ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

والأواني ونحوها ، وكيف كان فينبغي في المقام الكلام في مطالب :

المطلب الأوّل : لا إشكال كما لا خلاف في أنّ الطهارة المعتبرة في الماء بل كلّ مشروط بالطهارة غير منوطة بالعلم به ، بل الّذي ينوط به في ترتيب الأحكام الشرعيّة إنّما هو النجاسة ، قال الشيخ في لباس المصلّي من زيادات التهذيب ـ عقيب رواية عبد الله بن سنان الآتية ، الآمرة بغسل الثوب للصلاة الّذي اعير لمن يعلم أنّه يأكل الجري ويشرب الخمر ـ : « هذا الخبر محمول على الاستحباب ، لأنّ الأصل في الأشياء كلّها الطهارة ، ولا يجب غسل شي‌ء من الثياب إلّا بعد العلم بأنّ فيها نجاسة ، وقد روى هذا الراوي بعينه خلاف هذا الخبر » (١) يعني به روايته الاخرى الآتية المصرّحة في الثوب الّذي اعير للذمّي بعدم وجوب غسله.

وقال صاحب المدارك : « إنّ ما عدا نجس العين يجب الحكم بطهارته ، تمسّكا بمقتضى الأصل والعمومات إلى أن يحصل اليقين بملاقاته لشي‌ء من الأعيان النجسة بإحدى الطرق المفيدة له ، ولا عبرة بالظنّ ما لم يستند إلى حجّة شرعيّة ، لانتفاء الدليل على اعتباره ، وعموم النهي عن اتّباعه » ، إلى آخر كلامه قدس‌سره (٢).

والأصل فيما ذكرناه من الحكمين بعد الإجماع القولي المقطوع به من تتبّع كلمات الأصحاب ، والعملي المعلوم من طريقة الفقهاء وسيرة كافّة المتشرّعة في عامّة الأعصار وقاطبة الأمصار ، الأخبار المعتبرة الّتي فيها الصحاح وغيرها المستفيضة القريبة من التواتر ، بل المتواترة باعتبار المعنى جدّا بل البالغة فوق التواتر.

منها : الخبر المستفيض المرويّ في كتب المشايخ الثلاث بطرق متكرّرة ، المتّفق على العمل به ، المتلقّى بالقبول لدى الكلّ : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣).

ومنها : موثّقة عمّار المرويّة في التهذيب والوسائل عنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : « كلّ شي‌ء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك شي‌ء » (٤) وقد مرّ في مباحث الماء القليل الكلام في تطبيق الاولى على

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦١ ذيل ح ١٤٩٤.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٨٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢١ ـ الكافي ٣ : ١ / ٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

٤٦١

الموضوعات الخارجيّة وعلى قياسها الثانية.

ومنها : خبر غياث عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ عليهم‌السلام قال : « ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم » (١) تمسّك به في المدارك (٢) على ما تقدّم عنه من دعوى الأصل الكلّي.

ومنها : خبر عمّار بن موسى الساباطي ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة ، وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا ، أو غسل منه ثيابه أو اغتسل منه ، وقد كانت الفأرة متسلّخة؟ فقال : « إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل ، أو يتوضّأ ، أو يغسل ثيابه ، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كلّما أصابه ذلك الماء ، ويعيد الوضوء والصلاة ، وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمسّ من الماء شيئا ، وليس عليه شي‌ء ، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه ، ثمّ قال : لعلّه أن تكون سقطت فيه تلك الساعة الّتي رآها ، » (٣) وهذا كما ترى يقضي بعدم اعتبار الظنّ بالنجاسة بجميع مراتبه ، حتّى ما يكون منه قويّا متآخما بالعلم ، ضرورة أنّ انفساخ الفأرة كما هو مفروض السؤال ممّا يحصل معه ظنّ قويّ قريب من العلم بسقوطها في الإناء قبل جميع تلك الاستعمالات ، إن لم نقل بإيراثه العلم بذلك ، واحتمال كونها ساقطة في الساعة الّذي أبدأه الإمام عليه‌السلام في غاية البعد والغرابة.

ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة في مباحث الماء القليل ، بالتوجيه المتقدّم ثمّة ، القائلة في دم الرعاف بأنّه : « إن لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه » (٤).

ومنها : مرسلة محمّد بن إسماعيل المرويّة في الكافي عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه‌السلام « في طين المطر ، أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام ، إلّا أن تعلم أنّه قد نجّسه شي‌ء بعد المطر ، فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله ، فإن كان الطريق نظيفا لم تغسله » (٥).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٥٣ / ٧٣٥ ـ الفقيه ١ : ٤٢ / ١٦٦.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٨٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٢ ب ٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الفقيه ١ : ١٤ / ٢٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٨ / ١٣٢٢ ، في الفقيه والتهذيب « منسلخة ».

(٤) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٧ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٤.

٤٦٢

ومنها : الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم ، المرويّ في الكافي عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه شي‌ء فليغسل الّذي أصابه ، فإن ظنّ أنّه أصابه شي‌ء ولم يستيقن ولم ير مكانه ، فلينضحه بالماء ، وإن استيقن أنّه قد أصابه شي‌ء ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه ، فإنّه أحسن » (١) بناء على أنّ النضح المعلّق على ظنّ الإصابة وعدم تيقّنها هو الرشّ ، فلا يكون مجزيا عن الغسل لو كان الظنّ كافيا في تنجّس المحلّ ، وهو محمول عندهم بالاستحباب ، وأمكن كونه تعبّدا على حدّ سائر التعبّديّات الّتي منها غسل موضع النجاسة.

ومنها : خبر عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون له الثوب قد أصابه الجنابة فلم يغسله ، هل يصلح النوم فيه؟ قال : « يكره » (٢) ، وسألته عن الرجل يعرق في الثوب ، يعلم أنّ فيه جنابة ، كيف يصنع؟ هل يصلح له أن يصلّي قبل أن يغسل؟ قال : « إذا علم أنّه إذا عرق أصاب جسده من ذلك الجنابة الّتي في الثوب ، فليغسل ما أصاب جسده من ذلك ، وإن علم أنّه قد أصاب جسده ولم يعرف مكانه ، فليغسل جسده كلّه ، » (٣) فإنّه بمفهومه دالّ على عدم وجوب غسل الجسد مع عدم العلم بإصابة الجسد ، كما أنّه بمنطوقه دالّ على وجوبه مع العلم بالإصابة تفصيلا أو إجمالا.

منها : خبر موسى بن القاسم عن عليّ بن محمّد عليهما‌السلام قال : سألته عن الفأرة والدجاجة والحمامة وأشباهها ، تطأ العذرة ، ثمّ تطأ الثوب أيغسل؟ قال : « إن كان استبان من أثره شي‌ء فاغسله ، وإلّا فلا بأس » (٤) ومثله مرويّ (٥) عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، ودلالتهما واضحة بعد ملاحظة ما أشرنا إليه في رواية دم الرعاف المتقدّمة.

