ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

الثامن : لو تغيّر الماء في أحد أوصافه بطاهر لم يخرج عن حكمه الأصلي من الطهارة والمطهّريّة ما دام باقيا على إطلاق اسم المائيّة ، دون ما إذا خرج عن الإطلاق ، فإنّه حينئذ وإن كان طاهرا ما لم يصبه ما أوجب تنجّسه ، إلّا أنّه خرج عن حكم المطهّريّة ، وكلّ ذلك في مرتبة الوضوح بحيث لا يحتاج إلى الاحتجاج ، وعن المحقّق في المعتبر تصريح بما ذكرناه في قوله ـ المحكيّ ـ : « لو مازج المطلق طاهر فغيّر أحد أوصافه لم يخرج بالتغيير عن التطهير ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء ، سواء كان ممّا لا ينفكّ عنه الماء كالتراب والطحلب والكبريت وورق الشجر ، أو ممّا ينفكّ كالدقيق والسويق ، أو من المائعات كاللبن وماء الورد والأدهان كالبرز والزيت ، أو ممّا يجاوره ولا يشيع فيه كالعود والمسك ؛ لأنّ جواز التطهير منوط بالمائيّة وهي موجودة فيه ؛ ولأنّ أسقية الصحابة الأدم وهي لا تنفكّ عن الدباغ المغيّر للماء غالبا ولم يمنع منها ؛ ولأنّ الماء لرطوبته ولطافته ينفعل بالكيفيّات الملائمة ، فلو خرج بتغيّر أحد الأوصاف عن التطهير لعسرت الطهارة ؛ ولأنّه لا يكاد ينفكّ عن التكيّف برائحة الإناء » (١) ، ويقرب من ذلك ما ذكره غير واحد من الأصحاب ، منهم الشهيد في الذكرى (٢).

وعلى قياس ما ذكرناه ما لو تغيّر الماء من قبل نفسه لطول مدّة مكثه فإنّه إن بقي على إطلاق اسمه عليه كان طاهرا مطهّرا ، وإلّا خرج عن المطهّريّة ، وعن المعتبر (٣) أيضا التصريح به ، مع تصريحه بكراهة استعماله إن وجد غيره ، مستندا في ذلك إلى رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الماء الآجن يتوضّأ منه ، إلّا أن تجد [ماء] غيره » (٤) ؛ ولأنّه يستخبث طبعا فكان اجتنابه أنسب بحال المتطهّر ، وفي منتهى العلّامة (٥) ما يقرب من ذلك فتوى وحجّة ، إلّا أنّه أضاف إلى الرواية المذكورة ما رواه الجمهور « أنّه عليه‌السلام توضّأ من بئر بضاعة وكان ماؤها نقاعة الحنّاء » (٦).

__________________

(١ و ٣) المعتبر : ٨.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٧٥.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٨ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٦ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٦.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٢٣.

(٦) المغني لابن قدّامة ١ : ٤٢ ـ سنن النسائي ١ : ١٧٤.

١٠١

ينبوع

ما عرفت من البحث في العنوانين المتقدّمين بحث يلحق نوع الماء بما هو هو من دون نظر إلى أقسامه الخاصّة المندرجة تحته ، فأحدهما : ما لحقه باعتبار خلقته الأصليّة من حيث إنّ خلقته هل هي على وصف الطهارة أو لا؟.

وثانيهما : ما لحقه باعتبار الطوارئ اللاحقة به من حيث قبوله من جهتها النجاسة وعدمه ، وقد عرفت ما هو التحقيق في كلا المقامين.

ثمّ ، إنّ هاهنا عناوين اخر مخصوصا كلّ واحد منها بقسم خاصّ من أقسامه المتقدّم إليها الإشارة في الجملة ، ومن جملة تلك العناوين ما هو مخصوص بالكثير الراكد في مقابلة القليل ، والبحث في هذا العنوان يلحقه من جهات :

الجهة الاولى : اختلف العلماء من الخاصّة والعامّة في تقدير الكثير الّذي لا يقبل الانفعال بمجرّد ملاقاة النجاسة ، ففي منتهى العلّامة (١) عن الشافعي وأحمد أنّهما ذهبا إلى تقديره بالقلّتين (٢) ، احتجاجا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا » (٣).

وعن أبي حنيفة (٤) : « إن كان الماء يصل بعضه إلى بعض نجس بحصول النجاسة فيه وإلّا فلا ، واختلف أصحابه في تفسير هذا الكلام ، فعن أبي يوسف والطحاوي تفسيره بحركة أحد الجانبين عند حركة الآخر وعدمها (٥) ، فالموضع الّذي لم يبلغ التحرّك إليه لا ينجّس.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٣٣.

(٢) أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٣ : ٣٤١ ، المغني لابن قدّامة ١ : ٥٢ ، بداية المجتهد ١ : ٢٤ ، التفسير الكبير ٢٤ : ٩٤ ، مغني المحتاج ١ : ٢١ ، تفسير القرطبي ١٣ : ٤٢ ، سنن الترمذي ١ : ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) سنن الترمذي ١ : ٩٧ / ٦٧ ـ سنن النسائي ١ : ١٧٥ ـ سنن الدارقطني ١ : ١٦ / ٧.

(٤) بداية المجتهد ١ : ١٣ ، سبل السلام ١ : ٢٠.

(٥) تفسير القرطبي ١٣ : ٤٢.

١٠٢

وعن بعضهم (١) تفسيره : بأنّ ما كان كلّ من طوله وعرضه عشرة أذرع في عمق بئر لا ينجّس ، فإن كان أقلّ نجس بالملاقاة للنجاسة ، وإن بلغ ألف قلّة.

وعن المتأخّرين من أصحابه (٢) القول بأنّ الاعتبار بحصول النجاسة علما أو ظنّا ، والحركة اعتبرت للظنّ ، فإن غلب ظنّ الخلاف حكم بالطهارة.

وعن الشيخين (٣) من أصحابنا والسيّد المرتضى (٤) وأتباعهم الذهاب إلى التقدير بالكرّ ، وعزاه إلى الحسن بن صالح بن حيّ عن محكي الطحاوي (٥) و (٦) ، ولعلّه لا خلاف في ذلك بين أصحابنا ، فهو الحقّ لوضوح فساد غيره ممّا ذكر ، مضافا إلى قيام أدلّة محكمة من الأخبار وغيرها على تقديره بالكرّ.

ومن جملة ذلك ما احتجّ به العلّامة في المنتهى قائلا : « لنا : ما رواه الجمهور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٧) ، وفي رواية « لم يحمل خبثا » (٨) ومن طريق الخاصّة ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٩) ، ولأنّ الأصل الطهارة خرج ما دون الكرّ

__________________

(١) شرح فتح القدير ١ : ٧١ ، ٧٠ ـ بدائع الصنائع ١ : ٧١ ، ٧٣ ـ عمدة القاري ٣ : ١٥٩ ، المبسوط للسرخي ١ : ٧١ ، سبل السلام ١ : ١٧.

