ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

قال في الشرائع : « ويكره سؤر الجلّال ، وكذا ما أكل الجيف إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة » (١) وفي معناه عبارة النافع (٢).

وقال في المنتهى : « يكره سؤر ما أكل الجيف من الطير إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة ، وهو قول السيّد [المرتضى] ـ إلى أن قال ـ : وهكذا سؤر الهرّة وإن أكلت الميتة ثمّ شربت ، قلّ الماء أو كثر ، غابت عن العين أو لم تغب » (٣).

وقال في الدروس : « ويكره سؤر الجلّال وآكل الجيف مع الخلوّ عن النجاسة » (٤) وعن العلّامة في التذكرة (٥) والمحقّق في المعتبر (٦) نظير ما ذكره في الهرّة ، وفهم جماعة كصاحبي المدارك والحدائق وغيرهما من تلك العبارة أنّ المراد بها طهارة الهرّة بمجرّد زوال العين ، بل في الحدائق : « أنّه المشهور بين الأصحاب » (٧).

وجزم به في المدارك قائلا : « وهنا شي‌ء ينبغي التنبيه له ، وهو أنّ مقتضى الأخبار المتضمّنة لنفي البأس عن سؤر الهرّة وغيرها من السباع طهارتها بمجرّد زوال العين ، لأنّها لا تكاد تنفكّ عن النجاسات خصوصا الهرّة ، فإنّ العلم بمباشرتها للنجاسة متحقّق في أكثر الأوقات ، ولو لا ذلك للزم صرف اللفظ الظاهر إلى الفرد النادر ، بل تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأنّه ممتنع عقلا ، وبذلك صرّح المصنّف في المعتبر (٨) والعلّامة في التذكرة (٩) والمنتهى (١٠) ، فإنّهما قالا : إنّ الهرّة لو أكلت ميتة ثمّ شربت من الماء القليل لم ينجّس بذلك ، سواء غابت أو لم تغب » (١١) انتهى.

أقول : ما سمعته من الاستدلال على الطهارة بمجرّد زوال العين موافق لما ذكره العلّامة في المنتهى ، فإنّه بعد قوله : « وهو قول السيّد المرتضى في العبارة المتقدّمة قال : « لنا : ما أوردناه من الأحاديث العامّة في استعمال سؤر الطيور والسباع ، وهي لا تنفكّ عن تناول ذلك عادة ، فلو كان ذلك مانعا لوجب التنصيص عليه ، وإلّا لزم صرف الطهارة (١٢)

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٢) المختصر النافع : ٤٤.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٥) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٢.

(٦) المعتبر : ٢٥. (٧) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٣.

(٨) المعتبر : ٢٥. (٩) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٢.

(١٠) منتهى المطلب ١ : ١٦١. (١١) مدارك الأحكام ١ : ١٣٣.

(١٢) هكذا في الأصل ، وفي منتهى المطلب المطبوعة : « الظاهر » بدل « الطهارة ».

٨٦١

إلى نادر لا دلالة للفظ السائل (١) عليه ، وذلك بعيد ومحال من حيث إنّه تأخير البيان عن وقت الحاجة » انتهى (٢).

ومحصّل مراده : أنّ الغالب في الهرّة وغيرها من السباع إنّما هو مباشرة النجاسات من الجيف وغيرها ، وما لم يباشرها منها أصلا ليس إلّا فردا نادرا ، والنصوص قد تضمّنت نفي البأس عن أسئارها فتكون دالّة على طهارتها ، فإمّا أن يراد بها بيان الحكم للفرد النادر وهو الّذي لم يباشر النجاسات أصلا ، أو للأفراد الغالبة الّتي لا تنفكّ عن مباشرة النجاسات ، ولا سبيل إلى الأوّل لانصراف اللفظ المجرّد إلى الغالب ، فلو كان المراد به بيان الحكم للفرد النادر لوجب التنصيص عليه بنصب قرينة توجب انفهامه لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، من حيث إنّ السائل لا دلالة للفظه على إرادة ذلك الفرد بل هو ظاهر في إرادة الغالب ، ومن الواجب انطباق الواجب عليه حذرا عن المحذور فتعيّن الثاني.

لكن يبقى الإشكال في وجه تقييدهم الطهارة بصورة زوال عين النجاسة عن موضع الملاقاة ، نظرا إلى إطلاق النصوص بالقياس إلى تلك الصورة أيضا ، وكأنّه نشأ عن غلبة اخرى في مورد الغلبة الاولى ، إذ كما أنّ الغالب في الهرّة وغيرها من السباع مباشرة النجاسات ، فكذلك الغالب فيما يباشرها وروده على الماء بعد زوال عين النجاسة عن موضع ملاقاة الماء ، إذ لا ملازمة بين غلبة مباشرة النجاسة وغلبة ملاقاة الماء مع النجاسة ، بل الغالب عند الملاقاة عدم وجود النجاسة ، فيكون الفرد النادر ـ وهو ملاقاة الماء مع وجود النجاسة ـ خارجا عن النصوص المنصرفة إلى الغالب.

وقضيّة ذلك اندراج تلك الصورة في قاعدة انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، فاشتراط الخلوّ عن عين النجاسة عمل بتلك القاعدة حيث لا معارض لها حينئذ لا أنّه مستفاد من النصوص.

ويمكن القول بأنّ ذلك جمع بين تلك النصوص وأدلّة القاعدة المذكورة ، من حيث

__________________

(١) هكذا في الأصل ، وفي النسخة المطبوعة : « الشامل » بدل « السائل » ، ولا يبعد صحّة ما في الأصل ، بناء على ما سيجي‌ء منه قدس‌سره في بيان معنى العبارة.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

٨٦٢

إنّ بين كلّ مع الآخر عموم من وجه كما يظهر بالتأمّل ، لكن في كلّ من الوجهين شي‌ء يظهر للمتأمّل أيضا.

وكيف كان فللعلّامة قول آخر في النهاية ـ حكاه جماعة ـ وهو « أنّه لو نجس فم الهرّة بسبب كأكل الفأرة وشبهه ، ثمّ وقعت في ماء قليل ، ونحن نتيقّن نجاسة فمها ، فالأقوى النجاسة ، لأنّه ماء قليل لاقى نجاسة ، والاحتراز يعسر عن مطلق الولوغ ، لا عن الولوغ بعد تيقّن النجاسة ، ولو غابت من العين واحتمل ولوغها في كثير أو جار لم ينجّس ، لأنّ الإناء معلوم الطهارة ، فلا يحكم بنجاسته بالشكّ » (١).

ونتيجة كلامه ـ على ما فهمه جماعة ـ إناطة الطهارة بالغيبة مع احتمال الولوغ في الكثير أو الجاري لا بمجرّد زوال عين النجاسة ، وفي المدارك بعد ما نقل هذا القول عن النهاية قال : « وهو مشكل ، وقد قطع جمع من المتأخّرين بطهارة الحيوان غير الآدمي بمجرّد زوال العين ، وهو حسن ، للأصل وعدم ثبوت التعبّد بغسل النجاسة عنه » (٢).

