تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

أحمد السباعي

تأريخ مكّة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران - ج ١-٢

المؤلف:

أحمد السباعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-660-17-6
ISBN الدورة:
9960-660-18-4

الصفحات: ٧٩٣

الاستفادة العلمية التي كانت تعتمدها مكة فى عهدها هذا الذي نؤرخه.

ويحدثنا ابن هشام بعد هذا عن معاذ ابن جبل فيقول ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختاره يوم الفتح للقضاء في مكة عندما ولى امارتها عتابا بن أسيد ونحن إذ لا نجهل كفاية معاذ ابن جبل وميزته العلمية والمامه الواسع نستطيع أن نتبين نوعا آخر من أنواع الاستفادة التي اعتمدتها مكة يومها في شأنها التعليمي وإذا كانت كتب التاريخ تجمع على ندب معاذ بن جبل لتعليم اليمن فليس في هذا ما يتنافى مع اقامته في مكة عقب الفتح مباشرة لينفع المكيين قبل ندبه الى اليمن ويضيف الطبري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشرك معه هبيرة بن سبل الثّقفي ويقول ابن حجر في الاصابة ان هبيرة تولى مكة عام الفتح ولما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف عاد فولاها عتابا.

٨١

في عهد الخلفاء الراشدين

في عهد أبي بكر : ذكرنا فيما تقدم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولى أمر مكة بعد الفتح عتابا بن أسيد ، وعتاب بن أسيد من أفاضل بني أمية ينتهي نسبه إلى قصي بن كلاب القرشي وقد ظل في امارته مدة حياة النبي مثالا للسيرة الحميدة التي اوصاه النبي بها في قوله «أتدري على من وليتك يا عتاب؟ على جيران بيت الله فاستوص بهم خيرا».

ولما ولى الخلافة أبو بكر رضي‌الله‌عنه أقر عتابا في امارته فظل بها طيلة عهد أبي بكر وذكر بعض المؤرخين أنه توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر وذكر غيرهم أنه توفي يوم وافى نعيه مكة.

في عهد عمر : وتولى أمر مكة في أول خلافة عمر بن الخطاب المحرز ابن حارثة من بني عبد شمس القرشي ثم وليها قنفذ بن عمر بن جدعان ثم نافع بن عبد الحارث الخزاعي ثم أحمد بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي ثم طارق بن المرتفع (١) ثم الحارث بن عبد المطلب من بني هاشم (٢).

وأنت ترى أن عدتهم تلفت النظر ولكنك وأنت تعلم سياسة عمر نحو ولاته وشدته في مراقبتهم تستطيع تعليل هذه الظاهرة فقد كان عمر لا يرضيه من ولاته إلا القليل النادر لهذا كان كثير العزل فيهم كما ذكروا أنه سن لهم في عهده نظام المقاسمة فكان يحصى أموال عامله قبل توليته فإذا ما انتهت ولايته أحصى ثروته من جديد وصادر ما زاد فيها أو بعضها وردها إلى بيت المال إلا إذا

__________________

(١) ذكره ابن حجر في الاصابة باسم طارق ابن المريفع ، بالياء المثناه تحت

(٢) شفاء الغرام ٢ / ١٦٤ طبعة الحلبي.

٨٢

اتضح له أن هذه الزيادة قد نالها العامل من طرق مشروعة.

في عهد عثمان : عندما ألممنا بذكر الولاة في عهد أبي بكر وعمر لم نتعرض لحياة الشيخين في المدينة لأننا نقتصر فيما نؤرخ على أخبار مكة ولا نتعرض لأحداث الإسلام إلا ما كانت له علاقة خاصة بما نؤرخه وأحسبنا الآن في أشد الحاجة إلى الاستطراد الى ما كان من أمر عثمان في الحدث الإسلامي الكبير لما ترتب على هذا الحدث من نتائج لها علاقتها الخاصة بمكة.

وأمر عثمان رضي‌الله‌عنه أوسع من أن تلخصه عجالة محدودة أو يحدده فصل مقتضب فقد اختلف المؤرخون في القديم والحديث في تعليل أسبابه كما اختلفوا في تحقيق نتائجه وان كانوا قد اتفقوا باجماعهم على أنه أول حدث فجع المسلمين في كلمتهم وانه أول ثغرة دخل منها الوهن الى صفوفهم.

