ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

وقضيّة ذلك أن لا يعارض العلم ولا ما يقوم مقامه في اقتضاء النجاسة شي‌ء من الأمارات ، حتّى الاستصحاب في مقابلة استصحاب النجاسة ، واليد في مقابلة البيّنة القائمة بها ـ إن قلنا بالبيّنة فيها ـ وبالعكس ، فإنّ استصحاب الطهارة في موارده قائم مقام العلم بها ، والعلم بالقياس إلى الطهارة لا يعتبر إلّا طريقا إليها ، وكما أنّ ثبوت أصل الحكم تابع لبقاء موضوعه ، ولا يعقل له البقاء مع ارتفاع الموضوع ، فكذلك الّذي يكون طريقا إليه فإنّه يصلح طريقا إليه ما دام موضوعه باقيا ، وحيث بنينا على أنّ موضوع الطهارة [هو] (١) ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة ، وأنّ العلم المأخوذ في ذلك أعمّ من العلم الحقيقي وما يقوم مقامه ، وأنّ ممّا يقوم مقامه إنّما هو الحالة المتعقّبة له إلى أن يبلغ حدّ العلم بخلاف المعلوم السابق ، يتبيّن أنّ استصحاب الطهارة في موضع جريان استصحاب النجاسة سواء كانا في محلّ واحد أو في محلّين ممّا لا معنى له أصلا ، ضرورة أنّ استصحاب النجاسة لقيامه مقام العلم رافع لموضوع الطهارة ـ وهو ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة ـ ومعه لا يعقل كون استصحاب الطهارة طريقا إليها ، ضرورة أنّه مع فرض استصحاب النجاسة ، يصدق على المورد أنّه ما علم فيه بتحقّق سبب النجاسة ، ولا يصدق معه ما هو موضوع الطهارة ، لما عرفت من المنافاة بينهما وعدم إمكان اجتماعهما في محلّ واحد.

فما يوجد في كلام العلماء الأعلام في مواضع استصحاب النجاسة من معارضته باستصحاب الطهارة في غاية الضعف ، وإنّما المعارضة بين الاستصحابين أو مطلق الأمارتين يتأتّى فيما لم يكن شي‌ء من المتعارضين داخلا في موضوع الحكم ، على معنى كونهما في غير موضع التعارض من مواردهما معتبرين لمجرّد الطريقيّة.

فتحصّل من ذلك أصل كلّي وهو : أنّ الامارات القائمة بالنجاسة لا يعارضها الأمارات القائمة بالطهارة ما لم يكن دليل اعتبارها حاكما على دليل اعتبار أمارة النجاسة ، كما في قول ذي اليد والبيّنة ـ إن قلنا بها ـ الواردين على استصحاب النجاسة ، فحينئذ لو قام البيّنة على نجاسة شي‌ء فلا يعارضها إخبار ذي اليد بالطهارة لانتفاء موضوعه ، كما أنّه لو أخبر ذو اليد بنجاسة شي‌ء لا يعارضه البيّنة لو قامت بالطهارة لعين ما ذكر.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٤٨١

ولو أنّ شريكين في إناء أخبر أحدهما بنجاسته والآخر بطهارته ، قبل الأوّل لاستلزامه انتفاء موضوع الطهارة ، فيكون الثاني قد صادف غير موضوع الطهارة ، فلا محلّ لقبوله.

ومن هنا يعلم حقيقة الحال فيما لو تعارضت البيّنتان في إناء واحد ، فشهدت إحداهما بعروض النجاسة له في وقت معيّن ، وشهدت الاخرى بعدم عروضها له في ذلك الوقت ، فإنّ للأصحاب في ذلك على ما ضبطه بعضهم (١) أقوال أربع :

أحدها : ما عن العلّامة في التذكرة (٢) والقواعد (٣) من إلحاقه حينئذ بالمشتبه بالنجس الّذي يجب الاجتناب عنه كالإناءين المشتبهين ، وعن فخر المحقّقين في شرح القواعد (٤) أنّه جعله أولى ، وعن ثاني الشهيدين (٥) في بعض فوائده أنّه قوّاه.

وثانيها : ترجيح بيّنه الطهارة لاعتضادها بالأصل ، حكاه فخر المحقّقين (٦) على ما نقل عنه عن بعض الأصحاب.

وثالثها : الحكم بتساقط البيّنتين والرجوع إلى الأصل ، وعن الشهيد أنّه ذكره في البيان (٧) وقوّاه ، وعن فخر المحقّقين (٨) أنّه نسبه مع الّذي قبله إلى الشيخ.

ورابعها : العمل ببيّنة النجاسة لأنّها ناقلة عن حكم الأصل ، وبيّنة الطهارة مقرّرة ، والناقل أولى من المقرّر ، ولموافقتها الاحتياط ، ولأنّها في معنى الإثبات والطهارة في معنى النفي ، وهو منسوب إلى ابن إدريس (٩) وعن صاحب المعالم (١٠) أنّه مال إليه بعض المتأخّرين ، ولا ريب أنّ هذا القول هو المتعيّن لا للوجوه المذكورة ، بل لما قرّرناه من الضابطة ، ولا يلزم منه تكذيب بيّنة الطهارة ولا طرحها ، لورودها في غير موضوع الطهارة فلا محلّ لها حتّى يعمل بها ، بعد ملاحظة دخول المفروض في عنوان ما علم فيه النجاسة علما شرعيّا.

كما يعلم من هنا أيضا حكم ما لو تعارضا (١١) البيّنتان في إناءين ، بأن يشهد إحداهما بأنّ النجس هو هذا بعينه ، والاخرى بأنّه الآخر بعينه ، فإنّه على القاعدة

__________________

(١) راجع فقه المعالم ١ : ٣٨٤.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٤.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٤ و ٦ و ٨) إيضاح الفوائد ١ : ٢٤.

(٥) القواعد للشهيد الثاني ، مطبوع مع الذكرى : ٣٩.

(٧) البيان : ١٠٣.

(٩) السرائر ١ : ٨٨.

(١٠) فقه المعالم ١ : ٣٨٥.

(١١) كذا في الأصل.

٤٨٢

المتقدّمة يدخل في عنوان المشتبه ، كما عن المحقّق والعلّامة في المعتبر (١) والتحرير (٢) والشهيد في الذكرى (٣) والشيخ عليّ وثاني الشهيدين في شرح القواعد (٤) وبعض فوائده (٥) فإنّ البيّنتين متّفقتان في نجاسة القدر المشترك المردّد ، فيكون كالمعلوم بالإجمال الّذي يوجب التحرّز عن الجميع من باب المقدّمة.

فلا وجه لما يسند إلى الشيخ في الخلاف (٦) من سقوط الشهادتين وبقاء الماء على أصل الطهارة ، ولا لما اختاره العلّامة في المختلف (٧) من التفصيل بين ما أمكن العمل بشهادتهما معا فيجب ، وما لو تنافيا فيطرح الجميع ويحكم بأصل الطهارة.

ويظهر ذلك عن محكيّ الشيخ في المبسوط قائلا : « لو قلنا : إن أمكن الجمع بينهما قبلتا ونجسا ، كان قويّا » (٨) قال العلّامة في المنتهى ـ بعد ما نقل العبارة المذكورة عن المبسوط ولم يتعرّض لما لا يمكن فيه الجمع ـ : « والوجه فيه وجوب الاحتراز عنهما والحكم بنجاسة أحدهما لا بعينه ، والقول بسقوط شهادتهما فيما يتعذّر الجمع فيه لا يخلو من قوّة وهو قول الحنابلة » (٩) انتهى.

