ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

الإجماع ـ أو نقله ـ لا إلى النجاسة.

وأعجب من الجميع ما ذكره في دفع ما أورده على نفسه ـ عقيب الكلام المتقدّم ـ بقوله : « فإن قلت : لو لم يرتفع هذه الأحكام أيضا يلزم التخصيص ».

فقال : « قلت : هذا معارض بلزوم التخصيص في عمومات القليل ، والترجيح لها كما لا يخفى » (١) ، فإنّ الخاصّ في مقابلة العامّ بمنزلة النصّ ـ وإن كان بنفسه من جملة الظواهر ـ فيقدّم عليه.

ومحصّله يرجع إلى أنّه أظهر والأظهر يقدّم على الظاهر ، مع أنّ التخصيص الّذي يحترز عنه في عمومات القليل إن اريد به أصل التخصيص فهو وفاقي الحصول بيننا وبينه ، فكيف يعقل نفيه بترجيح تخصيص الخبرين عليه ، وإن اريد به كثرة التخصيص فالمقام ليس منها ، لأنّ المخرج عن تلك العمومات ليس إلّا فرد واحد وهو ماء الاستنجاء وليس في مقابله شي‌ء يكون الأمر فيما بينه وبينه دائرا بين الأقلّ والأكثر حتّى يرجّح إخراج الأقلّ على إخراج الأكثر ، وما يرى من القلّة والكثرة اللتين يدور الأمر بينهما فهو مفروض بالنسبة إلى لوازم النجاسة الّتي كانت تثبت في ذلك الماء لو لا المخرج له عن عمومات النجاسة ، فلا يعقل في مثل ذلك أن يقال : إنّه قد ورد على تلك العمومات تخصيص ولكنّه مردّد بين كونه في الأقلّ أو الأكثر ، والأصل عدم الزيادة في التخصيص فيرجّح تخصيص الأقلّ.

وإن شئت توضيح ذلك فقس المقام على ما لو ورد خطاب عامّ بوجوب كلّ صلاة ، ثمّ قام خطاب آخر خاصّ بعدم وجوب صلاة الوتيرة مثلا ، والمفروض أنّ المنفيّ هنا شي‌ء مركّب مفهومه بين الاستدعاء والمنع ، وقضيّة نفيه انتفاء كلّ من جزأيه ، فلا يمكن أن يقال : حينئذ بمنع ذلك لاستلزامه تخصيص الأكثر والمتيقّن ممّا خرج عن العامّ إنّما هو أحد جزئي وجوب هذا الفرد ، وهو المنع عن الترك مثلا ، فيحكم بأنّه الخارج تقليلا للتخصيص وذلك واضح.

واحتجّ في المناهل (٢) ـ مضافا إلى النصوص وغيرها ـ بالإجماعات المنقولة المتقدّم إليها الإشارة.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٢) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٣٩.

٢٨١

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق نصوص الباب وفتاوي الأصحاب عدم الفرق بين المتعدّي وغيره ، ما لم يتفاحش على وجه لا يصدق معه على إزالته اسم الاستنجاء عرفا ، كما صرّح به غير واحد من الأصحاب.

قال الشيخ عليّ في حواشي الشرائع : « ولا فرق بين نجاسة المخرجين ، ولا بين المتعدّي وغيره » (١).

وفي الدروس : « ولا فرق بين المخرجين ، ولا بين المتعدّي وغيره » (٢).

قال الخوانساري في شرحه : « وقد قيل : إلّا أن يتفاحش بحيث يخرج به عن مسمّى الاستنجاء ، ولا بأس به » (٣).

وعن الذكرى : « ولا فرق بين المتعدّي وغيره للعموم » (٤).

وعن جامع المقاصد : « لا فرق بين المتعدّي وغيره ، إلّا أن يتفاحش » (٥).

وعن الروض : « لا فرق بين المتعدّي وغيره ، إلّا أن يتفاحش على وجه لا يصدق على إزالته اسم الاستنجاء » (٦).

وعن الذخيرة : « ومقتضى النصّ وكلام الأصحاب عدم الفرق بين المتعدّي وغيره ، إلّا أن يتفاحش على وجه لا يصدق على إزالته اسم الاستنجاء به » (٧).

ووجه التقييد بعدم التفاحش : أنّ الأحكام تدور مع عناوينها وجودا وعدما ، وقضيّة ذلك انقلابها بانقلاب العناوين ، والظاهر أنّ تعدّي الحدث من المخرج إلى أن يتفاحش على الوجه المذكور ممّا يوجب انقلاب العنوان ، فإنّ حكم الطهارة قد علّق في النصّ على عنوان الاستنجاء ، وإزالة المتعدّي على الوجه المذكور ليست من هذا العنوان في شي‌ء ، ولكنّه مبنيّ على كون الاستنجاء عبارة عن إزالة الحدث المعهود عن المخرج خاصّة وما يلحق به من الحواشي القريبة منه ، ولعلّه كذلك بل هو الظاهر من نصّ اللغوي وكلام الأصحاب ، ولذا تراهم لا يسمّون إزالة الحدثين عن الثوب أو موضع آخر من البدن استنجاء ، ولا يلحقه حكم ماء الاستنجاء ، فللخصوصيّة مدخليّة في صدق

__________________

(١) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٧.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٣) مشارق الشموس : ٢٥٤.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(٥) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٦) روض الجنان : ١٦٠.

(٧) ذخيرة المعاد : ١٤٣.

٢٨٢

الاسم ، ومع انتفائها ينتفي الصدق فينقلب العنوان.

وفي كلام غير واحد أيضا التصريح بعدم الفرق بين الطبيعي وغيره ، كما عن الذخيرة (١) ، وفي كلام المحقّق الشيخ عليّ (٢) تقييده بالاعتياد تمسّكا بالإطلاق ، وعن بعضهم المناقشة في ذلك بمنع انصراف إطلاق عبائر الأصحاب ونصوص الباب إلى غسالة غير الطبيعي ـ وإن صار معتادا ـ لندرته ، وإفادة ترك الاستفصال في الأخبار العموم بحيث يشمل ذلك محلّ تأمّل ، اللهمّ إلّا أن يمنع من الدليل على نجاسته ، والأحوط الاجتناب عنه.

والتحقيق أن يقال : إنّ قضيّة عدم الانصراف إلى غير الطبيعي لندرته وإن كانت كما ادّعيت ، والتمسّك بالإطلاق وإن كان ليس في محلّه ، وترك الاستفصال في مثله لا يفيد العموم ، غير أنّه يمكن القول بأنّ الحكم ـ على ما يستفاد من طريقة الشارع وبناء الأصحاب في نظائر المقام ـ طهارة ونجاسة تابع للعنوان ، والخصوصيّات بأسرها ملغاة في نظر الشارع ، فيوجد الحكم حيثما وجد العنوان وينتفي بانتفائه ، كما يفصح عن ذلك بناؤهم في انفعال القليل على عموم الحكم لمجرّد روايات خاصّة ، مع ما فيها من الخصوصيّات والإضافات ما لا تحصى عددا ، فقصور لفظ الرواية عن شموله لبعض الأفراد غير قادح ، فلذا نقول بعدم الفرق في طهارة ماء الاستنجاء بين كون الحدث المستنجى منه من المكلّف نفسه أو من غيره ، فلو سقط من استنجاء غيره شي‌ء على ثوبه أو بدنه لم يكن به بأس ، مع أنّ النصّ غير ظاهر التناول جزما ، فيجري الحكم في الماء الّذي يطهّر به مخرج المريض أو الطفل أو المجنون أو نحو ذلك.

