ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

منسلخة؟ فقال : « إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء ، فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كلّما أصابه ذلك الماء ، ويعيد الوضوء والصلاة الحديث » (١) فإنّ ترك الاستفصال في موضع الاحتمال يفيد العموم في المقال ، ولو لا عدم الفرق بين الورودين لكان اللازم تفصيلا آخر في اولى شقي التفصيل المذكور في الرواية ، كما لا يخفى.

ورواية عمر بن حنظلة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتّى يذهب عاديته ، ويذهب سكره؟ ، فقال عليه‌السلام : « لا والله ، ولا قطرة قطرت في حبّ إلّا اهريق ذلك الحبّ » (٢) فإنّ السؤال ظاهر بل صريح في ورود الماء والجواب صريح في عكسه ، فلو لا المراد إعطاء الحكم على الوجه الأعمّ لفاتت المطابقة بينهما ، بل لك أن تقول : لا حاجة إلى توسيط ذلك ، بناء على أنّ النفي المستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا » ، راجع إلى فرض السؤال ويبقى ما بعده مخصوصا بصورة العكس ، تعميما للحكم بالقياس إلى الصورتين معا وهو المطلوب.

والثالث : جملة من الروايات أيضا صريحة أو ظاهرة كالصريحة في خصوص المسألة المبحوث عنها ، كموثّقة عبد الله بن يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ، وفيها يجتمع غسالة اليهودي ، والنصراني ، والمجوسيّ ، والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (٣) ، فإنّ غسالة الحمّام تحصل غالبا بصبّ الماء على البدن لغسل أو تنظيف أو غير ذلك كما لا يخفى.

ومنه رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « لا تغتسل من البئر الّتي تجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ماء يغتسل به الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البيت » ، الحديث (٤) ، ولكنّها إنّما تنطبق عليها لو قلنا بظهورها في الانفعال ، وإلّا فأقصاها الدلالة على أنّ الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لا يرفع

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٨ / ٤١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٥.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٠ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ علل الشرائع : ٢٩٢.

(٤) الوسائل ١ : ٢١٨ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٣ / ١١٤٢.

٢٤١

الحدث ، ولا يستعمل ثانيا في التطهير عن الحدث ، كما يرشد إليه الجمع بين الناصب والجنب وولد الزناء مع عدم كونهما نجسين ، وكون الجنب ممّن عليه نجاسة خارجيّة مجرّد احتمال لا ينبغي تنزيل الرواية عليه.

وموثّقة عمّار المتضمّنة لقوله : وعن الإبريق يكون فيه خمرا يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » (١) ، وهي صريحة في ورود الماء دالّة بمفهومها على الانفعال في المتنازع نفسه.

وفي معناها رواية الوسائل وقرب الإسناد ، المتضمّنة للسؤال عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية ، المستعقب لقول الإمام عليه‌السلام : « إذا غسل فلا بأس » (٢)

والرابع : إطلاق الإجماعات المحكيّة في المسألة على حدّ الاستفاضة.

منها : ما عن أمالي الصدوق : « من أنّه من دين الإماميّة الإقرار بأنّ الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ، ولا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة » (٣) ، لا يقال : إنّه لا يشمل جميع أنواع النجاسة ؛ لأنّه غير قادح فيما نحن بصدده ، مع إمكان إرجاعه إلى أكثر الأنواع نظرا إلى أنّ الغالب منها ما يرجع إلى ذي النفس كما لا يخفى على المتأمّل.

ومنها : ما عن الغنية (٤) من أنّه إن كان الماء الراكد قليلا ، ومياه الآبار قليلا كان أو كثيرا تغيّر بالنجاسة أو لم يتغيّر فهو نجس بدليل إجماع الطائفة.

ومنها : ما في المختلف (٥) من أنّه اتّفق علماؤنا إلّا ابن أبي عقيل على أنّ الماء القليل ـ وهو ما نقص عن الكرّ ـ ينجّس بملاقاة النجاسة له تغيّر بها أو لم يتغيّر.

ومنها : ما عن السيوري (٦) من أنّ تنجّس القليل من الراكد مذهب كافّة العلماء ، إلّا ابن أبي عقيل منّا ومالكا من الجمهور.

ومنها : ما عن شرح المفاتيح للمحقّق البهبهاني : « أجمع علماؤنا على انفعال القليل

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٤ ب ٥١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٣ / ٨٣٠.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٦٩ ب ٣٠ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٥.

(٣) أمالي الصدوق ـ المجلس ٧٣ ـ ص : ٧٤٤.

(٤) الغنية : ٤٦.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ١٧٦.

(٦) التنقيح الرائع ١ : ٣٩.

٢٤٢

بالملاقاة سوى ابن أبي عقيل ، ولعلّه خارج غير مضرّ لكونه معلوم النسب إلخ » (١).

وأمّا ما تقدّم في عبارة السيّد من الاحتجاج ، فجوابه ـ بعد قصوره عن إفادة تمام المدّعى كما أشار إليه في المصابيح ـ على ما حكي ـ قائلا : « بأنّ غاية ما هناك قضاء الضرورة بطهارة الوارد على المحلّ المتنجّس إذا استعقب طهر المحلّ ، فأمّا طهارة الوارد مطلقا ولو على النجس أو المتنجّس فيما عدا الغسلة المطهّرة فلا » (٢) ـ منع الملازمة ، لما سبق الإشارة إلى تحقيقه من أنّه لا مانع عن إفادة هذا الماء ولو مع الانفصال طهارة المحلّ بعد الانفصال.

فإن قلت : الفاقد للشي‌ء لا يصلح لكونه معطيا له.

قلت : أوّلا أنّه منقوض بأحجار الاستنجاء ، وثانيا : منع كون الماء بنفسه علّة مستقلّة للطهارة ، بل العلّة هو المجموع من وروده طاهرا على المحلّ مع انفصاله عنه بالعصر ونحوه ، فالمطهّر حقيقة ورود الطاهر مع انفصاله ، ولا يقدح فيه انفعاله بنفسه فيما بين الجزءين إذا دلّ عليه الشرع ، فالالتزام به عند التحقيق إنّما هو من جهة الجمع بين القاعدتين : قاعدة انفعال القليل بالملاقاة ، وقاعدة طهر المتنجّس بالقليل الوارد عليه ، فإنّ كلّا من القاعدتين ممّا قام به الدليل ، والمفروض أنّ الأسباب الشرعيّة ليست كالعلل العقليّة حتّى تقاس بالعقول ، بل هي امور تعبّديّة تتبع دليل التعبّد بها ، فإذا قام الدليل عليه يجب الأخذ بها وإعمالها في موارد ذلك التعبّد.

وعن بعض المتأخّرين أنّه بعد ما وافق السيّد في المذهب المذكور احتجّ بأنّ أقصى ما دلّت عليه الأدلّة الدالّة على انفعال القليل هو انفعال ما وردت عليه النجاسة ، فيتمسّك فيما عدا ذلك بمقتضى الأصل ، والعمومات السالمة على المعارض.