(٢) أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٣ : ٣٤٠ ، التفسير الكبير ٢٤ : ٩٤.

(٣) المفيد في المقنعة : ٨ والطوسي في المبسوط ١ : ٦.

(٤) الجمل والعلم (رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٢) ـ الانتصار : ٨.

(٥) هو : أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة الأزديّ الحجريّ المصريّ الطحاويّ ، شيخ الحنفيّة ، روى عن هارون بن سعيد الأيلي وعبد الغني بن رفاعة وطائفة من أصحاب ابن عينية ، وروى عنه أحمد بن القاسم الخشّاب والطبراني ، له تصانيف كثيرة ، ولد سنة ٢٣٧ ه‍ ومات سنة ٣٢١ ه‍ تذكرة الحفّاظ ٣ : ٨٠٨ ؛ ـ شذرات الذهب ٢ : ٢٨٨ ـ ؛ وفيات الأعيان ١ : ٧١.

(٦) لم نعثر على حكاية الطحاوي فيما بأيدينا من المصادر ، ونقل السيد المرتضى في الانتصار : ٨ هذا القول من الكتاب الطحاوي الموسوم بـ « اختلاف الفقهاء ».

(٧) الفائق ٣ : ٢٥٨ ، غريب الحديث ـ للهروي ـ ١ : ٣٣٨.

(٨) سنن الترمذي ١ : ٩٧ ح ٦٧ ـ سنن النسائي ١ : ٤٦ ، سنن أبي داود ١ : ١٧ ح ٦٣ ـ سنن البيهقي ١ : ٢٦١ ـ مسند أحمد ٢ : ١٢ ـ سنن الدارقطني ١ : ١٤ ـ ١٥ ح ٢ ـ ٣.

(٩) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ رواه في التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩ بسند آخر ـ الاستبصار ١ : ٦ / ٢.

١٠٣

بما نذكره فيبقى الباقي على الأصل ، إلى أن يظهر مناف » (١) انتهى.

وإن كان هذا الوجه الأخير لا يخلو عن مناقشة من جهة أنّه بانفراده لا يصلح دليلا على أنّ الكثير الّذي لا ينفعل بالملاقاة هو الكرّ ، إلّا بضميمة الأخبار الفارقة بين الكرّ وما دونه ، ومعه يرجع الحجّة إلى الوجه السابق ، فلا يكون دليلا على حدّة كما لا يخفى.

نعم ، لو كان ما دلّ الأخبار على انفعاله بها مبيّنا ، وقدرا معيّنا بنفس تلك الأخبار فشكّ في حكم ما زاد عليه اتّجه الرجوع إلى الأصل ، ولكنّ المقام ليس منه ، لأنّ تعيين ما علم بانفعاله منوط بتعيين ما لا ينفعل ، ولا يتأتّى ذلك إلّا بالأخبار الفارقة ، وكيف كان فتحديد الكثير بما ذكر قد ورد ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ في أخبار كثيرة قريبة من حدّ التواتر.

منها : ما رواه الشيخ في التهذيب في باب آداب الأحداث ، وفي الاستبصار في باب القدر الّذي لا ينجّسه شي‌ء ، في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّه سئل عن الماء تبول فيه الدوابّ ، وتلغ فيه الكلاب ، ويغتسل منه الجنب؟ قال عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء ». (٢)

ومنها : نظيره في الكافي في باب الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء ، عن محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الّذي تبول فيه الدوابّ » (٣) الخ.

ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب في زيادات باب المياه ، في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله ، قال : قلت له : الغدير ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء والكرّ ستّمائة رطل » (٤).

ومنها : ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء في الركي كرّا لم ينجّسه شي‌ء ، قلت : وكم الكرّ؟ قال : ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاث أشبار ونصف عرضها » (٥).

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٣٤.

(٢) ـ الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٩ / ١٠٧ و ٢٢٦ / ٦٥١ الاستبصار ١ : ٦ / ١ و ٢٠ / ٤٥.

(٣) الكافي ١ : ٢ / ٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٦٠ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤.

١٠٤

وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة بالحسن بن صالح الثوري إلّا أنّها في حكم الصحيح بوجود ابن محبوب في سندها ، الّذي هو من أصحاب الإجماع ، ولي فيها بعد تأمّل يأتي وجهه في مسألة تحديد الكرّ.

ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب في باب زيادات المياه ، في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباهها تطأ العذرة ، ثمّ تدخل في الماء يتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ من ماء » (١).

ومنها : ما رواه في التهذيب أيضا في باب آداب الأحداث ، في الصحيح عن إسماعيل بن جابر ، قال : سألت أبا عبد الله عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء؟ قال : « كرّ » (٢).

وبالجملة : هذا الحكم بملاحظة تظافر الروايات الصحيحة عليه مع انضمام عمل الأصحاب عليها من قطعيّات الفقه الّتي لا يمكن الاسترابة فيها ، نعم ربّما يوجد في أخبارنا ما يقضي منها بما يخالف ذلك ظاهرا ، مثل ما في التهذيب في زيادات باب المياه ، في المرسل عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شي‌ء ، والقلّتان جرتان » (٣) ، وما رواه في الكافي ـ في الصحيح ـ عن زرارة قال : « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي‌ء الخ » (٤).

ولكن الأمر في ذلك هيّن بعد ملاحظة سقوط هذا النوع من الأخبار عن درجة الاعتبار ، من جهة كونها معرضا عنها الأصحاب كلمة واحدة ، مع ملاحظة ظهور احتمال خروجها مخرج التقيّة كما هو واضح في خبر القلّتين ، لموافقته مذهب الشافعي (٥) وأحمد (٦) من العامّة كما عرفت ، مضافا إلى إمكان تطرّق التأويل إليها بحمل القلّتين أو الراوية أو غيرهما على ما يسع مقدار الكرّ كما صنعه الشيخ في التهذيب (٧)

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٩٣ / ٤٠٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١١٥.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٦ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣٠٩ الاستبصار ١ : ٧ / ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٠ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٣ ـ التهذيب ١ : ٤٢ / ١١٧ ـ الاستبصار ١ : ٦ / ٤.

(٥ و ٦) ـ تقدّم في الصفحة ٩٢ الهامش رقم ٢.

(٧) التهذيب ١ : ٤١٥ ذيل الحديث ١٣٠٩.

١٠٥

وتصدّى لبيان تفصيله صاحب الحدائق (١) ، فمن أراده فعليه بمراجعة كلامه.