نعم ، لا يلحق به غسل مخرج غير هؤلاء من سائر أنواع الحيوان ، لعدم تحقّق العنوان بالنسبة إليه ، فالعمدة في المقام إحراز أنّ المفروض ممّا يصدق عليه العنوان وإن كان ممّا ندر وقوعه ، بناء على أنّ الاستنجاء بحسب المفهوم ليس إلّا إزالة الحدثين عن المخرج كائنا ما كان ، وأمّا خصوص كون المخرج هو الموضع المعهود الّذي جرى عليه الطبيعة الانسانيّة فممّا لا مدخل له في ذلك لغة ولا عرفا ، أو أنّ عنوان الحكم على ما

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٤٣.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٩ حيث قال : « ولا فرق بين الطبيعي وغيره إذا صار معتادا لإطلاق الحكم ».

٢٨٣

يستفاد عن طريقة الشارع هو الإزالة عن المخرج كائنا ما كان ، وإن لم يندرج تحت مفهوم الاستنجاء ، واختصاصه بالذكر في النصوص من جهة أنّه محلّ ابتلاء السائل دون غيره ، وعلى أيّ حال فالمسألة غير خالية عن الإشكال ، وللاحتياط فيها مجال.

نعم ، لا ينبغي التأمّل في إطلاق النصوص وكلام الأصحاب القاضي بعدم الفرق في الطهارة بين الغسلة الاولى والثانية فيما يعتبر فيه التعدّد ، كما نصّ عليه السيّد في المناهل (١) وغيره ، وهو المحكيّ عن الكشف (٢) أيضا ، ناسبا له إلى نصّ السرائر (٣) ، فما عن الشيخ في الخلاف (٤) من تخصّصه بالغسلة الثانية ليس على ما ينبغي ، والاعتذار له : « بأنّه لعلّه لبعد الطهارة والعفو مع اختلاطه ، أو للجمع بين هذه النصوص ومضمرة العيص » (٥) غير مسموع.

ثمّ إنّهم رضوان الله عليهم ذكروا لما صاروا إليه من طهارة ماء الاستنجاء أو العفو عنه شروطا ، بعضها محلّ وفاق عندهم والبعض الآخر محلّ خلاف.

أوّلها : عدم تغيّره بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة ، نصّ عليه في الشرائع (٦) ، والرياض (٧) أيضا غير أنّه عبّر عنه بعدم العلم بتغيّره ، وربّما يحمل عليه كلام الأصحاب في هذا الشرط وغيره من الشروط الآتية ، فيعتبر العلم في جميع ذلك كما صرّح به المحقّق البهبهاني في حواشيه على المدارك ، حيث إنّه عند شرح قول المصنّف : « وشرط المصنّف وغيره الخ » ، قال : « وليس المراد بالشرطيّة معناها المعروف ، لأنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط ، فيلزم ندرة تحقّق الغسالة الطاهرة ، بل المراد أنّه إن علم التغيير أو غيره ممّا ذكر ينجّس ، ولا يجوز حمل الأخبار وكلام الأخيار على الفروض النادرة ، سيّما فيما نحن فيه ». انتهى (٨).

وكيف كان فاعتبار هذا الشرط وفاقي عندهم ظاهرا ، حيث لم نقف فيه على مخالف ، بل ربّما يتمسّك على اعتباره بالإجماع كما في المناهل (٩) ، نعم يظهر من

__________________

(١ و ٩) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٢.

(٢) كشف اللثام ١ : ٣٠١.

(٣) السرائر ١ : ١٨٠.

(٤) الخلاف ١ : ١٧٩ المسألة ١٣٥.

(٥) والمعتذر هو الفاضل الهندي (ره) في كشف اللثام ١ : ٣٠١.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٧) رياض المسائل ١ : ١٨٢.

(٨) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٩٠.

٢٨٤

الخوانساري في شرح الدروس (١) التشكيك في ذلك لو لا مستنده الإجماع ، حيث إنّه بعد ما ذكر الشرط المذكور قال : « والظاهر أنّه إجماعي وإلّا لأمكن المناقشة ، إذ الروايات الدالّة على نجاسة المتغيّر عامّة وهذه الروايات خاصّة ».

واعترض عليه في المناهل : « بمنع ذلك بل بينهما عموم من وجه ، فإنّ أخبار ماء الاستنجاء من حيث موردها خاصّة ، ومن حيث شمولها لحالتي التغيّر وعدمه عامّة ، وما دلّ من الأخبار على نجاسة الماء بالتغيّر بالنجاسة من حيث اختصاص مورده بالتغيّر خاصّ ، ومن حيث شمولها لماء الاستنجاء وغيره عامّ ، فإذن ينبغي الرجوع إلى وجوه الترجيح ، ومن الظاهر أنّها مع الأخبار الدالّة على نجاسة الماء بالتغيّر بالنجاسة ، فلا يجوز العدول عنها » (٢) الخ.

ولعلّ نظره في دعوى كون الترجيح مع تلك الأخبار ، إلى العمل والفتوى ونقل الإجماع وغيره من المرجّحات الخارجة ، وإلّا فمع الغضّ عن ذلك فالمرجّح الداخلي من حيث الدلالة في جانب أخبار المقام ، لكونها أقلّ أفرادا من الأخبار الدالّة على نجاسة المتغيّر ، فتكون أظهر منها دلالة فيكون حكمها حكم الخاصّ ، ولعلّه الّذي أراده الخوانساري من حكمه على تلك الأخبار بكونها خاصّة.

فالتحقيق : في إثبات هذا الشرط ـ على نحو ينطبق على القواعد ، ولا يبتني على ثبوت الإجماع عليه ، بحيث لو لا ثبوته كان الحكم بالاشتراط في موضع التأمّل أن يقال : بمنع الإطلاق في روايات المقام بحيث يشمل صورة التغيّر وإن فرضناها خاصّة بالقياس إلى أخبار التغيّر ، لا لما ذكره في المناهل من ندرة التغيّر في ماء الاستنجاء ، بل لأنّ التغيّر حيثيّة اخرى مبيّن حكمها في الخارج ، والملحوظ في المقام إنّما هو حيثيّة الاستنجاء من حيث هو مع قطع النظر عن الحيثيّات الاخر ، ومن البيّن اختلاف العنوانات باختلاف الحيثيّات.

وما توهّم من الإطلاق وإن كان إطلاقا في الأحوال غير أنّه إنّما يجدي في تعميم الحكم بالقياس إلى ما شمله من الأحوال ، إذا لم يكن الحالة حيثيّة ممتازة عن غيرها بحكم مبيّن لها في الخارج ؛ ضرورة أنّ عدم اعتبار الإطلاق معه لا يكون منافيا

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٢) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٣.

٢٨٥

للحكمة ولا موجبا لمحذور ، ولذا تراهم في مثل قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (١) لا يجوّزون أكل موضع عضّ الكلب ولو مع عدم التطهير ، مع أنّ الاطلاق الأحوالي قائم فيه جزما.