وأنت بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه في دليل المختار تعرف ضعف ذلك ، وأضعف منه ما عرفت عن الحلّي (٣) من دعوى استمرار الفرق بين الورودين على فتاوي الأصحاب واصول المذهب ، فإنّه كما ترى ينافي إطلاق الإجماعات المتقدّمة ، وكيف ذلك مع ما

__________________

(١) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٨١.

(٢) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٤٨.

(٣) السرائر ١ : ١٨١ ؛ تقدّم في الصفحة ٢٤٨.

٢٤٣

عرفت عن السيّد (١) من إنكاره وجود نصّ من الأصحاب ولا قول صريح لهم في ذلك.

المقام الثاني :

في مستثنيات قاعدة الانفعال ممّا هو محلّ وفاق وما هو محلّ خلاف ، وقبل الخوض فيها ينبغي الإشارة إلى دقيقة ينكشف بها بعض الفوائد والغفلات ، وهي أنّك قد عرفت ممّا سبق ـ من أوّل المسألة إلى مقامنا هذا ـ أنّ قاعدة انفعال القليل بالملاقاة مطلقا ، يقابلها أقوال حدثت فيما بين العلماء.

أحدها : قول العمّاني بعدم انفعاله مطلقا.

وثانيها : قول السيّد بعدم انفعاله إذا كان واردا على النجاسة.

وثالثها : عدم نجاسة الغسالة الحاصلة من النجس.

ورابعها : عدم سراية النجاسة من أسفل الماء إلى أعلاه ولو قليلا ، وهذا قول إجماعي في الجملة على ما حكي ، ولا ريب أنّ كلّا من هذه الأقوال ناظر إلى جهة تطرأ القليل من غير الجهة الطارئة له بالنظر إلى قول آخر ، فالقليل ممّا يطرئه جهات متكثّرة نشأت من كلّ جهة قول ، غير أنّ هذه الجهات قد تجامعه في بعض فروضه ، وقد تفارق بعضها بعضا في البعض الآخر من الفروض ، وتوضيح ذلك : أنّ القليل الوارد على النجاسة عاليا كان أو غير عال له صور.

منها : ما لو ورد على النجاسة واستعقب طهر المحلّ وانفصل عنه بعد وروده ، فذلك الماء المنفصل حينئذ ممّا يلحقه حكم الطهارة قبالا للحكم عليه بالنجاسة من جهات ، بحسب الأقوال الناشئة عن تلك الجهات ، للزومه أن يقول بطهارته العماني لما يراه من عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة في جميع أحواله ، وأصحاب القول بطهارة الغسالة لكونه من أفرادها ، والسيّد لكونه من أفراد الماء الوارد على النجاسة.

ومنها : ما لو ورد على النجاسة من غير أن يستعقب طهارة المحلّ ، انفصل عنه أو لم ينفصل مستعليا كان أو غيره ، وهذا ممّا يتمشّى فيه قولا العماني والسيّد ، فما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ القول بالفرق بين الورودين مبنيّ على القول بطهارة الغسالة ،

__________________

(١) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧).

٢٤٤

ليس على ما ينبغي.

ومنها : ما لو ورد عليها مستعليا ، وهذا ممّا يجري فيه قول العماني وقول السيّد والقول بعدم سراية النجاسة من الأسفل ، فما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ طهارة المستعلي مبنيّة على الفرق بين الورودين غفلة ، مبناها عدم مراعاة حيثيّات المسألة فإنّها ممّا تختلف باختلافها العنوانات ، واجتماع حيثيّة مع حيثيّة اخرى في موضوع واحد لا يوجب وحدة المسألة بعد ما تعدّد الموضوع بتعدّدهما ، ولذا ترى أنّ إحدى الحيثيّتين تفارق الحيثيّة الاخرى ، فينعقد بها مسألة لا يدخل فيها مسألة اخرى ، ويمتاز الحيثيّة الاخرى بانعقاد الإجماع على الحكم معها ، مع الخلاف فيه بالقياس إلى الحيثيّة الاولى.

فكون الماء المفروض من حيث إنّه مستعل غير منفعل بما ورد عليه من النجاسة ، ممّا لا مدخليّة فيه ، لكونه غير منفعل من حيث إنّه وارد عليها ، غاية الأمر كونهما متصادقين في مورد واحد ، وهو ليس من اتّحاد المسألتين في شي‌ء ، ولذا ترى أنّه من حيث الورود قد يطرئه أحوال يجري على الجميع الحكم بعدم الانفعال عند أهل القول بالفرق بين الورودين ، وهي حالة اللقاء ـ أي حدوثه ـ وحالة بقائه متّصلا بها إلى مدّة ، وحالة انفصاله المستتبع لزوال وصف العلوّ عنه ، فإنّ قضيّة إطلاق القول بعدم انفعال الوارد ودليله أيضا لو تمّ تشمل جميع تلك الأحوال ، بخلاف القول بعدم نجاسة العالي ، فإنّ ظاهره كونه كذلك ما دام وصف العلوّ باقيا ، وأمّا إذا زال عنه الوصف ـ سواء بقي على كونه ملاقيا لها أو انفصل عنها جزء فجزء ـ فيندرج في عنوان الغير المستعلي الملاقي للنجاسة ، وهو كما ترى خروج عن الموضوع ، ومعه لا يعقل لحوق الحكم به لكون القضيّة بالقياس إلى الوصف الزائل من باب المشروطة.

فمسألة عدم انفعال المستعلي مفروضة في العالي بوصف كونه عاليا ، وأظهر أفراده ما لو جعل الماء في انبوبة متّصل رأسها بنجاسة بحيث أوجب اتّصالها بها اتّصال الماء من الجانب التحتاني بها ، وهذا مع نظائره ممّا يندرج تحت مفهوم المستعلي ممّا يعدّ من مستثنيات قاعدة الانفعال ، ويستفاد من غير واحد ثبوت هذا الاستثناء ، بل ظاهرهم فيما وجدناه من كلماتهم في الفروع الّتي منها ما سبق الإشارة إليه في فروع الكرّ الاتّفاق

٢٤٥

عليه ، وفي كلام غير واحد منهم صاحب الحدائق (١) في فروع الكرّ التعليل له بعدم تعقّل سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، وحكى ذلك عن الشهيد في الروض (٢).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الأحكام الشرعيّة التعبّديّة ـ ولا سيّما أحكام الطهارة والنجاسة ـ لا تقاس بالعقول ، فقصور العقل عن إدراك السراية من الأسفل لا يوجب الحكم عليها بالعدم ، بعد ما كان مقتضى الأدلّة النقليّة من العمومات والإطلاقات هو السراية ؛ ضرورة جريان قاعدة الانفعال في المفروض أيضا ، مع أنّ السراية الّتي لا تعقل هنا إن اريد بها سراية عين النجاسة الحاصلة بتفرّق أجزائها في أجزاء الماء وامتزاجها معها.

ففيه : أنّه منقوض بالمتساوي السطوح من القليل الّذي يقع فيه من النجاسات ما لا تتفرّق أجزاؤه مطلقا أو في الجملة ، فقضيّة ما ذكر من الاستحالة أن لا يحكم فيه بالانفعال ، لأنّ مبناها على عدم سراية العين وهو حاصل في الفرض ، فينبغي من أجل ذلك أن يفصّل في مسألة انفعال القليل بملاقاة النجاسة بين ما كان النجاسة الواقعة فيه ممّا له أجزاء قابلة للتفرّق والسراية فيحكم بالانفعال ، وبين غيره وهو كما ترى.