وكيف كان : فحكم المسألة واضح بحمد الله سبحانه ، ولا يقتضي لأجل ذلك زيادة كلام في تحقيقه.

الجهة الثانية : لا فرق فيما تقدّم من حكم عدم انفعال الكرّ بملاقاة النجاسة بين شي‌ء من أفراده حتّى ما في الحياض والأواني كما عليه المعظم ، وادّعى عليه الشهرة على حدّ الاستفاضة ، بل الإجماع في بعض العبائر ، بناء على شذوذ المخالف وانقطاع خلافه ، حيث لم ينسب الخلاف إلّا إلى المفيد (٢) والسلّار (٣) لمصيرهما إلى الانفعال في الحياض والأواني وإن كان كرّا.

لنا : عموم ما تقدّم من أخبار الكرّ المعتضد بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، والأصل المتقدّم تحقيقه ، مع عموم الروايات المتقدّمة ، القاضية بحصر الانفعال في التغيّر ، الصادق عليها قضيّة قولهم : « خرج ما خرج وبقى الباقي » ، الّذي منه الكرّ بجميع أفراده.

مضافا إلى خصوص ما في التهذيب والاستبصار والكافي عن صفوان الجمّال قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض الّتي ما بين مكّة إلى المدينة تردها السباع ، وتلغ فيها الكلاب ، وتشرب منها الحمير ، ويغتسل منها الجنب ، أيتوضّأ منها؟ فقال عليه‌السلام « وكم قدر الماء؟ قلت : إلى نصف الساق وإلى الركبة ، فقال عليه‌السلام : توضّأ منه » (٤).

وما تقدّم من رواية العلاء بن الفضيل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها؟ قال : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٥).

وما في التهذيب والفقيه عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى الماء فأتاه أهل الماء فقالوا : يا رسول الله إنّ حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لها ما أخذت بأفواهها ولكم سائر ذلك » (٦).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٠.

(٢) المقنعة : ٦٤.

(٣) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٢ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٧ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٤ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ، الاستبصار ١ : ٧ / ٧.

(٦) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٧ الفقيه ١ : ٨ / ١٠.

١٠٦

وما عن التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « ولا يشرب من سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه » (١).

وليس للمخالف إلّا ما حكي عنه من عموم النهي عن استعمال ماء الأواني مع ملاقاته الكرّ ، وكأنّ مراده به ما توهّمه عن روايات كثيرة :

منها : ما في الكافي عن شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها ـ « أنّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء » (٢).

ومنها : ما في التهذيب في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس ، إن لم يكن أصاب يده شي‌ء من المنيّ » (٣).

ومنها : ما في التهذيب أيضا في الموثّق عن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الدّن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو [ماء] (٤) كامخ أو زيتون؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » ، وعن الإبريق يكون فيه خمر أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » (٥).

ومنها : ما عن قرب الإسناد والوسائل عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية ، قال عليه‌السلام : « إذا غسله لا بأس » (٦).

ومنها : ما في التهذيب عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، قال : سألت أبا الحسن عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة ، قال : « يكفئ الإناء » (٧).

ومنها : ما في الكافي في الموثّق بسماعة بن مهران عن أبي بصير عنهم عليهم‌السلام قال : « إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس ، إلّا أن يكون أصابها قذر بول أو

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٥٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٢ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ الكافي ٣ : ١١ / ٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٣ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٣٧ / ٩٩.

(٤) هكذا في المصدر.

(٥) التهذيب ١ : ٢٨٣ / ٨٣٠ ـ الوسائل ٣ : ٤٩٤ ، ب ٥١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ الكافي ٦ : ٤٢٧ / ١.

(٦) الوسائل ٢٥ : ٣٦٩ ، ب ٣٠ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٥ ـ قرب الإسناد : ١١٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٤ / ٢١٢.

(٧) التهذيب ١ : ٣٩ / ٤٤.

١٠٧

جنابة ، فإن أدخلت يدك في الإناء وفيها شي‌ء من ذلك فأهرق ذلك الماء » (١). ومنها : ما في التهذيب والاستبصار في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال : « اغسل الإناء » الخ (٢).

ومنها : ما في التهذيب في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به ، قال : « يغسل سبع مرّات » (٣).

ومنها : ما في الكافي في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف وهويتوضّأ فقطر قطرة في إنائه هل يصلح للوضوء منه؟قال :«لا» (٤).

ومنها : ما في التهذيب والاستبصار عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه‌السلام : « يهريقهما ويتيمّم إن شاء » (٥).

ومنها : ما في التهذيب عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل قال : سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه‌السلام : « يهريقهما جميعا ويتيمّم » (٦).

ومنها : ما في التهذيب عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا ولغ الكلب في الماء أو شرب منه اهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرّات ، مرّة بالتراب ومرّتين بالماء ، ثمّ يجفّف » (٧).

ومنها : ما عن قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٢ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ الكافي ٣ : ١١ / ١.

(٢) الوسائل ١: ٢٢٦ ، ب ١ من أبواب الأسآرح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٤ الاستبصار ١ : ١٨ / ٣٩.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٦ ، ب ١ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٥٩.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٠ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ مسائل عليّ بن جعفر. ١١٩ / ٦٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٥١ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٤٩ / ٧١٣.

(٦) الوسائل ١ : ١٥٥ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤٨ / ٧١٢ وفي ١ : ٤٠٧ / ١٢٨١ أورده بسند آخر.

(٧) التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٥ وفيه : « عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا ولغ الكلب في الإناء فصبّه ».

١٠٨

سألته عن حبّ ماء وقع فيه أوقية بول ، هل يصلح شربه أو الوضوء؟ قال عليه‌السلام : « لا يصلح » (١).

والجواب أوّلا : بأنّه أخصّ من المدّعى لعدم شمول النهي المستفاد من الروايات ماء الحياض.

وثانيا : بكونه منزّلا على ما دون الكرّ بملاحظة الغلبة ، فإنّ الغالب في الإناء أنّها لا تسع الكرّ.

وثالثا : بأنّه لا يصلح للمعارضة لعموم ما دلّ على عدم انفعال الكرّ بالملاقاة ، وإن كان النسبة بينهما عموم من وجه ، لاعتضاد ذلك بعمل المعظم وإعراضهم عن الطرف المقابل ، سلّمنا ولكن أقلّه أنّه لا رجحان للطرف المقابل أيضا ، فيؤول الأمر إلى تساقط العامّين بالنسبة إلى مورد الاجتماع فيرجع في حكمه إلى الاصول ، لبقائها سليمة عن المعارض.

لا يقال : لا عموم في أخبار الكرّ بحيث يشمل الأواني ؛ لأنّ الغالب فيها عدم اتّساعها الكرّ ، فإنّ ذلك معارض بالمثل كما أشرنا إليه في ثاني الأجوبة.