فإذا كانت الحيثيّة المذكورة خارجة عن مفاد الأخبار ، وكانت هي بنفسها مقتضية للمنع لم يتعدّ إليها حكم الطهارة ، لا لأنّه تقييد في ماء الاستنجاء ، أو تخصيص في الأخبار الواردة فيه حتّى يطالب بدليله ، أو يرجع التعارض فيما بينها وبين أخبار التغيّر إلى تعارض الخاصّ مع العامّ ، أو تعارض العامّين من وجه ، بل لأنّه أخذ بالمنع الثابت لحيثيّة التغيّر ، وهو عنوان آخر لا مدخل له لعنوان الاستنجاء ، مجامع له من باب المقارنات ، فعند التحقيق لا معارضة بينهما لاختلاف موضوعيهما ، والعمل في الحقيقة بالدليلين معا ، لا أنّه أخذ بأحدهما وطرح للآخر ؛ لعدم تنافيهما ، فنحكم بكلّ من الحيثين المجامعتين بحكمها الخاصّ له.

ونقول : إنّ حيثيّة « الاستنجاء » مقتضية للطهارة ، وحيثيّة « التغيّر » مقتضية للنجاسة ، غير أنّ هاتين الحيثيّتين لاجتماعهما في مورد واحد شخصي ممّا لا يمكن ترتيب الآثار على حكمهما معا في مقام العمل ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ترتيبا للآثار على الآخر ، لإمكانه حينئذ على قياس ما هو الحال في الواجبين المتزاحمين ، حيث يرفع اليد عن أحدهما لعدم إمكان امتثالهما معا ، من دون أن يقضي بتخصيص دليله كما قرّر في محلّه ، غاية الفرق بينهما أنّ البناء فيهما على التخيير لإمكان الامتثال كذلك ، ولئلّا يلزم الترجيح بلا مرجّح ، بخلاف المقام حيث إنّ المتعيّن فيه إنّما هو العمل على حيثيّة « التغيّر » لتقدّم الجهة المانعة في جميع الموارد على جهة الإذن ، على ما قرّرناه في محلّه.

ولك أن تسلك هنا مسلكا آخر ، بأن تقول : إنّ الأخبار الواردة عن أهل العصمة فيما يرتبط بالمقام أو ما هو من أفراده ، الحاكمة بعضها بالطهارة وبعضها بالنجاسة ، الّتي يلاحظ النسبة بينها وبين أخبار المقام ، على ثلاثة أصناف :

أحدها : ما هو معنون بعنوان التغيّر.

وثانيها : ما هو معنون بعنوان الكرّيّة.

__________________

(١) المائدة : ٤.

٢٨٦

وثالثها : ما هو معنون بعنوان الملاقاة للنجاسة.

ومفاد كلّ واحد منها بعد الجمع بين مناطيقها ومفاهيمها ينحلّ إلى قضيّتين : موجبة وسالبة.

فمن الأوّل : الماء المتغيّر بالنجاسة نجس ، والماء الغير المتغيّر بالنجاسة ليس بنجس.

ومن الثاني : الكرّ من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة ، وما دون الكرّ منه ينجّس بملاقاة النجاسة.

ومن الثالث : الماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة ، والغير الملاقي لها لا ينجّس.

وإذا أردنا ملاحظة النسبة بين كلّ واحد من تلك القضايا الستّة مع الاخرى يرتقي صور المسألة إلى خمسة عشر ، كما يظهر بأدنى تأمّل. إلّا أنّه لا يتحقّق معارضة في البين إلّا في أربع منها :

أحدها : قولنا : الماء المتغيّر بالنجاسة ينجّس بالتغيّر ، والكرّ من الماء لا ينجّس بالملاقاة.

وثانيها : الماء الغير المتغيّر بالنجاسة لا ينجّس بالملاقاة ، وما دون الكرّ من الماء ينجّس بالملاقاة.

وثالثها : الماء الغير المتغيّر بالنجاسة لا ينجّس بالملاقاة ، والماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة.

ورابعها : الكرّ من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة ، والماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة.

والنسبة في الصورتين الاوليين عموم من وجه ، وفي الأخيرتين عموم وخصوص مطلق ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وقاعدتهم في تعارض العامّين من وجه ، وفي تعارض الخاصّ والعامّ وإن كانت تقتضي الرجوع إلى وجوه الترجيح في الاوليين ، وتقديم الخاصّ على العامّ في الأخيرتين ، إلّا إنّا نراهم أنّهم في الاولى من الاوليين يحكّمون عموم التغيّر على عموم الكرّ من غير تأمّل ولا خلاف ، وفي الثانية منهما يحكّمون عموم ما دون الكرّ على عموم عدم التغيّر ، وفي الاولى من الأخيرتين يقدّمون العامّ على الخاصّ ، فلا يفرّقون في نجاسة ما دون الكرّ بين صورتي التغيّر وعدمها ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّهم عثروا

٢٨٧

من الأدلّة الشرعيّة والقرائن المعتبرة ما دعاهم إلى ذلك ، وإلّا فلا ريب أنّ تقديم العامّ على الخاصّ ـ كما يصنعونه في الصورة الثالثة ـ على خلاف القاعدة.

نعم مشوا على طبق القاعدة في الصورة الرابعة ، حيث قدّموا خصوص الكرّ على عموم الملاقاة ، فمن بنائهم في هذا المقام يظهر الإجماع على تحكيم أدلّة التغيّر على أدلّة سائر العنوانات ، ولو فرضت في بعضها جهة خصوصيّة بالقياس إلى عنوان التغيّر ، وإجماعهم ذلك يكشف جزما عن وجود دليل محكم وقرينة معتبرة ، وإن لم نعلم بهما عينا ، وقضيّة ذلك خروج صورة التغيّر عن أدلّة ماء الاستنجاء ، كما هي خارجة عن أدلّة الكرّ.

ولك أن تقول : إنّ النسبة بين أدلّة الاستنجاء وأدلّة التغيّر وإن كانت في ابتداء النظر عموم من وجه ـ كما فهمه صاحب المناهل ـ غير أنّها منقلبة إلى ما لا معارضة معه ، بعد تحكّم أدلّة التغيّر على أدلّة الكرّ ، ثمّ تحكيم أدلّة الكرّ على أدلّة الماء الملاقي للنجاسة ، ثمّ تحكيم أدلّة الاستنجاء على أدلّة القليل الملاقي للنجاسة ، فإنّ صورة التغيّر حينئذ خارجة عن عنوان الكرّ ، فهو في قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (١) مقيّد بعدم التغيّر ، فيكون مفهومه أيضا مقيّدا به ، إذ المفهوم تابع للمنطوق في جميع ما اعتبر فيه ، فالحكم بعدم انفعال القليل إنّما ورد عليه وهو مقيّد بعدم التغيّر ، والمفروض أنّ ماء الاستنجاء مخرج منه ، فيكون مشاركا له في قيده ، لوجوب دخول المستثنى في الاستثناء المتّصل في جملة أفراد المستثنى منه ، ومعه أيضا لا يتناول حكم الطهارة في الاستثناء لصورة التغيّر ، فيبقى تلك الصورة ـ إذا تحقّقت في ضمنه ـ في الحكم عليها بالنجاسة سليمة عن المعارض ، فتأمّل جيّدا (٢).