وإن اريد بها سراية أثر النجاسة ، فأيّ استحالة في سراية الأثر من الأسفل إلى الأعلى ، وأيّ شي‌ء قضى لكم بها في غير مختلف السطوح ، والنجاسة لا تباشره إلّا في جزء منه وهو لا يقضي بها هنا ولا يجري في المقام ، وهل هو إلّا تعبّد من الشارع ، أو لأنّ الأثر يسري من جزء إلى جزء آخر بواسطة ما بينهما من الاتّصال ، وأنّ الجزء الملاقي لعين النجاسة ينفعل بها ويوجب انفعال ما اتّصل به من الجزء الغير الملاقي لها وهكذا أتى آخر الأجزاء ، بناء على أنّ انفعال القليل لا يفرّق فيه بين استناده إلى ملاقاة النجس وملاقاة المتنجّس ، بمعنى أنّ ملاقاة المتنجّس أيضا توجب انفعال الملاقي له كملاقاة النجس ، وأيّ عقل ينكر إمكان جريان الأوّل في مفروض المسألة ، كما أنّه أيّ عقل يقضي باستحالة جريان الثاني فيه ، مع أنّ الواسطة في الانفعال وهو مجرّد الاتّصال متحقّقة معه جزما.

فالحقّ أنّ الحكم تعبّدي ومستنده الإجماع لمن حصّل له ذلك ، أو منقوله لمن يراه حجّة ، وقد استفاض من علمائنا الأعلام نقله ، ومنهم ثاني الشهيدين في روضه (٣) على

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٢.

(٢ و ٣) روض الجنان : ١٣٦.

٢٤٦

ما حكي ـ وتصدّى لنقله صاحب الحدائق (١) أيضا في غير موضع يظهر للمتتبّع ، والسيّد صاحب المصابيح (٢) في عبارة محكيّة منه ، وصرّح به صاحب المدارك (٣) في مسألة عدم اشتراط تساوي السطوح في عدم انفعال الكرّ ، ردّا على المحقّق الثاني في احتجاجه بما تقدّم في بحث الكرّ على عدم تقوّي الأعلى بالأسفل ، وقد حكي (٤) ذلك عن صاحب المقابس (٥) من تلامذة السيّد المتقدّم ذكره ، وله في مصابيحه عبارة عثرنا على حكايته ولا بأس بأن نذكرها لتضمّنها تحقيقا وبسطا.

فإنّه قال : « لا ينجّس المستعلي من السائل عن نبع وغيره ، والمراد به ما فوق الملاقي للنجاسة أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة ، لما تقدّم من عدم الفرق في الملاقي بين الوارد والمورود عليه كما هو المشهور ، والحكم بطهارة المستعلي بهذا المعنى مجمع عليه ، وقد حكى جماعة من الأصحاب ، منهم الشهيد في الروض (٦) ، وسبطه في المدارك (٧) الإجماع على عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، والمراد نفي السراية في السائل خاصّة ، فلو استقرّ نجس الأعلى إلّا على القول بالفرق بين الورودين ، فالمستعلي على هذا القول طاهر مطلقا ، سواء في ذلك الملاقي للنجاسة وغيره ، ولا فرق في طهارة المستعلي من السائل بين النابع وغيره ، وإن كان الحكم في الأوّل أظهر لثبوت العصمة فيه باعتبار الجريان والاستعلاء معا ، بخلاف الثاني فإنّ المانع من انفعاله هو الثاني خاصّة ، وعلى قول العلّامة باشتراط الكرّيّة في الجاري فالمانع عن الانفعال هو الاستعلاء مطلقا ، وقد صرّح غير واحد من الأصحاب في مسألة تغيّر الجاري والكثير باختصاص المتغيّر بالتنجيس إذا اختلف سطوح الماء وكان المتغيّر هو الأسفل ، وهذا يقتضي طهارة المستعلي عن نبع وغيره.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٣ حيث قال : « لأنّ الأعلى لا تسري إليه النجاسة إجماعا » وأيضا ١ : ٢٤٢ حيث قال : « وأمّا الأعلى فظاهر كلامهم ، الاتّفاق على عدم نجاسته ؛ لعدم تعقّل سريان النجاسة إلى الأعلى »

(٢) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٤.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٤٥حيث قال:« مع أنّ الإجماع منعقد على أنّ النجاسة لا تسري إلى الأعلى مطلقا ».

(٤) والحاكي هو الشيخ الأنصاري قدس‌سره في كتاب الطهارة ١ : ١١٦.

(٥) مقابس الأنوار : ٧٩.

(٦) روض الجنان : ١٣٦.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٤٥.

٢٤٧

وقال العلّامة رحمه‌الله في المنتهى : « لا فرق بين الأنهار الكبار والصغار ، نعم الأقرب اشتراط الكرّيّة لانفعال الناقص عنها مطلقا ، ولو كان القليل يجري على أرض منحدرة كان ما فوق النجاسة طاهرا » (١) ، وقال في التذكرة : « لو كان الجاري أقلّ من الكرّ نجس بالملاقاة الملاقي وما تحته » (٢) ، وقال الشهيد في الدروس : « ولو كان الجاري لا عن مادّة ولاقته النجاسة لم ينجّس ما فوقها مطلقا » (٣) ، وقال في البيان : « ولو كان الجاري بلا مادّة نجس بالملاقاة إذا نقص عن الكرّ ، ولا ينجّس به ما فوق النجاسة » (٤).

وقال ابن فهد في الموجز : « ولو كان لا عن مادّة كثيرا لم ينجّس بالملاقاة مطلقا ، وقليلا ينفعل السافل خاصّة » (٥) ، وقال المحقّق الكركي في حواشي الإرشاد : « أنّ الجاري هو النابع من الأرض دون ما جرى فإنّه واقف ، وإن لم ينجّس العالي منه بنجاسة السافل إذا اختلف السطوح » (٦) ، وهذه العبارات صريحة في طهارة المستعلي من السائل من حيث هو كذلك ، جاريا كان أو راكدا ، سواء قلنا بنجاسة الماء الوارد على النجاسة أو لم نقل » (٧) انتهى.

أقول : ما استظهره رحمه‌الله من عموم الحكم بالقياس إلى السائل عن مادّة والسائل لا عن مادّة في محلّه ، بل وإطلاق بعض هذه العبارات بل وصريح بعضها يقضي بعدم الفرق في ذلك بين ما لو كان العالي بنفسه كرّا أو عاليا في كرّ أو في قليل.

ويبقى الكلام مع السيّد المتقدّم رحمه‌الله في شي‌ء ، حيث إنّه خصّ الحكم بما إذا كان العالي سائلا ، فإنّه غير معلوم الوجه ، ولعلّه اقتصار على القدر المتيقّن من معقد الإجماع المخرج عن القاعدة ، أو مستفاد من كون المسألة في فتاوي الأصحاب مفروضة في خصوص الجاري بالمعنى الأعمّ من النابع والسائل لا عن نبع كما يرشد إليه الكلمات السابقة ، أو من أنّ إجماعات المسألة قد نقلت في الجاري بالمعنى الأخصّ ، أو في مسألة اختلاف سطوح الكثير الّذي لا يتأتّى فرضه إلّا مع السيلان ، وعلى كلّ تقدير فهو

__________________

(١) المنتهى ١ : ٢٨.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ١٧.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ٩١١.