وإلى هذا أشار في الحدائق بقوله : « وألحق جملة من المتأخّرين بها ـ يعني بالهرّة ـ كلّ حيوان غير آدمي » (٣).

وفيه (٤) أيضا قول بالنجاسة وأصالة البقاء عليها نقله من دون تعيين قائله ، ثمّ نقل القول بالطهارة بالغيبة عن نهاية العلّامة ، والتأمّل في العبارة المتقدّمة للنهاية يعطي أنّه لا يريد الحكم بطهارة الهرّة بسبب الغيبة ولو مع الاحتمال المتقدّم ، بل مراده الحكم بطهارة الماء الملاقي لها عملا بالأصل فيه الّذي لا يرتفع بالشكّ ، وذلك لا ينافي بقاء الهرّة أيضا على وصف النجاسة ولو بحكم الأصل الموجود فيه.

نعم ، مبنى كلامه على عدم تحكيم استصحاب النجاسة على استصحاب طهارة الملاقي ، وهو خلاف طريقة الأصحاب الّتي قضت بها أخبار الاستصحاب ، وعلى أيّ حال كان فقد تبيّن أنّ في الحيوانات المباشرة للنجاسات أقوالا.

أحدها : طهارتها بمجرّد زوال عين النجاسة.

وثانيها : النجاسة مطلقا عملا بأصالة البقاء.

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٩ مع اختلاف يسير في بعض الفقرات.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٣٤.

(٣ و ٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٣.

٨٦٣

وثالثها : الطهارة بالغيبة مع الاحتمال لا غير.

وتمكّن أخذ الطهارة بالغيبة المطلقة أيضا قولا في المسألة وإن لم يكن نقله أحد ، ويمكن اعتبار الغيبة توصّلا إلى إبداء الاحتمال المحرز لموضوع الاستصحاب في الماء لا للتوصّل إلى طهارة الحيوان كما هو ظاهر عبارة النهاية.

ثمّ إنّ لقولهم بالطهارة لمجرّد الزوال معنيين :

أحدهما : كون زوال العين موجبا لارتفاع أثرها الحاصل في جسم الحيوان الغير الآدمي ، بناء على أنّه كجسم الآدمي تقبل النجاسة ، وهي الأثر الحاصل فيه بعروض العين له ، فعليه يكون الزوال من جملة المطهّرات.

وثانيهما : كونه موجبا لبروز الطهارة الأصليّة الّتي كانت للحيوان قبل عروض العين له ، بناء على أنّه ليس كجسم الآدمي في قبول النجاسة ، بل هو قبل عروض العين وحاله باق على وصف الطهارة ، غاية الأمر أنّ العين ما دامت موجودة مانعة عن ترتيب أحكام الطهارة على المحلّ ، فإذا زالت بقيت الطهارة الموجودة في المحلّ حال وجودها بلا مانع عن ترتيب أحكامها عليه.

فالعين على أوّل المعنيين رافعة لطهارة المحلّ ، وعلى ثانيهما مانعة عن ترتّب أحكامها عليه ، وهذا هو الّذي مال إليه بعض مشايخنا (١) ، بل في كلامه ما يقضي برجوع قولهم : « أنّ الحيوانات تطهر بزوال العين » إلى هذا المعنى.

ومحصّل هذا المعنى : « أنّه لا يحكم بتنجيس هذه النجاسات ، لأبدان الحيوانات ، بل تكون من قبيل البواطن ، فلا تنفعل بملاقاة النجاسات ، بل إن كانت عين النجاسة موجودة كان الحكم مستند إليها ، وإلّا فلا ».

إلى أن قال : « ولعلّه إلى ما ذكرنا أشار السيّد مهدي في منظومته :

و اجعل زوال العين في الحيوان

طهرا كذا بواطن الإنسان » (٢)

فعلم من جميع ما ذكر : أنّ في كون أجسام سائر الحيوانات كسائر المتنجّسات في افتقارها إلى مطهّر خارجي ومزيل شرعي وعدمه خلافا.

__________________

(١) وهو صاحب الجواهر رحمه‌الله لاحظ جواهر الكلام ١ : ٦٧٦.

(٢) الجواهر ١ : ٦٧٦ ـ لاحظ الدرّة النجفيّة : ٥٤.

٨٦٤

فما يقال : من أنّ الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في أنّ جسم الحيوانات لا يعامل معها معاملة غيرها من كفاية العلم بنجاستها في زمان في وجوب الاجتناب عنها إلى أن يعلم طهارتها بمطهّر غيرها ، ليس على ما ينبغي ، إلّا أن يرجع إلى إنكار وجود القول بالنجاسة المطلقة ، الّذي مرجعه إلى القول باعتبار مطهّر خارجي حسبما نقله في الحدائق (١).

وكيف كان فهاهنا صور :

إحداها : ملاحظة جسم الحيوان قبل العلم بمباشرة النجس ، وهذا ممّا لا إشكال لأحد في الحكم عليه بالطهارة عملا بأصالة الطهارة.

وثانيتها : ملاحظته بعد حصول مطهّر شرعي له ، بوروده على الكثير أو الجاري بعد مباشرة النجاسة ، وهذا أيضا ممّا لا إشكال لأحد في الحكم عليه بالطهارة.

وثالثتها : ملاحظته حال وجود النجاسة العينيّة ، وهذا أيضا ممّا لا إشكال لأحد في عدم ترتيب أحكام الطهارة عليه ، إمّا لوجود الرافع أو لوجود المانع.

ورابعتها : ملاحظته بعد زوال عين النجاسة قبل العلم بحصول المطهّر الخارجي ، فهذا هو محلّ الخلاف في أنّه هل يكفي مجرّد ذلك في الحكم عليه بالطهارة ، أو يتوقّف على الغيبة ، مع احتمال حصول المزيل الشرعي بوروده على كرّ أو جار ، أو لا يكفي شي‌ء من ذلك ، بل يتوقّف الحكم بالطهارة على حصول المزيل؟

والأقوى وفاقا للأكثر هو الأوّل ، لكن لا على معنى كون الزوال مطهّرا ، بل على معنى كونه من باب ارتفاع المانع ، فالطهارة الموجودة بعده هي الطهارة الأصليّة الّتي صادفها المانع في زمان فارتفع ذلك المانع بفرض زوال العين ، من غير فرق في ذلك بين الهرّة وغيرها من سائر أنواع الحيوانات ، أكلت لحمها أو لا ، لكن لا للأخبار النافية للبأس عن سؤرها كما عرفت الاستناد إليها في الجملة عن العلّامة وصاحب المدارك (٢) ، فإنّ جملة من تلك الأخبار قد عرفت سابقا أنّه لا تعلّق لها بمقام البحث ، كأخبار الهرّة والصحيحة مع الحسنة المتقدّمتين فيها وفي الدوابّ والسباع ، لما عرفت

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٣٤٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٣٣ ـ تذكرة الفقهاء ١ : ٤٢ ـ المعتبر : ٢٥.