وبالجملة : اعتبار عدم التغيّر في طهارة ماء الاستنجاء ـ كما صنعه الجماعة ، وأطبقوا عليه ، وادّعى عليه الإجماع ـ في محلّه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٢) وجهه : أنّ جهة المعارضة بين الكرّ الغير المتغيّر وبين الملاقي للنجاسة إنّما هي ذات الكرّ دون قيده ، فلا داعي إلى حمل الملاقي على عدم التغيّر ، بل غايته أنّه يحمل على ما عدا الكرّ ، وكذلك جهة العارضة بين ما دون الكرّ الغير المتغيّر وبين الملاقي إنّما هو عموم الملاقي للكرّ ، فيحمل على ما دون الكرّ نفسه دونه مع وصفه ، ومعه لا داعي إلى أخذ عدم التغيّر في موضوع حكم الانفعال ليكون ماء الاستنجاء مخرجا عنه مقيّدا بهذا الوصف كما لا يخفى (منه عفي عنه).

٢٨٨

وثانيها : أن لا يقع ماء الاستنجاء على نجاسة خارجة عن حقيقة الحدث المستنجى منه كالدم المستصحب له ، أو عن محلّه وإن لم يخرج عن الحقيقة كالحدث الملقى على الأرض ، من غائط أو بول أو غيرهما من النجاسات ، فلو سقط ماء الاستنجاء وعلى الأرض نجاسة ثمّ رجع إلى الثوب أو البدن فهو نجس ، سواء تغيّر به أو لا ، وسواء كانت النجاسة هو البول أو الغائط المستنجى منهما أو غيرهما.

وقد أشار إلى ذلك في الشرائع (١) ، وقد تقدّم التصريح به ـ في الجملة ـ عن المنتهى (٢) وحكي ذلك عن القواعد (٣) ، والدروس (٤) ، وجامع المقاصد (٥) ، والجعفريّة (٦) ، والمقاصد العليّة (٧) ، والروضة (٨) ، والروض (٩) ، ومجمع الفائدة (١٠) ، والكشف (١١) ، وصرّح به في الرياض (١٢) أيضا ، ونفى عنه الخلاف.

والوجه في ذلك يظهر بالتأمّل فيما تقدّم ، فإنّ وقوعه على ما فرض من النجاسة ممّا يوجب انقلاب العنوان ، ويتبعه انقلاب الحكم أيضا ، وإلى ذلك أشار في مجمع الفائدة ـ على ما حكي ـ بقوله : « نعم اشتراط عدم وقوعه على نجاسة خارجة غير بعيد ، لأنّ الظاهر من الدليل هو الطهارة من حيث النجاسة الّتي في المحلّ ما دام كذلك » (١٣).

وثالثها : ما اعتبره جماعة من أن لا يخالط الحدثان لنجاسة اخرى كالدم والمنيّ ، عزى إلى جامع المقاصد (١٤) ، ومحكيّ الذخيرة (١٥) عن جماعة ، واستشكل فيه صاحب المدارك قائلا : « بأنّ اشتراطه أحوط ، وإن كان للتوقّف فيه مجال لإطلاق النصّ » (١٦) ، ووافقه على ذلك الخوانساري في شرح الدروس قائلا : « بأنّ اشتراطه محلّ كلام لإطلاق اللفظ ، مع أنّ الغالب عدم انفكاك الغائط عن شي‌ء آخر من الدم ، أو الأجزاء

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤٣.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٤) الدروس الشرعيّة ١: ١٢٢حيث قال :«والمستعمل في الاستنجاء طاهر ما لم يتغيّر أو تلاقه نجاسة اخرى ».

(٥) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٦) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ١٨٦.

(٧) المقاصد العليّة : ١٥٠ المسألة ٢٨.

(٨) الروضة البهيّة ١ : ٣١١.

(٩) روض الجنان : ١٦٠.

(١٠ و ١٣) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٩. (١١) كشف اللثام ١ : ٣٠١.

(١٢) رياض المسائل ١ : ١٢٨. (١٤) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(١٥) ذخيرة المعاد : ١٤٣. (١٦) مدارك الأحكام ١ : ١٢٤.

٢٨٩

الغير المنهضمة من الغذاء ، أو الدود ، على أنّ في صحيحة محمّد بن النعمان ـ المنقولة أيضا ـ إشعارا بالعفو عنه ، وإن كان على الذكر منيّ ، كما لا يخفى » انتهى (١).

وأنت خبير بما فيه من الخلط والاشتباه ، والحقّ التفصيل في ذلك ، فإن كانت النجاسة المخالطة بنفسها عنوانا مستقلا في النجاسة ، ثابتا حكمها من الخارج كالدم والمنيّ إذا خرجا مخلوطين مع الحدث المستنجى منه ، فلا مناص فيه من المنع والحكم بالنجاسة ، لمكان تداخل العنوانين واجتماع الحيثين ، فيقدّم جهة المنع على جهة الإذن لما تقدّم الإشارة إليه ، ولا ينبغي التمسّك بالإطلاق حينئذ لعين ما مرّ ، ودعوى وقوع الإشعار بخلافه في الصحيحة المذكورة غير مسموعة ، بملاحظة ما تقدّم في صدر المسألة.

وإن لم تكن كذلك ، بل كانت نجاسته مكتسبة عن الحدث المستنجى منه ، فالأقرب فيه ما صار إليه الجماعة من الحكم بالطهارة ، لمكان الإطلاق السليم عن المعارض ، وإن كان أحواليّا.

ورابعها : ما حكى اشتراطه عن جامع المقاصد (٢) ، والروض (٣) ، من عدم انفصال أجزاء من النجاسة متميّزة مع الماء ، محتجّين عليه : بأنّ أجزاء النجاسة ـ كالنجاسة الخارجة ـ تنجّس الماء بعد مفارقة المحلّ ، ولا يخفى ما فيه من المصادرة.

واستشكل فيه في المدارك (٤) أيضا قائلا بما سبق.

ولو استدلّ على القول الأوّل بما سبق عن مجمع الفائدة (٥) من أنّ الظاهر من الدليل هو الطهارة من حيث النجاسة الّتي في المحلّ ما دام كذلك لكان أسدّ ، ومحصّله : انقلاب العنوان معه ، فإنّ المفروض بعد مفارقة المحلّ داخل في عنوان القليل الملاقي للنجاسة في غير محلّ الاستنجاء ، فيلحقه حكمه ، ويقوي ذلك لو بقي على هذه الحالة بعد الانفصال مدّة ثمّ باشره الثوب أو البدن ، فاتّضح أنّ الاشتراط المذكور في محلّه.

وخامسها : ما عزى إلى الكشف (٦) ومحكيّ بعض ، من اشتراط عدم سبق اليد على الماء في ملاقاة المحلّ ، فلو سبقته ينجّس ، ولو سبقها أو كانا متقارنين كان طاهرا أو معفوّا عنه ، ويظهر من شرح (٧) الدروس الاحتجاج عليه : « بأنّ نجاسة اليد إنّما تكون

__________________

(١ و ٧) مشارق الشموس : ٢٤٥.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٣) روض الجنان : ١٦٠.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٢٤.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٩. (٦) كشف اللثام ١ : ٣٠١.