(٤) البيان : ٩٨.

(٥) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١١).

(٦) حاشية الإرشاد ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ١٥.

(٧) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٤.

٢٤٨

إغماض عن إطلاق العبارة في منقول الإجماع المتضمّنة لقولهم : « النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى » ، ولا ريب أنّها تشمل الغير السائل أيضا ، بل أظهر أفراده ما تقدّم الإشارة إليه من مسألة الانبوبة ، ومن المصرّح به في كلام غير واحد من الأساطين أنّ منقول الإجماع عند العاملين به تعبّدا باعتبار العبارة الحاكية له من جملة الأدلّة اللفظيّة ، ولذا يسمّونه بالسنّة الإجماليّة ، فيجري عليه جميع أحكام اللفظ من إطلاق وتقييد ، وعموم وخصوص ، وإجمال وبيان ، فإذا كان عبارة قولهم : « النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى إجماعا » ، أو أنّهم أجمعوا على عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى مطلقة شاملة لعال غير سائل ، فأيّ شي‌ء يقضي بخروج ذلك عن الحكم المثبت بذلك وهو يوجب تقييد تلك العبارة ، ولا يصار إليه إلّا بدليل.

وقاعدة الاقتصار على مورد اليقين لا مجال إليها في الظواهر ، لأنّ الظاهر حيثما ثبت حجّيّة سنده قائم مقام اليقين ومعه لا معنى للاقتصار ، وخصوصيّة المثال في فتاوي الأصحاب لا تقضي باختصاص إجماعهم المنقول بعبارة مطلقة ظاهرة في العموم ، كما أنّ خصوص المورد والسبب لا يوجب تخصيصا في العامّ ولا تقييدا في المطلق ، واعتبار كون كلّ ذلك قرينة كاشفة عن حقيقة مراد الناقلين للإجماع من تلك العبارة ، أو مراد المفتين في المسألة بتلك العبارة ليس على ما ينبغي ، لتوجّه المنع الواضح إلى صلوح ذلك للقرينيّة ، وإلّا لكان ينبغي أن يقال بمثله في غير محلّ المقال كعمومات اخر واردة في موارد خاصّة ، ومجرّد الاحتمال لا يعارض الظهور ، ويقوى هذا الإشكال لو كان مستند الحكم أو مستند الإجماع ما سبق الإشارة إلى ضعفه من عدم معقوليّة سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، كما لا يخفى.

نعم ، يمكن الاعتذار له قدس‌سره بأنّ مستنده في حكم المسألة إجماع حصّله بنفسه ، كما صرّح به في صدر العبارة المتقدّمة ، وكان معقد ذلك الإجماع مجملا في نظره بالقياس إلى بعض الأفراد ، فاضطرّ إلى الاقتصار على مورد اليقين ، حيث إنّ الإجماع المحصّل ليس من مقولة الألفاظ ليعتبر فيه إطلاق أو عموم أو نحو ذلك ، ولكنّه بعيد عن المتتبّع الناقد ، ولعلّه عثر من الخارج على ما دلّه على ما ادّعاه فهو أبصر بحقيقة الحال ، ولكن مجرّد ذلك لا يوجب لغيره الغير العاثر على ما عثر عليه رفع اليد عن ظهور منقول

٢٤٩

الإجماع إن قال بالتعبّد به ، ثمّ إنّ هاهنا فروعا ينبغي الإشارة إليها.

أحدها : هل الحكم يثبت للعالي بجميع أجزائه حتّى الجزء الملاصق للنجس أو المتنجّس ، أو يختصّ بما عدا ذلك الجزء؟ وجهان : من أنّ العالي يشمل بإطلاقه جميع الأجزاء حتّى الجزء الملاصق ، ومن أنّ الأسفل في مقابلة الأعلى المأخوذ في عبارة الإجماع ظاهر في الماء وهو محكوم عليه بالنجاسة ـ كما يفصح عنه التعبير بأنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى ـ وهو الأظهر ، كما تنبّه عليه السيّد المتقدّم في قوله المتقدّم ، والمراد به ما فوق الملاقي للنجاسة أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة ، بناء على أنّ مراده بالملاقي للنجاسة أو المتنجّس هو الجزء الملاصق لهما من الأعلى ، فإنّ المحكوم عليه بالطهارة هو ما فوق ذلك الجزء.

وأمّا هو فمحكوم عليه بالنجاسة مستدلّا عليه بقوله : « لما تقدّم من عدم الفرق في الملاقي بين الوارد والمورود عليه » ولا يخفى ما في هذا التعليل من الوهن الواضح ، فإنّ مستند انفعال ذلك الجزء لو كان هو قضيّة عدم الفرق بين الورودين لقضى بانفعال ما فوقه أيضا ، لأنّ ما لا يفرّق فيه بين الورودين أعمّ من أن يكون واردا على النجس أو المتنجّس ، بناء على عدم الفرق في انفعال القليل بين ملاقاة النجس أو المتنجّس كما سبق تحقيقه ـ وعليه السيّد كما يستفاد من قوله : « أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة » ، وإلّا لم يكن فائدة في ذكره ـ فإذا فرض أنّ الوارد على المتنجّس ينجّس بملاقاته يلزم نجاسة ما فوق الجزء الملاقي أيضا ، لوروده على المتنجّس ، ولا فرق في الملاقاة بين الورودين ، فلزم أنّ الحكم بالفرق بين الجزء الملاصق وما فوقه تعبّدي أثبته الإجماع ، وعلى هذا فالمفروض من مستثنيات قاعدة انفعال القليل بالمتنجّس خاصّة.

ثمّ يبقى الإشكال في تحديد ذلك الجزء استعلاما للطاهر عن المتنجّس ، ولو قيل بأنّه أقلّ ما يصدق عليه الماء الملاصق للنجس أو المتنجّس لم يكن بعيدا ، جمعا بين الوجهين المتقدّمين ، فلا يكفي مجرّد النداوة والرطوبة الظاهرة لو أمكن إدراكها منفصلة عمّا فوقها.

وثانيها : ظاهر عباراتهم فتوى ونقلا للإجماع أن يكون المراد بالعلوّ والاستعلاء الارتفاع بحسب المكان ، لا مجرّد الفوقيّة بأن يكون الماء واردا على النجس أو المتنجّس من مكان مرتفع موجب لارتفاع الماء المحكوم عليه بالطهارة على الجزء

٢٥٠

الملاصق لهما في نظر الحسّ ، وإلّا لزمهم الحكم بالطهارة في غالب أفراد القليل ومعظم أحواله ، إذ الغالب من الملاقي ولو كان ساكنا وتساوى سطوحه اختصاص الملاقاة بما تحته إذا كان هو الوارد على النجس ، فيكون سائر الأجزاء المتواصلة واقعة في طرف الفوق ، فلو أنّ مجرّد هذه الفوقيّة توجب العصمة لقضى بما ذكرناه ، وهو باطل جزما.