منها : خبر عبد الله بن الحجّاج ، قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن رجل يبول بالليل ، فيحسب أنّ البول أصابه فلا يستيقن ، فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال ، ولا يتنشّف؟ قال : « يغسل ما استبان أنّه قد أصابه ، وينضح ما يشكّ فيه من جسده وثيابه ،

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٢٤ ب ١٦ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ الكافي ١ : ٢٥٢ / ٧٢٩.

(٢ و ٣) الوسائل ٣ : ٤٠٤ ب ٧ من أبواب النجاسات ح ٩ و ١٠ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٥٩ / ٢٣٧ و ٢٣٨.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤٢٤ / ١٣٤٧.

(٥) قرب الأسناد : ٨٩.

٤٦٣

ويتنشّف قبل أن يتوضّأ » (١) قال في الوسائل : « المراد بالتنشّف الاستبراء ، وبالوضوء الاستنجاء » ، وجه الاستدلال ما تقدّم في حسنة الحلبي.

ومنها : صحيحة زرارة قال : « قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، أو شي‌ء من المنيّ إلى أن قال : فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت ، فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ، قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي‌ء أن أنظر فيه؟ قال : لا ، ولكنّك تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك » (٢).

ومنها : الحسن بإبراهيم بن هاشم أيضا ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : « إن كان علم إنّه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلّي ، ثمّ صلّى فيه ولم يغسله ، فعليه أن يعيد ما صلّى ، وإن كان لم يعلم فليس عليه إعادة ، وإن كان يرى أنّه أصابه شي‌ء فينظر فلم ير شيئا ، أجزأه أن ينضحه بالماء » (٣).

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر ، أنّي اعير الذمّي ثوبي ، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ، ويأكل الخنزير ، فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » (٤).

ومنها : رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في طريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يقوّم ما فيها ، ثمّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن » ، قيل : يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم هي أم مجوس؟ فقال : « هم في سعة حتّى تعلموا » (٥).

__________________

(١ و ٢) الوسائل ٣ : ٤٦٦ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٢ و ١ ـ التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٧٥ ب ٤٠ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٤٠٦ / ٩.

(٤) الوسائل ٣ : ٥٢١ ب ٧٤ من أبواب النجاسات ح ١ ـ وفيه بدل « سئل ابو عبد الله ع » « سأل أبي أبا عبد الله ع » ـ التهذيب ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٥.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٩٣ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ١١ ـ الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٧.

٤٦٤

ومنها : رواية سماعة بن مهران ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن تقليد السيف في الصلاة ، وفيه الغرى (١) والكيمخت؟ فقال : « لا ، ما لم تعلم أنّه ميتة » (٢).

ومنها : رواية عليّ بن أبي حمزة ، إنّ رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا عنده ـ عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه؟ قال : « نعم » ، فقال الرجل : إنّ فيه الكيمخت؟ قال : « وما الكيمخت »؟ قال : جلود دوابّ ، منه ما يكون ذكيّا ومنه ما يكون ميتة ، فقال : « ما علمت أنّه ميّت فلا تصلّ فيه » (٣).

ومنها : خبر ابن مسكان عن الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف الّتي تباع في السوق؟ فقال : « اشتر وصلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميّت بعينه » (٤).

ومنها : صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرّا ، لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ، أيصلّي فيها؟ قال : « نعم ، ليس عليكم المسألة ، أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، أنّ الدين أوسع من ذلك » (٥).

ومنها : صحيحته الاخرى عن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخفّ ، لا يدري أذكيّ هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه ، وهو لا يدري أيصلّي فيه؟ قال : « نعم ، أنا أشتري الخفّ من السوق ، ويصنع لي واصلّي ، وليس عليكم المسألة » (٦).

ومنها : ما في التهذيب عن إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : « عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (٧).

__________________

(١) هكذا وجدناه في الوسائل ، ولكن في المجمع : وفي الحديث ذكر الغراء والكيمخت ، والغراء ككتاب شي‌ء يتّخذ من أطراف الجلود ملصق به ، وربّما من السمك والغراء كعصا لغة. انتهى ومن القاموس : الغراء ما طلى به أو لصق به ، أو شي‌ء يستخرج من السمك. (منه).

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٣ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ١٢ ـ الفقيه ١ : ١٧٢ / ٨١١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٩١ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٣٠.

(٤ و ٥) الوسائل ٣ : ٤٩٠ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ التهذيب ٢ : ٢٣٤ و ٣٦٨ / ٩٢٠ و ١٥٢٩.

(٦ و ٧) الوسائل ٣ : ٤٩٢ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٦ و ٧ ـ التهذيب ٢ : ٣٧١ / ١٥٤٥.

٤٦٥

ومنها : ما عن قرب الأسناد ـ لعبد الله بن جعفر ـ عن حمّاد بن عيسى ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « كان أبي عليه‌السلام يبعث بالدراهم إلى السوق ، فيشتري بها جبنا ، فيسمّي ويأكل ولا يسأل عنه » (١).

ومنها : ما في الكافي ـ في الصحيح ـ عن الحلبي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الخفاف عندنا في السوق نشتريها ، فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال : « صلّ فيها حتّى يقال لك أنّها ميتة بعينه » (٢).

ومنها : ما فيه أيضا عن الحسن بن الجهم ، قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أعترض السوق فأشتري خفّا ، لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال : « صلّ فيه » ، قلت : فالنعل ، قال : « مثل ذلك » قلت : إنّي أضيق من هذا ، قال « أترغب عمّا كان أبو الحسن عليه‌السلام يفعله » (٣).

ومنها : ما ـ في الصحيح ـ في التهذيب عن معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس ، وهم أخباث وهم يشربون الخمر ، ونساؤهم على تلك الحال ، ألبسها ولا أغسلها واصلّي فيها؟ قال : « نعم » قال معاوية : فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له إزارا ورداء من السابري ، ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار ، فكأنّه عرف ما اريد فخرج بها إلى الجمعة (٤).

ومنها : ما في التهذيب من خبر المعلّى بن خنيس ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « لا بأس بالصلاة في الثياب الّتي تعملها المجوس والنصارى واليهود » (٥) بناء على أنّ المراد نفي البأس عن الصلاة فيها بلا غسل ، وإلّا فلم يكن أحد يشكّ في عدم البأس مع الغسل.

ومنها : ما في التهذيب ـ في الصحيح ـ عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال : « يرشّ بالماء » (٦) بناء على ما تقدّم من أنّ الرشّ ليس غسلا ليتبع النجاسة الثابتة.

ومنها : رواية أبي عليّ البزّاز عن أبيه ، قال : سألت جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن الثوب

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٢ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٨ ـ قرب الأسناد : ١١.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٣ / ٢٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٩٣ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٩ ـ الكافي ٣ : ٤٠٤ / ٣١.