٢٩٠

مستثناة بسبب جعلها آلة للغسل ، فلو اتّفقت لغرض آخر كانت في معنى النجاسة الخارجيّة » ، وفيه : مصادرة أو خروج عن الفرض كما لا يخفى.

وعن صريح جامع المقاصد (١) ، والرياض (٢) والذخيرة (٣) ، والمشارق (٤) ، وظاهر الشرائع (٥) ، والمنتهى (٦) ، والدروس (٧) ، والجعفريّة (٨) ، والمقاصد العليّة (٩) ، والروضة (١٠) ، والروض ، أنّ ذلك ليس بشرط ، وحكى الاحتجاج عليه : « بأنّ التنجّس على كلّ حال ؛ إذ لا أثر للتقدّم والتأخّر في ذلك » (١١) ، وإطلاق هذا الكلام ليس على ما ينبغي ، كما أنّ إطلاق القول الأوّل كذلك.

بل الّذي يقتضيه التدبّر ، التفصيل بين ما لو كان سبق اليد منبعثا عن العزم على الغسل وقارنه الفعل فلا يكون قادحا ، وبين ما لو لم تكن لأجل هذا الغرض ، فاتّفق حدوث العزم على الغسل بعد ما تنجّست ، فيكون نجاستها موجبة لنجاسة الماء.

أمّا الأوّل : بملاحظة ما سبق ، وأمّا الثاني : فلأنّ أعمال اليد من لوازم الاستنجاء ومقدّماته ، فالحكم عليه بالطهارة يقضي بعدم قادحيّة النجاسة الحاصلة فيها بمباشرة النجاسة الحدثيّة إن لم نقل بقضائه بعدم قبولها النجاسة في هذه الحالة ، فهذا المعنى ممّا يستفاد من النصّ بالدلالة الالتزاميّة.

ثمّ إذا لوحظ ما فيه من الإطلاق السليم عن المعارض بالنسبة إليه يتمّ المطلوب ، من عدم الفرق بين السبق والمسبوقيّة والمقارنة.

وسادسها : ما عن الشهيد في الذكرى (١٢) ، من اشتراطه عدم زيادة وزن الماء على ما قبل الاستنجاء ، فلو زاد وزنه بعد الاستنجاء كان نجسا ، ولو لم يزد كان طاهرا ، وفي شرح الدروس : « أنّه ممّا اعتبره العلّامة في النهاية (١٣) في مطلق الغسالة » (١٤) ، وعن

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٨٣.

(٣) ذخيرة المعاد : ١٤٣.

(٤ و ١٤) مشارق الشموس : ٢٥٤.

(٥) شرائع الإسلام ١ : ١٦ « لمكان عدم ذكره هذا الشرط في عداد شرائط طهارة ماء الاستنجاء ».

(٦) منتهى المطلب ١ : ١٤٣. (٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٨) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).

(٩) المقاصد العليّة : ١٤٥. (١٠) الروضة البهيّة ١ : ١١.

(١١) روض الجنان : ١٦١. (١٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(١٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٤.

٢٩١

الآخرين عدم اشتراطه صريحا أو ظهورا ، وهو صريح المدارك (١) ، وشرح الدروس (٢) ، وغيرهما وهو الأقرب ، لإطلاق النصّ والفتوى ، مضافا إلى أنّه لو استفيد ذلك من نصوص الباب فواضح المنع جدّا ، ولو استفيد من أخبار التغيّر بدعوى : دخول المفروض في عنوان « التغيّر » الموجب للنجاسة.

ففيه : مع أنّ الشرط الأوّل يغني عن إفراده بالذكر ، ما تقدّم تحقيقه في بحث « التغيّر » من أنّه إذا حصل في غير الأوصاف الثلاث المعهودة لم يوجب نجاسته للنصوص وإجماع الأصحاب ، ولو اريد استفادته من خبر العلل (٣) المذيّل بقوله : « إنّ الماء أكثر من القذر » كما احتمله بعضهم ، مستندا له من حيث إنّه يعطي أنّ نفي البأس عنه إنّما هو لأكثريّة الماء واضمحلال النجاسة فيه ، وحينئذ فلو زاد لدلّ على وجود شي‌ء من النجاسة فيه وعدم اضمحلالها.

ففيه أوّلا : أنّ مستند الاشتراط إن كان ذلك فقد علم اعتباره في الشرط الرابع ؛ ضرورة أنّ المفروض ـ لو سلّم الملازمة بين زيادة الوزن وزيادة شي‌ء من أجزاء النجاسة غير مضمحلّ فيه ـ من أفراده فلا يكون شرطا آخر يدلّ عليه.

وثانيا : أنّ ذلك أدلّ على خلاف مدّعاهم ؛ لقضائه بأنّ الماء فيه شي‌ء من القذر ولكنّه أكثر منه ، ولا ريب أنّ ذلك يقضي بزيادة وزنه لا محالة على ما كان عليه قبل الاستنجاء ؛ ضرورة إنّه كان قبله ماء خالصا خاليا عن القذر الّذي فيه بعده ، واضمحلاله فيه لا يوجب عدم زيادته ؛ لأنّه ليس عبارة عن الانعدام الصرف ، بل هو عبارة عن انتشار أجزائه فيه بحيث لا يدركه الحسّ ، على نحو كان المجموع في نظر الحسّ ماء ، فهو سواء اضمحلّ أو لم يضمحلّ موجود فيه جزما ، وهو لا ينفكّ عن زيادة الوزن به جزما.

تنبيه : المعتبر في الشرائط المذكورة عدم العلم بوجود نقيضها ، كما سبق عن المحقّق البهبهاني (٤) التنبيه على ذلك ، فلو شكّ أو ظنّ بوجود شي‌ء من نقيض تلك

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٤ حيث قال : « ... ولا وزن له في نظر الاعتبار كما لا يخفى ».

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ علل الشرائع ١ : ٢٨٧.

(٤) حاشية البهبهانى على المدارك ١ : ١٩٠ ـ تقدّم في الصفحة ٣٠٣.

٢٩٢

الشرائط لم يخرجه عن حكم الطهارة ، والأصل في ذلك الخبر المستفيض « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (١) بناء على ما قررناه من أنّه وارد لبيان الحكم لصورة الاشتباه ، مضافا إلى الأصل المتقدّم تأسيسه في غير موضع ، غير أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، وممّن صرّح بما ذكرناه السيّد في المناهل قائلا : « بأنّه إذا شكّ في تحقّق الشرط فالأصل طهارة الماء مطلقا ، وإن حصل الظنّ بفقده ، ولكن مراعاة الاحتياط أولى » (٢).

وامّا الجهة الثانية : ففيها مسائل ثلاث.