وثالثها : قد عرفت في بحث الكرّ أنّ العلوّ قد يكون على جهة التسنيم وقد يكون على جهة الانحدار ، وتحتهما أفراد مختلفة في الظهور والخفاء ، وأخفى أفراد العالي ما لو كان من المنحدر ما توقّف سيلان الماء على الأرض على ارتفاع خفيّ لها بحيث يدقّ إدراكه على الحسّ ، وعبارات الأصحاب وإن كانت مطلقة في الحكم على الأعلى بعدم انفعاله بالأسفل ، غير أنّ انصراف ذلك الإطلاق إلى المفروض من المنحدر وما يشبهه محلّ إشكال ، كما أنّ المتيقّن من مورد الإجماع وصريح فتاوي الأصحاب ما لو كان عاليا على جهة التسنيم ، ودونه على وجه يعدّ من مصاديق الظاهر صورة الانحدار الّذي يكون ظاهرا في الأنظار ، وما عداهما ممّا فرض سابقا يبقى مشكوكا في حاله من حيث خروجه عن عموم قاعدة الانفعال وعدمه ، ولمّا كان دليل تلك القاعدة في عمومه ظاهر التناول لجميع أفراد المسألة الّتي منها المشكوك فيه فليحكم عليه بعدم الخروج عنها ، عملا بالظاهر السليم عمّا يصلح للمعارضة ، لعدم تبيّن التخصيص بالقياس إليه ، غايته بقاء الاحتمال فيرتفع بالأصل ، وممّن تنبّه على ما قرّرناه شيخنا الاستاد مدّ ظلّه في شرحه على الشرائع بقوله : « والمتيقّن من الإجماع صورة التسنيم وما يشبهه من التصريح ، وللتأمّل في غير ذلك مجال ، والتمسّك بالعموم أوضح ، وفاقا لظاهر كشف الغطاء (١) لصدق وحدة الماء ، فيدخل في عموم « ينجّسه » ، ولذا لو كان الماء على هذه الهيئة كرّا لم ينفعل شي‌ء منه بالملاقاة » (٢) انتهى.

وممّن صرّح بذلك أيضا الفاضل الكاظميني في شرحه للدروس ـ في عبارة محكيّة منه ـ حيث إنّه عند شرح قول المصنّف : « ولو كان الجاري لا عن مادّة » الخ ، قال : « بقى شي‌ء ، وهو أنّ إطلاق عدم النجاسة فيما فوقها غير جيّد ، إذ على تقدير تساوي السطوح وخصوصا مع كون حركة الماء ضعيفة ينجّس ما فوق النجاسة إذا

__________________

(١) كشف الغطاء : ١٨٧.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ١١٦.

٢٥١

نقص المجموع عن الكرّ » (١) انتهى.

وأمّا ما قيل ـ في دفع ذلك ـ : من أنّ إطلاقات الأصحاب وإطلاق الإجماعات المنقولة شاملة لمحلّ الفرض ، وهي وإن كانت معارضة لاطلاقاتهم في الانفعال القليل ، وإطلاق ادّعاء بعضهم عدم الفرق بين أفراد القليل في حكم الانفعال بالملاقاة ، إلّا أنّ الترجيح معها لتأييدها بالاصول والعمومات ، ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

وأنت بالتأمّل فيما قرّرناه تقدر على دفعه ، مع ما في إبداء المعارضة بين إطلاقات مسألتنا هذه وإطلاقات مسألة الانفعال ما لا يخفى من خروجه عن السداد ، فإنّ هذه الإطلاقات لو صحّت وتمّت دلالتها بحيث تشمل مفروض المسألة كانت بأنفسها قاطعة لاطلاقات الانفعال ، لرجوع النسبة فيما بينهما إلى العموم والخصوص المطلقتين كما لا يخفى ، ومعه لا يكون الحاجة ماسّة إلى التشبّث بالمرجّح الخارجي ، مع ما في الترجيح بما ذكر ممّا لا يخفى ، كما أشرنا إليه مرارا.

ولو سبق إلى الوهم شبهة أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، بتقريب : أنّ هذه الإطلاقات تشمل المستعلي من المضاف ، فتفترق من جهته ، وإطلاقات انفعال القليل تشمل غير المستعلي من الماء فتفترق به ، وتجتمعان في المستعلي من قليل الماء ، لدفعها : ما سنبيّنه في الفرع الآتي.

فإن قلت : هذا لا يجدي نفعا في المقام لبقاء تلك النسبة من جهة اخرى ، فإنّ اطلاقات المستعلي تشمل ما لو كان المستعلي من الماء كرّا وإطلاقات القليل تشمل غير المستعلي منه ، فيتعارضان في المستعلي من الماء إذا كان قليلا.

قلت : يندفع ذلك بملاحظة أنّ أكثر إطلاقات الانفعال بملاقاة النجاسة تشمل الكرّ وما دونه ، فتكون إطلاقات المستعلي أخصّ منها مطلقا.

ورابعها : في إلحاق المضاف بالماء في عدم نجاسة أعلاه بأسفله قولان ، أحدهما : ما اختاره أو مال إليه بعض أفاضل السادة في مناهله (٢) من عدم لحوقه به ، ناسبا له إلى بعض فضلاء معاصريه ، قائلا في عبارة محكيّة له : « فإذن احتمال سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى في المضاف في غاية القوّة ، كما ذهب إليه بعض فضلاء

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) مناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٢١٨.

٢٥٢

المعاصرين » ، ومستنده على ما في شرح الشرائع للأستاد (١) دعوى شمول إطلاق فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم على انفعال المضاف بالملاقاة لما إذا كان المضاف عاليا.

وأورد عليه الاستاذ : « بأنّ ظاهرهم تنجّس المضاف مطلقا على نحو تنجّس المطلق القليل ، بل الملاقاة في كلامهم غير معلوم الشمول لهذا الفرد ، خصوصا عند من لا يرى اتّحاد العالي مع السافل » (٢).

وثانيهما : ما رجّحه الشيخ الاستاذ في شرحه (٣) ، وفاقا لصريح السيّدين في المدارك ، والمصابيح ، والرسالة المنظومة (٤) ، قال في المدارك ـ في مسألة أنّ المضاف متى لاقته نجاسة نجس ، قليله وكثيره ـ : « ولا تسري النجاسة مع اختلاف السطوح إلى الأعلى قطعا ، تمسّكا بمقتضى الأصل السالم عن المعارض » (٥).

وكان مراده قدس‌سره بالأصل القاعدة المجمع عليها من عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، خصوصا إذا استند لها إلى عدم المعقوليّة كما عرفته عن ثاني الشهيدين في الروض (٦) ، وإلّا أشكل الحال في الجمع بين دعوى القطع والتمسّك بالأصل الّذي لا مجال له إلى إيراث القطع ، وعن المصابيح أنّه قال : « وكما أنّ المستعلي من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة لما تحته فكذا غيره من المائعات ، وقولهم : « النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى » يتناول الماء وغيره ، فلو صبّ من قارورة ماء الورد مثلا على يد الكافر اختصّ ما في يده بالتنجّس ، وكان ما في الإناء والخارج الغير الملاقي طاهرا إجماعا » (٧).