٨٦٥

من عدم تعرّض فيها إلّا لبيان الطهارة الذاتيّة ، ولا سيّما الصحيحة والحسنة ، لما فيهما من تعليل المنع عن سؤر الكلب بنجاسته الّتي هي بالقياس إليه ذاتيّة ، فيكون الرخصة في سؤر ما عداه من الأنواع المذكورة فيهما لطهارتها الذاتيّة ، فلا ينافيها المنع لنجاسة عرضيّة ، فلا تعرّض في تلك الأخبار لبيان الطهارة الفعليّة فضلا عن تعرّضها لبيان كيفيّة تلك الطهارة وبيان حال الحيوان بعد زوال عين النجاسة العرضيّة ، فالتمسّك بها في هذه المقامات ليس إلّا من الخرافات الناشئة عن سوء الفهم وقلّة التدبّر.

وأمّا جملة اخرى من أخبار الباب كما في موثّقة عمّار من قوله : وعن ماء يشرب منه باز ، أو صقر ، أو عقاب ، فقال : « كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه ، إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت شيئا في منقاره فلا تتوضّأ منه ولا تشرب ».

وسأل عن ماء شربت منه الدجاجة ، قال : « إن كان في منقارها قذر لا تشرب ولا تتوضّأ منه ، وإن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ واشرب » (١) وإن كانت متعرّضة لبيان الطهارة الفعليّة بقرينة الاستثناء القاضي بالنجاسة الفعليّة ، غير أنّه لا يستفاد منها أيضا ما يتعلّق بالمقام من كفاية زوال عين النجاسة في الحكم على الحيوان بالطهارة وعدمها ، لما في المستثنى من الإجمال ، حيث لا يعلم أنّه حالة وجود عين النجاسة بخصوصها حتّى يفارق سائر أنواع الحيوان من الإنسان من جهته ، أو هي مع ما بعدها إلى أن يعلم بحصول المزيل الشرعي ، حتّى يشارك الحيوان الإنسان في أنّه لا يحكم عليه بالطهارة إلّا إذا لم يعلم بطروّ عين النجاسة ، أو علم معه بحصول المزيل ، فيكون النظر في تلك الأخبار على هذا الاحتمال ـ كالأخبار الواردة في طهارة ثياب المشركين وأوانيهم ـ إلى أصالة الطهارة.

فالقول : بأنّ الأخبار الواردة في أسآر ما يعلم بطهارته من الحيوانات كالحمام والدجاجة وغيرها لم يستثن فيها إلّا صورة وجود النجاسة على جسم الحيوان ، والمناسب على تقدير إناطة الحكم بأصالة الطهارة استثناء صورة العلم بتنجيس نفس الجسم ، بإطلاقه ليس على ما ينبغي ، لما عرفت من أنّ مقتضى الاحتمال الثاني الجاري في تلك الأخبار مساويا للاحتمال الأوّل هو إناطة الحكم في هذه الحيوانات أيضا بأصالة الطهارة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ و ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢٨ / ٦٦٠ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٥.

٨٦٦

وكيف كان فقضيّة الإجمال الناشئ عن تساوي الاحتمالين سقوط الاستدلال بتلك الأخبار أيضا على حكم المسألة ، بل المستند في الحقيقة في عموم المسألة ممّا اخذ عنوانا في الأخبار وما لم يؤخذ هو الأصل ، فإنّ فتوى الفقهاء بطهارة الحيوان بمجرّد زوال العين مع ملاحظة ما تقدّم من المعنيين في شرح هذه العبارة ومصير بعضهم إلى ثانيهما يوجب الشكّ في عروض صفة النجاسة ـ وهو الأثر الحاصل من عين النجس الجسم الحيوان ، الملازم لزوال طهارته الأصليّة الموجودة فيه قبل وجود العين عليه ـ وعدمه ، ومن البيّن أنّ الأصل عدم عروض ذلك الأثر ، كما أنّ الأصل بقاء الطهارة الأصليّة ، ولا ينافيه عدم ترتّب آثار الطهارة على الجسم ما دامت العين موجودة عليه ، لجواز استناد ذلك إلى وجود المانع ـ حسبما فصّلناه ـ لا إلى فقد المقتضي ، ولا ريب أنّ مجرّد الاحتمال كاف في جريان الأصل وصحّة الاستناد إليه.

لا يقال : هذا الأصل قد انقطع بعموم قاعدة تنجيس النجاسات العينيّة لما يلاقيها من الأجسام وغيرها ، المستفادة من عمومات النجاسات ، ضرورة أنّ القاعدة إذا استفيدت من الدليل دليل بالقياس إلى مورد الأصل رافع لموضوعه ، فلا أصل حينئذ ، بل الأصل بعد زوال عين النجاسة عن جسم الحيوان يقتضي الحكم عليه بالنجاسة إلى أن يعلم المزيل ، ومعه كيف يحكم بالطهارة لمجرّد زوال العين.

لأنّا نمنع ثبوت هذه القاعدة على جهة العموم حتّى بالقياس إلى جسم الحيوان غير الإنسان ، فإنّها ليست لفظا عامّا ، ولا ثابتة بلفظ عامّ شامل لمثل المقام ، بل هي أمر معنوي مستفاد عن الإجماع والأخبار الجزئيّة الواردة في أبواب النجاسات الآمرة بغسل ما يلاقيها من أنواع المتنجّسات.

ولا ريب أنّ ملاحظة كلام الفقهاء ـ حسبما تقدّم ـ مع ما علم من سيرة قاطبة المسلمين من عدم التزامهم بغسل الحيوانات عند ملاقاتها للنجاسات ، بل ملاحظة ما يرد من الحكم بالسفه على من التزم ذلك ، يوجب الشكّ في انعقاد هذه القاعدة على جهة العموم ، بل التتبّع في النصوص وآثار الأئمّة عليهم‌السلام في تفاصيل أحكام النجاسات يعطي عدم انعقاد القاعدة إلّا في الإنسان ، وما يتعلّق به من الأواني والثياب ، حيث لا يوجد فيها ما يأمر بغسل الحيوانات أيضا مع عموم البلوى بأكثرها ، كالآمرة منها بغسل الإنسان وأوانيه وثيابه.

٨٦٧

وكأنّه إلى ذلك ينظر ما تقدّم عن المدارك (١) من الاستناد إلى عدم ثبوت التعبّد بغسل النجاسة عنه ، لما استحسنه من طهارة الحيوان غير الآدمي بمجرّد زوال العين ، كما أنّ الأصل الّذي اعتمد عليه ـ مع ما ذكر ـ أمكن رجوعه إلى ما قرّرناه.

ويوافقه في منع ثبوت التعبّد بالغسل ما نقل عن المعالم من أنّه « لو فرضنا عدم دلالة الأخبار على العموم ، فلا ريب أنّ الحكم بتوقّف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفيّ قطعا ، والواسطة بين ذلك وبين زوال العين يتوقّف على الدليل ، ولا دليل » (٢)

فإنّ مراده بالعموم في فرض عدم دلالة الأخبار عليه عموم الحكم بالطهارة لمجرّد زوال العين في سائر الحيوانات ، وما نفاه من الدليل على وجود الواسطة مرجعه إلى إنكار ثبوت القاعدة المشار إليها على جهة العموم.