ثمّ اعلم : أنّه ربّما ينزّل كلام المفيد والسلّار على ما يوافق المذهب المشهور ، فيستظهر بذلك الإجماع على عدم الفرق حسبما ادّعيناه ، كما في المدارك (٢) والرياض (٣) والمناهل (٤) وغيره ، وأوّل من فتح هذا الباب العلّامة في المنتهى ، فقال : « والحقّ أنّ مرادهما بالكثرة هنا الكثرة العرفيّة بالنسبة إلى الأواني والحياض الّتي تسقى منها الدوابّ ، وهي غالبا تقصر عن الكرّ » (٥).

ثمّ تبعه بعده صاحب المدارك (٦) وسلك هذا المسلك بعدهما صاحب الرياض (٧) وولده الشريف في المناهل (٨) ، وكتابه الآخر (٩) الحاضر عندنا الآن ، ونسبه في الرياض ١٠ إلى الشيخ الّذي هو تلميذ المفيد ، وحكاه صاحب الحدائق عن بعض مشايخه المحقّقين من متأخّري المتأخّرين فاستبعده قائلا : « بأنّه لا يخفى بعد ما استظهره قدس‌سره كما يظهر

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٦ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٩٧ / ٤٢٠.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٥٢.

(٣) رياض المسائل ١ : ١٣٦.

(٤) المناهل الورقة : ١٠٦ ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط). (٥) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٥٢. (٧ و ١٠) رياض المسائل ١ : ١٣٦.

(٨) المناهل : ١٠٦.

(٩) لم نعثر عليه.

١٠٩

ذلك لمن لاحظ عبارة المقنعة ، سيّما وقد قرن الحياض والأواني في تلك العبارة بالبئر ، مع أنّ مذهبه فيها النجاسة وإن بلغت كرّا » (١).

والحقّ كما فهمه رحمه‌الله ، ضرورة عدم كون الاستظهار المذكور في محلّه ، لكونه ممّا يأبى عنه العبارة المحكيّة عن المقنعة ، الظاهرة كالصريح بل الصريحة فيما أسند إليه من المخالفة.

فإن شئت لاحظ قوله : « وإذا وقع في الماء الراكد شي‌ء من النجاسات وكان كرّا وقدره ألف ومائتا رطل بالبغدادي ، وما زاد على ذلك لم ينجّس إلّا أن يتغيّر به ، كما ذكرنا في المياه الجارية ، هذا إذا كان الماء في غدير أو قليب ، فأمّا إذا كان في بئر أو حوض أو إناء فإنّه يفسد بسائر ما يموت فيه من ذوات الأنفس السائلة ، وبجميع ما يلاقيه من النجاسات ، ولا يجوز التطهّر به حتّى يطهّر ، وإن كان الماء في الغدران والقلبان دون ألف رطل ومائتي رطل جرى مجرى مياه الآبار والحياض الّتي يفسدها ما وقع فيها من النجاسات ، ولم يجز الطهارة به » (٢) انتهى.

والدليل على كون ذلك صريحا أو ظاهرا في غير ما فهمه الجماعة امور :

منها : ما نبّه عليه صاحب الحدائق كما عرفت.

ومنها : ما استدركه بقوله : « هذا إذا كان الماء في غدير أو قليب ، فأمّا إذا كان في بئر أو حوض أو إناء إلخ » ، فإنّه استدراك عمّا فرضه أوّلا من موضوع المسألة وهو الكرّ ، وخصّه بما كان في غدير أو قليب نظرا إلى أنّ الماء في قوله : « هذا إذا كان الماء » بقرينة سبق الفرض في خصوص الكرّ أراد به ذلك المفروض ، وإلّا لكانت الإشارة ودعوى الاختصاص كذبا ، فيكون الضمير في قوله : « فأمّا إذا كان في بئر إلخ » عائدا إلى ذلك الّذي اريد منه الكرّ ، وإلّا لما حصلت المطابقة بين الضمير والمرجع إلّا بتأويله إلى نوع من الاستخدام ، وهو كما ترى.

ومنها : قوله : « وإن كان الماء في الغدران والقلبان دون ألف رطل ومائتي رطل » فإنّه عطف على قوله : « وإذا وقع في الماء الراكد » باعتبار ما اخذ فيه من قيد الكرّيّة ، فلو لا الحكم في المعطوف عليه مخصوصا بالغدران والقلبان ولم يكن الكرّ من الحياض

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٢٦.

(٢) المقنعة : ٦٤.

١١٠

والأواني خارجا عن موضوع هذا الحكم لما كان لإفراد الغدران والقلبان في المعطوف بالذكر وجه ، بل لم يكن للتنبيه على حكم البئر والحوض والإناء قبل ذلك وجه لو كان مراده بها ما دون الكرّ خاصّة ، بل كان اللازم أن يسقط ما ذكره أوّلا ، ثمّ عمّم الحكم في المعطوف على وجه يشمل الحوض والإناء والبئر أيضا.

ومنها : قوله : « جرى مجرى مياه الآبار والحياض » فإنّ هذا التنظير لا يكون مستحسنا إلّا إذا غاير الفرع الأصل ذاتا ، ولا ريب أنّ مجرّد كون الماء في الغدير والقليب مع كونه في البئر والحوض مع فرض كونهما معا ما دون الكرّ لا يستدعي تلك المغايرة لكون الجميع حينئذ من واد واحد ، فلا وجه لتنظير بعضه على بعض ، فلا بدّ من أن يعتبر المغايرة بينهما بكون المراد من الأصل خصوص الكرّ أو ما يعمّه وما دونه ومن الفرع ما دونه خاصّة ، كما هو صريح الفرض بالنسبة إليه ، ولا ينافي شيئا من ذلك الوصف بالموصول في قوله : « والحياض الّتي يفسدها ما وقع فيها » بعد ملاحظة إمكان كونه وصفا توضيحيّا ، كما هو ظاهر المقام بملاحظة سياق الكلام.

ومثله في الصراحة أو الظهور ما حكي عن مراسم السلّار من قوله : « ولا ينجّس الغدران إذا بلغت الكرّ ، وما لا يزول الحكم بنجاسته فهو ما في الأواني والحياض ، فإنّه يجب إهراقه وإن كثر » (١) انتهى.

فإنّ التعبير بـ « ما لا يزول الحكم بنجاسته فهو إلخ » ، تصريح بأنّ هذا الحكم من لوازم الماهيّة بالنسبة إلى ما في الأواني والحياض الّتي لا تنفكّ عنها أبدا ، وقضيّة ذلك تعدّي الحكم إلى ما يبلغ منه حدّ الكرّ أيضا ، كما أوضحه بقوله : « وإن كثر ».