وعنه أيضا ـ في مسألة نفي الفرق بين الورودين : ـ « اعلم أنّ محلّ البحث هو القدر المتّصل بالنجاسة دون ما فوقه ، فإنّه طاهر إجماعا ، لأنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى قطعا ، سواء في ذلك الماء وغيره » (٨).

وفي إطلاق هذا الكلام شي‌ء يظهر وجهه بالتأمّل فيما قرّرناه سابقا ، من مفارقة

__________________

(١ و ٢ و ٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ٣٠١.

(٤) الدرّة النجفيّة : ٦ حيث قال :.

و ينجس القليل والكثير

منه ولا يشترط التغيير

إن نجسا لاقى عدا ما قد علا

على الملاقي باتّفاق من خلا

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١١٤.

(٦) روض الجنان : ١٣٦ ، تقدّم في الصفحة ٢٥٧.

(٧ و ٨) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة ٥٤ و ٤٩.

٢٥٣

مسألة الورودين كثيرا عن مسألة العالي والسافل ، وكلامه يقتضي المصادقة الدائمة وإلّا لم يكن [وجه] (١) لتخصيص محلّ البحث من مسألة الورودين بما يبدأ فيه الفرق بين القدر المتّصل بالنجاسة وما فوقه ، إلّا أن يكون مراده بالفوقيّة ما يتحقّق مع تساوي السطوح أيضا ، وقد عرفت القول فيه.

وكيف كان فالوجه في المسألة هو هذا ، خلافا لما عرفت عن المناهل ، عملا بإطلاق الإجماعات المنقولة ، على أنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى ، فإنّه يشمل المقام وسائر المائعات ممّا لا يندرج تحت المطلق ولا المضاف الّذي يطلق عليه الماء مجازا جزما ، بحيث يكون الاسترابة فيه دفعا للضرورة ، فعلى ثبوت العمل به تمّ الدليل واستقرّت الحجّة ، وليس للمخالف على ما عرفت إلّا إطلاقات الفتاوي ، والإجماعات المنعقدة على انفعال المضاف مطلقا ، ودفعه بعد ملاحظة أنّ إطلاقاتهم فتوى ودعوى للإجماع في الفرق بين العالي وغيره أخصّ مطلقا من تلك الإطلاقات هيّن.

لا يقال : النسبة بينهما ترجع إلى عموم من وجه ، لافتراق الاولى في الماء المستعلي ، وافتراق الثانية في المضاف الغير المستعلي ، فيجتمعان في المضاف المستعلي ، ويلزمه الترجيح بالخارج.

لأنّا نقول : مع إمكان ترجيح الاولى بموافقتها الأصل ، فيه منع واضح فإنّ ذلك إنّما يتّجه إذا لوحظت الثانية منفردة عن إطلاقات انفعال الماء القليل ، وأمّا إذا لوحظتا معا وهما متوافقان في الحكم كان إطلاقات المستعلي أخصّ منهما مطلقا فتخصّصهما معا ، ألا ترى أنّه لو قال : « أكرم الرجال » ، ثمّ قال : « أكرم النسوان » ، ثمّ قال ثالثا : « لا تكرم الفسّاق » ، كان ذلك الأخير مخصّصا للأوّلين معا إذا لوحظا منضمّين ، وإن كان بينه وبين كلّ واحد منهما إذا لوحظ منفردا عموما من وجه كما لا يخفى.

ويستفاد من الشيخ الاستاذ في الشرح المشار إليه (٢) : دعوى الضرورة والسيرة فيه وفي الماء ، وكون مسألة عدم السراية مركوزة في أذهان المتشرّعة ، وهو في الجملة ليس ببعيد خصوصا في الماء ، ثمّ إنّه دام ظلّه خصّ الحكم فيه وفي المطلق بما إذا كان العالي سائلا ، وأمّا مع وقوف العالي على السافل من دون سيلان كما لو أدخل إبرة

__________________

(١) أضفناها لاستقامة العبارة.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ٣٠٤.

٢٥٤

نجسة في قارورة من ماء الورد فنفي الإشكال فيه عن انفعال جميعه ، نافيا للخلاف عنه ، وهو أيضا ليس ببعيد بالنظر إلى ما قرّرناه في الفرع الثاني ، وإن كنّا رجّحنا خلافه في أصل المسألة ردّا على السيّد المتقدّم قدس‌سره ، فإنّ الظاهر أنّ ما ذكرناه ثمّة من الفرض داخل في عنوان متساوي السطوح من الوارد على النجاسة ، فتأمّل.

ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه على كلّ حال ، كما أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي ترك مراعاته فيما لا يكون الاختلاف بين الأعلى والأسفل على جهة التسنيم ، ولا سيّما ما كان من السافل له حركة ضعيفة كما في بعض صور الانحدار ، والله العالم ، هذا تمام الكلام في أوّل ما استثني من قاعدة انفعال القليل بالملاقاة.

والثاني : ممّا استثنى منها وفاقا في الجملة ماء الاستنجاء ، والمراد به ماء يغسل به موضع النجو ، يقال : استنجيت ، أي غسلت موضع النجو ، ومنه الاستنجاء أعني إزالة ما يخرج من النجو ، كذا في المجمع (١) ، والنجو ـ على ما فيه أيضا ـ الغائط ، ومنه الحديث لم ير للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نجو (٢) أي غائط ، وما بمعنى الحدث ومنه أنجى أي أحدث ، ولعلّه بهذا المعنى مخصوص بالغائط والبول أو يشملهما أيضا ، ومع الغضّ عنه فظاهر التفسير الأوّل اختصاصه بالغائط ، وعليه لا يتناول الاستنجاء إزالة البول وغسل موضعه ، ولكن الّذي يظهر من الأخبار كونه للأعمّ ، كما يشهد به صحيحة أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أبول ، وأتوضّأ ، وأنسى استنجائي ، ثمّ أذكر بعد ما صلّيت قال : « اغسل ذكرك ، وأعد صلاتك ، ولا تعد وضوءك » (٣).

ولا يبعد دعوى ثبوت الحقيقة الشرعيّة له في المعنى الأعمّ ، كما يفصح عنه صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا صلاة إلّا بطهور ، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله » (٤) ، فإنّه لو لا للأعمّ لما حاجة إلى قوله عليه‌السلام : « وأمّا البول الخ » ، إذ احتمال التجوّز ممّا لا يعتنى به

__________________

(١ و ٢) مجمع البحرين ؛ مادّة « نجو ».

(٣) الوسائل ١ : ٢٩٤ ب ١٨ من أبواب نواقض الوضوء ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤٦ / ١٣٣ ، وفيهما : بإسناد الشيخ عن محمّد بن الحسن الصفار ، عن أيّوب بن نوح عن صفوان بن يحيى قال : حدّثني عمرو بن أبي نصر إلخ.

(٤) التهذيب ١ : ٤٩ / ١٤٤.

٢٥٥

عند أهل اللسان ، فإنّما أتى به عليه‌السلام على عدم إرادة الأعمّ صونا له عن الوقوع في مخالفة الواقع لأجل فهمه الأعمّ كما هو دأب الحكيم فتأمّل.