فما يقال في دفعه : من أنّ النظر في أخبار النجاسات يقضي بثبوت قاعدتين.

الاولى : أنّها تنجّس كلّ ما تلاقيه ، ومثلها المتنجّسات.

والثانية : أنّ كلّ متنجّس لا يطهّر إلّا بالغسل بالماء ، بل يكفي في الثانية الاستصحاب ، ولو لا هما لثبت الإشكال في كثير من المقامات ، ليس على ما ينبغي ، فإنّ ثبوت القاعدة الاولى على الإطلاق في حيّز المنع ، ومعه دعوى عدم ثبوت التعبّد بالغسل وعدم ثبوت الواسطة بين طهارة الحيوانات وبين زوال عين النجاسات عنها متّجهة ، كما أنّ التمسّك بالأصل ـ حسبما قرّرناه ـ ممّا لا مانع عنه من معارض اجتهادي أو فقاهي ، فلا يكون الحكم بالطهارة لمجرّد الزوال بالمعنى المتقدّم واردا على خلاف أصل ولا قاعدة.

فاندفع بذلك ما قيل أيضا : « من أنّ هذا الحكم مخالف لإحدى قواعد اقتضتها العمومات.

إحداها : قاعدة تنجيس النجاسات [العينيّة] لما يلاقيها حتّى أجسام الحيوانات.

الثانية : عدم زوال نجاسة المتنجّس ولو كان جسم حيوان بمجرّد زوال عين النجاسة عنه.

الثالثة : تنجيس المتنجّس ولو كان جسم حيوان لما يلاقيه من المياه وغيرها.

الرابعة : أنّ النجاسة إذا ثبتت في محلّ فهي مستصحبة.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٣٤.

(٢) فقه المعالم ١ : ٣٦٨.

٨٦٨

الخامسة : أنّ استصحاب نجاسة الشي‌ء حاكم على استصحاب طهارة ملاقيه.

إلى أن قيل : ثمّ الأولى إخراج المقام من القاعدة الثانية (١) لأصالة بقاء الأوّلين على عمومهما ، ولا يرد ذلك في الثالثة لأنّ مستندها راجع إلى الاستصحاب ، فيصلح أخبار الباب للورود عليه بجعل زوال العين من جملة المطهّرات ، فلا يلزم من ذلك طرح الاستصحاب كما لا يخفى » (٢).

فإنّ القاعدة الاولى إذا لم تكن متناولة للمقام فالقواعد الاخر كلّها مسلّمة في مجاريها والمقام ليست منها ، فلا مخالفة فيه لشي‌ء منها ، وأخبار الباب لو صلحت دليلا على المقام لم تكن مخرجة عن شي‌ء من تلك القواعد ، ولا مخصّصة لقاعدة انفعال القليل بملاقاة كلّ من النجس والمتنجّس.

ومن هنا يعلم الوجه في استثناء صورة وجود عين النجاسة ، فإنّه في الحقيقة عمل على عموم قاعدة الانفعال ، لاستناد الانفعال حينئذ إلى عين النجاسة ، فإذا زالت العين خرج المقام من جهة الأصل المذكور عن كونه من موارد تلك القاعدة ، إذ لا نجس حينئذ بحكم الفرض ولا متنجّس بحكم الأصل ، ثمّ إنّ في بعض فقرات الكلام المذكور أيضا نظرا يظهر بالتأمّل.

وبجميع ما ذكر انقدح أنّ الزوال في محلّ الكلام الموجب لطهارة المحلّ ـ بالمعنى المختار ـ أعمّ من الجفاف ، فيما إذا كانت النجاسة من قبيل الماء وإن أفادت خشونة أو ثخنا لما كانت عليه ، فإنّ مرجع الزوال ـ على ما بيّنّاه ـ إلى ارتفاع المانع ، وهذا يتحقّق مع الجفاف في المائع الخالي عن العين الّتي يبقى بعد الجفاف ، كما في الدم والمنيّ ، إلّا أن لا يصدق الزوال عرفا مع ما فرض حدوثه من الخشونة أو الثخونة.

فما عن الشهيد في الذكرى من الاعتراض على الشيخ والمحقّق فيما حكى عنهما في مسألة ما لو طارت الذبابة عن النجاسة إلى الثوب أو الماء ـ من : « أنّه عند الشيخ

__________________

(١) وفي النسخة المطبوعة من طهارة الشيخ : « الثالثة » بدل « الثانية » ، ولا يخفى أنّ ما في المتن هو الصواب بالنظر إلى مقتضى التعليل الّذي ذكره ، ولكن لا يناسبه قوله بعدها : « لأصالة بقاء الأوّلين على عمومهما » اللهم إلّا أن يقال : بحصول التقدّم والتأخّر فيما تقدّم فلاحظ وتأمّل.

(٢) القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ انظر كتاب الطهارة ١ : ٣٧٧.

٨٦٩

عفو ، واختاره نجم الدين المحقّق في الفتاوي ، لعسر الاحتراز ، ولعدم الجزم ببقائها ، لجفافها بالهواء » ـ بأنّه : « إنّما يتمّ في الثوب دون الماء » (١) ، لم يصادف محلّه ما لم يرجع الفرض إلى ما بقى عينه بعد الجفاف كما لا يخفى.

وبجميع ما ذكر تبيّن الحال في بواطن الإنسان المحكوم عليها بالطهارة بزوال العين ، فإنّ الّذي ينبغي أن يراد منه هنا أيضا إنّما هو عدم انفعال الباطن بما لاقته من النجاسة ، بل العين ما دامت موجودة فأحكام النجاسة مستندة لها ، وإلّا بقيت الطهارة الأوّليّة بلا مقارنة المانع.

وإلى هذا المعنى ينبغي أن ينزّل ما يقتضيه ظاهر كلماتهم من عدّ زوال العين من المطهّرات في البواطن والحيوان غير الآدمي.

وأمّا الغيبة فلا أثر لها في الحيوان غير الإنسان ، وأمّا هو فكونها بالنسبة إليه من المطهّرات مطلقا أو بشروط آخر مقرّرة عندهم ، فيأتي تحقيق البحث عنه في بحث المطهّرات إن شاء الله تعالى.

ثمّ لا ملازمة بين كون زوال العين من المطهّرات وكون الغيبة منها ولو من جهة استلزامها الزوال ، لأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، فقد يزول العين بدون الغيبة ، وقد يغيب مع عدم زوال العين إلى أن حصل معه مباشرة الماء ونحوه ممّا ينفعل ، فحينئذ لو غاب بعد مباشرة النجاسة فباشر الماء قبل العلم بزوال العين ، فإن كان ذلك مع العلم بعدمه فالمتّجه انفعال ذلك ، وإن كان مع الشكّ في تحقّق الزوال وعدمه فالأوجه أيضا الحكم عليه بالانفعال ، تحكيما لاستصحاب بقاء العين على استصحاب الطهارة الماء.