(٤ ـ ٦) الوسائل ٣ : ٥١٨ ـ ٥٢٠ ب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ١ و ٣ ـ التهذيب ٢ : ٣٦٢ / ١٤٩٧ و ١٤٩٦ و ١٤٩٨.

٤٦٦

يعمله أهل الكتاب ، اصلّي فيه قبل أن يغسل؟ قال : « لا بأس ، وأن يغسل أحبّ إليّ » (١)

ومنها : خبر أبي جميلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن ثوب المجوسي ، ألبسه واصلّي فيه؟ قال : « نعم » ، قال : قلت : يشربون الخمر؟ قال : « نعم نحن نشتري الثياب السابريّة فنلبسها ولا نغسلها » (٢).

ومنها : ما في الوسائل عن أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج ، عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه‌السلام عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ، ولا يغتسلون من الجنابة ، وينسجون لنا ثيابنا ، فهل يجوز الصلاة فيها من قبل أن تغتسل؟ فكتب إليه في الجواب : « لا بأس بالصلاة فيها » (٣).

ومنها : ما في الاستبصار عن سماعة ، قال : سألته عن أكل الجبن ، وتقليد السيف وفيه الكيمخت والفراء؟ فقال : « لا بأس به ما لم يعلم أنّه ميتة » (٤) إلى غير ذلك من الروايات الجزئيّة الّتي يطّلع عليها المتتبّع في أبواب متفرّقة.

ولا ريب أنّ المستفاد من مجموع تلك الأخبار الدالّة بعضها عموما والبعض الآخر خصوصا امور :

أحدها : أنّ ثبوت الطهارة في مواردها وترتّب أحكامها على تلك الموارد لا يتوقّف على العلم بها.

وثانيها : أنّها كما لا تتوقّف على العلم ، فكذلك لا تتوقّف على قيام أمارة تعبّديّة بها ، من استصحاب ، أو بيّنة ، أو إخبار عدل ، أو ذي يد ونحوها ، فإنّ ذلك يستفاد عن إطلاق الخبر الأوّل والثاني وجملة كثيرة من البواقي ، وأقوى ما يدلّ على ذلك الخبر الثالث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله عليه‌السلام : « ما أبالي أبول أصابني أو ماء » ، ضرورة أنّ ما يتردّد بين الماء والبول لا يعلم له بالخصوص حالة سابقة ، ليكون الحكم بالطهارة مستندا إليها استصحابا لها ، وطهارة المحلّ وإن كانت بعد إصابة ذلك إيّاه قابلة للاستصحاب ، غير أنّ

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥١٨ ب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ٥ ـ التهذيب ٢ : ٢١٩ / ٨٦٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٢٠ ب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ٧ ـ الفقيه ١ : ١٦٨ / ٧٩٤.

(٣) الوسائل ٣ : ٥٢٠ ب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ٩ ـ الاحتجاج : ٤٨٤.

(٤) الوسائل ٢٤ : ٩٠ ب ٣٨ من أبواب الذبائح ح ١ ـ الاستبصار ٤ : ٩٠ / ٣٤٢.

٤٦٧

المنساق من الرواية كون الحكم بالطهارة لاحقا هنا بالمائع المتردّد بين الأمرين لا بالمحلّ ، وإن استلزم طهارة الأوّل طهارة المحلّ أيضا.

ولا ينافيه ما في صحيحة زرارة (١) من استناد الإمام عليه‌السلام إلى الاستصحاب ، ولا ما يظهر من صحيحة عبد الله بن سنان (٢) من كون الاستناد إلى الحالة السابقة ، فلا داعي إلى حمل المطلقات على هذا المقيّد ، لما قرّر في محلّه من أنّ العامّ والخاصّ لا يحمل أحدهما على الآخر ، فلا يقال : إنّ المراد بـ « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » أو « كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » ما علم له حالة سابقة تصلح للاستناد إليها ، مع أنّ قاعدة حمل المطلق على المقيّد فيما بين المثبتين ـ للتنافي ـ لا تجري إلّا في موضع التكليف الإلزامي والمقام ليس منه ، مع أنّ أصل الحمل لا يمكن بالنسبة إلى الخبر الثالث كما عرفت.

وثالثها : عدم وجوب الفحص والنظر تحصيلا للعلم بالنجاسة ، أو إحراز لأمارة قامت بها على فرض كونها معتبرة في ثبوتها ، والّذي يدلّ عليه صراحة من الأخبار صحيحة زرارة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « لا » ، عقيب قول السائل ، « فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي‌ء أن أنظر فيه؟ » (٣).

نعم ، قوله عليه‌السلام : « ولكنّك تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك » يدلّ على استحبابه ، وهو ممّا لا إشكال فيه لاستقلال العقل بحسن الاحتياط ، ونحو الصحيحة المذكورة في الصراحة على عدم وجوب الفحص الأخبار الاخر النافية للمسألة ، وقد يدّعي الإجماع على عدم وجوبه في العمل بالأصل في الموضوعات الخارجيّة ، كما سمعناه عن بعض مشايخنا العظام (٤) ـ شكر الله مساعيهم ـ مشافهة عند قراءتنا عليه ، والظاهر أنّه في محلّه في الجملة ، وإن اقتضى بعض القواعد وجوبه على ما قرّرناه في بعض تحقيقاتنا الاصوليّة (٥) ، لكن النصوص في خصوص المقام كما عرفت حاكمة عليها.

__________________

(١ و ٢) تقدّم في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٢ و ٤.

(٣) تقدّم في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٢.

(٤) والمراد منه ـ حيثما أطلق ـ هو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله.

(٥) ومن مؤلّفاته رحمه‌الله في الاصول حاشيته المعروفة على القوانين (المطبوعة سنة ١٢٩٩ ه‍) وكذا التعليقة على معالم الأصول في سبعة مجلّدات كبار من أوّل مباحث الألفاظ إلى آخر التعادل ـ

٤٦٨

ورابعها : أنّ النجاسة لا تثبت إلّا بالعلم ، وأنّ الظنّ لا يكفي فيها ، ولا ريب أنّ لفظي « العلم » و « الظنّ » الواردين فيها ظاهران في المتعارف من معنييهما ، فمن يكتفي فيها بالظنّ أو الأمارة الشرعيّة ـ عامّة أو خاصّة ـ يطالب بدليل ذلك ، ليكون حاكما على روايات الباب ، بكشفه عن كون الحصر المستفاد منها إضافيّا ، أو أنّ العلم واليقين المعلّق عليهما حكم النجاسة اريد منهما ما يعمّ الظنّ وغيرها من الأمارات ، وأنّى له بإثبات ذلك.