ثمّ نحن لا نعقل هذا التفصيل في الصورة المفروضة ، ولعلّه مفروض فيما لو قامت الشهادتان في الإنائين مع تعرّض كلّ لنفي ما أثبته الاخرى ، أو سكوتها عن النفي والاقتصار على مجرّد الإثبات ، فيكون مرادهم ممّا لا يمكن الجمع بينهما هو الفرض الأوّل ، حيث إنّ الأخذ بكلّ من الشهادتين في عقدها الإيجابي يوجب طرح الاخرى في العقد السلبي ، والوجه عندنا وجوب الاجتناب عن كلّ من الإنائين في كلّ من الفرضين ، أمّا الأوّل : فلما عرفت من دخوله في عنوان المشتبه ، نظرا إلى اتّفاقهما في أنّ هنا نجسا واختلافهما في التعيين ، فيصدقان بالقياس إلى نجاسة القدر المشترك المردّد من دون أن يلزم منه طرح إحداهما في الشهادة بالطهارة ، لأنّ العمل بموجب النجاسة في كليهما

__________________

(١) المعتبر : ٢٦.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٦.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٥.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٥٥.

(٥) القواعد ـ الشهيد الثاني ـ مطبوع مع الذكرى : ٣٩.

(٦) الخلاف ١ : ٢٠١ المسألة ١٦٢.

(٧) مختلف الشيعة ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٨) المبسوط ١ : ٨ مع اختلاف يسير في العبارة.

(٩) منتهى المطلب ١ : ٥٥.

٤٨٣

ينشأ عن لزوم إدراك ما يحكم عليه بالنجاسة شرعا ، المتوقّف على التحرّز عن الجميع.

وأمّا الثاني : فلكون كلّ أمارة على نجاسة محلّها بلا معارض فيجب الأخذ بهما معا.

وعن ابن إدريس ـ في المختلف ـ : « أنّه فصّل بين ما أمكن الجمع بينهما وغيره ، فحكم بنجاسة الإنائين في الأوّل واضطراب في الثاني ، فأدخله تارة تحت عموم وجوب القرعة لكلّ أمر مشكل ، وأخرجه اخرى عنه مستبعدا لاستعمال القرعة في الأواني والثياب ، ولا أولويّة للعمل بإحدى الشهادتين دون الاخرى ، فيطرح الجميع لأنّه ماء طاهر في الأصل فحصل الشكّ في النجاسة فيبني على اليقين ؛ ثمّ أفتى بعد ذلك كلّه بنجاسة الإنائين معا ، وقبول الشهود الأربع لأنّ ظاهر الشرع يقتضي صحّة شهادتهم ، لأنّ كلّ شاهدين قد شهدا بإثبات ما نفاه الآخر » (١) ولا يخفى ما في أكثر هذه الكلمات من الاضطراب ، وعدم موافقة قانون الاجتهاد ، والأقرب ما ذكرناه بما وجّهناه.

المطلب الخامس : معنى قيام الأمارة كائنة ما كانت مقام العلم كونها كالعلم بها في ترتّب جميع أحكام النجاسة ، الّتي منها تنجّس الملاقي ووجوب تطهيره ، ولا يفترق الحال في ذلك بين استصحاب وغيره ، ولا معنى لاستصحاب طهارة الملاقي حينئذ ، لما عرفت من أنّ ترتّب الحكم على الأمارة فرع على بقاء موضوعها ، وورودها محلّا فارغا عن أمارة رافعة لموضوعها.

وبجميع ما تقرّر في ضمن المطالب المذكورة يعرف أحكام الفروع المتقدّم إليها الإشارة ، فإنّ مادّة الحمّام لا يشترط فيها العلم بعدم النجاسة ، بل يكفي في ترتّب أحكام الحمّام عليها عدم العلم بتحقّق سبب النجاسة فيها ما لم تكن مسبوقة بالعلم بها ، وإلّا فالاستصحاب يقوم مقام العلم بها فيترتّب عليه أحكام النجاسة أيضا بأجمعها ، فلا تفيد حينئذ تطهيرا لماء الحوض الصغير ، ولا تعصمه أيضا عن الانفعال بالغير ، بل ربّما توجب بمجرّد اتّصالها به تنجّسه شرعا ولو لم يصادفه ملاقاة الغير.

والمادّة أو المجموع منها وممّا في الحوض المشكوك في كرّيّتهما يبقى على الطهارة ، فلا يلحقه النجاسة ما لم يعلم بنقصه عن الكرّ ـ على القول باشتراط الكرّيّة ـ من

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٥٢ ـ السرائر ١ : ٨٧.

٤٨٤

غير فرق بين سبق العلم بالكرّيّة ولا سبقه بعدمها ، ولا انتفاء العلم رأسا ، لدخول كلّ في موضوع الطهارة ، وهو الّذي لا يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة.

واستصحاب عدم الكرّيّة في بعض تلك الصور لا يجدي نفعا في تحقّق موضوع النجاسة ، لأنّ عدم الكرّيّة ليس سببا للنجاسة ، وإنّما هو شرط لها ، وإحراز الشرط بالاستصحاب حال فرض تحقّق الملاقاة لا يقتضي بإحراز المشروط إلّا من باب الاصول المثبتة ، لعدم كون هذه النجاسة على فرض طريانها من الأحكام الثابتة للمستصحب في حال اليقين.

إلّا أن يقال : بأن لا عبرة بفعليّة طروّ هذه النجاسة في الزمن السابق ، ولا ريب أنّه ثمّة كان صالحا لأنّ يطرأه النجاسة وهو من أحكامه السابقة ، فيستصحب تلك الصلاحية ، على معنى كما أنّه كان قابلا للانفعال في الزمن السابق فيكون كذلك الآن للاستصحاب ، لكن صلاحية قبول الانفعال غير قبوله فعلا ، والمطلوب إثبات الثاني ، ولعلّ إثبات الأوّل غير كاف فيه ، فتأمّل وتحصّن بالاحتياط جدّا.

والكلام في قبول شهادة العدلين بالكرّيّة في الحمّام كما مضى من عدم خلوّه عن الإشكال ، مع موافقته للاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال ، وأمّا قبول قول ذي اليد في إخباره بها مالكا أو وكيلا أو مستأجرا فليس بمحلّ للإشكال.

فلو اتّصل ماء الحوض بعد تنجّسه بالمادّة المشكوك في كرّيّتها ـ بناء على اعتبار الكرّيّة فيها ـ كان استصحاب النجاسة خاليا عن الإشكال أيضا ، ولا يعارضه استصحاب الكرّيّة في بعض الصور المتقدّمة ، لما مرّ من كونه استصحابا في موضع انتفاء موضوع الطهارة ، ومن هنا يعلم حكم الملاقي لذلك الماء المستصحب نجاسته ، فإنّه أيضا ينجّس بحكم الشرع ، ولا حكم لاستصحاب طهارته بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه.