المسألة السابعة : المشهور محصّلا ومحكيّا ـ كما صرّح به غير واحد ـ كراهة سؤر البغال والحمير ، كما في الشرائع (٢) واللمعة (٣) وعن التحرير (٤) والإرشاد (٥) والذكرى (٦).

أو « سؤر البغال والحمير والخيل » كما عن نهاية الأحكام (٧) وعن المنتهى

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(٢) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٣) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٤٧.

(٤) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.

(٧) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٠ وفي النسخة المطبوعة : « الدوابّ » بدل « الخيل ».

٨٧٠

أيضا (١) لكن مع تبديل « الخيل » بـ « الفرس ».

أو « سؤر البغال والحمير الأهليّة » كما عن جامع المقاصد (٢) مصرّحا بعدم كراهة سؤر الوحشيّة ، بل قيّد « الأهليّة » معتبر في الحمير ، وإن أطلقها جماعة كما صرّح به في المدارك (٣) ونقل التصريح به عن الميسي (٤) كما عرفته عن الكركي ، وفي المدارك : « إذ الوحشيّة لا كراهة في سؤرها » (٥) كما عرفته عن المقاصد أيضا.

وربّما يعمّم الحكم بالقياس إلى كلّ ما يكره لحمه كما يقتضيه صريح الدروس في قوله : « السؤر يتبع الحيوان طهارة ونجاسة وكراهة » (٦) وظاهر تعليلهم في البغال والحمير كما عن الذكرى (٧) ، وجامع المقاصد (٨) ، والروضة (٩) ، بأنّ : « السؤر لا يخلو عن فضلات الفم ، وهي تابعة للّحم ، وهو مكروه فكانت مكروهة ، فكان السؤر مكروها ».

وهذا التعليل كما ترى يستدعي كون الملازمة بين كراهة اللحم وكراهة السؤر من الامور المسلّمة.

وكيف كان فالعمدة بيان مستند الحكم ، ولو لا الكراهة من الامور الّتي يتسامح فيها وفي دليلها أمكن المناقشة فيها هنا ، حيث لم يذكر لها مستند إلّا ما ذكر في التعليل الّذي قد يمنع فيه الكبرى ، وهي دعوى التبعيّة في الكراهة ، لوجوب كونها عن دليل شرعي ، وليس فليس.

واستدلّ جماعة بمفهوم مضمرة سماعة الّذي قيل فيه : « أنّه لا يروي إلّا عن الإمام عليه‌السلام » (١٠) فلا يضرّ إضماره ، كما لا يقدح جهالة السند بأبي داود لمكان التسامح في دليل الكراهة.

قال : سألته هل يشرب سؤر شي‌ء من الدوابّ أو يتوضّأ؟ فقال : « أمّا الإبل والبقر والغنم فلا بأس » (١١).

وكأنّ إثبات المفهوم هنا ـ مع أنّه من باب اللقب ـ لورودها في مقام البيان

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٨.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٤.

(٣ و ٥) مدارك الأحكام ١ : ١٣٦.

(٤) نقل عنه في مفتاح الكرامة ١ : ٨٤.

(٦) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.

(٨) جامع المقاصد ١ : ١٢٤. (٩) الروضة البهيّة ١ : ٤٧.

(١٠ و ١١) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٣.

٨٧١

والتفصيل ، وحمل البأس الثابت بالمفهوم هنا على الكراهة ، مع أنّه أعمّ من الحرمة كما اعترف به جماعة ، جمعا بينها وبين الأخبار النافية للبأس الّتي يأتي إليها الإشارة ، نظرا إلى أنّ نفي البأس يراد به الرخصة الغير المنافية للكراهة.

وقد يستدلّ أيضا بالمرسلة المتقدّمة [عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إنّه] كان يكره سؤر كلّما لا يؤكل لحمه » (١) بناء على حمل « ما لا يؤكل لحمه » على إرادة الأعمّ ممّا لا يعتاد أكله وما لم يخلق لأجل الأكل.

واستدلّ أيضا بخبر ابن مسكان عن الصادق عليه‌السلام سألته : عن الوضوء بما ولغ فيه الكلب والسنّور ، أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك ، أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال : « نعم ، إلّا أن تجد غيره فتنزّه [عنه] » (٢).

ولا قائل هنا بالفصل بين الوضوء وغيره ، ولعلّه مبنيّ على أنّ خروج بعض مدلول الخبر عنه لدليل لا يقدح في العمل عليه للبعض الآخر من مدلوله ، وإلّا فلا إشكال في المنع عن سؤر الكلب ، كما لا كلام في عدم كراهة سؤر السنّور كما تقدّم.

لكن قد يعارض الجميع بصحيحة أبي العبّاس البقباق المتقدّمة (٣) النافية للبأس عن سؤر البقر والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع ، ورواية معاوية بن شريح (٤) المرخّصة بكلمة الإيجاب في سؤر السنّور والشاة والبقرة والبعير والفرس والبغل والسباع.

لكنّ الإنصاف عدم ظهور شي‌ء من ذلك في المعارضة لما تقدّم ، لورود نفي البأس والإيجاب فيهما في مقابل سؤر الكلب ، فيراد بهما مجرّد نفي المنع ، وهو لا ينافي الكراهة.

نعم ، إنّما يحسن المعارضة بصحيحة جميل بن درّاج قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن سؤر الدوابّ والغنم والبقر ، أيتوضّأ منه ويشرب؟ فقال : « لا بأس » (٥).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن تتوضّأ ممّا يشرب

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٤٩.

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ و ٦.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٢٧ / ٦٥٧.

٨٧٢

منه ما يؤكل لحمه (١).

وموثّقة عمّار المتضمّنة لقوله عليه‌السلام « كلّما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب » (٢).

ولعلّه لأجل هذه الأخبار صار بعض المتأخّرين ـ كما حكي ـ إلى عدم الكراهة ، بل هو صريح الحدائق حيث أنّه بعد ما ذكر هذه الأخبار عقيب ما ذكره من مستند القول بالكراهة قال : « والحقّ تقديم العمل بهذه الأخبار ، لاستفاضتها وصراحتها ، وصحّة أكثرها ، وضعف ما عارضتها سندا ودلالة » (٣).

هذا مع ملاحظة ما قيل : من ظهور كلمة « لا بأس » في نفي جميع أفراد البأس منها الكراهة ، لمكان كونها نكرة في سياق النفي ، لا أنّها تفيد نفي العذاب خاصّة ، ولعلّه إلى ذلك ينظر ما ادّعاه الحدائق من قوّة هذه الأخبار دلالة.