ودعوى : أنّ الكثرة هنا مراد بها العرفيّة الصادقة على ما دون الكرّ أيضا.

يدفعها : ظهور السياق أوّلا ، وكون إفراد ما في الأواني والحياض بالذكر لغوا ثانيا ، لجريان الحكم المذكور في كلّ ما يكون دون الكرّ جزما.

وربّما يظهر من عبارة الشيخ في النهاية موافقته لهما في الأواني خاصّة ، وهي على ما في محكيّ الحدائق (٢) قوله : « والماء الراكد على ثلاثة أقسام ، مياه الغدران والقلبان

__________________

(١) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٢٢٧.

١١١

والمصانع (١) ومياه الأواني المحصورة ومياه الآبار ، فأمّا مياه الغدران والقلبان فإن كان مقدارها مقدار الكرّ فإنّه لا ينجّسها شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونها أو طعمها أو ريحها ، وإن كان مقدارها أقلّ من الكرّ فإنّه لا ينجّسها كلّ ما وقع فيها من النجاسة ، وأمّا مياه الأواني المحصورة فإن وقع فيها شي‌ء من النجاسات أفسدها ، ولم يجز استعمالها ». انتهى ملخّصا (٢).

وجه الدلالة في ذلك : أنّه فصّل في الحكم بالنجاسة وعدمها بالنسبة إلى الغدران والقلبان بين ما كان منها قدر الكرّ وما دونه ، وتنحّى عن هذا المسلك في خصوص الأواني فأطلق فيها الحكم بالنجاسة ، وقضيّة ما عنه ـ من أنّ طريقته في النهاية أنّه لا يذكر فيها إلّا متون الروايات من غير تفاوت ، أو مع تفاوت يسير لا يخلّ بالمعنى ـ كون هذه الجملة مضمون الرواية وإن كانت مرسلة.

ولكن يضعّفه : ما سبق في منع الاحتجاج بما تقدّم من الروايات في تفصيل بيان حجّة المفيد والسلّار ، مع إمكان أن يقال : إنّ مراده بالأواني خصوص ما لا يسع الكرّ. كما يفصح عنه الوصف ، نظرا إلى أنّ الحصر ممّا لا معنى له ظاهرا إلّا الضيق ـ كما هو أحد معانيه المذكورة في كلام أهل اللغة ـ فيراد بالأواني المحصورة الأواني الضيّقة. فليتدبّر.

الجهة الثالثة : إذ قد عرفت أنّ فائدة ما أسّسناه في أوّل عناوين الكتاب من الأصل العامّ المستنبط عن عمومات طهارة الماء وطهوريّته ، تظهر فيما لو شكّ فيهما من جهة الطواري بعد إحراز الإطلاق وصدق الاسم بالتفصيل الّذي تقدّم بيانه ، فهل يجوز إجراء هذا الأصل في مشكوك الكرّيّة وعدمها من جهة الشكّ في المصداق ، كما لو وجد الماء في غدير ابتداء وكان مردّدا بين الكرّ وما دونه ، أو في اندراج المشكوك فيه تحت موضوع الكرّ باعتبار الشبهة في شرطيّة شي‌ء له ، أو للحكم المعلّق عليه ، كالوحدة والاجتماع وتساوي السطوح ونحوه ممّا اختلف في اعتباره في الكرّ موضوعا أو حكما ـ على ما ستعرف تفصيله ـ أو لا؟ وجهان :

أوّلهما : ما يظهر عن الرياض حيث قال ـ في الكتاب مستدلا على ما اختاره في

__________________

(١) الصنع بالكسر الموضع الّذي يتّخذ الماء والجمع أصناع ، ويقال له مصنع ومصانع ، والمصنع ما يضع مجمع الماء كالبركة ونحوها ، والجمع مصانع ، كذا في المجمع (منه).

(٢) النهاية : ٣ ـ ٤.

١١٢

المسألة الآتية من كفاية الاتصال مطلقا في عدم انفعال الكثير بالملاقاة ، وعدم اشتراطه بتساوي السطوح مطلقا ـ : « بأنّ ذلك إمّا بناء على اتّحاد الماءين عرفا وإن تغايرا محلّا فيشمله عموم ما دلّ على عدم انفعال الكرّ ، أو بناء على عدم العموم فيما دلّ على انفعال القليل ، نظرا إلى اختصاص أكثره بصور مخصوصة ليس المقام منها ، وظهور بعض ما لم يكن كذلك في المجتمع وعدم ظهور غيره في غيره بحيث يشمل المفروض ، فيسلم حينئذ الأصل والعمومات المقتضية للطهارة بحالها » (١).

وذكر نظير ذلك عقيب ما ذكر عند دفع استدلال من ذهب في عدم انفعال الكرّ إلى اشتراط المساواة » (٢).

ثمّ وافقه على ذلك جماعة ممّن عاصرناهم وغيرهم ومنهم شيخنا في الجواهر ، فقال : « متى شكّ في شمول إطلاقات الكرّ لفرد من الأفراد وشكّ في شمول القليل فلم يعلم دخوله في أيّ القاعدتين ، فالظاهر أنّ الأصل يقضي بالطهارة وعدم تنجّسه بالملاقاة ، نعم لا يرفع الخبث به بأن يوضع المتنجّس فيه كما يوضع في الجاري والكثير ، وإن كان لا يحكم عليه بالنجاسة بمثل ذلك بل يحكم عليه بالطهارة ، فيؤخذ منه ماء ويرفع به الخبث على نحو ما يرفع بالقليل ، ولا مانع من رفع الحدث به لكونه ماء طاهرا ، وكلّما كان كذلك يجري عليه الحكم ، وكان السبب في ذلك أنّ احتمال الكرّيّة فيه كافية في حفظ طهارته وعدم نجاسته بملاقاة النجاسة » (٣).

وثانيهما : ما صار إليه شيخنا الآخر في شرحه للشرائع ، قائلا ـ بعد ما أفاد طريق المسألة حسبما نشير إليه إجمالا ـ : « بأنّه لا بدّ من الرجوع إلى أصالة الانفعال عند الشك في الكرّيّة ، سواء شكّ في مصداق الكرّ أو مفهومه ، كما إذا اختلف في مقدار الكرّ أو في اعتبار اجتماعه أو استواء سطوح أجزائه ولم يكن هناك إطلاق في لفظ الكرّ « نحوه ليرجع إليه » (٤).

ثمّ عزاه بعد كلام طويل في إثبات تلك المقالة إلى جماعة من أصحابنا ، حيث قال :

__________________

(١ و ٢) رياض المسائل ١ : ١٣٧.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٣١٩.

(٤) وهو الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سرّه في كتاب الطهارة : ١ : ١٦٠.