نعم ، يمكن استفادة كفاية إخبار ذي اليد واعتباره فيها من الأخبار المشتملة على السؤال عن وجوب المسألة والسؤال ، فإنّ هذه الأسئلة قاضية بأنّ كون قول ذي اليد مجديا في ثبوت النجاسة كان مفروغا عنه فيما بينهم ، وإنّما الشبهة كانت في وجوب تحصيله ، وجواب المسئول بنفي وجوب المسألة أيضا ربّما يكون تقريرا لهم على معتقدهم.

إلّا أن يقال : بأنّ نفي المسألة بنفسه ردع لهم ، لجواز ابتنائه على كون المراد بيان أنّ ما يترتّب على المسألة من الإخبار بالمسئول عنه لا يجدي نفعا في ثبوت النجاسة حتّى يكون المسألة واجبة ، ولكنّه خلاف ما يظهر من سياق الروايات ، ومن سياق أصل القضيّة ، مع أنّ في بعضها ما يكون ظاهرا بنفسه في لزوم القبول على تقدير تحقّقه ، كما في خبر إسماعيل بن عيسى المتضمّن لقوله عليه‌السلام : « عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك » (١) الخ إذ أقلّ مراتب معنى « عليكم » الرجحان المطلق ، وإلّا فهو ظاهر في الإيجاب ، فلو لا الإخبار بالمسئول عنه مجديا في لزوم القبول لما كان لرجحان السؤال عنه وجه ، فضلا عن وجوبه.

وقد يقرّر ـ كما في شرح الدروس ـ : « بأنّ ظاهره أنّ قول المشركين يقبل في أموالهم أنّها ذكيّة وإلّا فلا فائدة للسؤال عنهم ، فإذا قبل قول المشركين فقبول قول المسلمين بطريق أولى ، » (٢) ولا يخفى ضعفه ـ كما تنبّه عليه في الحدائق ـ إذ ليس المراد بالسؤال المأمور به بقرينة السؤال هو السؤال عن المشرك ، بل المراد به السؤال من

__________________

ـ والتراجيح دورة كاملة ، وهذه الموسوعة الاصوليّة القيّمة لم يطبع إلى الآن ، ولكن قامت أخيرا مؤسّسة النشر الإسلاميّة التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة بطبعه ونشره وسيصدر منه جزءان ويتلوهما سائر الأجزاء إن شاء الله تعالى.

(١) تقدّم في الصفحة ٤٦٥ الرقم ٢.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٨.

٤٦٩

المسلم البائع الغير العارف الّذي فرضه السائل ، ولا ينافيه التفصيل كما ذكره في الكتاب المشار إليه قائلا : « بأنّ الأظهر في معنى الخبر أنّه لمّا سأل السائل عن حكم الاشتراء من السوق المذكورة إذا كان البائع مسلما ، وأنّه هل سأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب عليه‌السلام بالتفصيل بأنّه إن كان في تلك السوق من يبيع من المشركين فعليكم السؤال من ذلك المسلم ، إذ لعلّه أخذه من المشركين ، وإذا رأيتم المسلم يصلّي فيه فلا تسألوا ، لأنّ صلاته فيه دليل على طهارته عنده ، ويفهم من الخبر بمفهوم الشرط أنّه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليكم السؤال » (١) انتهى.

ولكن يبقى الإشكال في هذا الخبر بالنسبة إلى دلالته على وجوب السؤال على فرض بيع المشركين في تلك السوق ، وهو ينافي إطلاق سائر الأخبار المشار إليها النافية لوجوب الفحص والسؤال ، ولعلّه لضعف سنده ـ كما أشار إليه المحقّق الخوانساري ـ لا يصلح تقييدا لتلك الأخبار لما فيها من الصحاح ، وبذلك يضعف التمسّك به على أصل المطلب وهو لزوم قبول قول ذي اليد.

نعم ، يمكن التمسّك عليه ـ مضافا إلى ما مرّ ـ بصحيحة الحلبي المتقدّمة المشتملة على قوله عليه‌السلام : « صلّ فيها حتّى يقال لك أنّها ميتة بعينه » (٢) فإنّها بمفهومها يدلّ على عدم جواز الصلاة بعد تحقّق القول المذكور ، ولا نعني من لزوم القبول إلّا هذا ، ولكنّها بإطلاقها تدلّ على لزوم القبول مع هذا القول سواء كان القائل مالكا أو غيره ، عادلا أو غيره ، واحدا أو متعدّدا ، فيشمل البيّنة وأخبار العادل بل الفاسق أيضا ولكن الظاهر أنّه لا قائل بهذا الإطلاق.

مضافا إلى أنّه ينافي ظواهر الأخبار الاخر المشار إليها ، لظهورها في مسألة المالك فيقيّد بها هذا الإطلاق وبالجملة : فالظاهر أنّ المسألة ممّا لا إشكال فيه ، ولم يظهر من الأصحاب مخالف فيها ، وربّما يستظهر الاتّفاق عليه كما أشار إليه صاحب الحدائق قائلا : « وظاهر كلام الأصحاب ـ قدّس الله أرواحهم ـ الاتّفاق على قبول قول

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٢٥٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٠ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ التهذيب ٢ : ٢٣٤ / ٩٢٠ ـ وفيه : « صلّ فيه حتّى تعلم أنّه ميّتة بعينه » تقدم في الصفحة ٥١٧ الرقم ٤.

٤٧٠

المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونجاستهما » (١).

وقال العلّامة رحمه‌الله في موضع من المنتهى : « لو أخبر العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول ، ولو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول أيضا » (٢) فما في كلام المحقّق الخوانساري في شرح الدروس من المناقشة في ذلك بأنّ : « قبول قول المالك عدلا كان أو فاسقا فلم أظفر له على حجّة » (٣) ممّا يقضي بالعجب ، ومع ذلك ليس ممّا يلتفت إليه.

وعن جماعة (٤) أنّهم قيّدوا قبول قول إخبار الواحد بنجاسة إنائه بما إذا وقع الإخبار قبل الاستعمال ، فلو كان الإخبار بعده لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له ، فإنّ ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة العين فلا يكفي فيه الواحد وإن كان عدلا ، ولأنّ الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه إذ هو في معنى الإتلاف أو نفسه. وهذا بمكان من القوّة وإن كان ما ذكر في التعليل عليلا ، والوجه في ذلك أنّ هذا الإخبار لا يفيد علما ، ولا يستفاد من الروايات المشار إليها أزيد من قبول إخبار ذي اليد ، لو تحقّق حال وجود المورد وبقائه في يده ، فيبقى الأصل الكلّي المستفاد عن الروايات سليما عن المعارض ، فصار نتيجة الكلام : أنّ النجاسة تثبت بالعلم أو بإخبار ذي اليد بها ، فثبوت الطهارة بهما ـ مع أنّه لا حاجة له إلى شي‌ء منهما ـ بطريق أولى.