لكنّ الإنصاف عدم صلاحية ذلك لمعارضة ما تقدّم بعد مراعاة قاعدة المسامحة ثمّة ، ودعوى ظهور نفي البأس فيما ذكر غير مسموعة ، بل الإنصاف بملاحظة الانسباق العرفي أنّها في نظائر المقام ظاهرة في رفع توهّم النجاسة أو الحرمة ، فلا يراد منها ما ينافي الكراهة ، ولذا يقال : بظهورها في إرادة الإذن الغير المنافية لها ، والأمر بالتوضّؤ والشرب في الخبر الأخير لا يراد منه في نظائر المقام إلّا الإرشاد إلى انتفاء النجاسة أو غيرها من جهات المنع ، مع ظهور قوله : « ما يؤكل لحمه » فيه وفي سابقه فيما يكون أكل لحمه بعد الجواز الشرعي الغير المنافي للكراهة معتادا ومتعارفا بين الناس.

مع أنّه قد يقال : إنّ البقر بمفهومه يشمل الجاموس أيضا الّذي يكون لحمه مكروها ، فينبغي أن يراد بنفي البأس عن سؤره الوارد في الصحيحة ما لا ينافي الكراهة ، فتأمّل ، فإنّ ذلك لعلّه مبنيّ على الملازمة المدّعاة بين كراهة لحم الحيوان وكراهة سؤره ، وقد سمعت المناقشة فيه.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فلعلّ الشهرة الموجودة في المقام بكلا قسميها كافية في إثبات هذا الحكم لقاعدة التسامح ، على أنّه لا مخالف في المسألة ظاهرا عدا ما عرفت

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣١ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٤ / ٦٤٢.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٢٨.

٨٧٣

نقله عن بعض المتأخّرين ، ولعلّ المراد به صاحب الحدائق الّذي سمعت كلامه ، المتضمّن لترجيح عدم الكراهة.

وربّما يستظهر ذلك أيضا من المفيد من قدماء أصحابنا لقوله في المقنعة : « ولا بأس بالوضوء من فضلة الخيل ، والبغال ، والحمير ، والإبل ، والبقر ، والغنم ، وما شرب منه سائر الطير إلّا ما أكل الجيف ، فإنّه يكره الوضوء بفضلة ما [قد] شرب منه » انتهى (١).

فإنّ استثناءه يقضي بأن يكون مراده بالبأس المنفيّ ما يعمّ الكراهة ، لكون الحكم الثابت في المستثنى هو الكراهة ، كما صرّح به في العبارة أيضا.

ولك أن تمنع مخالفة المفيد تعويلا على هذه العبارة ، لما يقال : من أنّ الكراهة في أخبار الأئمّة المعصومين وكلام علمائنا المتقدّمين كان كثير الاستعمال في الحرمة ، بل ربّما يدّعي ظهورها فيها ، وكونها بما يقابل الحرمة اصطلاح محدث من الفقهاء ، فلا ينزّل عليه إطلاقات الأخبار والعلماء الأخيار ، فهذه هو الحكم الثابت في المستثنى ، لجواز أن يكون المفيد ممّن يمنع عن سؤر أكل الجيف أو ينجّسه كما تقدّم القول به فيما بين الأصحاب ، فيكون الحكم المأخوذ في المستثنى المفاد بكلمة « لا بأس » نفي الحرمة ، فلا ينافي الكراهة ولو في بعض ما ذكر من الامور المفصّلة.

المسألة الثامنة : المعروف من المذهب ـ كما حكي ـ كراهة سؤر الفأرة ، وهو مقتضى ما تقدّم من عموم الكراهة فيما لا يؤكل لحمه ، فهي تتضمّن أمرين.

الأوّل : عدم المنع عن هذا السؤر.

والثاني : كون الإذن فيه على جهة الكراهة دون الندب والإباحة.

ودليل الأوّل ـ مضافا إلى ما تقدّم ذكرها في المسائل السابقة من الروايات العامّة أو المطلقة الشاملة لمثل المقام جزما ، بل الشهرة المحكيّة ـ : الأخبار المستفيضة النافية للبأس عنه والآمرة باستعماله ، كالصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام في حديث قال : وسألته عن الفأرة وقعت في جبّ دهن ، واخرجت قبل أن تموت ، أيبيعه من مسلم؟ قال : « نعم ، ويدهّن منه » (٢).

__________________

(١) المقنعة : ٦٥.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٨ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦.

٨٧٤

وخبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : « لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء ، أن تشرب منه وتتوضّأ منه » (١) والمرويّ عن الحميري في قرب الاسناد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه‌السلام « أنّ عليّا عليه‌السلام قال : « لا بأس بسؤر الفأر أن يشرب منه ويتوضّأ » (٢).

وخبر هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الفأرة ، والعقرب ، وأشباه ذلك ، يقع في الماء فيخرج حيّا ، هل يشرب من ذلك الماء ويتوضّأ به؟ قال : « يسكب منه ثلاث مرّات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثمّ تشرب منه ويتوضّأ منه ، غير الوزغ ، فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه » (٣).

وخبر سعيد الأعرج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في السمن أو الزيت ، ثمّ تخرج منه حيّا؟ قال : لا بأس به » وفي بعض النسخ : « لا بأس بأكله ».

وبجميع ذلك يندفع ما عن الشيخ في النهاية في باب أحكام النجاسات (٤) وكذلك المبسوط في باب تطهير الثياب (٥) من أنّه « إذا أصاب ثوب الإنسان كلب ، أو خنزير ، أو ثعلب ، أو أرنب ، أو فأرة ، أو وزغة ، وكان رطبا وجب غسل الموضع الّذي أصابه » وهو المحكيّ عن المقنعة (٦) ، بل الفقيه (٧) أيضا ، فإنّ ذلك إمّا لنجاستها فالأخبار العامّة والخاصّة قائمة بخلافها ، أو تعبّد من الشارع ـ فمع أنّه في غاية البعد ـ خارج عمّا نحن فيه ، مع أنّ كلماته الاخر في غير المقام نافية للنجاسة لما حكي عنه في باب المياه من النهاية أنّه قال : « إذا وقعت الفأرة والحيّة في الإناء وشربتا منها ، ثمّ خرجتا [حيّا] لم يكن به بأس ، والأفضل ترك استعمالها » (٨).

وعنه أيضا في المبسوط (٩) في مقام البحث أنّه لا بأس فيما لا يمكن التحرّز منه من حيوان الحضر مثل الهرّة والفأرة والحيّة.

ودليل الثاني ـ مضافا إلى ما مرّ من عموم القاعدة فيما لا يؤكل لحمه عدا ما

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٩ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٣.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤١ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٨ ـ قرب الاسناد : ٧٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢٤٠ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٩٠.

(٤) النهاية ١ : ٢٦٧.

(٥) المبسوط ١ : ٣٧.

(٦) المقنعة : ٧٠.

(٧) الفقيه ١ : ٧٤. (٨) النهاية ١ : ٢٠٥.

(٩) المبسوط ١ : ١٠.