ولست أرى في أمر عثمان ما يدعو الى شدة الغرابة ، فقد كان رحمه‌الله سمحا كريما لين الجانب يسالم مستشاريه ولا يتعصب لرأي دونهم .. ولقد جاءت خلافته بعد الفاروق عمر وعندما أقول الفاروق أعني الرجل المهيب الجانب القوي الشكيمة الشديد العزم الذي هابته قريش وخاف سطوته المتمردون ورهب جانبه المقربون ، فإذا حلت السماجة وحل لين الجانب مكان هذه المميزات الجبارة فلا بد أن يحدث رد الفعل الذي انتهى اليه أمر عثمان وأنت تعلم أن رد الفعل بدأ يأخذ شكل الاستياء في أوساط محدودة ، ثم ما لبث أن اتسع الفتق وشرع المعارضون يجاهرون بانتقاد خليفتهم وينكرون عليه اصطناع شيعته كما ينكرون على شيعته حفاوتهم بالأمويين وتوليتهم الأعمال (١) وبرهم بأعطياته السخية من بيت مال المسلمين حتى دخل عليه علي بن أبي طالب

__________________

(١) الكامل ٣ / ٤٢ / ٦٩

٨٣

وقال له : «نعم يا عثمان إن أفضل عباد الله عند الله امام عادل وان شر الناس عند الله أمام جائر اني أحذرك الله وأحذرك سطوته ونقمته فان عذابه شديدا أليم».

وحفظ بعض أمراء الأجناد في الأمصار وهم من علية قريش على عثمان ان ولي الخلافة قبل أن يؤخذ رأيهم (١).

واستمرت المعارضة تطرد كلما تقدمت الأيام بها حتى انتقلت عدواها إلى الأمصار وكثر القيل والقال ، ثم عقدت الاجتماعات للبحث وتوحيد الجهود.

الفتنة : وأهلت السنة الخامسة والثلاثون للهجرة فأهلت باهلالها الثورة بدأت في الكوفة ثم انتقلت عدواها الى عرب الأمصار وكبار القراء المرابطين في مصر .. خرجوا يدعون إلى الثورة وخرج عرب الكوفة في ساقتهم ثم عرب البصرة. وقد انتهت جموعهم إلى أبواب المدينة يبغون افتتاحها فنشط أهل المدينة للذود عنها وقد كره الثائرون أن يقاتلوا أصحاب رسول الله فاتفقوا على الظهور بمظهر الناكصين حتى إذا أقلعوا بعيدا عن المدينة واستيقنوا أن المدافعين عنها أمنوا الى بيوتهم أعادوا الكرة فاقتحموا المدينة بدون قتال وأحاطوا بدار عثمان فحاصروه وظلوا على حصاره أياما حتى قتلوه (٢).

وتقول أكثر المصادر التاريخية ان اكثر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة حاولوا اصلاح البين وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب ولكن الأمر كان قد عز على الاصلاح وعظمت شروره على كل المساعي.

__________________

(١) نفسه ٣ / ٤٢

(٢) نفسه ٣ / ٨٥ وما بعدها.

٨٤

ولاة مكة لعثمان : مضى عهد عثمان في صورته الحزينة وفتنته العظيمة دون أن يترك في مكة الأثر الذي تركه في أمصار الاسلام الهامة التي تقدم بنا ذكرها وأحسب أن من أهم أسباب الهدوء في مكة أن عمال عثمان عليها كانوا لا يملكون اضطهادها بقدر ما يملك غيرهم في الأمصار لاتصال العائلات الكبيرة فيها بأقر بائهم من كبار المهاجرين بالمدينة وسهولة نقل الأخبار والشكاوى بين المدينتين كلما دعت الحاجة إلى نقلها من طريق المترددين من الأقارب ويؤيد لنا هذا ان عثمان رضي‌الله‌عنه كان كثير العزل لولاته في مكة فقد تنقلت الامارة فيها لعهده بين علي بن عدي بن ربيعة وهو من بني عبد شمس وخالد بن العاص وهو مخزومي والحارث بن نوفل وهو من بني عبد المطلب وعبد الله بن خالد بن أسيد بن عبد شمس وعبد الله بن عامر الحضرمي ونافع بن عبد الحارث من خزاعة (١).