وخامسها : إنّ الظنّ بالنجاسة لا عبرة به ولو كان قويّا ، وأنّه لا فرق فيه بين ما لو استند إلى العادة والغلبة وغيرها ، وهذا يستفاد عن إطلاق جملة كثيرة من الروايات ، مضافا إلى ظهور جملة اخرى فيه بالخصوص ، كما يشهد به التأمّل في صحيحة عبد الله بن سنان (٥) الواردة في إعارة الثوب للذمّي ، فإنّ مباشرة الذمّي له ممّا يوجب بحسب العادة الظنّ الغالب بالملاقاة المنجّسة ، وعلى قياسها الأخبار الاخر الواردة في ثياب المجوس ونحوها ، لكن في رواية طين المطر ما ربّما يوهم اعتبار الظنّ الحاصل من الغلبة حيث يقول عليه‌السلام : « فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله » (٦) ، فإنّ الغالب عند مضيّ هذا المقدار من الزمان تحقّق سبب النجاسة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٢٥٢.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٥٦.

(٣) مشارق الشموس : ٢٨٥.

(٤) حكى عنهم في فقه المعالم ١ : ٣٨٣.

(٥) تقدّم في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٤.

(٦) كما تقدّم في الصفحة ٤٦٢ الرقم ٣.

٤٧١

غير أنّه يمكن دفعه بظهور كون ذلك تقدير الماء يوجب العلم بتحقّق السبب ، بقرينة قوله عليه‌السلام ـ عقيب تلك ـ : « فإن كان الطريق نظيفا لم تغسله » فإنّ ذلك يوجب تقييد الحدّ المذكور بعدم نظافة الطريق ، أي عدم خلوّه عن النجاسة العينيّة ، ولا ريب أنّ مضيّ هذا المقدار من الزمان مع عدم نظافة الطريق ممّا يورث العلم العادي بتحقّق السبب ، سيّما إذا كثر فيه المستطرقون.

نعم ، هنا روايات اخر تعارض بظاهرها ـ بل صراحة بعضها ـ الروايات المتقدّمة في مفادها.

منها : خبر عبد الله بن الحجّاج ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّي أدخل سوق المسلمين ـ أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام ـ فاشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها : أليس هي ذكيّة؟ فيقول : بلى ، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال : لا ، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط لي الّذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة ، قلت : وما أفسد ذلك ، قال : « استحلال أهل العراق الميتة ، وأنّ دباغ الجلد الميتة ذكاته ، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلّا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) وجه الدلالة : أنّه عليه‌السلام علّل في المنع المذكور بقضيّة استحلال أهل العراق الميتة ، وهي كما ترى قضيّة غالبيّة ، فلو لا الغلبة معتبرة في نظر الشارع لما صلحت جهة للمنع.

ومنها : رواية أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الفراء؟ فقال : كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما رجلا صردا (٢) لا تدفئه فراء الحجاز ، لأنّ دباغها بالقرظ (٣) ، وكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلهم بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه ، وألقى القميص الّذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك؟ فيقول : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة ويزعمون أنّ دباغه ذكاته » (٤).

ومنها : حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يكره الصلاة في الفراء إلّا ما صنع

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٠٣ ب ٦١ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٥.

(٢) الصّرد بفتح الصاد وكسر الراء المهملة من يجد البرد سريعا ، ومنه رجل مصراد لمن يشتدّ عليه البرد (مجمع البحرين).

(٣) القرظ بالتحريك ورق السّلم يدبّغ به الأديم (مجمع البحرين).

(٤) الوسائل ٤ : ٤٦٢ ب ٦١ من أبواب لباس المصلّي ح ٢ و ١ ـ الكافي ٣ : ٣٧٩ / ٢.

٤٧٢

في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة » (١).

ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : سألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق للبس ، ولا يدري لمن كان هل يصلح الصلاة فيه؟ قال : « إن كان اشتراه من مسلم فليصلّ فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله » (٢) وعن الحميري أنّه رواه أيضا في قرب الإسناد (٣) عن عبد الله بن الحسن ، عن جدّه ، عن عليّ بن جعفر.

وحكى عن ابن إدريس أنّه رواه في آخر السرائر نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمّد ابن أبي نصر ، قال : سألته وذكر مثله ، إلّا أنّه قال في آخره : « فلا يلبسه ولا يصلّي فيه » (٤).

ومنها : رواية عبد الله بن سنان قال : سئل أبي عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجريّ ويشرب الخمر ، فيردّه أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال : لا يصلّي فيه حتّى يغسله » (٥).

ومنها : صحيحة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه‌السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في فرو اليماني ، وفيما صنع في أرض الإسلام ، قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : إذا كان الغالب عليهما المسلمين فلا بأس » (٦).

والجواب : أمّا عن أوّل الأخبار : بمنع المعارضة ، لما تقدّم ، إذ اعتبار الغلبة هنا ليس من جهة أنّ النجاسة تثبت بها في ظاهر الشرع ، بل لمراعاة ما يرجع إلى البيع صونا له عن الغرر ، أو احتياطا عن إيقاع البيع في غير محلّه ، نظرا إلى أنّه لا يصحّ في الأعيان النجسة الّتي منها الميتة وأجزائها ، كيف ولو لا ذلك ـ بناء على ثبوت النجاسة بالغلبة ـ كان الواجب المنع عن البيع رأسا ، بل وإفساد اشتراء السائل أيضا كما لا يخفى ، فهذه الرواية عند التحقيق توافق روايات الباب ، وفيها دلالة أيضا على اعتبار قول المالك.

وكذا الجواب عن الخبر الثاني : فإنّ فعل المعصوم وإن كان حجّة ، إلّا أنّه هنا مجمل ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٦٢ ب ٦١ من أبواب لباس المصلّي ح ٢ و ١ ـ الكافي ٣ : ٣٧٩ / ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٠ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٦٣ / ٧٦٦.

(٣) قرب الأسناد : ٩٦.

(٤) السرائر ٣ : ٥٣.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٦٨ ب ٣٨ من أبواب النجاسات ح ١ ـ الكافي ٣ : ٤٠٥ / ٥.

(٦) الوسائل ٤ : ٤٥٦ ب ٥٥ من أبواب لباس المصلّي ح ٢ ـ التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٣٢.

٤٧٣

إذ جهة إلقائه عليه‌السلام الفرو عند حضور الصلاة ملتبسة ، حيث لم يظهر كونه لأجل النجاسة الّتي لا يستند ثبوتها هنا إلّا إلى الغلبة ، لجواز كونه احتياطا منه فإنّه حسن خصوصا في حقّهم عليهم‌السلام ، بل هذا هو المتعيّن بملاحظة أنّه لو كان عنده عليه‌السلام ممّا ثبت فيه النجاسة والميتة لم يكن يباشره أصلا ولا يلبسه رأسا ، إمّا لأنّ الميتة ممّا لا ينتفع بها أصلا ، أو أنّ شأنه عليه‌السلام يأبى عن مباشرة النجاسات عن علم وعمد على فرض إباحة الانتفاع بالميتة.