* * *

٤٨٥

ينبوع

وممّا يلحق عندهم بالجاري ـ بعد إلحاق ماء الحمّام به ـ ماء المطر حال تقاطره من السماء ، فلا ينفعل قليله بملاقاة النجاسة ما لم يتغيّر أحد أوصافه الثلاثة ، والظاهر أنّه في الجملة ممّا لا خلاف فيه ، حتّى ممّن اشترط الكرّيّة في الجاري كالعلّامة كما هو المصرّح به في كلام جماعة ، وإن شئت لاحظ عبارة المنتهى قائلا : « ماء الغيث حال نزوله يلحق بالجاري » (١) مذيّلا له في آخر المسألة بقوله : « أمّا إذا استقرّ على الأرض وانقطع التقاطر ، ثمّ لاقته نجاسة اعتبر فيه ما يعتبر في الواقف ، لانتفاء العلّة الّتي هي الجريان » (٢) ومراده بالجريان الّذي أخذه علّة نزوله من السماء ، كما يأتي منه التصريح به في دفع احتجاج الشيخ على ما صار إليه من اشتراط الجريان من الميزاب.

وقريب من هذه العبارة ما عنه في نهاية الإحكام : « ولا يشترط فيه الجريان من الميزاب ، بل التقاطر من السماء كاف ، ولو انقطع التقاطر فلاقته النجاسة كان كالواقف » (٣) وعنه في التذكرة التصريح بعدم اشتراط الكرّيّة مع التقاطر ، واشتراطها مع انقطاعه قائلا :« لو انقطع تقاطر المطر وفيه نجاسة عينيّة اعتبرت الكرّيّة ، ولا تعتبر حال التقاطر ، ولو استحالت عينها قبل انقطاعه ثمّ انقطع كان طاهرا ، وإن قصر عن الكرّ » (٤).

وأنت خبير بأنّ ما عرفت منه من التشبيه مع انضمام هذا التصريح إليه ، لا ينافي ما يراه في الجاري من اشتراط الكرّيّة ، لما ذكرناه مرارا في المباحث السابقة من أنّ التشبيه لا يقتضي إلّا المشاركة في الحكم دون علّته ، والّذي يعتبره في الجاري من

__________________

(١ و ٢) منتهى المطلب ١ : ٢٩ و ٣٠.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٩ ـ مع اختلاف يسير.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ١٨.

٤٨٦

الكرّيّة علّة للحكم اللاحق به ، ولا يعتبر في العلّة التعدية إلى المشبّه بعد ما قلنا بتعدّي أصل الحكم ، لجواز اختلافه مع المشبّه به في العلّة.

فما عن الكركي في جامع المقاصد بعد نقل كلام العلّامة في القواعد ـ أعني قوله : « وماء المطر حال تقاطره كالجاري » إلى آخره ـ من الاعتراض عليه بقوله : « وعلى ما اختاره المصنّف من اشتراط الكرّيّة في الجاري يلزمه اشتراطها هاهنا.

وقوله : « كالجاري » مع قوله : « فإن لاقته نجاسة بعد انقطاع تقاطره ، فكالواقف » إنّما يظهر ـ لاختلاف التشبيه ـ فيه معنى على مقالة الأصحاب ، أمّا على مقالته فالكلّ سواء » (١).

فلعلّه غفلة عن ملاحظة ما عرفت عنه من التصريح ، مع ما قرّرناه في توجيه التشبيه.

وكأنّه إلى هذا التوجيه ينظر ما عن الفاضل الجواد في شرحه للدروس من قوله : « واعلم أنّ تشبيه ماء المطر بالنابع على مذهب المصنّف جيّد ، إذ لا يشترط في النابع الكرّيّة لعدم الانفعال ، فيتمّ تشبيه ماء المطر به ، وأمّا من اشترطها في النابع فلا معنى لتشبيهه ، إلّا أن يراد أنّه كالجاري حال كرّيّته » (٢) انتهى.

وبذلك يظهر أنّه لا حاجة في الجمع بين كلمات العلّامة إلى تكلّف توجيهات اخر ، كما ارتكبه بعضهم بعد الإيراد عليه بنحو ما عرفت عن جامع المقاصد على ما حكاه الخوانساري في شرحه للدروس قائلا ـ بعد ما نقل عبارة العلّامة ـ : « وأورد عليه أنّ الفرق بين الجاري والواقف إنّما يظهر عند عدم اشتراط الكرّيّة في الجاري كما هو رأي غيره ، وأمّا على رأيه فلا فرق ، إلّا أن يفرّق بينهما باعتبار أنّه لا يعتبر في الكرّ من الجاري مساواة السطوح ، وأيضا يقول فيه بتقوّي الأعلى بالأسفل ، وكذا يحكم في حال النجاسة بطهره بالتدافع والتكاثر وإن لم يكن الماء الطاهر الدافع قدر كرّ ، كما مرّ سابقا من احتمال أن يكون مختاره رحمه‌الله هذه الامور في الجاري بخلاف الواقف ، ولا يذهب عليك أنّ الظاهر من كلامه رحمه‌الله اشتراط الكرّيّة في ماء المطر » (٣) انتهى.

ولا يخفى ما في الجزء الآخر من الغفلة عمّا عرفت عنه من التصريح بعدم اشتراط الكرّيّة فيه ، إلّا أن يكون كلامه في الفرق مأخوذا من كتاب لم يذكر فيه ذلك التصريح.

وكيف كان فأصحابنا بعد اتّفاقهم ظاهرا على عدم اشتراط الكرّيّة في ماء المطر

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١١٢.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) مشارق الشموس : ٢١٤.

٤٨٧

بالقياس إلى مقام الدفع ، اختلفوا في اشتراط بعض من الامور الاخر وعدمه ، فالمشهور بينهم اشتراط التقاطر من السماء فقط ، من غير اشتراط الكثرة ولا الجريان من ميزاب أو غيره ، وعليه دعوى الشهرة في كلام غير واحد ، وفي بعض العبارات (١) : « عليه الفاضلان والشهيدان والمحقّقان وغيرهم من الأساطين » ، وقد عرفت التصريح به عن العلّامة في جملة من كتبه (٢) وعن الشهيد في الدروس (٣) ، وعن مجمع الفوائد (٤) أنّه صرّح بعدم اشتراط الكثرة والجريان ، وعزى إلى ظاهر المعتبر (٥) ، وشرح الموجز (٦) ، وصريح شرح المفاتيح (٧) ، وجامع المقاصد (٨) ، واختاره في الرياض (٩) ، وغيره ممّن تأخّر عنه.

لكن ظاهر هؤلاء كما هو صريح بعضهم اعتبار الصدق العرفي مع التقاطر ، لا كفاية مسمّى المطر مطلقا ولو بقطرة ونحوها ، نعم ربّما يحكى عن بعض المتأخّرين القول بطهارة الماء النازل من السماء مطلقا ولو كان قطرة واحدة ، وهو في غاية البعد عن الأدلّة ، خلافا للشيخ في التهذيب (١٠) ، ومحكيّ المبسوط (١١) ـ كما في المنتهى (١٢) ـ بل الاستبصار (١٣) ـ كما في المدارك ـ لمصيره إلى اشتراط الجريان من الميزاب ، قائلا : « أنّ ماء المطر إذا جرى من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري ، لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١٤) لكن قضيّة احتجاجه على ذلك بصحيحة عليّ بن جعفر الآتية اكتفاؤه بمطلق الجريان ولو عن غير ميزاب ، لذكر الجريان فيها مطلقا ، فيكون الميزاب واردا في كلامه من باب المثال.