حركة عائشة : لما اشتد الحصار على عثمان قبل قتله استنجد بعلي وطلحة والزبير وعائشة وأمهات المؤمنين فكان أولهم أنجادا له علي وأم حبيبة بنت أبي سفيان وقد جاءت الأخيرة على بغلة لها برحالة مشتملة على أداوة فقيل : أم المؤمنين أم حبيبة فضربوا وجه بغلتها فتلقاها الناس وقد مالت راحلتها فتعلقوا بها وأخذوها وقد كادت تقتل فذهبوا بها الى بيتها.

وعلمت عائشة بالأمر فجهزت نفسها للرحيل الى مكة (٢) وجاءها مروان مبعوثا من عثمان يقول : لو أقمت فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل فقالت أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة لا والله .. ومضت في عزيمتها حتى لحقت بمكة.

__________________

(١) شفاء الغرام ٢ / ١٦٥ طبعة الحلبي.

(٢) الكامل ٣ / ٩٩ وما بعدها.

٨٥

ولما قضت حجها وافاها خبر عثمان وبيعة علي فقالت : قتل مظلوما والله لأطلبن بدمه فقال لها ابن أم كلاب ولم؟ فو الله انك أول من أمال حرفه فقالت انهم استتابوه ثم قتلوه ، واجتمع الناس اليها فخطبتهم في حجر اسماعيل خطبة جامعة قالت : أيها الناس ان الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة بادءوا بالعدوان ونبا فعلهم عن قولهم : والله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه.

ومضت عائشة في دعوتها وانضم إليها طلحة والزبير عند عودتهما من المدينة كما انضم اليها الأمويون من اهل مكة والنازحون اليها مستجيبين للثورة (١) وانضم اليها أمير مكة لعثمان والتحق بهم واليه على اليمن يعلى بن أمية وجاد المنضمون بأموالهم دون حساب وغالى الأمويون منهم في الجود وتقدم يعلى بن أمية بالكثير من أمواله التي قدم بها من اليمن وفعل مثله عبد الله ابن عامر ثم توالت المؤتمرات كثرت الاجتماعات لتقرير الاتجاه الذي تتجه نحوه «هذه الحركة فكان من رأي عائشة أن يباغت القتلة في المدينة ومن رأى طلحة والزبير أن يشخص الجيش الى البصرة تدعيما له بمن فيها من صنائعهم وقد نزلت عائشة في نهاية الأمر على رأي من يقول بهذا ونادى مناديها بالخروج ، وخرجوا في ثلاثة آلاف رجل بينهم عائشة محمولة في هودجها على جمل شديد قوي (٢).

وعلم علي بالأمر فجمع الناس وخطب فيهم : «ألا أن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد تمالئوا على سخط أمارتي وسأكف أن كفوا وأقتصر على ما بلغني

__________________

(١) الكامل ٣ / ٩٩ ، ١٠٦

(٢) المصدر نفسه

٨٦

منهم» ثم رأى أن يأخذ عليهم الطريق فنشط الى الخروج وخرج بخروجه بعض أهل المدينة وجماعة من الكوفيين والبصريين حتى أتى الربذة ـ وهي من قرى المدينة ـ ثم انتقل الى ذي قار (١) ليكون على مقربة من جيش عائشة ولتتصل رسله بها فيستطيع أن ينصح لها ويرمي بآخر سهم في كنانته.

وقد مضت رسله الى عائشة تترى ثم كتب لها «يا عائشة كونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون ولا تعرضونا للبلاء ولا تعرضوا له فيصرعنا واياكم» في حديث طويل ترك أثره في عائشة كما ترك أثره في طلحة والزبير فقالوا لسفيره ارجع .. ان قدم علي بمثل هذا صلح الأمر ، فرجع سفير علي في احسن ما يرجع به سفير.

وبات الفريقان ليلتهما في أحسن ما يبيت فيه جيشان متصالحان واستأنف علي سيره الى البصرة في جموعه العظيمة ليكون أقرب الى مواطن الصلح حتى إذا انتهى قريبا منها ترك جيشه ومضى ليجتمع بعائشة وطلحة والزبير فقابلوه في ناحية منها وبدأوا حديثهم جميعا في جويسوده ـ بلغة اليوم ـ التفاهم والود ، وارفض المجلس على وئام واتفاق.