وعلى فرض عدمه فهو في الأخبار حيثما تجرّد عن قرينة مخصوصة محمول على الأعمّ بقرينة فهم الأصحاب ، كما في أخبار الباب على ما ستعرفه من أنّهم في ذهابهم إلى طهارة الاستنجاء ، أو ثبوت العفو عنه يستندون إلى هذه الأخبار ، مع تصريحهم في عناوين المسألة بالتعميم بالنسبة إلى الحدثين ، ونقلوا إجماعاتهم على هذا المذكور صريحا في معاقدها كما سيأتي بيانها ، بل ظاهر تعليلاتهم فيما يأتي من مسألة التعميم بالنسبة إلى المخرجين يقتضي كونه للأعمّ باعتبار الوضع ، ولعلّه وضع شرعي كما أشرنا إليه ، وكيف كان فالبحث في ماء الاستنجاء مفروض عندهم في مسألتين :

المسألة الاولى : في أصل جواز مباشرته ، وعدم وجوب غسل الثوب والبدن عنه من جهة الصلاة وغيرها.

والمسألة الثانية : في أنّ هذا الجواز هل هو من جهة العفو ، حتّى لا ينافي نجاسته على قياس ما هو الحال في بعض أفراد الدم وغيره ، أو من جهة الطهارة وعدم انفعاله بمباشرة النجاسة ، ويظهر الفائدة في جواز استعماله في الشرب ونحوه ، واختصاص الجواز بحالة الصلاة لزوال مانعيّتها بدليل العفو ، كما في قليل الدم ، فتأمّل.

ولكن لمّا كان طريق الاستدلال على الحكمين واحدا على القول بعدم النجاسة ، فنحن نورد البحث عنهما في سياق واحد حذرا عن الإطالة بلا طائلة.

ونقول : الحقّ خروج ماء الاستنجاء عن قاعدة انفعال القليل إذا جامع الشروط الآتية ، سواء كان عن غائط أو بول ، والأصل في ذلك الروايات المستفيضة المعتضدة بالمستفيضة من الإجماعات ، مع الشهرة العظيمة.

منها : صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقع ثوبه على الماء الّذي استنجى به ، أينجّس ذلك ثوبه؟ فقال : « لا » (١).

ومنها : الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم المرويّ في التهذيب والكافي عن محمّد بن النعمان الأحوال قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أخرج من الخلاء ، فأستنجي

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٣ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٨٦ / ٢٢٨.

٢٥٦

بالماء ، فيقع ثوبي في ذلك الماء الّذي استنجيت به؟ فقال : « لا بأس به » (١) وعن الصدوق رواه باسناده عن محمّد بن نعمان وزاد في آخره « ليس عليك شي‌ء » (٢).

ومنها : ما في الوسائل عن الصدوق في العلل ، من مرسلة يونس بن عبد الرحمن عن رجل عن العيزار عن الأحول أنّه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الّذي استنجى به؟ فقال : « لا بأس » فسكت ، فقال : أو تدري ولم صار لا بأس به؟ فقلت : لا والله جعلت فداك ، فقال : « إنّ الماء أكثر من القذر » (٣) ، وتمام الحديث قد سبق في جملة الأخبار المتمسّك بها على عدم انفعال القليل ، وضعفه بالإرسال وجهالة العيزار ينجبر بموافقة الشهرة.

ومنها : صحيحة محمّد بن النعمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت أستنجي ، ثمّ يقع ثوبي فيه ، وأنا جنب؟ فقال : « لا بأس به » (٤) وكما يمكن أن يكون اعتبار الجنابة كناية عن وجود المني مع الحدث في المخرج ، فكان الاستنجاء غسالة عنهما معا ، فكذا يمكن كونه لتوهّم تأثير القذارة المعنويّة الحاصلة بالجنابة في نجاسة الماء المستنجى به ، وليس الأوّل أظهر من الثاني ، لعدم الملازمة عقلا ولا عادة بين الجنابة وتنجّس موضع الاستنجاء بالمني ، فيكون ذلك مجملا فلا يرد أنّه كما يدلّ على طهارة ماء الاستنجاء فكذلك يدلّ على طهارة الغسالة من المنيّ ، فينبغي القول بهما معا لا بأحدهما فقط ، فتأمّل.

وكيف كان فلا حاجة في تتميم الاستدلال إلى انضمام هذه الرواية ، لما في سوابقها من الكفاية ، ولا ريب أنّها على ما ادّعيناه واضحة الدلالة ، ولا يقدح فيها كون السؤال مخصوصا بالثوب ، لأنّ المنساق عرفا من أمثال هذه الأسئلة كون الجواب واردا عليها على وجه عامّ يشمل الثوب وغيره ، على معنى ورود الحكم فيه بعنوان كلّي ، وإن كان السبب الباعث على السؤال خاصّا ، أو لأنّ الفرق بين وقوع الثوب وغيره ممّا لا يعقل إلّا على فرض كون المراد الدلالة على العفو عن هذا النحو من المتنجّس ، كما في بعض

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢١ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٥ ـ التهذيب ١ : ٨٥ / ٢٢٣.

(٢) الفقيه ١ : ٤١ / ١٦٢.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ علل الشرائع : ١ / ٢٨٧.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٨٦ / ٢٢٧.

٢٥٧

أنواع الدم لا على عدم النجاسة ؛ إذ لولاه كان الفرق بين المقامين في التنجّس بذلك المتنجّس وعدمه غير معقول ، كما لا يخفى على المتأمّل ، أو لأنّ التعميم إنّما يثبت بالإجماع على عدم الفرق كما نقله غير واحد.

نعم ، ربّما يورد عليها بمعارضة رواية العيص بن القاسم ، قال : سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء ، فقال : « إن كان من بول أو قذر فليغسل ما أصابه » (١).

فاجيب عنها : بأنّها عامّة وروايات الباب خاصّة فيجب حملها عليها ، مضافا إلى ما في سندها من الكلام القادح حيث إنّها لم توجد في الكتب الأربعة ، ولم يظهر حال سندها فلعلّها لا تكون معوّلا عليها ، كذا ذكره المحقّق الخوانساري في شرح الدروس (٢).

أقول : ينبغي أن نشرح المقام ليتّضح به وجه المعارضة ، وانطباق الجواب عليها وعدمه ، والعمدة في ذلك بيان معنى « الوضوء » الوارد في السؤال ، قال في المجمع : « الوضوء بالفتح اسم الماء الّذي يتوضّأ به » ـ إلى أن قال ـ : « وقد يطلق الوضوء على الاستنجاء وغسل اليد وهو شائع فيهما ، ومن الأوّل حديث اليهودي والنصراني حيث قال فيه : وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ ، أي لا يستنجي ، ومن الثاني حديثهما في المؤاكلة حيث قال : إذا أكل من طعامك وتوضّأ فلا بأس ، والمراد به غسل اليد الخ » (٣).