٨٧٥

استثنى وهو السنّور ، وعموم خبر الوشّاء : « أنّه كان يكره سؤر كلّما لا يؤكل لحمه » ـ (١) : ما ورد في حديث المناهي : « أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن أكل سؤر الفأرة » (٢) ، فإنّ حمل النهي هنا مع ظهوره في التحريم على التنزيه طريق جمع بين الأخبار المستفيضة المتقدّمة وبينه ، وكذا الكلام بينها وبين صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه قال : سألته عن الفأرة والكلب إذا أكلا من الخبز ، أو شمّاه [أيؤكل]؟ قال : « يطرح ما شمّاه ، ويؤكل ما بقي » (٣) وصحيحة الاخرى عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب ، أيصلّي فيها؟ قال : « اغسل ما رأيت من أثرها » (٤) بناء على ما نزّل الأمر فيهما على الاستحباب.

فما عن المعتبر والمنتهى (٥) من أنّه يظهر منهما نفي الكراهة ، مع ما قيل : (٦) من أنّ ظاهر كلامهما نفي الرجحان لا نفي المرجوحيّة ، ممّا لا يلتفت إليه ، ومع الغضّ عن جميع ما ذكر فشهرة الكراهة كافية في المصير إليها.

المسألة التاسعة : عن المعتبر أنّه حكي عن الشيخ أنّه قال : « يكره سؤر الدجاج على كلّ حال » (٧) ثمّ قال بعد الحكاية : « وهو حسن إن قصد المهملة ، لأنّها [لا] تنفكّ عن الاغتذاء بالنجاسة » (٨).

وعن المعالم (٩) أيضا أنّه استحسن ما استحسنه المحقّق.

وعن العلّامة وغيره (١٠) إطلاق القول بكراهة هذا السؤر تعليلا بعدم انفكاك منقارها

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٤ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ الفقيه ٤ : ٢ / ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٥ ب ٣٦ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٢٩ / ٦٦٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٠ ب ٣٣ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٦١.

(٥) كما في مشارق الشموس : ٢٧٤ ، حيث قال : « ويفهم من المعتبر أنّه لا يكرهه » ـ وكذا في جواهر ١ : ٦٩١ حيث قال : « خلافا لما يظهر من المعتبر والمنتهى من نفي الكراهة الخ » ـ لاحظ المعتبر : ٢٥ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٦٣.

(٦) القائل هو صاحب الجواهر رحمه‌الله ، لاحظ جواهر الكلام ١ : ٦٩٢.

(٧) المبسوط ١ : ١٠ وفيه : « يكره سؤر ما شرب منه الدجاج خاصّة على كلّ حال ».

(٨) المعتبر : ٢٥.

(٩) المعالم ١ : ٣٦٩ وقال فيه : « وما شرطه في الحسن هو الحسن ».

(١٠) حكاه عنه في المعالم ١ : ٣٦٩ ـ لاحظ منتهى المطلب ١ : ١٦٣ ـ ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.

٨٧٦

عن النجاسة غالبا ، ونحن قد هدمنا في المسائل السابقة بنيان هذا الكلام ، وحقّقنا أنّ مجرّد الاغتذاء بالنجاسات لا يقتضي منعا ـ ولو بنحو الكراهة ـ ما لم يحصل الملاقاة حال وجود النجاسة في المنقار ونحوه ، فيمتنع الاستعمال حينئذ لا أنّه يكره.

وبالجملة هذا القول لضعف مستنده ممّا لا ينبغي المصير إليه ، كيف والنصوص الواردة عن أمناء الشرع عموما وخصوصا قاضية بخلافه ، ألا تنظر إلى ما تقدّم من العمومات النافية للبأس عن سؤر ما يؤكل لحمه ، وخصوص رواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : « فضل الحمامة والدجاجة لا بأس به ، والطير » (١).

وموثّقة عمّار المتقدّمة أنّه سئل عن ماء شربت منه الدجاجة؟ « قال : إن كان في منقارها قذر لم يتوضّأ منه ولم يشرب ، وإن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ منه واشرب » (٢).

وعن التهذيب أنّه ذكر ذلك وزاد : « وكلّما يؤكل لحمه فليتوضّأ منه » (٣).

لكنّ الإنصاف بضابطة ما ذكرنا سابقا من أنّ نفي البأس في نظائر المقام لا يفيد إلّا نفي الحرج من نجاسة أو حرمة ، كما أنّ الأمر بالشرب والتوضّؤ لا يفيد إلّا الإرشاد إلى انتفاء الماهيّة المقتضية للمنع من نجاسة ونحوها ، لا يمكن التعويل في نفي الكراهة على هذه الأخبار.

فالأولى أن يستند إلى الأصل ، مع ضميمة ضعف مستند القول بالكراهة إن كان هو الاعتبار المتقدّم ، فتأمّل جدّا.

المسألة العاشرة : نصّ المحقّق في الشرائع (٤) والشهيد في الدروس (٥) بكراهية سؤر الحيّة ، كما عن التحرير (٦) ، والقواعد (٧) ، والإرشاد (٨) ، وظاهر الذكرى (٩) ، وعن البيان (١٠) ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ١ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٢.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ٢٣١ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٣ و ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٦) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٧) قواعد الأحكام ١ : ١٨٥.

(٨) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٩) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.

(١٠) البيان : ١٠١.

٨٧٧

والروض (١) أيضا ، وفي المدارك : « القول بكراهة سؤر الحيّة للشيخ في النهاية وأتباعه » (٢) ، لكنّ المنقول من عبارته في النهاية لعلّه ليس صريحا في إرادة الكراهة بالمعنى المصطلح عليه ، فإنّه قال : « إذا وقعت الفأرة والحيّة في الآنية ، أو شربتا منها ، ثمّ خرجتا [حيّا] لم يكن به بأس ، والأفضل ترك استعماله على كلّ حال » (٣).

فإنّ التعبير بأفضليّة الاجتناب يقتضي إرادة المرجوحيّة بالإضافة إلى الغير ، لا المرجوحيّة الذاتيّة على حدّ ما يراد من الكراهة حيثما تضاف إلى العبارات على بعض الوجوه المذكورة فيها ، ولك أن تأخذ قوله أوّلا : « لم يكن به بأس » مؤيّدا له ، بناء على بعض الوجوه المتقدّمة من ظهوره لكونه نكرة في سياق النفي في نفي جميع أفراد البأس الّتي منها الكراهة المصطلحة.

وكيف كان. فعن ظاهر المعتبر (٤) والمنتهى (٥) إنكار الكراهة هنا ، بل هو صريح المدارك (٦) قائلا : والأظهر انتفاء الكراهة كما اختاره في المعتبر ، لصحيحة عليّ ابن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الغطاية ، والحيّة ، والوزغ تقع في الماء فلا تموت؟ أيتوضّأ للصلاة؟ فقال : « لا بأس به » (٧).

وأنت بملاحظة ما مرّ مرارا تقدر على دفع هذا الاستدلال.

نعم ، العمدة في المقام ملاحظة ما يكون مستندا للقول بالكراهة الّذي صار إليه من الأساطين من عرفتهم ، فإنّه مشهور جدّا ، حتّى أنّه في شرح الدروس : « إنّي لم أجد نقل خلاف في الحيّة » (٨) فلك أن تعتمد على ما تقدّم من عموم مرسلة وشّاء (٩) ، بناء على أنّ الحكم ممّا يتسامح فيه ، وعلى خبر أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن حيّة دخلت حبّا فيه ماء ، وخرجت منه؟ قال : « إن وجد ماء غيره فليهرقه » (١٠) بناء على حمل الأمر بالإهراق على إرادة الندب ، لعدم قائل فيه بالوجوب ، أو على كونه مبالغة

__________________

(١) روض الجنان : ١٦٢.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٣٧.