وكذا عن الخبر الثالث : لقوّة احتمال كون المراد بالكراهة معناها المصطلح عليها لا الحرمة ، وإن قيل بشيوع استعمال الكراهة في الروايات في الحرمة وكراهة الصلاة فيما ظنّ بنجاسته واستحباب التجنّب عنه ممّا لا إشكال فيه ، كما يومئ إليه أيضا استثناء ما صنع في أرض الحجاز ، فإنّه ما لا يظنّ معه بالنجاسة والميتة ، وحاصله يرجع إلى أنّ اعتبار الظنّ الحاصل بالغلبة أو غيرها لإحراز موضوع الكراهة لا الحرمة.

وعلى هذا القياس يجاب عن البواقي. فالنهي والأمر الواردين فيها يحملان على الكراهة والاستحباب ، كما أنّ الغلبة الّتي اعتبرها الإمام في الأخير منها يحمل على كونه من جهة إحراز ما يرتفع معه الكراهة ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فهذه الأخبار غير صالحة لمعارضة ما سبق لقلّتها ، وعدم عامل بها ظاهرا ، أو شذوذ العامل على فرض ثبوته ، مع ما عرفت من كون ما سبق بالغ حدّ التواتر بل متجاوز عنه ، فلا يلتفت إلى غيره ، أو يلزم التأويل فيه تقديما للسند على الدلالة كما قرّر في محلّه ، وهو الطريقة المستمرة بين الأعلام.

المطلب الثاني : قد عرفت أنّ مفاد الأخبار المذكورة اعتبار العلم في النجاسة وعدم كفاية الظنّ فيها وأنّه لا يقوم مقام العلم ، وهو المحكيّ عن ابن البرّاج (١) من قدماء أصحابنا ، بل لم نعثر في ذلك على نقل مخالفة عدا ما عن الحلبي (٢) من أنّ الظنّ بها مطلقا يقوم مقام العلم ، وقد يسند إلى العلّامة في التذكرة (٣) التفصيل بين ما كان عن سبب كإخبار العدل فهو كاليقين وما لم يكن كذلك فلا يكتفى به ، وقد يقال : إنّه في جملة من كتبه يكتفي به إذا كان من شهادة العدلين دون غيره والأولى إيراد كلمات العلّامة رحمه‌الله في المطلب الآتي إذ لا مخالفة له في هذا المقام ، حيث إنّه لا يكتفى بمطلق الظنّ.

__________________

(١) جواهر الفقه : ٩.

(٢) حكى عنه في فقه المعالم ١ : ٣٨١.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٩٠.

٤٧٤

وعن الحلبي الاحتجاج على ما صار إليه بأنّ : « الشرعيّات كلّها ظنّية ، وأنّ العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل » (١) ، وقد يحتجّ له أيضا : « بأنّ الاشتغال بالطهارة بالماء الطاهر والصلاة بالثوب الطاهر ثابت يقينا ، وهو ممّا يقتضي اليقين بالبراءة جزما ، ولا يحصل اليقين إلّا بالطاهر الواقعي لمكان وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة ، وقضيّة ذلك تعيّن الاجتناب عمّا ظنّ بنجاسته ، لأنّ مقدّمة الواجب المطلق ممّا لا بدّ منها ». (٢)

والجواب عن الأوّل : بمنع ابتناء الشرعيّات مطلقة على الظنّ ، لو اريد بها ما يعمّ الموضوعات الخارجيّة كما هو المتنازع فيه وبدونه لا يجدي ، ولو سلّم فهو لم يثبت إلّا من باب القاعدة القابلة للتخصيص ، والروايات المتقدّمة تنهض مخصّصة لها ، هذا مضافا إلى ما في حسنة الحلبي المتقدّمة (٣) من الظنّ المأمور معه بالنضح الّذي لا يكفي في رفع النجاسة ، ومثله ما في رواية زرارة المنهيّ معه عن إعادة الصلاة ، فإنّ « الظنّ » إن لم يكن ظاهرا في معناه المعهود فلا أقلّ من كونه شاملا له ، ومثله الشكّ الوارد في رواية ابن الحجّاج (٤) بقرينة تقدّم الحسبان في كلام السائل ، مع شيوع إطلاق هذا اللفظ في الروايات على مطلق الاحتمال ، وعلى هذا القياس لفظ « الرأي » الوارد في رواية عبد الله بن سنان (٥) المحكوم معه بالنضح ، مضافا إلى سائر الروايات الشاملة بإطلاقها لصورة الظنّ أو الظاهرة فيها ، ولا ريب أنّ ما ذكر في الاحتجاج لا يصلح معارضا لشي‌ء من ذلك.

وعن الثاني : بأنّ العقل ممّا لا مدخل له في التعبّديّات ، والعبرة في الراجحيّة والمرجوحيّة بالقياس إليها إنّما هو بما اعتبره الشارع ، ولا اعتداد فيها بالترجيح العقلي ، فحيث إنّ الشارع حكم بالطهارة ، ما لم يحصل العلم بنقيضها كشف عن كون الراجح في نظره مع عدم العلم هو الطهارة ، فنحن أنّما نأخذ بها لا بعنوان أنّه مرجوح في نظر العقل لئلّا يكون جائزا ، بل بعنوان أنّه راجح في نظر الشارع ، بل المتّجه حينئذ المنع عن قضاء العقل بالمرجوحيّة بعد ما لاحظ ترجيح الشارع للطهارة.

وبالجملة : المرجوحيّة لو اريد بها ما هو بحسب اعتقاد المكلّف فنمنع حكم العقل

__________________

(١) حكى عنه في المعالم ١ : ٣٨١.

(٢) مشارق الشموس : ٢٨٣.

(٣) تقدّمت في الصفحة ٤٦٣ الرقم ١.

(٤) تقدّمت في الصفحة ٤٦٤ الرقم ١.

(٥) تقدّمت في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٣.

٤٧٥

بعدم جواز الأخذ به ، ولو اريد ما هو بحسب الشرع فنمنع أصل المرجوحيّة بعد نهوض الأدلّة القطعيّة برجحانه.