وظاهره أنّ هذين الأخيرين تفسير للوضوء بالضمّ وهو مصدر ، ولا يبعد أن يقال : إنّ الآلة من هذين المعنيين أيضا هو الوضوء بالفتح ، بل لا محيص من حمله في الرواية عليه ، بناء على الحمل عليهما إذ المعنى المصدري لا يلائمه السؤال كما لا يخفى.

فانقدح بجميع ما ذكر أنّه عبارة إمّا عن الماء الّذي يتوضّأ به ، أو الماء الّذي يستنجى به ، أو الماء الّذي يغسل به اليد ، ويمكن إرادة مطلق الغسالة منه ، ومقتضى عبارة المجمع ـ بناء على ما قرّر في محلّه ـ كونه حقيقة في الأوّل ومجازا في الأخيرين المصدّر بيانهما بلفظة « قد » ، ولا ينبغي أن يكون مبنى المعارضة على المعنى الأوّل ، لبعده عن السؤال ومنافاته للجواب المفصّل بين البول والقذر وغيرهما منطوقا ومفهوما ، فلا بدّ أن يكون مبناها على المعنى الثاني وهو إرادة الاستنجاء ، وأمّا الجواب

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٤ ـ ذكرى الشيعة ١ : ٨٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٥.

(٣) مجمع البحرين ؛ مادّة « نجو ».

٢٥٨

عنها فمبناها على المعنى الثالث ، أو المعنى الأخير الّذي احتملناه ، وعليه كيف ينطبق الجواب على السؤال ، وكيف يقال : بأنّ الرواية عامّة ورواياتنا خاصّة ، خصوصا إذا حمل « القذر » على إرادة الغائط منه دون مطلق النجاسة كما هو الظاهر.

فالتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ لفظة « الوضوء » في متن الواقع إمّا حقيقة في جميع المعاني الأربعة ، أو حقيقة في الأوّلين ومجاز في الأخيرين ، أو حقيقة في الأوّل والأخيرين أو أحدهما ومجاز في الثاني ، أو حقيقة في الأوّل خاصّة ومجاز في البواقي ، ولا يتمّ الاستدلال بشي‌ء من الاحتمالات ، لأنّ الحمل على المعنى الأوّل ممّا لا مجال إليه بقرينة ما قرّرناه ، فهو متعذّر على جميع التقادير ، بل قد عرفت أنّ مبناه على المعنى الثاني ، وعليه يكون الدلالة على صحّة المعارضة متوقّفة على ارتكاب أمرين كلاهما على خلاف الأصل.

أحدهما : حمل الشرطيّة في الجواب على ما لا مفهوم لها ، بأن يكون المراد بالشرطيّة بيان تحقّق الموضوع ـ دون التعليق على الشرط القاضي بانتفاء الحكم في جانب المفهوم لانتفاء شرطه ـ حيث لا موضوع له في جانب المفهوم كما لا يخفى ، فيكون قوله عليه‌السلام : « إن كان من بول أو قذر فليغسل ما أصابه » على حدّ قولك : « إن رزقت ولدا فاختنه ، وإن رزقت مالا فاحمد الله ، وإن قدم زيد من السفر فاستقبله » ، وهو كما ترى مجاز لا يصار إليه إلّا مع القرينة المعيّنة.

وثانيهما : اعتبار التقييد في لفظة « قذر » بحملها على خصوص الغائط ، وهو أيضا خلاف الظاهر لظهورها في مطلق النجاسة ، ثمّ إنّه لو قلنا بكون لفظة « وضوء » حقيقة خاصّة في المعنى الأوّل لزم مجاز آخر فيه بحمله على المعنى الثاني ، فيلزم من بناء الاستدلال عليه ارتكاب تقييد ومجازين ، بخلاف ما لو حمل « الوضوء » على أحد الأخيرين فإنّه يستلزم مجازا واحدا ، ولا ريب أنّه أولى ومتعيّن ، ولو قلنا بكونه حقيقة فيهما أيضا أو في أحدهما قوى وجه ضعف الحمل المذكور.

نعم على الحمل عليهما يلزم تخصيص بإخراج ماء الاستنجاء عنه كما هو مبنيّ عليه الجواب ، ولكن لا يوجب ذلك قدحا في الحمل عليهما لكونه خلاف أصل واحد إن قلنا بالحقيقة فيهما أيضا ، أو خلاف أصلين إن قلنا بالمجازيّة فيهما ، وهو على كلّ تقدير يترجّح على حمله على المعنى الثاني ، بل التخصيص إنّما يلزم لو حملناه على الثاني من الأخيرين خاصّة كما لا يخفى ، فلم لا يحمل على الأوّل منهما ليكون خارجا

٢٥٩

عن المسألة بالمرّة.

ويؤيّده الحكم على الوضوء بكونه في الطشت الّذي هو إناء معروف ، فإنّ الغالب بين الناس إنّما هو غسل اليد في الطشت من البول وغيره من قذر وغيره ، وأمّا الاستنجاء عليه ففي غاية الندرة.

وإن قلنا بكون الوضوء حقيقة في الاستنجاء أيضا ومجازا في الأخيرين كانت المسألة من دوران الأمر بين تقييد ومجاز ، وتخصيص ومجاز ، فإن لم نقل بترجيح الثاني لكون التخصيص بنفسه أرجح فلا أقلّ من عدم ترجيح الأوّل ، ولازمه خروج الرواية مجملة لتكافؤ الاحتمالين ، ومعه لا استدلال.

وإن قلنا بكونه حقيقة في الجميع يكون المسألة من باب تعارض مجاز وتقييد معا في مقابلة التخصيص ، ولا ريب أنّ الثاني متعيّن ، ترجيحا لما هو راجح بنفسه وتقليلا لمخالفة الأصل ، ولو حملناه على الأوّل من الأخيرين خاصّة لم يلزم مخالفة أصل أصلا كما لا يخفى ، فلا سبيل إلى الحمل على المعنى الّذي عليه مبنى الاستدلال ، ومعه يبطل أصل الاستدلال.

هذا مع ما عرفت في الرواية من القدح في سندها ، مضافا إلى أنّها لو تمّت دلالتها واستقام سندها لم تكن صالحة لمعارضة ما سبق من روايات المسألة ، لكثرتها وصحّة أسانيد أكثرها ، واعتضادها بالعمل والشهرة العظيمة ، والإجماعات المنقولة.

نعم ، يبقى الكلام في شيئين :

أحدهما : تعميم الدليل بحيث يشمل استنجاء البول أيضا ، والأمر في ذلك هيّن بعد وضوح المدرك ؛ لشمول الأخبار كلا المقامين ، إمّا بأنفسها بناء على ما قرّرناه سابقا في شرح « الاستنجاء » ممّا يقتضي كون هذا اللفظ عامّا ، كما يستفاد من جماعة من أساطين الأصحاب كما تعرفه بملاحظة عباراتهم الآتية بعضها ، أو من جهة الخارج حيث لم نقف على مشكّك في ذلك ، مع استنادهم في الحكم إلى الأخبار المتقدّمة ، بل عباراتهم فيما نعلم مصرّحة بالتعميم ، وظاهرهم الاتّفاق على ذلك كما يشعر به عبارة المدارك : « استثنى الأصحاب من غسالة النجاسة ماء الاستنجاء من الحدثين » (١) ، ونسب

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٣.

٢٦٠