وربّما يحكى ذلك عن ابن فهد في الموجز وعن صاحب الجامع (١٥) أيضا ، ولكن

__________________

(١) لم نعرف قائله.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ١٨ ـ منتهى المطلب ١ : ٢٩.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٩.

(٥) المعتبر : ٩. (٦) كشف الالتباس ١ : ٤٥.

(٧) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط).

(٨) جامع المقاصد ١ : ١١٢. (٩) رياض المسائل ١ : ١٤٠.

(١٠) التهذيب ١ : ٤١١ ذيل ح / ١٢٩٦.

(١١) المبسوط ١ : ٦ حيث قال : « ومياه الموازيب الجارية من المطر حكمها حكم الماء الجاري سواء ».

(١٢) منتهى المطلب ١ : ٢٩.

(١٣) لم نجده في الاستبصار ولكن وجدناه في المبسوط ١ : ٦.

(١٤) مدارك الأحكام ٣ : ٣٧٦.

(١٥) الجامع للشرائع : ٢٠ حيث قال : « والمياه الجارية من الميازيب من المطر كالمياه الجارية ».

٤٨٨

العبارة المنقولة عن الموجز قاصرة عن تأديته ، ولعلّها ظاهرة في موافقة المشهور ، حيث قال : « وكذا ماء الغيث نازلا ولو من ميزاب » (١) فإنّ اعتبار النزول هو القول المشهور بعينه ، ولا ينافيه تعميمه بالقياس إلى الميزاب ، لأنّ تحقّق النزول بالقياس إلى ما لا يصيبه السماء قد يكون بالميزاب الحاجز بينه وبين السماء ، أو أنّ النزول المعتبر في حفظ الماء عن الانفعال أعمّ من كونه من السماء بلا واسطة أو منها بواسطة الميزاب ، أو أنّ حالة النزول من السماء مقتضية لاعتصام الماء عن قبول الانفعال ولو بالقياس إلى ما ينزل منه من الميزاب ، وحاصله عدم اختصاص الحكم مع هذه الحالة بما له مبدأ النزول عنها فعلا ، بل يتعدّى إلى ما انقضى عنه ذلك المبدأ لكن ما دامت الحالة باقية.

ويمكن إجراء ما يقرب من هذا التوجيه في كلام الشيخ أيضا وإن كان خلاف الظاهر ، ولعلّه لذا عبّر العلّامة في المنتهى عند حكاية مذهبه بقوله : « ويلوح من كلام الشيخ في التهذيب (٢) والمبسوط (٣) اشتراط الجريان من الميزاب » (٤) وعلى هذا فلم يتحقّق منه المخالفة وإن اشتهر في الألسنة ، وعن الفاضل الجواد (٥) أنّه اعتبر أن يكون لماء المطر قوّة بحيث يصلح للجريان ، وإن لم يكن جاريا بالفعل ، وعزى إلى جملة ممّن تأخّر عنه الميل إليه. فأقوال المسألة ـ بضميمة ما عرفته عن الروض ـ (٦) أربع ، وقد يحكى عن العلّامة الطباطبائي في المصابيح (٧) تسديس الأقوال.

أحدها : كفاية النزول من السماء مطلقا ، ولو بنحو قطرة واحدة ، وهو المحكيّ عن الروض (٨).

وثانيها : اشتراط قوّة يصحّ معها إطلاق اسم الغيث والمطر عرفا ، وإن قلّ أو لم يجر وهو المشهور.

ثالثها : اعتبار الكثرة والجريان ولو قوّة ، وهو اختيار الفاضل الأردبيلي (٩).

__________________

(١) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١١).

(٢) التهذيب ١ : ٤١١ ذيل الحديث / ١٢٩٦.

(٣) المبسوط ١ : ١٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٢٩.

(٥) في شرح الدروس الشرعيّة ـ للفاضل الجواد ـ لم نعثر عليه.

(٦) روض الجنان : ١٣٩.

(٧) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ : (مخطوط) الورقة : ٥٢.

(٨) روض الجنان : ١٣٩.

(٩) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٦.

٤٨٩

ورابعها : اعتبار مسمّى الجريان فعلا وإن لم يكن من ميزاب ونحوه ، وهو خيرة كشف اللثام (١) ، ونفي عنه البعد في المدارك (٢).

وخامسها : اشتراط الجريان فعلا من الميزاب خاصّة وهو لظاهر الشيخ (٣).

وسادسها : وأحقّ الأقوال ظاهرا هو المذهب المشهور ، ولم نقف على ذكر مستند إلّا له ولمختار الشيخ ولمشترطي الكثرة.

وينبغي أوّلا استقصاء جميع ما ورد في الباب من الأخبار المرويّة في كتب الأصحاب ، ثمّ النظر في دلالتها ، واستعلام ما يتحصّل من مجموعها ، وهي من الصحاح وغيرها عدّة روايات.

منها : ما في التهذيب ـ في الصحيح ـ عن عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن الرجل يمرّ في ماء المطر ، وقد صبّ فيه خمر ، فأصاب ثوبه ، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ فقال : « لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلّي فيه ، فلا بأس » (٤).

ومنها : ما في الوسائل عن التهذيب عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكنيف يكون خارجا ، فتمطر السماء فتقطر عليّ القطرة؟ قال : « ليس به بأس » (٥)

ومنها : ما فيه عن الكافي عن الكاهلي ، عن رجل ، عن أبي عبد الله قال : قلت : أمرّ في الطريق فيسيل عليّ الميزاب في أوقات أعلم أنّ الناس يتوضّئون؟ قال : « ليس به بأس لا يسأل عنه » ، قلت : ويسيل عليّ من ماء المطر أرى فيه التغيّر ، وأرى فيه آثار القذر ، فيقطر القطرات عليّ وينتضح عليّ منه ، والبيت يتوضأ على سطحه ، فيكفّ (٦) على ثيابنا؟ قال : « لا بذا بأس ، كلّ شي‌ء رآه ماء المطر فقد طهر » (٧).

ومنها : ما فيه عن الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم ، عن ابن أبي

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٥٩.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٦٧.

(٣) التهذيب ١ : ٤١١ ـ المبسوط ١ : ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٥ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٧ ـ و ٤١٨ / ١٣٢١.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٧ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤٢٦ / ١٣٤٨.

(٦) كفّ يكفّ وكفاء وكيفا ، التقاطر من سقف البيت ، كذا استحصلناه من المجمع (منه).

(٧) الوسائل ١ : ١٤٦ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ أورد صدره في الحديث ٣ الباب ١٣ من أبواب الماء المضاف الكافي ٣ : ١٣ / ٣.

٤٩٠

عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في ميزابين سالا ، أحدهما بول والآخر ماء المطر ، فاختلطا ، فأصاب ثوب رجل ، لم يضرّه ذلك » (١).

ومنها : ما في الفقيه بإسناده الصحيح عن هشام بن سالم ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن السطح يبال عليه ، فيصيبه السماء ، فيكفّ فيصيب الثوب؟ فقال : « لا بأس به ، ما أصابه من الماء أكثر منه » (٢).

ومنها : الصحيح الوارد في الفقيه بإسناده عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن البيت يبال على ظهره ، ويغتسل من الجنابة ، ثمّ يصيبه المطر ، أيؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟ فقال : إذا جرى فلا بأس [به].