وعن الثالث : بمنع عدم تيقّن الامتثال بالطهارة المفروضة بعد تنصيص الشارع بالاجتزاء به ، ولا ينافيه كون الألفاظ للمعاني الواقعيّة ، فإنّ الواقع قد يحرز بما نصّ الشارع بكونه محرزا له ، والأخبار المذكورة مع الإجماعات المقطوعة كافية في ذلك ، غاية الأمر نهوض تلك الأدلّة حاكمة على الأدلّة المثبتة لاشتراط الطهارة في امتثال التكاليف إلى الواقع ، بكشفها عن كون الطهارة المأخوذة شرطا عبارة عمّا لم يعلم معه بالنجاسة ، والحاصل : التشبّث بأمثال هذه الامور اجتهاد في مقابله النصّ ، وهل هو من باب الردّ على قول السيّد لو قال لعبده : « ائت بالشي‌ء الفلاني فإنّي أجتزي به ».؟

ومن المحقّقين من أجاب عنه ـ كالخوانساري ـ : « بأنّا لم نجد في الآيات ولا في الروايات ـ على ما يحضرنا الآن ـ ما يكون قائلا بأن تطهّروا بالماء الطاهر ، وصلّوا في الثوب الطاهر مثلا ، بالمعنى المراد في الاحتجاج ، وقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (١) فظاهره مخصوص بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإثبات عمومه مشكل ، مع إمكان المناقشة في ظهور كون الطهارة بالمعنى المراد بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، بل الأوامر فيها إنّما هو بالطهارة بالماء مطلقا ، وكذا الأوامر بالصلاة أيضا مطلقة من دون تخصيص بالثياب الطاهرة ، وغاية ما يدلّ فيها على التقييد هو مثل ما وقع أنّ الماء إذا تغيّر مثلا فلا تتوضّأ منه ، أو أنّه إذا وقع قذر في الماء فلا تتوضّأ أو أنّه إذا وصل الثوب البول مثلا أو خصوص شي‌ء آخر من النجاسات إلى الثوب أو البدن فاغسله ، أو اغسل البول مثلا عن الثوب أو البدن ، أو مثل أنّ الشي‌ء الفلاني إذا كان طاهرا فلا بأس بالصلاة فيه ، الدالّ بمفهومه على أنّه إذا لم يكن طاهرا فيتحقّق البأس فيه وهكذا » (٢) انتهى.

فهذا كما ترى بمكان من الضعف لا يكاد يخفى على ذي بصيرة ، بل هو في الحقيقة أوضح ضعفا من أصل الاحتجاج ، فالتفوّه به لا يليق بالمحقّقين.

المطلب الثالث : اختلفوا في قيام الأخبار بالنجاسة مقام العلم بها إذا كان المخبر عدلا وعدمه على أقوال ، فعن العلامة في التذكرة (٣) إن استند الظنّ إلى سبب شرعي

__________________

(١) المدّثر : ٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٨٣.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٩٠.

٤٧٦

كقول العدل فهو كالمتيقّن وإلّا فلا ، وقال في المنتهى : « لو أخبر عدل بنجاسة الإناء لم يجب القبول أمّا لو شهد عدلان فالأولى القبول » (١) وصرّح في المختلف (٢) بذلك مع شهادة الشاهدين ، ونسب اختياره إلى ابن إدريس (٣) أيضا ، وعن المحقّق في المعتبر (٤) أنّه جزم بعدم القبول في العدل الواحد وجعل القبول في العدلين أظهر ، وعن المعالم : « أنّ ما فصّله في المنتهى هو المشهور بين المتأخّرين » (٥) ، وعنه أيضا أنّه نقل عن بعضهم أنّه قيّد القبول في خبر العدلين بذكر السبب ، قائلا : « لاختلاف العلماء في المقتضي للتنجيس » (٦) وفي المختلف عن ابن البرّاج : « عدم وجوب القبول والحكم بالطهارة استنادا إلى أنّ الطهارة معلومة بالأصل ، وشهادة الشاهدين تثمر الظنّ ، فلا يترك لأجله المعلوم » (٧).

وأجاب عنه في المختلف : « بأنّ الحكم بشهادة الشاهدين معلوم ، ولهذا لو كان الماء مبيعا لردّه المشتري ، وإنّما يحصل ذلك بعد الحكم بالشهادة » (٨) واحتجّ هو على ما اختاره من قبول شهادة الشاهدين : « بأنّ الحكم بشهادتهما معلوم في الشرع فيجب العمل بها هنا » (٩) ولا يخفى ما فيه ، إذ لو أراد بما ذكره من معلوميّة الحكم بشهادة الشاهدين ما هو كذلك على الإطلاق حتّى في خصوص المقام ، فهو في حيّز المنع ، لعدم قيام ما يقضي من الشرع بذلك عموما ، وما ورد هو فيه من الموارد لا يتناول المقام جزما ، ولو أراد بكونه كذلك في الجملة فهو غير مجد.

وأمّا الاستشهاد : بأنّ المشتري إذا ادّعى عيب النجاسة في المبيع وشهد عدلان به لوجب القبول.

ففيه أوّلا : أنّ القبول في مقام الحكم للحاكم غير القبول على الإطلاق ، ومحلّ البحث من الثاني.

وثانيا : أنّ الفسخ وإن كان يتوقّف على ثبوت العيب ، وهو يستند إلى القضاء بموجب الشهادة ، لكن عنوان العيب لا ينحصر في النجاسة وتحقّقها ، بل الاتّهام بالنجاسة وكون الشي‌ء معرضا للاحتياط الراجح الّذي لا يكاد يتركه المتّقون ممّا

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٦.

(٢ و ٧) مختلف الشيعة ١ : ٢٥٠.

(٣) السرائر ١ : ٨٦.

(٤) المعتبر : ١٢.

(٥) فقه المعالم ١ : ٣٨٢.

(٦) فقه المعالم ١ : ٣٨٣ نقلا بالمعنى.

(٧ ـ ٩) مختلف الشيعة ١ : ٢٥٠ و ٢٥١ و ٢٥٠.

٤٧٧

يصلح كونه عيبا في نظر العرف.

والإنصاف : أنّ مجرّد هذه الاستظهارات لا يصلح حاكما على الأخبار المتقدّمة الدالّة على إناطة النجاسة بالعلم بها ، بل لا بدّ في ذلك من وجود نصّ معتبر صريح الدلالة ، ولم نقف إلى الآن بعد ما تتبّعنا بقدر الوسع على ما يقضي بذلك من الأدلّة الشرعيّة ، وإن قال السيّد في مناهله : « وسمعت من الوالد دام ظلّه العالي وجود رواية دالّة على حجّيّة شهادة العدلين مطلقا » (١).