الاولى والثانية : في أنّ ماء الاستنجاء بعد ما ثبت كونه طاهرا وجامع الشرائط المتقدّمة ، فهل يكون طهورا ـ بالمعنى الأعمّ من إزالة الخبث به ، ولو استنجاء آخر ، ورفع الحدث به صغيرا كان أو كبيرا ، ـ كما كان كذلك قبل الاستنجاء أو لا؟ فيه خلاف على أقوال :

أحدها : أنّه ليس بطهور مطلقا ، وهو لظاهر الشرائع (٣) ، والدروس (٤) ، والمنتهى (٥) ، وصريح الذكرى (٦) ، حيث إنّ الأوّل فرّق بين ماء الاستنجاء والمستعمل في الوضوء والمستعمل في الحدث الأكبر ، فحكم على الأوّل بكونه طاهرا فقط من غير تعرّض لطهوريّته ، وعلى الثاني بكونه طاهرا مطهّرا ، وعلى الثالث بكونه طاهرا وتردّد في طهوريّته.

وصنع نظيره الثاني ، غير أنّه قدّم المستعمل في الوضوء فحكم بكونه طهورا ، ثمّ أورد المستعمل في الحدث الأكبر فحكم بطهارته ، ناقلا في طهوريّته قولين مع جعله الكراهية أقربهما ، ثمّ تعرّض لذكر الاستنجاء فحكم عليه بالطهارة فقط.

والثالث حكم على ماء الاستنجاء بكونه معفوّا عنه بمعنى الطهارة ـ على ما استظهرناه سابقا ـ من غير تعرّض لحكم طهوريّته ، مع أنّه في المستعمل في رفع الحدث الأصغر حكم عليه قبل ذلك بكونه طاهرا مطهّرا مدّعيا عليه الإجماع ، وفي رفع الحدث الأكبر نقل الخلاف في طهوريّته ، واختار هو كونه طاهرا مطهّرا. وأنّ الرابع قال ـ حسبما تقدّم ـ : « وفي المعتبر : ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة إنّما هو

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٢) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٥.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٤٣.

(٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ٨٢.

٢٩٣

بالعفو ، وتظهر الفائدة في استعماله ولعلّه أقرب لتيقّن الطهارة بغيره » (١) ، فإنّ تعليله عامّ يجري في كلّ من النوعين.

وثانيهما : أنّه طهور مطلقا ، وهو الّذي اختاره في المناهل (٢) ، ناسبا في مسألة رفع الحدث الجواز إلى صريح الكشف (٣) ، وظاهر مجمع الفائدة (٤) ، وهذا يقتضي أنّهما يقولان بالجواز في مسألة الخبث أيضا بل بطريق أولى كما لا يخفى.

وثالثهما : الفرق بين المسألتين ، فالجواز في إزالة الخبث وعدمه في رفع الحدث ، ويستفاد ذلك من المدارك (٥) والحدائق (٦) ـ فيما تقدّم عنهما من عبارتهما ـ ويستفاد أيضا من الرياض (٧) وشرح الدروس (٨).

والعجب عن السيّد في المناهل (٩) حيث جعل المسألة ذات قولين ، مدّعيا للاتّفاق على الجواز في إزالة الخبث ، حاكيا للخلاف على قولين في رفع الحدث ، ولم نقف للأوّلين على مستند سوى ما أشار إليه الشهيد في الذكرى (١٠) من تيقّن الطهارة بغيره.

وحكى عن الآخرين الاستدلال بالأصل والعمومات والاستصحاب ، فإنّ الأصل بقاء الطهوريّة خرج عنه ما خرج وبقي الباقي.

وعن الباقين الاستدلال على الجواز في رفع الخبث بما تقدّم من الأصل والعمومات واستصحاب الطهوريّة ، مضافا إلى ما في شرح الدروس (١١) من التمسّك « بأنّ الأوامر إنّما وردت بالغسل بالماء ، وهذا يصدق عليه الماء فيحصل الامتثال » وإلى ما في المدارك (١٢) والحدائق (١٣) « من صدق الامتثال باستعماله » ، ومثله ما عن

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣ ـ أقول : ما في المعتبر : ٢٢ ليس بصريح في ذلك ، راجع الحدائق الناضرة ١ : ٤٧١ ـ جواهر الكلام ١ : ٦٤٠ ـ مفتاح الكرامة ١ : ٩٤.

(٢) المناهل : ١٤٥. (٣) كشف اللثام : ١ : ٣٠٠ ـ حكى عنه في المناهل : ١٤٥.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان : ١ : ٢٨٩.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١٢٧.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٤٦٩.

(٧) رياض المسائل ١ : ١٨٢.

(٨ و ١١) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٩) المناهل : كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٥.

(١٠) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(١١ و ١٢) مدارك الأحكام ١ : ١٢٧.

(١٢ و ١٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٦٩ حيث قال : « والظاهر ـ كما هو المشهور ـ الجواز تمسّكا بأصالة الطهارة عموما وخصوصا وصدق الماء المطلق عليه ، فيجوز شربه وإزالة الخبث به ».

٢٩٤

الذخيرة (١) من قوله : « ولحصول الامتثال في رفع النجاسات به ».

وعلى عدمه بما عزى (٢) إلى المعتبر (٣) والمنتهى (٤) من دعوى الإجماع على عدم جواز رفع الحدث بما تزال به النجاسة مطلقا.

فقد تبيّن بجميع ما ذكر : أنّ القول بالمنع مطلقا أو في الجملة ، لا حجّة عليه سوى قاعدة الشغل ، والاطلاق والإجماع المنقول في المنتهى والمعتبر ، وأنت إذا تأمّلت علمت أنّ شيئا منهما ليس بشي‌ء.

أمّا الأوّل : فلأنّ التمسّك بتلك القاعدة مع وجود ما يرفع موضوعها ـ على ما ستعرف ـ ممّا لا معنى له.

وأمّا الثاني : فلتوجّه المنع إلى شمول هذا الإجماع لمثل المقام ، بل التحقيق : أنّه لا مجال إلى دعوى الاطلاق في إجماع المنتهى ، فإنّه في كلام العلّامة معلّل بما لا يجري في المقام أصلا ، فإنّه بعد ما أورد الكلام في الماء المنفصل عن غسالة النجاسة بجميع صوره ، حتّى ما لو انفصل غير متغيّر من الغسلة الّتي طهّرت المحلّ حاكما في الجميع بالنجاسة ، ـ مع نقله في الأخير اختلاف القولين عن الشيخ في المبسوط (٥) ، فقال : بنجاسته مطلقا ، والخلاف (٦) ، فقال : بنجاسة الغسلة الاولى وطهارة الغسلة الثانية ، ـ قال : « رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا ، أمّا على قولنا فظاهر ، وأمّا على قول الشيخ فلما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الماء الّذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به من الجنابة لا يتوضّأ منه (٧) ». (٨)

فقوله : « أمّا عندنا فظاهر » إشارة إلى ما اختاره فيما تقدّم من نجاسة ما ينفصل من غسالة النجاسة ، تمسّكا بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة ، فينجّس.

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٤٤.

(٢) الناسب : هو صاحب المعالم في فقه المعالم ١ : ٣٢٣.

(٣) المعتبر : ٢٢ ، حيث قال : « وأمّا رفع الحدث به أو لغيره ممّا يزال النجاسة فلا ، إجماعا ».

(٤)منتهى المطلب ١ : ١٤٢ حيث قال:« رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا ».

(٥) المبسوط ١ : ٩٢.

(٦) الخلاف ١ : ١٧٩ ـ المسألة ١٣٥.

(٧) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠.

(٨) منتهى المطلب ١ : ١٤٢.