قال : وسألته عن الرجل يمرّ في ماء المطر وقد صبّ فيه خمر ، فأصاب ثوبه ، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ فقال : « لا يغسل ثوبه ولا رجله ، ويصلّي فيه ولا بأس [به] » (٣).

لا يخفى أنّ هذا الجزء هو الّذي حكيناه أوّلا عن التهذيب أيضا ، وفي الوسائل رواه الحميري في قرب الأسناد عن عبد الله الحسن ، عن جدّه عليّ بن جعفر مثله ، وزاد وسألته عن الكنيف فوق البيت ، فيصيبه المطر ، فيكفّ فيصيب الثياب ، أيصلّي فيها قبل أن تغسل؟ قال : « إذا جرى من ماء المطر فلا بأس » (٤).

ومنها : ما نقله في الحدائق عن عليّ بن جعفر ، قال : وروى في كتاب المسائل أيضا عن أخيه عليه‌السلام قال : سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة ، فيصيب الثوب ، أيصلّي فيه قبل أن يغسل؟ قال : « إذا جرى به المطر فلا بأس » (٥).

ومنها : ما في الكافي عن محمّد بن إسماعيل ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن عليه‌السلام :

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٥ ب من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ الكافي ٣ : ١٢ / ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٦ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الفقيه ١ : ٧ / ٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٥ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الفقيه ١ : ٧ / ٦ و ٧ ـ ومسائل عليّ بن جعفر ٢٠٤ / ٤٣٣ ؛ وما بين المعقوفين غير موجود في المخطوط وإنّما اضفناه من المصدر.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٥ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ قرب الأسناد : ٨٣ ـ ٨٩ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٩٢ / ٣٦٨.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٢١٧ ـ الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٣٠ / ١١٥.

٤٩١

« في طين المطر أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام ، إلّا أن يعلم أنّه قد نجسه شي‌ء بعد المطر ، فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله ، وإن كان الطريق نظيفا لم تغسله » (١).

ولا يذهب عليك أنّ عموم قاعدة انفعال القليل بملاقاة النجاسة ـ حسبما قرّرناه في المباحث السابقة ـ يقتضي عدم الفرق في الانفعال بين ماء المطر وغيره ، خلافا لبعض من ذهب إلى عدم انفعال ماء المطر استنادا إلى عدم العموم في تلك القاعدة كالمحقّق الخوانساري (٢) ، فالقول بعدم الانفعال هنا حال التقاطر مطلقا ـ كما عليه المشهور ـ أو بشرط الجريان مطلقا ، أو مقيّدا بالميزاب ، أو الكثرة الصالحة لأن ينشأ منها الجريان لا يصار إليه إلّا بدليل.

فعلى المشهور لا بدّ من دليلين أحدهما ما يقضي بأصل الحكم الصالح مخصّصا للقاعدة. والآخر ما يقضي بصحّة اشتراط التقاطر وعلى المذهبين الآخرين يزيد عليهما لزوم دليل ثالث يدلّ على اعتبار الجريان أو الكثرة ، لا بمعنى لزوم إقامة أدلّة منفصلة على هذه المطالب ، بل بمعنى لزوم إقامة ما يحتويها جميعا ، اتّحد أو تعدّد ، وحينئذ فلو استدلّ المشهور على ما صاروا إليه بالصحيحة الاولى المشتملة على قول السائل : « عن الرجل يمرّ في ماء المطر ، وقد صبّ فيه خمر » كان كافيا لهم في ثبوت مطلوبهم بكلا جزأيه ، أمّا الجزء الأوّل : فواضح ، وأمّا الجزء الثاني : فلعدم تناول الصحيحة في الإخراج عن القاعدة إلّا حال التقاطر ، فيجب عدم التعدّي إلى غيرها ، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد الدليل ، وإنّما يتّضح هذا البيان بالقياس إلى صغرى القياس على تقدير كون الإضافة في قوله : « في ماء المطر » بيانيّة إذ المرور في المطر ظاهر ـ كالصريح ـ فيه حال النزول والتقاطر ، والمفروض عدم اشتمال الجواب على عامّ أو مطلق ليتّجه القول بعدم صلاحية المورد لتخصيصه.

وأمّا على احتمال كونها لاميّة ، فربّما يدخل في الوهم شمول الجواب بملاحظة ترك الاستفصال حال التقاطر وغيرها ، إلّا أنّه لا يجدي نفعا في استفادة التعميم من الرواية

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٧ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٦ واورد تمامه في الحديث ١ من ب ٧٥ من أبواب النجاسات ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢١١ حيث قال ـ في الاستدلال على عدم انفعال ماء المطر بملاقاة النجاسة ـ : « لما مرّ مرارا أنّ عموم انفعال القليل لا دليل عليه سوى عدم القول بالفصل في بعض الموارد والقول بالفصل هاهنا موجود ، فالظاهر البناء على أصالة الطهارة ... ».

٤٩٢

بمجرّدها بعد قيام احتمال كون الإضافة بيانيّة ، فإنّه لقوّته لو لم يكافؤ الاحتمال الآخر حتّى يكون الإضافة لتردّدها بين المعنيين مجملة ، فلا أقلّ من كونه مزاحما لدلالة الرواية على العموم المبني على الاحتمال الآخر ، وموجبا لضعف تلك الدلالة ، ومعه لا محيص من الأخذ بالقدر المتيقّن من مدلولها ، المشترك بين الاحتمالين ، كما أنّه كذلك على تقدير إجمال الإضافة ، نعم ترك الاستفصال بالقياس إلى اعتبار الجريان أو الكثرة وعدمه في محلّه.

فالمناقشة فيها تارة : بأنّ فيها إشعارا بحصول الجريان ، فلا دلالة فيها على تمام المدّعى.

واخرى : بأنّ دلالتها موقوفة على نجاسة الخمر ، وهي ممنوعة.

يدفعها : منع الإشعار لو اريد به الظهور ، بل ومنعه أيضا مطلقا ، ولو سلّم فاعتباره ممنوع وأنّ المحقّق نجاسة الخمر كما يأتي في محلّه ، ولو سلّم فالرواية بنفسها تنهض دليلا عليها ، كما تنبّه عليه في مجمع الفائدة (١) ـ على ما حكي عنه ـ فإنّ سياق السؤال ممّا يشهد بتعرّض السؤال عن نجاسة الماء ، وهو فرع على اعتقاد السائل بنجاسة الخمر ، واحتمال كونه في صدد السؤال عن نجاسة الخمر ممّا يبعّده سياق السؤال ، ولا يلائمه جلالة شأن السائل ، كما أنّ احتمال كون شبهته في نجاسة الماء ناشئة عن الشبهة في نجاسة الخمر ممّا لا يلائمه جلالة شأنه ، وعلوّ رتبته في الفقه والمعرفة.

لكن يبقى الكلام في صحّة الاستناد إلى مثل هذا الاعتقاد ، لجواز كونه مستحصلا له بطريق الاجتهاد ، ولو عوّل على التقرير المتوهّم في المقام لم يكن في محلّه ، لعدم احتواء المقام جميع مقدّماته لجواز الاكتفاء في الردع بما ذكره عليه‌السلام في الجواب ، إلّا أن يدّعى قيام الظهور العرفي ـ بملاحظة السياق ـ في كون نجاسة الخمر مفروغا عنها فيما بين السائل والمسئول.