ولم يكن الوئام والاتفاق في صالح فريق ثالث كان يؤلب على عثمان حتى قتل ، لهذا ما فتىء أن تآمر هؤلاء على الاخلال بقواعد الصلح واثارة القتال بين الصفين في غرة من الفريقين فقد انسلوا بغلس حتى انحاز بعضهم الى جيش علي وانحاز آخرون للجيش الآخر ووضعوا السلاح فثار الفريقان وكانت الفتنة.

__________________

(٣) ماء بين واسط والكوفية في العراق.

٨٧

والفتنة عمياء أبد الدهر لا تبصر ما دونها فكيف بها والجيشان متقابلان على أهبة القتال في أعصاب مرهفة.

وتريث المتقون في كلا الفريقين وكان من رأي كل جماعة أن لا تكون البادئة بقتال ولكن الفتنة أبت أن تدع الفرصة لعاقل ونشاط السيوف الغادرة أبى ألا أن يثيرها عمياء.

وهكذا تضرم القتال وحمي الوطيس عامة النهار وما وافى المساء حتى تراجع أصحاب عائشة واستبسل أصحاب علي فعقروا الجمل وحملوا الهودج في احتشام حتى أبرزوه على الأرض ونادى منادي علي بالأمان بعد أن قتل من الفريقين نحو عشرة آلاف.

وقتل في هذه الموقعة طلحة والزبير ومحمد بن طلحة وكثير من مشيخة الصحابة وحملة القرآن (١) وقدر بعضهم سائر القتلى من الفريقين بعشرة آلاف في نسبة تكاد تكون متساوية بينهما وزاد غيرهم على ذلك وبالغ فيه بعضهم مبالغة شديدة.

وبهذا انتهت أول فتنة تبارز فيها جيشان مسلمان للقتال ، وإذا كان لمثلي رأي فلا أكثر من أن أقول أنها كانت سابقة أعطت للحياة دليلا قويا على تعدد الجوانب في كل شيء فهذان رعيلان اشتدا في سبيل الحق الذي يعتقدانه ولسنا نعقل أن الحق كان متعددا في هذه الفتنة فقد كان حقا واحدا ولكنه متعدد الجوانب بتعدد وجهات النظر .. انه درس اسلامي ثمين ليت المسلمين في كل زمان

__________________

(١) الكامل ٣ / ١٢٤ وما بعدها.

٨٨

يتعلمون منه أن لا يشتطوا فيما يرون وأن تتسع آفاقهم لآراء مخالفيهم وأن ينظروا الى مواطن الخلاف بنظرة غيرهم إليه عسى أن تتقابل النظرات وتتقارب الاتجاهات.

تنسكت عائشة في المدينة على أثر ما حدث منقطعة للعبادة والصيام والاستغفار وبلغ من ندمها على ما سلف أنها كانت تتمنى لو ماتت قبل يوم الجمل بعشرين سنة نسأل الله أن يسعهم جميعا بعفوه وأن يهبهم لحسناتهم ورضي أعمالهم أنه غفور رحيم.

ولاة مكة : واستتب الأمر لعلي على أثر تسليم أصحاب الجمل في مكة والحجاز وبقية الأمصار إلا إذا استثنينا أمر الشام الذي سنلم بأموره فيما بعد ، وقد ظل علي في مقامه بالكوفة على رأس جيوشه بعد أن عهد بامارة مكة إلى أبي فتادة الأنصاري ثم عزله وولاها قثم بن العباس (١) وقثم بن العباس من رجالات قريش الهاشميين كان قد أخلص العمل لعلي في مكة وأحسن في سيرته مع جيرة بيت الله وبذل كثيرا في سبيل الاصلاح مما سنلم به في فصل «النواحي الاجتماعية» ولم يتفق لعلي أن يحج بالناس في عهد خلافته لاشتغاله بالحروب فحج بالناس سنة ٣٧ عبد الله بن العباس وحج بهم في سنة ٣٩ قثم ابن العباس.