١١٣

« ولأجل بعض ما ذكرنا أفتى جماعة كالفاضلين (١) والشهيد (٢) بنجاسة الماء المشكوك في كرّيّته ، نظرا إلى أصالة عدم الكرّيّة الحاكمة على استصحاب طهارة الماء » (٣) الخ.

وممّن يظهر منه الموافقة له في تلك المقالة صاحب الحدائق (٤) حيث إنّه بعد ما بنى في المسألة الآتية على التوقّف ، حكم في حكم موضوع المسألة بالاحتياط المقتضي للتحرّز عن مثل هذا الماء ، بل هو صريح جماعة آخرين منهم صاحب المعالم (٥) وغيره.

وتحقيق المقام : مبنيّ على النظر في أنّ مفاد الأخبار الفارقة بين الكرّ وما دونه بانفعال الثاني دون الأوّل ، هل هو مانعيّة الكثرة الكرّيّة عن الانفعال أو شرطيّة القلّة للانفعال؟ فعلى الأوّل يترتّب الحكم في موضع الشكّ بالانفعال ، لضابطتهم المقرّرة من أنّ المانع المشكوك في وجوده محكوم عليه بالعدم ، فيتفرّع عليه خلاف مقتضاه من عدم الانفعال ، وعلى الثاني يترتّب الحكم في موضع الشكّ بعدم الانفعال ، لمكان أنّ الشرط المشكوك في تحقّقه يحكم عليه بالعدم ، فيتفرّع عليه الحكم بخلاف المشروط به.

أو على النظر في أنّ مفاد الأدلّة المخرجة للقليل عن العمومات القاضية بالطهارة وعدم الانفعال بشي‌ء هل هو شرطيّة الكرّيّة لعدم الانفعال؟ حتّى يكون المجموع من المخصّص والمخصّص نظير ما لو قيل : « أكرم العلماء إن كانوا عدولا » ، أو شرطيّة القلّة للانفعال حتّى يكون المجموع من المخصّص والمخصّص نظير ما لو قيل : « أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم » ، حيث إنّ الفسق في ذلك شرط لعدم وجوب الإكرام.

والّذي يساعد عليه النظر ، ويقتضيه أدلّة الباب عموما وخصوصا ، أنّ الحقّ ما فهم الأوّلون خلافا للآخرين ، وأنّ أصل الطهارة ممّا لا مجال إلى رفع اليد عنه ما دام محكّما ـ كما سبق ـ وجاريا كما في المقام ، والوجه في ذلك أنّ الظاهر المنساق من العمومات المحقّقة لذلك الأصل كون الطهارة وعدم قبول الانفعال إنّما هو من مقتضى الطبيعة المائيّة بحسب خلقتها الأصليّة كما يفصح عنه التعبير بالخلق في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله الماء

__________________

(١) وهما العلّامة في منتهى المطلب ١ : ٥٤ والمحقّق في المعتبر : ١١.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨١.

(٣) وهو الشيخ مرتضى الأنصاري قدس‌سره في كتاب الطهارة : ١ : ١٦٢.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٢٣٤.

(٥) فقه المعالم ١ : ١٣٥.

١١٤

طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١) ، وبالإنزال في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٢) ، فيكون الماهيّة بما هي هي مقتضية للطهارة ، وظاهر أنّ المقتضي ما دام لم يصادف ما يزاحمه من الموانع أو الروافع كان على اقتضائه ، والتغيير مع ملاقاة النجاسة حيثما وجدا رافعان لذلك المقتضي ، وحاجبان عن الاقتضاء ، غاية الأمر أنّ الأوّل معتبر لا بشرط شي‌ء من الكرّيّة ولا عدمها ، والثاني معتبر بشرط القلّة.

وممّا يدلّ على رافعيّة التغيّر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله الماء طهورا (٣) الخ » ، وكما أنّ مفاد التخصيص هنا بحكم ظاهر العرف كون التغيّر رافعا ، فكذلك مفاد أدلّة انفعال القليل من المفاهيم والمناطيق الواردة في مواضع خاصّة أيضا كون الملاقاة دافعة للطهارة بشرط القلّة ، غاية الأمر أنّ التخصيص في الأوّل قد حصل بمخصّص متّصل وفي الثاني بمخصّص منفصل ، فيكون مفاد العمومات مع هذين المخصّصين ـ بعد الجمع بينهما ـ : كلّ ماء طاهر لا ينجّسه شي‌ء ولا يرفع طهارته إلّا تغيّره بالنجاسة مطلقا ، أو ملاقاته لها بشرط القلّة.

وإنّما فصّل بينهما باعتبار الأوّل مطلقا والثاني مشروطا ، لأنّ التغيّر يكشف عن تضاعف النجاسة واستيلائها على الماء بحسب المعنى ، فيضعف المقتضي ويخرج عن اقتضائه ، لعدم كون الطبيعة المائيّة علّة تامّة للطهارة حتّى لا يجامعها رافع ، وقضيّة ذلك عدم الفرق فيه بين الكثرة والقلّة ، بخلاف مجرّد الملاقاة فإنّه في التأثير لا يبلغ مرتبة التغيّر فلا يضعف به المقتضي إلّا مع انتفاء الكثرة ، ولا أنّه يخرج عن فعليّة الاقتضاء إلّا مع القلّة.

وأصرح من ذلك في الدلالة على المختار ما رواه المحمّدون الثلاث بطرق متكثّرة من قولهم عليهم‌السلام : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٤) ، فإنّ تعليق الحكم بالطهارة في كلّ ماء على غاية العلم بالقذارة صريح في أنّ ما لم يعلم بقذارته كائنا ما كان محكوم عليه بالطهارة ، فلو كان الانفعال هو الأصل في موضع الشكّ لما كان لذلك وجه ، بل كان

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٤ ـ الوسائل ١ : ١٣٥ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩.

(٢) الفرقان : ٤٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٥ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢١ ـ الكافي ٣ : ١ / ٣.

١١٥

يجب أن يعلّق الحكم بالقذارة على غاية العلم بالطهارة ، ويقال : الماء كلّه قذر حتّى يعلم أنّه طاهر ، كما هو مفاد القول بأنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال وأنّ القلّة ليست شرطا في الانفعال ، وأنّ المشكوك فيه المردّد بين الكرّيّة والقلّة يلحق بقاعدة الانفعال لا أصالة الطهارة وهو كما ترى ، وقضيّة كلّ ذلك كون التغيّر والملاقاة رافعين للطهارة المعلومة بالشرع مع اشتراط الثاني في رافعيّته بالقلّة.

والاحتجاج على أنّ الكرّيّة في موضوع المسألة مانعة عن الانفعال ، بأنّ المستفاد من الصحيح المشهور « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) أنّ الكرّيّة علّة لعدم التنجيس ، ولا نعني بالمانع إلّا ما يلزم من وجوده العدم.