٢٩٥

فظهر أنّ مستند الإجماع أحد الأمرين : من النجاسة والرواية ، والمقام ليس مندرجا في شي‌ء منهما كما لا يخفى.

وأمّا إجماع المعتبر فلعلّه أيضا من هذا القبيل ، ولم يحضرنا الكتاب حتّى نلاحظ في مفاد كلامه وسياقه ، ثمّ لو سلّم الإطلاق في هذين الإجماعين أو في أحدهما فهو قابل للتقييد ، فإنّه باعتبار العبارة الناقلة عامّ ، وبعض ما ستعرف من أدلّة القول بالطهوريّة في ماء الاستنجاء خاصّ فيخصّص به العامّ ، فالقول بسلب الطهوريّة على إطلاقه ضعيف جدّا ، إذا كان مستنده ما ذكر ونظراءه ، وأمّا القول بالطهوريّة مطلقا فالظاهر أنّ التمسّك عليه بالأصل والعمومات متّجه ، إذا اريد بالأصل القاعدة الشرعيّة المستفادة من أدلّة طهوريّة الماء كتابا وسنّة.

لا يقال : إنّه مع العمومات قد انقطعا بأدلّة انفعال القليل بالملاقاة ، إن اريد بالعمومات قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) وما أشبه ذلك كتابا وسنّة لتوجّه المنع إلى دعوى الانقطاع ، فإنّ المفروض خروج ماء الاستنجاء عن تحت القليل الّذي ينفعل بملاقاة النجاسة ، ومعنى خروجه عنه انكشاف كونه مرادا من العمومات الأوّلية ، أو انكشاف عدم تعرّض أدلّة الانفعال لإخراجه عنها ، وهذا القدر كاف في صحّة التمسّك بها ؛ لأنّ مبناها على الظهور النوعي وهو حاصل هنا.

نعم ، إنّما يتّجه هذه المناقشة بالقياس إلى تمسّكهم بالأصل ، بمعنى استصحاب الطهوريّة الثابتة لهذا الماء قبل الاستنجاء ، لارتفاع موضوعه بورود أدلّة الانفعال الشاملة له ، ومعه لا يعقل الاستصحاب ، كيف ولو صحّ التمسّك به لإثبات الطهوريّة له مع ورود تلك الأدلّة المقتضية لخلافها لصحّ التمسّك به لإثبات الطهارة له أيضا ؛ لكونها كالطهوريّة ثابتة له قبل الاستنجاء ، ومعه يرتفع الحاجة إلى التمسّك بالأخبار الواردة فيه ، واللازم باطل بالضرورة ، وإبداء الفرق بين الحكمين بدعوى : صحّة ذلك في أحدهما دون الآخر ، تحكّم صرف.

فإن قلت : التمسّك به لإثبات الطهوريّة لهذا الماء إنّما هو بعد ملاحظة الأخبار الواردة المخرجة له عن تحت أدلّة الانفعال ، ولا ضير فيه لكشف تلك الأخبار عن عدم

__________________

(١) الفرقان : ٥١.

٢٩٦

تعرّض الأدلّة المذكورة لرفع موضوع الأصل بالنسبة إليه ، على قياس ما ذكرته في صحّة التمسّك بالعمومات الأوّلية.

قلت : هذه الأخبار لو صلحت عندهم كاشفة عن هذا المعنى ، لكانت بأنفسها رافعة لموضوع الأصل أيضا ؛ إذ لا فرق في ارتفاع موضوع الأصل بين ورود الدليل على خلافه ووروده على طبقه ؛ لأنّه كائنا ما كان في مقابلة الأصل علم ، ومن البيّن عدم اجتماع العلم مع الشكّ في قضيّة شخصيّة.

ومن هنا فالتمسّك به ممّا لا وجه له على كلّ حال ، إن كان المراد جعله دليلا للحكم على الإطلاق كما هو ظاهر الجماعة.

وممّا ذكرنا يتّجه أن يقال : بصحّة التمسّك بأخبار الاستنجاء لإثبات حكم الطهوريّة أيضا ، كما أشار إلى التمسّك بها في المناهل (١) ، وقد تقدّم منّا الإشارة إلى وجهه عند التمسّك بها على إثبات حكم الطهارة له في الجهة الاولى.

وتوضيح ذلك : أنّ إثبات هذا الحكم لماء الاستنجاء بالأخبار الواردة فيه ليس من جهة وروده فيها بلفظ « الطهارة » على نحو الصراحة ، بل من جهة ما تضمّنته من نفي البأس ، بتقريب : أنّ النكرة المنفيّة لكونها مفيدة للعموم ، فنفي البأس عن هذا الماء في موضع توهّم النجاسة ظاهر في نفي جميع لوازم النجاسة الّتي منها المنع عن استعماله في مقام إزالة الخبث ، أو في مقام رفع الحدث ، أو في مقام الشرب ونحوه من سائر أنحاء الانتفاعات.

ضرورة أنّه كما أنّ المنع عن مباشرته حال الصلاة وغيرها بأس ، فكذلك المنع عن شربه والتطهير به بأس ، وكما أنّ النفي يتوجّه إلى الأوّل فكذلك يتوجّه إلى الباقي ؛ لكون أفراد العامّ متساوية الأقدام بالنسبة إليه ، ودعوى : عدم كون ما ذكر من أفراد البأس ومصاديقه ، تحكّم فلا تسمع ، كما أنّ منع العموم في النفي الوارد على النكرة مطلقا ، أو في خصوص المقام غير مسموعة ، ومن هنا يتّضح الحكم في المسألة الثالثة أيضا.

نعم ، يشكل الحال بالقياس إلى مسألة التطهير من جهة اخرى ، وهي أنّ أقصى ما يستفاد من نفي البأس بالقياس إليه إنّما هو نفي الحكم التكليفي ، وهو المنع عن

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤١.

٢٩٧

استعمال هذا الماء في مقام التطهير وتحريمه ، لأنّه بأس على المكلّف وشدّة في حقّه وموجب لتوجّه العذاب إليه ، وهو ليس من مسألة أصل التطهير الّذي هو المبحوث عنه ؛ إذ ليس المراد به مجرّد استعمال الماء معنونا بهذا العنوان ليكون نفي تحريمه مجديا في حال المكلّف ، بل المراد به استعمال بهذا العنوان مستتبع لترتّب الأثر عليه ، من زوال الخبث وارتفاع الحدث ، وهو ليس بلازم من نفي التحريم ؛ لأنّه حكم وضعي لا ملازمة بينه هنا وبين نفي التحريم ، ومن هنا نبّهناك سابقا على أنّ أهل القول بالطهارة ـ قبالا للقول بالعفو ـ إن كان كلامهم في الجهة الثانية الّتي فرضناها للعفو بالمعنى الثاني المتقدّم ، ليس لهم التمسّك في إثبات الطهارة المقابلة للعفو بهذا المعنى بالأخبار الواردة في ماء الاستنجاء ؛ إذ لا تعرّض فيها لبيان أنّ الثابت لهذا الماء هل هو جميع أحكام الطهارة ولوازمها أو بعضها؟ على أنّ مرادنا بتلك الأحكام ما يعمّ الوضعيّة والتكليفيّة.