حركة معاوية : عندما استتب الأمر لعلي في أهم أمصار الإسلام ظل الشام بقيادة معاوية خارجا على طاعته يعلن العصيان وأنه لا يبايع ما لم يتسلم معاوية قتلة عثمان ليقتلوا به (٢) وفي الشام جند ألف طاعة قواده طاعة عسكرية قل أن يناقش فيها ، وعلى رأس هذا الجند معاوية وليس من يجهل تدبير معاوية

__________________

(١) شفاء الغرام للفاسي ٢ / ١٦٥

(٢) الكامل ٣ / ١٥٠ وما بعدها.

٨٩

وحسن سياسته للأمور وقدرته على امتلاك النواصي وكان في بلاط معاوية ، وكم يحسن أن لا ننسى ان لمعاوية رضي‌الله‌عنه بلاطا ، له في الشام أبهته الخاصة ومظهره الفخم لأنه رحمه‌الله كان الأمير الذي لم يبن امارته على غرار الامارات في الحجاز في مظاهرها المتواضعة.

أقول وكان في بلاط معاوية من ساسة بني أمية من أخلصوا الود لأمويتهم كما أخلصوا لمعاوية زعيمهم كما أخلصوا لمبدئهم الذي اتفقوا عليه ـ «انت يا معاوية لا تبايع عليا إلا إذا تسلمنا منه قتله عثمان» (١). وقتلة عثمان في رأي علي شائعون في جنده لم يقو سلطانه على حجزهم أو ادانتهم وهنا نرجو أن لا يفوتنا ـ وقد جاء السياق على جند علي ـ أن نعلق بشيء على نوع العلاقة التي تربط عليا رضي‌الله‌عنه بجنده فقد علمنا أن جند معاوية ألف طاعته وأسلس له قياده في أسلوب عسكري لا يناقش ، أما الأمر في جند علي فقد كان على العكس تماما.

يقول الأستاذ عبد الوهاب النجار في تاريخه عن الخلفاء : «إن عليا لم يكن القوي على جنده ، المالك لزمام عسكره ، الحذر لكل ما يخاف ، الواقف على ما يحدث» وكان خيرا في رأيي أن يقول ان جند علي لم يكونوا جنودا بالمعنى المعروف في عسكر معاوية يدينون بطاعة قائدهم ولا يناقشونها بل كان مجموعة هائلة متطوعة من أصحاب دين نفروا لنصرة إمامهم متطوعين وقراء خرجوا لأنهم وجدوا لأنفسهم في القرآن ما يدفعهم إلى الخروج ، وأصحاب تقوى

__________________

(١) المصدر نفسه.

٩٠

وصلاح اقتنعوا بالدفاع عن مبدأ رأوه ، ولسنا بهذا نريد أن ننفي الدين والتقوى والصلاح عن جميع جيش معاوية وانما نريد أن نقول أن هذه الخصال كانت أوضح في جيش علي ، وان العسكرية بمعناها المعروف كانت أظهر في جيش معاوية.

ونريد بعد هذا أن نقول ان النافرين مع علي بعقائدهم كانوا يستوحون في مواقف الخلاف ما يؤدي إليه اجتهادهم في العقيدة فكان على علي رضي‌الله‌عنه أن يقنعهم في كل موقف بما قال الله وما قال الرسول ، ولهذا رأينا عليا كثير الخطابة كثير الاستشهاد بآيات القرآن ، ولكن المغالين منهم قد يجدون في بعض الآيات خلاف ما استشهد به فلا يلبثون أن يعارضوا ولا تلبث المعارضة أن تأخذ شكل التجمهر فينشب الخلاف وتكون الفتنة ، ولهذا كانت العسكرية بأوامرها التي لا تناقش في كل زمان عمدة السلطان وعدته في التغلب.

ونمضى بعد هذا في ساقة علي فنجده يكتب الى معاوية ليبايعه فيتلقى الرفض أو يقبل تقديم قتلة عثمان فيدرك علي أنه احراج لأن أموره التي لم تستتب لا تهيئه لمثل هذا العمل فيمضي في جيشه الى الشام ويستأنف رسله فلا يوفقون فيبدأ قتاله في أواخر عام ٣٦ ه‍ ويستمر فيه نشيطا الى منتصف عام ٣٧ ه‍.