يدفعه : منع ذلك ؛ بأنّ ذلك كما أنّه محتمل لأن يكون من جهة أنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال ، فكذلك محتمل لأن يكون الكرّ ملزوما لانتفاء شرط الانفعال ، فالكرّ لا ينفعل إمّا لأنّه علّة لعدم الانفعال ، أو لأنّه ملزوم لانتفاء شرط الانفعال ، فكيف يستفاد منه العلّيّة على التعيين؟

فإن قلت : قد تقرّر في الاصول أنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في سببيّة المقدّم للتالي ، فلا يمكن رفع اليد عن هذا الظهور بلا صارف.

قلت : قد علمنا بملاحظة أدلّة التغيّر أنّ الكرّيّة ليست بعلّة تامّة بل هي جزء للعلّة ، وهي مركّبة عنها وعن عدم التغيّر ، فكما أنّ استعمال أداة التعليق ـ الظاهرة في العلّيّة ـ في مجرّد التلازم بين المقدّم وانتفاء شرط نقيض التالي مجاز وإخراج لها عن الظهور ، فكذلك استعمالها في شرطيّة المقدّم للتالي وكونه جزءا للعلّة أيضا مجاز وعدول عن الظاهر ، فيبقى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢) الظاهر في كون القلّة شرطا للانفعال ـ كما يعترف به المدّعي لكون الكرّيّة مانعة عن الانفعال ـ مرجّحا للمجاز الأوّل ، إن لم نقل بأنّه في نفسه أرجح ، نظرا إلى أنّ التلازم أقرب إلى العلّيّة وأشبه بها من حيث اقتضائه اللزوم في الوجود والعدم معا من

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩ ـ الاستبصار ١ : ٦ / ٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٥ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩.

١١٦

الشرطيّة الّتي لا يقتضي اللزوم إلّا في جانب العدم.

ودعوى : أنّ نفس قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (١) دالّ على عدم شرطيّة القلّة ، من جهة أنّه يقضي بأنّ الخارج عن عمومات الطهارة إنّما هو القلّة ، وهي أمر عدمي لا يصلح لأن يكون شرطا ، فإذا انتفى احتمال كونها شرطا تعيّن كون الكرّيّة مانعة.

يدفعها : منع عدم كون الأمر العدمي صالحا للشرطيّة ، كما يشهد به قولهم : « بأنّ عدم المانع شرط » ، كيف وأنّ ثبوت كون الامور العدميّة معتبرة بعنوان الشرطيّة في الشريعة في الكثرة ما لا يكاد ينكر ، ألا ترى أنّهم يقولون ـ عند تعداد شرائط النيّة المعتبرة في العبادة ـ : أنّ استمرار النيّة شرط فيها ، ويفسّرونه بعدم قصد المنافي وعدم التردّد في أثناء العمل ، والقول بأنّ الأمر العدمي لا يصلح للتأثير في الوجود مخصوص بما كان عدميّا صرفا غير متشبّث بالوجود ، والقلّة ليست منه لأنّها عبارة عن عدم الكثرة فيما من شأنه الكثرة ، فيكون متشبّثا بالوجود لاقترانه بشأنيّة الوجود ، مع أنّ الشروط الشرعيّة كثيرا ما تكون من باب المعرّفات دون المؤثّرات ، فلعلّ المقام منها.

وبالجملة : رفع اليد عن ظهور مثل « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء الخ » (٢) « والماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » ٣ وما أشبه ذلك المقتضي لكون الماء بما هو هو مأخوذا عنوانا لحكم الطهارة ، وأنّ ما خالفه من أفراده في ذلك الحكم فإنّما هو مخرج عنه بالتخصيص ، ومن المقرّر أنّ كلّ ما يشكّ في خروجه له بالتخصيص مع إحراز دخوله في أصل العنوان ـ كما هو مفروض الكلام ـ يحكم عليه بعدم الخروج لأصالة عدم التخصيص.

فما يقال : من أنّ تلك العمومات ليست من قبيل ما كان عنوان العامّ مقتضيا للحكم وعنوان المخصّص مانعا ، فليس بسديد جدّا.

ولا ينافيه « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » إذا كان المراد منه بيان أقلّ مراتب ما هو ملزوم لانتفاء عنوان المخصّص ، فاعتبار الكرّ ليس من باب أنّه بالخصوص عنوان ينشأ منه الحكم ، بحيث لو شكّ فيه في موضع كان ذلك شكّا في

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٣٥ و ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩ و ٥.

١١٧

المقتضي ، مانعا عن الأخذ بالمقتضي ، بل المقتضي في الحقيقة هو عنوان المائيّة ، فيوجد المقتضي حيثما وجد وينتفي حيثما انتفى ، والكرّيّة إنّما اعتبرت ميزانا لمعرفة أنّ الكرّ هو أقلّ مراتب ما يسلم من هذا العنوان العامّ عمّا يزاحمه في فعليّة الاقتضاء.

ولو سلّم فمقتضى الجمع بين منطوق هذه الرواية ومفهومها تنوّع هذا العنوان إلى نوعين وانكشاف عدم كونه بما هو هو عنوانا في الشريعة ، بل العنوان الّذي يدور عليه الحكم إنّما هو النوعان المذكوران ، أحدهما : ما هو موضوع المنطوق وهو الماء البالغ حدّ الكرّ ، وثانيهما : ما هو موضوع المفهوم وهو الماء الغير البالغ هذا الحدّ. وقضيّة ذلك : كون المشكوك في كرّيّته كائنا ما كان مجملا مصداقيّا مردّدا بين كونه من أفراد هذا النوع ، أو ذاك النوع ومعه فكما لا يمكن إلحاقه بالنوع الأوّل فكذا لا يمكن إلحاقه بالنوع الثاني.

وقضيّة ذلك لزوم الرجوع إلى الاصول العمليّة من احتياط كما صار إليه صاحب الحدائق ـ فيما عرفت (١) ـ بناء على مذهبه فيما لا نصّ فيه من كون المرجع فيه هو الاحتياط ، أو استصحاب للطهارة السابقة ونحوها ، لا الحكم عليه مطلقا بالانفعال إلّا فيما لو كان مسبوقا بالقلّة وشكّ في بلوغه حدّ الكرّ ، فإنّ اللازم حينئذ أن يترتّب عليه أحكام ما دون الكرّ ، عملا بالأصل الموضوعي الوارد على الأصل الحكمي كما قرّر في محلّه.