نعم يمكن الاستناد في ذلك إلى ما في الاستبصار عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن البيّنة إذا اقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : فقال : « خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا بها بظاهر الحال ، الولايات ، والمناكح والمواريث ، والذبائح ، والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه ». (٢)

ويمكن أن يكون المراد من الرواية الّتي حكى وجودها السيّد عن أبيه قدس‌سرهما هو هذه الرواية ، وفيه : أنّها لو خلّي وطبعها وإن كانت عامّة ، غير أنّ سياقها سؤالا وجوابا يقضي بعدم كون المعصوم عليه‌السلام بصدد بيان هذا الحكم العامّ ، وإنّما هو في مقام إعطاء حكم آخر ، وهو أنّ الشهادات الّتي يجب الأخذ بها في مواردها إنّما يؤخذ بها بلا تفتيش عن البواطن ، كما تنبّه عليه الشيخ في الاستبصار قائلا ـ في تفسيرها : « أنّه لا يجب على الحاكم التفتيش عن بواطن الناس ، وإنّما يجوز له أن يقبل شهادتهم إذا كانوا على ظاهر الإسلام والأمانة ، وأنّ لا يعرفهم بما يقدح فيهم ويوجب تفتيشهم » (٣) ، انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

فقضيّة كونها ممّا يجب قبولها بظاهر الحال بالنسبة إلى جميع المقامات ، أو بالنسبة إلى موارد مخصوصة غير متّضحة الدلالة ، فالتشبّث بمثل ذلك في إخراج الأخبار الكثيرة

__________________

(١) المناهل : ١٦٢.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٣٩٢ ب ٤١ من أبواب الشهادات ح ٣ ـ الفقيه ٣ : ٩ / ٢٩.

(٣) الاستبصار ٣ : ١٣ ذيل ح ٣.

٤٧٨

المتواترة عن ظواهرها في غاية الإشكال ، وأشكل منه مخالفة من تقدّم من الأساطين ، بل الشهرة على فرض تحقّقها كما حكيت ، فالاحتياط في مثله ممّا لا ينبغي تركه جدّا.

نعم وجوب قبول قول المالك في نجاسة إنائه ، أو كلّ ما يتعلّق به ، ممّا لا ينبغي التأمّل فيه كما عرفت ، آخذا بموجب جملة من الروايات المتقدّمة ، مضافة إلى ما حكاه في الحدائق (١) عن الحميري في قرب الأسناد عن عبد الله بن بكير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه وهو لا يصلّي فيه قال : « لا يعلمه » قلت : فإن أعلمه ، قال : « يعيد » (٢) وفي معناه أخبار اخر.

المطلب الرابع : لا أعرف خلافا في قيام الاستصحاب بالقياس إلى النجاسة مقام العلم بها ، فتحرز به النجاسة حيثما كان جاريا ، كما تحرز بالعلم وبغيره ممّا يقوم مقامه ، بل هو المعلوم ضرورة من سيرة العلماء ، ويدلّ عليه عموم الأخبار المستفيضة الواردة في باب الاستصحاب المشتملة على أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، بناء على أنّ المراد بعدم نقض اليقين عدم نقض المتيقّن ، أي رفع اليد عمّا كان متيقّنا إلى أن يحصل اليقين بارتفاعه ، وهذه الأخبار وإن كان أعمّ من أخبار الباب المتقدّمة موردا ومفهوما ، بل أعمّ من جميع الأدلّة ، غير أنّها كأدلّة العسر والحرج في مواردها واردة بحكم فهم العرف على سائر الأدلّة ، وحاكمة عليها في اقتضاء كون الواقع ممّا يحرز بالعلم ، أو أنّ العلم داخل في موضوع الحكم ، فتكون مفادها أنّ الاستصحاب حيثما يكون جاريا يقوم مقام العلم في كلّ ما هو شأنه ، فإن كان العلم في موارد اعتباره معتبرا من باب الطريقيّة إلى الواقع فيقوم مقامه الاستصحاب ، ومرجعه بعد الجمع بين مفادي الأدلّة الحاكمة والمحكوم عليها إلى أنّ الواقع ما يحرز بأحد الأمرين : من العلم ، أو الحالة المتعقّبة له ممّا لم يبلغ رتبة العلم بالخلاف.

وإن كان العلم في موارد اعتباره معتبرا من باب الموضوعيّة ـ على معنى كون العلم داخلا في موضوع الحكم جزءا منه ـ فيقوم مقامه الاستصحاب ، ومرجعه ـ بعد الجمع ـ إلى أنّ موضوع الحكم أحد الأمرين : من العلم ، أو الحالة المتعقّبة له الغير البالغة حدّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٣٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٨٨ ب ٤٩ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ قرب الأسناد : ٧٩.

٤٧٩

العلم بخلاف المعلوم الأوّل ، وإنّما يستفاد هذا التعميم من إطلاق قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » (١) بناء على ما تقدّم من أنّ المراد منع رفع اليد عمّا كان متيقّنا ، وهو كما ترى يشمل ما لو كان اليقين المعتبر معه لمجرّد الطريقيّة ، أو من جهة الموضوعيّة.

ومن جملة ما اعتبر فيه العلم واليقين شرعا من باب الموضوعيّة إنّما هو النجاسة المنوطة بالعلم بتحقّق سببها ، على حسب ما هو موجب الأخبار المتقدّمة ، فإنّ المتأمّل فيها وفي مفادها يعرف أنّ الشارع جعل العلم بالنسبة إلى حكم النجاسة جزءا للموضوع ، على معنى أنّ النجاسة وأحكامها لا تثبت إلّا فيما علم بتحقّق سبب النجاسة فيه.

وممّا يستفاد منه ذلك صراحة صحيحة زرارة (٢) المتقدّمة المشتملة بقوله عليه‌السلام : « تغسله ولا تعيد الصلاة » بعد قول السائل : « فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيته فيه » فإنّ موضوع النجاسة لو كان هو الواقع من غير مدخليّة للعلم فيه إلّا من باب الطريقيّة ، كان اللازم إبطال الصلاة والحكم بإعادتها ، ضرورة وقوعها في مفروض السؤال مع النجاسة الواقعيّة ، ومن أحكام النجاسة بطلان الصلاة الواقعة معها وفي معناها الأخبار المستفيضة ، بل المتواترة الواردة في اشتمال المصلّي على النجاسة ، المفصّلة بين سبق العلم بها على الصلاة وعدمه ، فموضوع النجاسة ما علم فيه بتحقّق السبب ، أو ما قارنه الحالة المتعقّبة للعلم بتحقّقه إلى أن تصل حدّ العلم بالخلاف.

ومن هنا يعرف أنّ العلم بعد ما كان داخلا في موضوع النجاسة لا يمكن دخوله في موضوع الطهارة ، وإلّا لزم ارتفاع النقيضين ، أو ضدّين لا ثالث لهما في صورة عدم العلم بشي‌ء منهما كما لا يخفى ، ولذا وردت الأخبار المتواترة حسبما عرفت بين صريحة وظاهرة في الحكم بالطهارة ما لم يعلم النجاسة ، فموضوع الطهارة حينئذ ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة.

ولا ريب أنّ هذا الموضوع ممّا لا يجتمع في الوجود الخارجي مع ما هو موضوع النجاسة ، وهو ما علم فيه بتحقّق سبب النجاسة ، لاشتمال كلّ على قيد معاند لما قيّد به الآخر ، فحيثما انتفى العلم وما يقوم مقامه حصل موضوع الطهارة ، وحيثما حصل العلم أو ما يقوم مقامه انتفى موضوع الطهارة ووجد موضوع النجاسة.

__________________

(١ و ٢) تقدّم في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٢.

٤٨٠