ويظهر جيش علي في بعض الجهات من الميدان وتبرز أبطاله في مواقفها وعندئذ يرى أصحاب الرأي في جيش معاوية أن يرفعوا المصاحف في وجه الجيش المتقدم (١) وأن ينادوا إلى كتاب الله ولا يراها أهل العراق حتى يلقوا سلاحهم مستجيبين. قال الرواة : فصاح بهم علي أن أمضوا فليس في هذا إلا

__________________

(١) الاخبار الطوال ١٩١ ، ١٩٢.

٩١

الدهاء والكيد فأبوا أن يسمعوا وصاح صائحهم : لا يسعنا أن ندعى الى كتاب الله فنأبى فكانت معارضة أوحاها اجتهادهم وكانت مخالفة عانى من جرائها علي ما لم يعانه معاوية في جيشه الذي رباه على الطاعة العسكرية» (١).

الأشعري وابن العاص

وعندما نزل علي على رأيهم وفوت على قائده الأشتر أغلى الفرص التي كان يتحينها استأنفوا معارضة أخرى في شأن من ينتدبونه عن العراق ليقابل عمرو ابن العاص مندوب الشام ، فقد كان من رأي علي أن ينتدب الأشتر قائده ليتكافأ الدهاء ، ولكن المتطوعين لا يعرفون الرضوخ ، وان ثقتهم في أبي موسى الأشعري الرجل الصالح المتدين المنحاز الى منتآه بعيدا عن معترك الحياة لا تعد لها ثقة اخرى ، وما كان في أصحاب علي من يعتقد في مرانة أبي موسى بالنسبة لصنوه ابن العاص ولكنها فكرة المتغلبين ولا بد من النزول عليها.

واجتمع المندوبان فقر را تسريح الجيشين الى أجل جعلوا مدته رمضان من ذلك العام ٣٧ حيث يجتمعان في دومة الجندل بين العراق والشام ليقولا كلمتهما ، ويفصلا في الأمر بما يحكمان (٢) وتفرق الجيشان فعاد معاوية إلى الشام ليستجم وجنده من عناء حرب كانت ستدور رحاها عليهم وآب علي بن ابي طالب الى العراق ليعاني من معارضة المتزمتين من جيشه ما يعاني ، قال له بعضهم تب من خطيئتك واذهب بنا الى عدونا حتى نقاتلهم فقال علي قد أردتكم على ذلك فأبيتم وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهودا وقد قال الله تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) فقال له حرقوص (٣) ان معاهدتكما كانت ذنبا

__________________

(١ و ٢) الكامل ٣ / ١٦٢ وما بعدها

(٣) حرقوص بن زهر السعدي شهذ مع علي صفين ثم صار مع الخوارج ومن أشدهم على علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، (أسد الغابة ج ١ ص ٣٩٦).

٩٢

ينبغي ان تتوب منه وقال له زرعة بن البرج (١) ، أما والله يا علي لأن لم تدع تحكم الرجل في كتاب الله لأقاتلنك.

وهكذا نراهم بعد أن خيل لهم الاجتهاد أن يستجيبوا الى رفع المصاحف عادوا فاستبانوا أو بعضهم أنهم في استجابتهم كانوا مذنبين وأن على علي أن يتوب من ذنبه في متابعته لهم (٢) وأمعن بهم التزمت حتى خرجوا على علي وحتى ظنوا الكفر بكل من لم يقل قولهم واستحلوا فيما يقول أكثر المؤرخين دماء المسلمين في الوقت الذي كان أحدهم يتورع عن التمرة يصادفها بين النخيل فلا يأكلها قبل أن يأذن صاحبها.

واجتمع الحكمان في موعدهما في رمضان عام ٣٧ في دومة الجندل بين الكوفة والشام ، ودلل عمرو بن العاص على دهائه الواسع باستدراجه أبا موسى الأشعري الى القرار الدي قرراه معا بعزل الخليفتين ليختار المسلمون من يختارون ، ثم بتقديمه أبا موسى ليعلن هذا العزل وليعقب عليه فيقول «أيها الناس انه عزل عليا وأيدت معاوية» (٣) وينفض المجلس لينتهي رسل معاوية الى الشام يسلمون عليه بالخلافة ، ويعود رسل علي إلى العراق يفصلون له خبر الخلع.

