ، لا حمله جزءا منها حتّى يكون إيجاب الغسل من جهة هذا الجزء لإصابته الثياب أو البدن ، فلا ظهور لما ذكره في ما توهّم منه.

وعن الثاني : بحمل كلامه على الاغتسال فيما لا ينفعل من الماء لا مطلقا.

وكيف كان فلم نقف من أصحابنا على مصرّح بالقول المذكور على نحو يشمل محلّ النزاع ، نعم عبارة المدارك ـ فيما تقدّم (٤) ـ ظاهرة في الميل إليه ، ودونها في الظهور كلام الحلّي المتقدّم (٥) ، وأمّا السيّد فقد عرفت أنّ كلامه غير ظاهر في اختياره مذهبا على جهة الاستقرار ، وعلى أيّ حال فالحقّ هو المشهور المنصور لوجوه.

الأوّل : ظاهر الخبر المستفيض « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٦) فإنّه بعموم مفهومه التابع لعموم منطوقه يشمل المقام وغيره ، من ورود النجاسة على الماء أو تواردهما معا ، والوجه في ذلك ما سبق الإشارة إليه من أنّ له عموما من جهات أربع : باعتبار لفظي « الماء » و « الشي‌ء » فيشملان كلّ ماء وكلّ نجس ، وباعتبار لفظ « الكرّ » بالنظر إلى الأحوال الطارئة له من الاجتماع والتفرقة ، مع الاتّصال أو تساوي السطوح. واختلافهما ، تسنّما أو انحدارا ، وباعتبار نسبة التنجيس إلى الشي‌ء المنفيّ في المنطوق المثبت في

__________________

(١) المقنعة : ٤٧.

(٢) المبسوط ١ : ٢٩.

(٣) مستدرك الوسائل ١ : ١٩٨ ، ب ٩ من أحكام المياه ح ٦ ـ عوالي اللآلي ١ : ٧٦ ـ ٢ : ٦.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

(٥) السرائر ١ : ١٨١.

(٦) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.

٢٣٩

المفهوم ، بالنظر إلى الأحوال اللاحقة بالمباشرة الّتي تستفاد من تلك النسبة من كونها حاصلة بورود الشي‌ء على الماء ، أو بورود الماء على الشي‌ء ، أو بورود كلّ على الآخر دفعة.

ولا ريب أنّ إطلاق تلك النسبة يشمل جميع تلك الأحوال فيتبعه الحكم منطوقا ومفهوما ، لئلّا يلزم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه ، وما ادّعي من القول المذكور لا يصار إليه إلّا مع دليل دافع لذلك الإطلاق وليس ثابتا لما ستعرف من ضعف المستند.

وممّا قرّرناه تبيّن اندفاع ما اعترض عليه من منع شموله لمحلّ البحث ، تعليلا بأنّ الدلالة تنشأ عن عموم « الشي‌ء » المأخوذ في المفهوم ، وهو بمكان من المنع لكونه نكرة في سياق الإثبات فلا يعمّ ، كما تبيّن بطلان ما قيل في دفعه ـ بعد تسليم المنع المذكور ـ من أنّ الدلالة تنشأ من لفظ « الماء » وهو عامّ.

والوجه فيهما : أنّ العامّ إنّما يشمل من الأفراد لما هو من سنخه بحسب المفهوم العرفي أو اللغوي ، ولو من جهة الإطلاق المقابل للتقييد ، ولا ريب أنّ كون كلّ فرد من أفراد النجاسة ممّا يوجب انفعال القليل لا يستلزم كونه كذلك في جميع الأحوال اللاحقة بالمباشرة ؛ إذ ليست الأحوال من سنخ أفراد النجاسة ، كما أنّ كون كلّ فرد من أفراد القليل ممّا ينفعل بالملاقاة لا يستلزم كونه كذلك بالقياس إلى جميع أحوال المباشرة ، فلا بدّ من إحراز العموم من جهة اخرى ممّا يرجع إلى المباشرة ، نظرا إلى أنّها الّتي تختلف بالأنواع المختلفة المعبّر عنها بالورودين والتوارد.

الثاني : إطلاق جملة من الروايات المتقدّمة كرواية أبي بصير الواردة في النبيذ المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « ما يبلّ منه الميل ينجّس حبّا من ماء » (١) ، فإنّ ذكر « الحبّ » وارد من باب المثال ، للقطع بعدم مدخليّة الخصوصيّة في الحكم ، فهو في الحقيقة كناية عن الكثير الّذي يباشره النبيذ كائنا ما كان ، وتحديده بما يبلّ منه الميل مبالغة في قوّة ما فيه من التأثير ، حتّى أنّ أقلّ قليل منه ينجّس من الماء ما كان أكثر منه بمراتب ، ولا ريب أنّ ذلك بإطلاقه يتناول محلّ البحث أيضا.

ورواية عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل يجد في إنائه فأرة ، وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا ، وغسل منه ثيابه واغتسل منه ، وقد كانت الفأرة

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٧٠ ب ٣٨ من أبواب النجاسات ح ٦ ـ الكافي ٦ : ٤١٣ / ١.

٢٤٠