وممّا يوافق الصحيحة المذكورة في الدلالة على ما يوافق المذهب المشهور ، والسكوت عن اعتبار الجريان والكثرة الرواية الثانية ، غير أنّه يشكل الحال في التمسّك بها وحدها ، لما في سندها من القصور بجهالة عمرو بن الوليد ، أو عمر بن الوليد على اختلاف النسخ ، لعدم كونه مذكورا في الرجال فيما نعلم بشي‌ء من العنوانين.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٦.

٤٩٣

نعم ، يصحّ الاستناد عليه أيضا بالرواية الرابعة كما استند إليها في المنتهى (١) ، سواء اعتبرناها صحيحة كما في الكتاب أو حسنة ، ولا يقدح فيه اختصاص المورد بصورة الجريان بعد ملاحظة ما تقدّم في الصحيحة الاولى من العموم في تلك الجهة ، نظرا إلى أنّ المورد بمجرّده لا ينهض دليلا على اختصاص الحكم ، ولا أنّه صالح لتقييد الصحيحة ، لعدم المنافاة بينهما في المقام ونظائره ، وهي أيضا في عدم تناولها لغير حالة النزول كالصحيحة المذكورة ، لمكان انصراف سيلان ماء المطر من الميزاب إليه في حال النزول ، كما لا يخفى.

ويمكن لهم الاستناد بالرواية الثالثة لو لا قصورها بالإرسال ، وربّما يدّعى انجبارها بالشهرة وليس بثابت ، إذ العبرة في الانجبار بالشهرة بكونها استناديّة ليوجب الوثوق بصدور الرواية ، وغاية ما هنالك انكشاف صدق مضمونها ، وهو ليس من انكشاف صدق نفسها في شي‌ء ، وعلى هذا القياس الحال في الثامنة الواردة في طين المطر ، بل هي ممّا لو حصل له جابر تدلّ على أحكام كثيرة.

منها : كون ماء المطر مطهّرا للأرض ، نظرا إلى إطلاق قوله عليه‌السلام : « طين المطر لا بأس به » الشامل لما كان نجسا قبل المطر وغيره.

ومنها : كونه عاصما لغيره عن الانفعال ، لمكان قوله عليه‌السلام : « إلّا أن يعلم أنّه قد نجّسه شي‌ء بعد المطر » فإنّ التقييد ببعديّة المطر يقضي بأنّه لا ينجّسه شي‌ء حال المطر ، وعلى فرض تنجيسه فيقضي بالمطهّريّة أيضا ، بل يقضي بها لو نجّسه قبل المطر أيضا.

ومنها : عدم انفعاله بنفسه لو ورد عليه وهو نجس ، ضرورة أنّ الطين ما يحصل بامتزاج الماء في الأجزاء الترابيّة ، فلو فرض كون تلك الأجزاء نجسة قبل ورود الماء عليها مع كونه قابلا للانفعال بملاقاته إيّاها ، فهو بعد امتزاجه باق على وصف النجاسة ، ومعه كيف يصحّ نفي البأس عن الممتزج فيه بإطلاقه ، بل كونه مطهّرا له على بعض الفروض يستلزم طهارته ، ولا يستقيم ذلك إلّا على تقدير عدم قبوله الانفعال ، إذ الضرورة قاضية بأنّ الامتزاج لا يفيده طهارة ، ودعوى : أنّ المطهّريّة لا يستلزم الطهارة ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

نعم ، لو استند على المشهور بالصحيحة الخامسة كان بلا إشكال أيضا ، لسلامتها عمّا يقدح فيها سندا ودلالة ، لكن يبقى الكلام في معنى « الأكثريّة » الّتي علّل بها الحكم ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٩.

٤٩٤

فإنّه ربّما يوهم اعتبار الكثرة بالمعنى المتقدّم سابقا ، ولذا حكي الاحتجاج بتلك الرواية عن أهل القول بذلك.

ولكن يدفعه : منع نهوض ذلك دليلا على هذا الحكم ، لجواز كون المراد « بالأكثريّة » الأكثريّة الإضافيّة بالقياس إلى البول ، مرادا بها بيان أنّه لا داعي إلى ثبوت البأس في هذا الماء الّذي أصاب الثوب إلّا كونه مستهلكا في جنب البول ، وهو مفروض الانتفاء بقرينة كون الماء أكثر من البول بحسب المقدار ، وكلّما كان كذلك فهو موجب لاستهلاك البول ، والأكثريّة بهذا المعنى كما ترى أعمّ من الكثرة النفسيّة حسبما اعتبره القائل ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ ، وكيف كان فهذه الرواية لا تصلح مستندة لهذا القول ، بل دلالتها على المذهب المشهور أنسب وأوضح.

ومن هنا اتّضح ضعف هذا القول ، وعدم جواز المصير إليه ، حيث أنّه ممّا لا مستند له.

نعم ، المعضل دفع القول باشتراط الجريان فعلا لقوّة دليله ظاهرا ، فإنّ الشيخ في زيادات باب المياه من التهذيب (١) احتجّ عليه بالصحيحة السادسة ، المشتملة على قوله عليه‌السلام : « إذا جرى فلا بأس ».

ويمكن دفعه : بأنّه يستقيم على تقدير عود الضمير في الشرط إلى « مائه » المذكور في كلام السائل ، نظرا إلى ظهور الجريان المسند إلى الماء في سيلانه على الأرض ونحوها ، كظهور الماء مضافا إلى المطر فيه بعد النزول من السماء كما هو واضح ، ولعلّه موضع منع لقوّة احتمال عوده إلى المطر المذكور في كلام السائل أيضا سابقا على مائه.

ولا ريب أنّ المطر ظاهر في ماء السماء حال نزوله خاصّة ، كما أنّ الجريان المسند إليه ظاهر في وروده على الأرض ، فيكون الشرطيّة مرادا بها نفي البأس عن ظهر البيت المتنجّس بالبول الّذي ورد عليه المطر ، كما أنّه لا ريب أنّ إطلاق نفي البأس عن المحلّ النجس بورود المطر عليه يستلزم طهره وبقاء الماء الّذي فيه على طهارته الأصليّة ، وهو المطلوب من عدم قبول ماء المطر للانفعال ، ولا يلزم على هذا التقدير عدم مطابقة الجواب للسؤال ، حيث إنّ الغرض الأصلي من السؤال استعلام حال التوضّي بالماء المفروض ، بملاحظة أنّ شبهة السائل في جواز التوضّي ـ على ما يرشد إليه ابتداء

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١١ ذيل الحديث ١٢٩٦.