وتعقد الأمر على علي في العراق ، وأشار عليه أصحابه باستئناف القتال في الشام وأشار آخرون بالبدء بالخارجين «الخوارج» تفاديا من استفحال الأمر بين يديه فنزل على الرأي الأخير ، وأرسل نذره الى الخوارج فعاد إلى طاعته بعضهم

__________________

(١) أحد الخوارج الذين خرجوا على علي وخالفوه في التحكيم (الطبري ج ٤ ص ٥٣).

(٢) الفصل في الملل لابن حزم ٤ / ٥٥.

(٣) الكامل ٣ / ١٦٧ وما بعدها

٩٣

وأبى البعض الآخر وتحشدوا في النهروان ، فسار اليهم وقاتلهم حتى انهزموا (١).

ثم عاد يستنفر الناس للخروج الى الشام فتباطأوا وأعلنه بعضهم أن مواصلة الحروب أرهقت جهودهم بينما نشطت أعمال معاوية في الشام ومضت جيوشه تغز ومصر وأطرافا اخرى من الولايات التابعة لعلي.

مكة بين علي ومعاوية : وفي عام ٣٩ ه‍ انتدب علي عبد الله بن عباس ليتولى موسم الحج في مكة وبعث معاوية من ناحيته يزيد بن شجرة الرهاوي (٢) في ثلاثة آلاف فارس ليقيم بالناس الحج ويأخذ له البيعة بها وينفي عنها قثم بن العباس عامل علي ، فلما أحس قثم بقربه استعد للقتال ، فلما وصل ابن شجرة قبل التروية بيومين وعلم باستعداد مكة لصده استدعى أبا سعيد الخدري وقال له : إني لا أريد الالحاد في الحرم واني أرى أن أعتزل الناس أناوقثم ويقيم الحج بهم من يختارون فوافقه قثم واختار الناس شيبة بن عثمان حاجب البيت فحج بهم ولما قضى الناس الحج عاد يزيد في جيشه الى الشام وترك مكة لقثم وقد ظلت كذلك الى أن استتب الأمر لمعاوية في بلاد الإسلام فأرسل من يتولى أمرها كما سيأتي.

وأهل عام «٤٠ ه‍» وجيوش معاوية ماضية في عزيمتها تفتح الولايات التابعة لعلي وأخذ البيعة فيها لمعاوية حتى انتهى الأمر الى فتح المدينة ثم مكة ثم اليمن وظلت جيوش علي على تثاقلها في العراق وظل علي رضي‌الله‌عنه يقاسي من خلافها ما لا يحتمله إلا قوى صابر ولم يستطع بعد عناء شديد أن يستنفر إلا أقلية لا تصمد لحرب وقد وجهها الى اليمن فامتلكتها ثم مضت إلى مكة

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) يزيد بن شجرة الرهاوي من أصحاب معاوية (الاعلام ج ٣ ص ١١٦٠).

٩٤

فما وافتها حتى كانت أخبار اغتيال علي قد سبقت فخرج أهل مكة الى قائد علي جارية بن قدامة (١) صائحين لمن نبايع؟ وهذا علي مقتول فأبى ألا ان يأخذ البيعة لمن يتولى خلافته فقبلوا ذلك.

اغتيال علي : واغتيال علي نتيجة التعصب في غير هدى فقد تراءى لثلاثة من الخوارج أن يحسموا خلاف المسلمين باغتيال الزعماء الثلاثة علي ومعاوية وعمر وبن العاص وجعلوا موعدهم ١٧ رمضان من عام ٤٠ ه‍ وقد نفذ عبد الرحمن بن ملجم وهو المكلف باغتيال علي رضي‌الله‌عنه الى مسجد الكوفة وكمن له حتى قتله في خروجه إلى صلاة الفجر ونفذ المكلفان بمعاوية وعمرو بن العاص الى أصحابهما فلم يوفقا (٢).

ودفن علي رضي‌الله‌عنه في النجف (٣) قرب الكوفة وربما اختير قبره على حافة الصحراء لئلا ينبشه الخوارج.