(٣) النهاية ١ : ٢٠٦. (٤) المعتبر : ٢٥.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٦٣.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ١٣٧.

(٧) الوسائل ١ : ٢٣٨ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ١.

(٨) مشارق الشموس : ٢٧٧.

(٩) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢.

(١٠) الوسائل ١ : ٢٣٩ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠٢.

٨٧٨

الكراهة ، وإلّا فلا فائدة في الإهراق نفسه ، لجواز الانتفاع بهذا الماء في غير جهة الشرب والتطهير به.

لا يقال : لعلّه كناية عن المنع تحريما ، وإنّما علّق على وجدان ماء غيره لأنّه لا تكليف مع الانحصار ، كما هو لازم قولكم : بكونه مبالغة في الكراهة ، إذ لا كراهة مع الانحصار ، لأنّ احتمال التحريم إن كان لمجرّد التعبّد ينفيه الاتّفاق على انتفائه.

نعم ، هذا احتمال ربّما يقال : بدخوله في كلام من منع من سؤر ما لا يؤكل لحمه.

لكن يزيّفه : أن لا مانع عن سؤر ما لا يؤكل لحمه إلّا الشيخ (١) ، وقد صرّح هنا بنفي البأس ، والحلّي في السرائر (٢) ، وقد عرفت سابقا أنّه أدرج المقام فيما لا يمكن التحرّز عنه ، وإن كان لأمر يرجع إلى الطبّ ، وهو تأثير السمّية في الماء.

ففيه : أنّ التأثير إن كان محقّقا لا محالة فهو يقضي بالمنع مطلقا ، فلا وجه للتفصيل.

ومن هنا يمكن أن يؤخذ الرواية دليلا على انتفاء النجاسة عن هذا السؤر كما تنبّه عليه بعضهم ، وإن كان محتملا فهو لا يقتضي إلّا رجحان الاجتناب احتياطا ، ولعلّه لأجل ذلك عبّر الشيخ عن الكراهة بأفضليّة الاجتناب ، كما فهم المعالم قائلا ـ بعد نقل عبارة النهاية المتقدّمة ـ : « يتوجّه عليه المطالبة بدليل ما ذكره من أفضليّة ترك الاستعمال ، ولعلّه نظر في الفأرة إلى ما سيأتي في باب النجاسات ـ إن شاء الله ـ من دلالة بعض الأخبار على رجحان الغسل ممّا لاقته برطوبة ، وفي الحيّة إلى ما يخشى من تأثير سمّها في الماء ، فإنّ ذلك ونحوه كاف في أفضليّة العدول عن هذا الماء إلى غيره » (٣) انتهى.

وبالجملة الكراهة هنا ممّا لا إشكال فيه ولو من جهة الاعتماد على مجرّد الشهرة وذهاب أساطين الفرقة.

المسألة الحادية عشرة : اختلفت كلمتهم في الوزغة ، فالمنسوب إلى ابن إدريس (٤) والفاضلين (٥) ووالد العلّامة (٦) وجمهور المتأخّرين طهارة سؤرها ، وعن

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٢٤ ـ الاستبصار ١ : ٢٥.

(٢) السرائر ١ : ٨٥.

(٣) المعالم ١ : ٣٧٠.

(٤) السرائر ١ : ٨٣ حيث قال في آخر بحث منزوحات البئر : « فأمّا إذا مات فيها عقرب أو وزغة ، فلا ينجّس » الخ ـ قريب منه ما في بحث الأسآر لاحظ (السرائر ١ : ٨٥).

(٥) وهما العلّامة في منتهى المطلب ١ : ١٦٩ ؛ وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ٢٨.

(٦) حكاه عنه ولده العلّامة في مختلف الشيعة ١ : ٤٦٥.

٨٧٩

المحقّق (١) أنّه الظاهر من كلام المرتضى في بعض كتبه ، وهو صريح الدروس (٢) ، ومختار المدارك على ظاهر كلامه ، بل فيه : « هو المشهور بين الأصحاب » (٣) ، وعليه الشرائع أيضا ، لكن عبّر فيه بالموت فقال : « ويكره ما مات فيه الوزغ والعقرب » (٤) ولعلّ الحكم يتعدّى إلى ما عدا صورة الموت من باب الفحوى.

وفيه : أنّه يستقيم إذا كان منظور العبارة نفي النجاسة خاصّة ردّا على من توهّمها ، وأمّا إذا اريد بها إفادة الكراهة مع ذلك فلا يحصل تمام المقصود ، إذ لا ملازمة بين الكراهة بالموت فيه والكراهة بالوقوع فيه ، فضلا عن الفحوى ، بل الفحوى إنّما تحصل لو عبّر بالوقوع أو مطلق الملاقاة.

فالعبارة المذكورة لا تخلو عن قصور ، وكأنّه في هذا التعبير أخذ بمفهوم الدليل المقام على كراهة هذا السؤر الثابت في المقام من حيث الفحوى كما عرفت.

وكيف كان فعن التذكرة : « أنّ الكراهة هنا من حيث الطبّ لا لنجاسة الماء » (٥) واستحسنه المدارك (٦).

والمخالفة هنا بالمصير إلى النجاسة لم يثبت إلّا عن المقنعة وموضع من النهاية والمبسوط ، وعبارة المقنعة ـ على ما حكي ـ أنّه بعد ذكر الكلب والخنزير قال : « وكذلك الحكم في الفأرة والوزغة يرشّ الموضع الّذي مسّاه بالماء من الثوب إذا لم يؤثّرا فيه ، وإن رطّباه وأثّرا فيه غسل بالماء ، وكذلك إن مسّ واحد ممّا ذكرناه جسد الإنسان ، أو وقعت يده عليه وكان رطبا غسل ما أصابه منه ، وإن كان يابسا مسحه بالتراب » (٧).

وأمّا عبارة النهاية فقد سمعتها في مسألة سؤر الفأرة (٨) ، وأمّا عبارة المبسوط

__________________

(١) المعتبر : ١١٨ ، حيث قال : « فقال علم الهدى : لا بأس بأسآر جميع حشرات الأرض وسباع ذرات الأربع الّا أن يكون كلبا أو خنزيرا ، وهذا يدلّ على طهارة ما عدا هذين ويدخل فيه الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة »

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ١٣٨.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٥) التذكرة ١ : ٤٤ وفيه : « والوجه الكراهة من حيث الطبّ » وقريب منه ما في منتهى المطلب ١ : ١٦٩.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ١٣٨.

(٧) المقنعة : ٧١.

(٨) النهاية ١ : ٢٦٧ حيث قال : « وإذا أصاب ثوب الإنسان كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة وكان رطبا وجب غسل الموضع الّذي أصابه ... الخ ».

٨٨٠