ويمكن دفعه : بأنّه لو لا كفاية هذا الماء في إفادة التطهير الشرعي ، لكان على المكلّف تحمّل الكلفة في تحصيل ماء آخر مكانه لترتّب هذه الفائدة ، ولو فرضناه متيسّرا مثله بل حاضرا في المجلس ؛ ضرورة اقتضاء التعيين من الكلفة والضيق المعنوي ما لا يقتضيه التخيير ، وهو أيضا نحو من البأس ، والمفروض أنّه منفيّ بجميع أنحائه.

نعم ، ربّما يخدش في ذلك ما تقدّم في روايات القول بعدم انفعال القليل من رواية محمّد بن اسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إلى من يسأله عن الغدير ، تجتمع فيه ماء السماء ، ويستقي فيه من بئر ، فيستنجي فيه الإنسان من بول ، أو يغتسل فيه الجنب ، ما حدّه الّذي لا يجوز؟ قال : « فكتب لا تتوضّأ من مثل هذا إلّا من ضرورة إليه » (١) ، فإنّ التوضّؤ إمّا أن يكون مرادا به معناه الظاهر أو الاستنجاء ، نظرا إلى إطلاقه في الأخبار على هذا المعنى ، فعلى الأوّل تدلّ الرواية على عدم جواز رفع الحدث بماء الاستنجاء ، وعلى الثاني تدلّ على عدم جواز إزالة الخبث به.

ولكنّ الأمر في دفعه هيّن من حيث إنّها ـ مع كونها مضمرة ، قادحة في السند من وجهين ، كما تقدّم إليهما الإشارة ـ ممّا لم يظهر من الأصحاب عامل بها ، مستند إليها في المقام بالخصوص ولا سيّما مع ما تقتضيه من التفصيل في المنع بين الضرورة وعدمها ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ١٥٠ / ٤٢٧.

٢٩٨

فإنّه ممّا لم يقل به أحد ظاهرا ، إلّا أن يحمل النهي الوارد فيها على التنزيه الّذي مفاده الكراهة الّتي ترتفع في موضع الضرورة ، فحينئذ تخرج عن معارضة ما ذكرناه بالمرّة ؛ إذ الظاهر أنّ القائلين بجواز التطهير بماء الاستنجاء يعترفون بالكراهيّة ، ولا يبعد القول بها حينئذ عملا بتلك الرواية من باب المسامحة في أدلّة السنن.

ومن هنا اتّجه أن يقال : بجواز التطهير بماء الاستنجاء خبثا وحدثا على كراهيّة ـ بالمعنى المقرّر في الاصول بالقياس إلى الكراهة المضافة إلى العبادات ـ ودليله الأخبار المتقدّمة.

مضافا إلى الأصل ، والعمومات ، والقاعدة المستفادة من الأدلّة ، والأخبار الجزئيّة الواردة في أبواب الطهارات القاضية بأنّ الماء المطلق الطاهر ممّا يجوز التطهير به مطلقا ما لم ينهض مانع شرعي عنه ، والمقام منه ؛ إذ لم يثبت من الشرع كون الحيثيّة الاستنجائيّة من موجبات المنع عن ذلك.

وإلى القاعدة المقرّرة في الاصول من كون الأمر مقتضيا للإجزاء ، فإنّ المأمور به ليس إلّا استعمال الماء الظاهر في الإطلاق ، الخالي عن النجاسة من جهة الدليل الخارج ، وهذا منه ، فقد اوتي بالمأمور به على وجهه ؛ إذ لم يثبت كون الخلوّ عن حيثيّة الاستنجاء وجها من وجوهه ، فيجب الإجزاء.

المسألة الثالثة : لا إشكال بملاحظة ما ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة في جواز شرب ماء الاستنجاء ومطلق استعماله ، كاستعمال سائر المياه الطاهرة ، ما لم يصادفه عنوان آخر مقتضي للمنع كالخباثة ونحوها ، ومعه يدخل في عموم تحريم « الخبائث » وكونه دائم المطابقة لهذا العنوان المقتضي لدوام المنع عنه ، لو سلّمناه لا ينافي جواز استعماله من الحيثيّة المبحوث عنها ، وإن لم يتحقّق للجواز بهذه الحيثيّة مصداق.

والثالث ممّا ادّعي استثناؤه عن قاعدة انفعال القليل : ماء الغسالة.

والمراد به هنا الماء المستعمل في إزالة الأخباث غير الاستنجاء ، ولا إشكال بل لا خلاف في انفعاله مع التغيّر بما استعمل في إزالته من النجاسة ، واستفاض نقل الإجماع عليه ونفي الخلاف عنه في كلامهم ، ومع الغضّ عن ذلك فوجه المسألة واضح بملاحظة ما تقدّم في شرائط ماء الاستنجاء ، وأمّا مع عدم التغيّر به فاختلف فيه

٢٩٩

الأصحاب على أقوال (١).

أحدها : القول بأنّه نجس مطلقا ، من غير فرق فيه بين كونه منفصلا عن الغسلة الّتي تستتبع طهر المحلّ ، أو كونه منفصلا عمّا لا يستتبعه ، ولا بين الثياب والأواني ، ولا بين كون نجاسة الآنية حاصلة من ولوغ الكلب وغيره ، ذهب إليه العلّامة في المنتهى (٢) مصرّحا بالجهة الاولى من عدم الفروق ، أمّا الجهات الاخر فتستفاد من إطلاق قوله بالنجاسة ، وعزى إليه ذلك في القواعد (٣) والتحرير (٤) والمختلف (٥) والتذكرة (٦) وقد استفاض من حكاية هذا القول أيضا عن المحقّق في المعتبر (٧) ، وصرّح به في الشرائع (٨) ، والنافع (٩) ، جاعلا له في الثاني أشهر القولين وأظهرهما ،

وفي شرح الشرائع (١٠) للأستاذ نسبته إلى أكثر من تأخّر عن الفاضلين ، بعد ما نسبه إليهما يعني العلّامة والمحقّق.

وفي الحدائق : « الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين » (١١) ، وفي حاشية الشرائع للشيخ علي : « هذا هو المشهور بين أصحابنا » (١٢).

قال الاستاذ في الشرح : « وحكي عن [المصباح] (١٣) وظاهر المقنع (١٤) ، وفي الذكرى (١٥) عن ابن بابويه ، وكثير من الأصحاب عدم جواز استعمال الغسالة ، وظاهر إطلاقه النجاسة » (١٦) انتهى.

وقال ابن بابويه في الفقيه : « فأمّا الماء الّذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به من الجنابة ، أو تزال به النجاسة ، فلا تتوضّأ به » (١٧) ، ويمكن استفادة هذا القول من عبارته

__________________

(١) ولعلّها تبلغ بملاحظة كلماتنا الآتية إلى ستّة بل سبعة ، إن عدّ التوقّف الّذي صار إليه صاحب الحدائق قولا (منه).

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤١.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٤) تحرير الأحكام : ٥. (٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٧.

(٦) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٦. (٧) المعتبر : ٢٢. (٨) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٩) المختصر النافع : ٤٤.

(١٠ و ١٦) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٦.

(١١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٧.

(١٢) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٧.

(١٣) والصواب : إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤).

(١٤) المقنع : ٤٦.

(١٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥. (١٧) الفقيه ١ : ١٠.

٣٠٠