٤٩٥

السؤال ـ إنّما نشأت عن شبهة طهر المحلّ الّذي ورد عليه المطر بعد المطر وطهارة الماء الملاقي له ، وقد علم بذلك الإمام عليه‌السلام فأجابه بما يرفع شبهته الّتي هي المنشأ ، ولعلّ هذا المعنى هو الظاهر المنساق من الرواية بملاحظة ما ذكر ، وكأنّه إليه يرجع ما في منتهى العلّامة (١) وتبعه الجماعة في دفع احتجاج الشيخ بالرواية من حمل الجريان الوارد فيها على النزول من السماء ، ويوافقها على هذا المعنى الرواية السابعة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « إذا جرى به المطر فلا بأس » لوضوح عود الضمير المجرور إلى المكان المذكور في السؤال ، الّذي يجري فيه المطر ، مع ملاحظة ما أشرنا إليه من ظهور الجريان حيثما يسند إلى « المطر » دون « ماء المطر » في النزول والورود ، ولا ضير في موافقة الشرط المأخوذ في الشرطيّة الواردة في الجواب لما هو مفروض في السؤال. ولا يكون نظائره أجنبيّة عن تأدية العبارة ، لأنّ تعليق نفي البأس عليه إعطاء للحكم في موضوعه الّذي فرضه السائل ، وهذا نظير ما لو قيل للطبيب مثلا : « أكلت اليوم الهندباء » ، فيقول : « إذا أكلت الهندباء أو إن أكلت الهندباء فنعم ما فعلت »

غاية ما في الباب لزوم عدم اعتبار المفهوم في مثله ، ولا ضير في ذلك بعد قيام القرينة عليه ، لما قرّر في محلّه من أنّ التعليق بالشرط إذا ورد لبيان موضوع الحكم ـ كما في قولك : « إن أصبت ماء فاشربه » ـ فلا مفهوم له ، أو أنّ المفهوم إنّما يعتبر في الشرطيّة إذا لم يكن المسكوت عنه معلوما حكمه قبل الخطاب ، والظاهر أنّ مورد الرواية أقرب إلى هذه القاعدة ، ضرورة أنّ ثبوت البأس في المكان المفروض في السؤال بلا جريان المطر به ـ على معنى وروده عليه ـ ممّا كان معلوما للسائل ، وإنّما تعرّض للسؤال استعلاما لارتفاع ذلك البأس بالمطر وعدمه.

ولا يخفى أنّ هذه الرواية أقوى دلالة على المعنى المذكور من الصحيحة ، غير أنّها غير صالحة إلّا لتأييد هذا المعنى في الصحيحة ، لمكان ما فيها من الإرسال بعدم معلوميّة سندها ، والغرض من التأييد بتلك الرواية استظهار كون إطلاق الجريان على نزول المطر من السماء صحيحا في عرفهم ، وإن كان مطلقه ينصرف إلى السيلان من الأرض ، ففرق بين الجريان المطلق ومطلق الجريان ، وعلى قياس هذا المعنى ما في العلاوة الّتي عرفتها عن الوسائل عن

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٩.

٤٩٦

الحميري في قرب الأسناد من قوله عليه‌السلام : « إذا جرى من ماء المطر فلا بأس » فإنّه أيضا تعليق على شرط مذكور في السؤال ، غير أنّه يقضي بكون كلمة « من » زائدة كما لا يخفى.

ويمكن إضمار فاعل قوله عليه‌السلام : « جرى » مع عوده إلى ما يكفّ بعد إصابة المطر للكنيف فيصيب الثياب ، مرادا به اعتبار كون الّذي يكفّ في موضوع حكم نفي البأس شيئا من ماء المطر لا ممّا هو في الكنيف ، أو اعتبار كون الوكف الّذي لا بأس به لا بدّ وأن ينشأ من المطر ، لا من قبل الكنيف نفسه ، ولا من قبل أمر خارج عنه غير المطر ، بناء على أنّ كلمة « من » نشويّة.

واجيب عن احتجاج الشيخ بالصحيحة المتقدّمة بوجوه اخر :

منها : ما عن المعتبر (١) من أنّه لا يدلّ على الاشتراط ، لأنّه لو لم يكن طاهرا لما طهّر بالجريان ، ولا يخفى ضعفه.

ومنها : ما في شرح الدروس للخوانساري (٢) من أنّ دلالة المفهوم إنّما تعتبر فيما لا فائدة فيه سوى الاشتراط ، وليس الأمر هاهنا كذلك ، لجواز أن يقال : إنّ السؤال لمّا كان متضمّنا للجريان ، فأجاب على وفقه تحقيقا وتثبيتا لنفي البأس في هذه الحالة ، وهو أيضا ضعيف لفساد مدركه.

ومنها : ما أشار إليه في الكتاب (٣) أيضا وتبعه قوم ، من أنّ البأس أعمّ من الحرمة والكراهة ، فيجوز أن يكون التوضّي به قبل الجريان مكروها ، وهو لا يستلزم النجاسة. وهو أضعف من سابقيه.

ومنها : ما في الكتاب المذكور : « من أنّه لا يدلّ على نجاسة ماء المطر بالملاقاة إذا لم يكن جاريا ، لجواز أن يكون البأس حين عدم الجريان ، بناء على عدم تطهيره للأرض بدون الجريان ، ولمّا لم يطهّر الأرض والغالب اختلاط أجزائها بماء المطر فلذلك يتحقّق البأس ، فلم تظهر دلالته على الانفعال بالملاقاة » (٤) ولعلّه بعيد من حيث استلزامه عدم مطابقة الجواب للسؤال ، لظهور السياق في أنّ الغرض الأصلي معرفة حكم الماء والثوب ، وإن خصّت الصلاة بعنوان الاستفهام ، والنكتة في ذلك أنّ أثر نجاسة الماء

__________________

(١) المعتبر : ٩.

(٢ ـ ٤) مشارق الشموس : ٢١٢.

٤٩٧

والثوب وطهارتهما إنّما يظهر في الصلاة وغيرها ممّا هو مشروط بالطهارة ، فأجود الأجوبة ما نقلناه عن منتهى العلّامة رحمه‌الله (١) بناء على التوجيه الّذي قرّرناه.

ثمّ لو أغمضنا وقلنا بظهور الجريان مطلقا فيما فهمه الشيخ ، يتوهّن هذا الظهور بملاحظة مخالفته للشهرة القريبة من الإجماع ، فإنّ الشهرة بمجرّدها وإن لم تصلح قرينة على صرف الظاهر عن الظهور ، غير أنّها ربّما تكون موهنة له ، فيشكل معه الأخذ به ، فيبقى الروايات الاخر في المقام بالقياس إلى قضائها بعدم اشتراط الجريان سليمة عمّا يصلح لمعارضتها ، ويؤيّدها أصالة عدم الاشتراط ، فظهر بجميع ما تقرّر أنّ الأقوى هو القول المشهور.

وربّما يستدل عليه ـ مضافا إلى ما مرّ ـ بالأصل ، والقاعدة ، وعموم ما دلّ على طهارة الماء ما لم يتغيّر ، وضعفه بعد ملاحظة عموم قاعدة الانفعال ظاهر ، وربّما يستدلّ أيضا كما في المنتهى (٢) بأنّه يشقّ الاحتراز عن ماء الغيث ، فلو لا التخفيف بعدم انفعاله مطلقا لزم العسر والحرج ، وصغرى ذلك الدليل وإن كانت مسلّمة في الجملة ولكن كبراه لا يخلو عن مناقشة تظهر بأدنى تأمّل ، ولنختم المقام بذكر امور مهمّة.

أوّلها : معنى اعتصام ماء المطر عن الانفعال حال التقاطر عدم قبول ما حصل في الأرض منه للانفعال بتقاطر ما بقي منه عليه ، وإلّا فالمتقاطر حال تقاطره ممّا لا يعقل فيه ملاقاة النجاسة عادة حتّى يلحقه حكم الاعتصام وعدمه ، وملخّص المعنى المذكور : أنّ ماء المطر المنقضي عنه مبدأ التقاطر لا ينفعل بورود ما تلبّس بذلك المبدأ عليه.