وأنت خبير بأنّ موضوع المسألة لا ينحصر أفراده في مثل ذلك بل هو في الحقيقة خارج عن هذا الموضوع ؛ إذ لا أظنّ أحدا يقول في مثله بالطهارة عملا بالأصل المستفاد من العمومات ، ولا يكون ذلك من باب تخصيص العامّ بالأصل العملي حتّى يقال : بمنع ذلك عندهم ، بل المخصّص له في الحقيقة إنّما هو أدلّة انفعال القليل ، والعمل بالأصل المذكور تعميم في موضوع تلك الأدلّة بدعوى : أنّ القليل المحكوم عليه بالانفعال أعمّ من أن يكون كذلك بحسب الواقع أو بحسب الشرع ، عملا بعموم أدلّة الاستصحاب القاضية بأنّه ممّا جعله الشارع طريقا للمكلّف إلى إحراز الواقع من موضوع أو حكم ، وأقامه مقام العلم بالواقع الحاكمة على سائر الأدلّة المقتضية لاعتبار الواقع بطريق علمي ، فليتدبّر.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٣٤.

١١٨

فبجميع ما قرّرناه ينقدح أنّ ما تقدّم عن الفاضلين (١) والشهيد (٢) من إفتائهما بنجاسة الماء المشكوك في كرّيّته عملا بأصالة عدم الكرّيّة على إطلاقه ليس على ما ينبغي ؛ إذ لا معنى لأصالة عدم الكرّيّة فيما لم يكن مسبوق بالقلّة ، بل أصالة الطهارة الأصليّة في مثله هو الأصل المعوّل عليه ، السالم عن المعارض.

فبالجملة : أصل الطهارة سواء أردنا منه الأصل الاجتهادي المستفاد من عمومات الطهارة ، أو الأصل العملي المعبّر عنه بالاستصحاب ، ممّا لا يمكن الإغماض عنه في مواضع الشبهة والدوران وانسداد الطرق العلميّة ، لإجمال في المصداق ، أو الصدق ، أو المفهوم بالنظر إلى عنوان الكرّيّة وما يقابله.

الجهة الرابعة : بعد ما عرفت أنّ مقدار الكرّ من الماء من حكمه أن لا ينفعل بمجرّد الملاقاة ، فهل يعتبر فيه مساواة سطوحه أو يكفي مجرّد اتّصال بعضه بعضا ولو مع الاختلاف في سطوحه؟ وعلى الثاني فهل يعتبر في كفاية الاتّصال أن لا يكون الاختلاف المفروض معه فاحشا بيّنا بحيث يخفى على الحسّ أو يصعب عليه إدراكه ، أو أنّ الاختلاف غير مضرّ ولو فاحشا بيّنا للحسّ؟

وعلى الثاني فهل يعتبر فيه أن يكون بطريق الانحدار كما لو كان الماء في أرض منحدرة ، أو لا يضرّ الاختلاف ولو كان على طريق التسنيم ، كما لو سال الماء إلى الأرض في ميزاب ونحوه من الأراضي المرتفعة الّتي يجري منها الماء إلى ما تحتها بطريق التسنيم كالجبل وما أشبهه؟ وعلى التقادير فهل معنى كفاية مجرّد الاتّصال وعدم مضرّيّة الاختلاف كون كلّ من الأعلى والأسفل متقوّما بالآخر فلا ينفعل شي‌ء منهما إذا لاقته النجاسة ، أو كون الأسفل متقوّما بالأعلى دون العكس ، فينفعل الأعلى بالملاقاة إن كان أقلّ من الكرّ دون العكس؟ وجوه :

قد وقع الخلاف بينهم في كثير منها ، ولكن ينبغي النظر في معرفة تفصيل أقوالهم وتشخيص موضع الخلاف عن موضع الوفاق في عبائرهم حسبما وقفنا عليه نقلا وتحصيلا ، ولكنّ الّذي يظهر بالتتبّع ـ وصرّح به غير واحد ـ أنّ المسألة لم تكن معنونة في كلام قدماء

__________________

(١) وهما : العلّامة في منتهى المطلب ١ : ٥٤ والمحقّق في المعتبر : ١١.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨١.

١١٩

أصحابنا ، وإنّما حدث تدوينها ولو بنحو الإشارة من المتأخّرين عن زمن العلّامة رحمه‌الله إلى هذه الأزمنة ، كما أنّه يظهر أيضا عدم الفرق عند المتأخّرين ـ بناء على عدم اعتبار المساواة ـ بين اختلاف الانحدار والتسنيم ، بل عدم الفرق بين ما لو كان الاختلاف فاحشا وغيره.

نعم ، حصل الاختلاف بينهم في مقامين ، أحدهما : أصل اشتراط المساواة وعدمه ، وثانيهما : الفرق ـ بناء على عدم الاشتراط ـ بين الأعلى والأسفل في تقوّم كلّ بالآخر وعدمه.

أمّا المقام الأوّل :

فمحصّل خلافهم فيه يرجع إلى أقوال ثلاث :

أحدها : القول بعدم الاشتراط ، وقد صرّح به الشهيد الثاني في كلام محكيّ له عن الروض ، قائلا : « وتحرير المقام أنّ النصوص الدالّة على اعتبار الكثرة مثل قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) وكلام أكثر الأصحاب ليس فيه تقييد الكرّ المجتمع بكون سطوحه مستوية ، بل هو أعمّ منه ومن المختلف كيف اتّفق » ، ثمّ قال : ـ بعد كلام مطويّ له ـ « والّذي يظهر لي في المسألة ودلّ عليه إطلاق النصّ ، أنّ الماء متى كان قدر كرّ متّصلا ثمّ عرضت له النجاسة لم تؤثّر فيه إلّا مع التغيّر ، سواء كان متساوي السطوح أو مختلفها » (٢) الخ.

وتبعه في ذلك سبطه السيّد في المدارك ، قائلا ـ بعد ما أسند إلى اطلاق كلامي المحقّق والعلّامة في المعتبر (٣) والمنتهى (٤) أنّه يقتضي عدم الفرق بين مساواة السطوح واختلافها ، فيكون كلّ من الأعلى والأسفل متقويا بالآخر ـ : « بأنّه ينبغي القطع بذلك إذا كان جريان الماء في أرض منحدرة ، لاندراجه تحت عموم قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٥) فإنّه شامل لتساوي السطوح ومختلفها ، وإنّما يحصل التردّد فيما إذا كان الأعلى متسنّما على الأسفل بميزاب ونحوه ، لعدم صدق الوحدة عرفا ولا يبعد التقوّي في ذلك أيضا كما اختاره جدّي قدس‌سره في فوائد القواعد عملا بالعموم » (٦) انتهى.

فظهر منه أنّه جزم بالحكم في الشقّ الأوّل ورجّحه في الثاني بعد ما صار متردّدا ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٢) روض الجنان : ١٣٥ ، ١٣٦.

(٣) المعتبر : ١١. (٤) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٤٣.

١٢٠