وهل يلحق به غيره من المياه القليلة المتوقّف عدم قبولها الانفعال على وجود عاصم ، من مياه الحياض والغدران والقلّتان والأواني ونحوها ، على معنى اعتصامها بالمتقاطر من ماء المطر أوّلا؟ والمسألة موضع توقّف لخلوّ نصوص الباب عن التعرّض لهذا المطلب ، فانحصر طريقه في الإجماع فإن أمكن تحصيله فهو ، وإلّا فلا مجال إلى رفع اليد عن قاعدة الانفعال ، خلافا للخوانساري في شرح الدروس ، قائلا : « بأنّ الظاهر التقوّي ، لعدم عموم انفعال القليل ، مع أنّ الظاهر أنّه المشهور بين الأصحاب ، ولو كان جاريا إليه من ميزاب ونحوه. فالتقوّي ظاهر » (٣) انتهى.

لكن في الحدائق : « لا ريب في ذلك على المشهور من جعل ماء المطر كالجاري

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٤٩٦.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٣٠.

(٣) مشارق الشموس : ٢١٤.

٤٩٨

مطلقا ، وأمّا على اعتبار الجريان أو الكثرة فيناط بحصول أحدهما » (١) انتهى.

وعن الذخيرة بناء المسألة على الوفاق ، والخلاف في المسألة السابقة ، حيث قال : « فإن كان بطريق الجريان ، فلا ريب في أنّه يفيده تقوّيا فيصير كالجاري ، وإلّا فيبنى على الخلاف في اشتراط الجريان وعدمه » (٢).

وقد يستدلّ على التقوّي مطلقا باستصحاب الطهارة ، بناء على أنّه لا دليل يوجب رفع اليد عنه ، واتّضح ضعفه.

وبالأولويّة ، بتقريب : أنّ ماء المطر مطهّر للماء النجس ورافع عنه النجاسة ، فكونه عاصما له عن قبول النجاسة ، ـ لمكان كون الدفع أهون من الرفع [طريق الأولويّة] (٣) ، وهو أوهن من بيت العنكبوت لعدم صلاحية الاعتبارات العقليّة وسطا للأحكام التعبّديّة ، ألا ترى أنّ الماء القليل يفيد تطهير النجس ولا يفيد تقوّيا أصلا.

نعم ، لو بنى على أنّ ماء المطر ممّا يطهّر غيره من المياه النجسة ، أمكن المصير إلى طهارة القليل الملاقي للنجاسة لا لأنّه يفيد تقوّيا ، بل لأنّ هذا الماء ينفعل بالملاقاة آنا ما ولو حال التقاطر ثمّ يزول انفعاله بلحوق تقاطر آخر ، أخذا بموجب أنّه يطهّر غيره ، إذ لا يفترق الحال في ذلك بين طروّ النجاسة للغير حال التقاطر أو قبله ، ولكن ثبوت الطهارة له بتلك القاعدة لا يجدي نفعا في طهارة ما لو فرض تحقّق ملاقاة النجاسة له في آخر أزمنة التقاطر ، على معنى انقطاع التقاطر في ثاني زمان الملاقاة كما لا يخفى.

نعم ، على ثبوت قاعدة التقوّي يحكم عليه بالطهارة جزما ، وأمّا لو تحقّقت الملاقاة حال الانقطاع ـ على معنى عروضها مقارنة له ـ فلا يحكم عليه بالطهارة على القاعدتين معا.

وثانيها : لا إشكال في كون ماء المطر حال التقاطر مطهّرا للأرض الّتي أصابها نجاسة قبل نزولها بل حال النزول أيضا ، على تقدير تحقّق الاستيعاب لموضع النجاسة ، وزوال عينها لو كانت عينيّة ، بل لو قلنا بالعمل بمرسلة الكاهلي المتقدّمة كان مطهّرا عن كلّ متنجّس حتّى الأواني والثياب ، لعموم قوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر » وقد يعزى ذلك إلى المشهور ، بل قضيّة الشرطيّة المقتضية للسببيّة التامّة حصول الطهر بمجرّد الإصابة من دون اعتبار ما يعتبر في غسل الأواني والثياب إذا حصل بغير المطر من عصر وإزالة غسالة

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٢٤.

(٢) ذخيرة المعاد : ١٢١.

(٣) أضفناها لاستقامة العبارة.

٤٩٩

لكن لمّا لم يثبت عندنا جابر لإرسال تلك الرواية كان الواجب علينا الآن الاقتصار على مورد الدليل ، وليس إلّا الأرض ، والّذي يدلّ عليه جملة من الأخبار المتقدّمة.

منها : الصحيحة الاولى الواردة في المرور في ماء مطر ، صبّ فيه خمر فأصاب الثوب ، المحكوم على الصلاة فيه قبل الغسل بعدم البأس ، مع التصريح بعدم وجوب غسل الثوب والرجل.

بتقريب : أنّ الخمر ما دامت عينها باقية في الأرض توجب نجاستها جزما ، وإن لم تتميّز أجزاؤها عن الماء في نظر الحسّ ، فلو لا طهرها بسبب المطر لم يكن للحكم بعدم البأس وعدم وجوب الغسل معنى ، ضرورة العلم العادي بأنّ ما أصاب الثوب من الماء كان مستصحبا للأجزاء الأرضيّة لا محالة ، وهي باقية على ما كانت عليها من النجاسة ، فتكون كافية في المنع عن الصلاة ووجوب غسل الثوب بل الرجل أيضا ، ضرورة اشتمالها بواسطة الماء على الأجزاء الأرضيّة لا محالة ، والمناقشة فيها بابتناء المطلب على نجاسة الخمر وهي ممنوعة ، قد عرفت دفعها.

ومنها : الصحيحة الخامسة الواردة في السطح يبال عليه فيصيبه السماء ، فيكفّ فيصيب الثوب ، الحاكمة بعدم البأس ، بتقريب ما مرّ.

ومنها : الصحيحة السادسة بهذا التقريب ، والكلام في قضيّة اشتراط الجريان فيها كما مرّ ، ويدلّ عليه أيضا إطلاق المرسلة الثامنة ، النافية للبأس عن طين المطر ، غير أنّك قد عرفت الإشكال في جواز الاستناد إليها ، لما فيها من الإرسال الّذي لا نعلم بجابر له.

وثالثها : ماء المطر كما أنّه مطهّر للأرض كذلك يطهّر الماء المتنجّس ، وقد يدّعى الإجماع عليه إذا كان واردا عليه بطريق الجريان من الميزاب ، والشهرة إذا كان بطريق الجريان مطلقا أو الكثرة.

وعن الذخيرة (١) نفي الريب في تطهيره بمطلق الجريان وهذا الحكم على تقدير صحّة الاستناد إلى مرسلة الكاهلي واضح وعمومها يقتضي عدم اعتبار الجريان من الميزاب وغيره ، ولا الكثرة ولا الامتزاج ولا استيعاب المطر لسطح الماء ، لا بمعنى كفاية ورود قطرة واحدة عليه ـ كما حكي القول به عن بعض الفضلاء (٢) ـ ولو كان الماء

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٢١.

(٢) روض الجنان : ١٣٩.

٥٠٠