النواحي العامة في عهد الخلفاء الراشدين

الناحية الدينية والعلمية : توسعت ثقافة مكة في هذا العهد على ضوء دينها الجديد ، وبالرغم من أن قبائل العرب في كثير من جوانب الجزيرة تراءى لها أن ترتد على أثر موت الرسول لولا أن أدركها حزم أبي بكر فان مكة ثبتت على ما تعلمت.

وعندما ندب فريق كبير من رجالها للاشتراك في تأديب العاصين من مرتدي القبائل أو اختير للعمل في المدينة بجانب بيت الخليفة ظل الكثير من شيوخها

__________________

(١) من قواد الامام علي رضي‌الله‌عنه (الطبري ج ٤ ص ١٠٥).

(٢) الكامل ٣ / ١٩٦.

(٣) معجم البلدان لياقوت ٨ / ٢٨٦.

٩٥

عاكفا على ما علمه القرآن وظل شبابها يتدارس ما حفظه من آياته وزاد عدد الكاتبين الذين حفلوا بتدوين ما تلقنوا من آياته عن شيوخ الصحابة وكبار المهاجرين.

وظل المسجد الحرام على صغره يزدحم في هذا العهد برجال الحديث والقراء وأصحاب الفتوى ، وظلت حلقاتهم تناقش تفسير الآيات وتقارن بينها وبين ما عرفت عن القواعد في لغة آبائهم من قريش ويتضاعف اتساع الحلقات في مواسم الحج ويشتد تنافس الطلب كلما هبط من المدينة أحد الصحابة المشهورين بترددهم على مجالس رسول الله.

٩٦

الناحية الاجتماعية : اتسعت في هذا العهد هجرة المكيين باتساع الفتوح وعظم ثراؤهم ، فبدأت رؤوس الأموال تتضخم عما كان عليه الأمر في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبدأت تجارة قريش في مكة تتجاوز الحدود التي كانت تعرفها في عهد رحلتي الشتاء والصيف.

وتدفق المهاجرون من أنحاء الأمصار المفتوحة وتدفق بتدفقهم شيء من لغاتهم وكثير من عاداتهم فعرف المكي في طعامه بعض الألوان الجديدة واتخذ بعض الأردية التي قلدها في أواخر العهد الجاهلي بعد أن حذف منها الحرير الذي علمه القرآن تحريمه واستعاض عنه بالمبالغة في التصبيغ وتلوين الأثواب بالأحمر والمورد والأصفر الفاقع.

وبدأت مجالس السمر التي كان يتفنن المترفون في اعدادها تأخذ اشكال الحلقات يدرس فيها بعض العلوم وتتلى المواعظ ويحدث فيها أصحاب السير والمغازي أو يتبسط المتمولون في أحاديثهم فيها عن التجارة وأصناف السلع المجلوبة. وتعلمت مكة في هذه الأثناء معاني التوحيد في الحكم فنسيت التعصب لشيوخها في البطون والقبائل ودانت جميعها أول ما دانت لحكم عتاب بن أسيد فاعتبرته مصدرا وحيدا للأوامر والنواهي بعد القرآن والسنة بعد أن كانت في جاهليتها موزعة بين عشرات الشيوخ يحكمونها بشتى أنواع الحكم.

ودأب عتاب على الحدب عليهم وتوزيع عدله بينهم بالتساوي بصورة لم يعرفها المجتمع في مكة قبله ، وكان لهم من حلمه وتواضعه ما غمرهم به في بحبوحة من الأمن لا يخشون فيها عتوا من مستبد ولا ارهاقا من ظالم وظل الأمر على ذلك طيلة العهود التي تولاها عمال الخلفاء الراشدين فقد كان هؤلاء العمال يعرفون قربهم من مركز الخلافة وعلاقتهم بأصحاب الشأن في المدينة.

٩٧

الناحية العمرانية : وتكاثف زحام البيوت في هذا العهد حول المسجد لأن الأغلبية من مهاجري الآفاق كانوا يفضلون قربه فأخذ وسط أم القرى شكل المدينة المكتظة وتركت الأطراف للقبائل التي تنزلها تؤدي معاني الضواحي للبلدة.

ولم يزد الاكتظاظ في طول البلدة عن «المدعي» من الناحية الشمالية وعن أوائل الهجلة وقبل الشبيكة من الناحية الجنوبية أما شرقها الى غربها فقد كان تكاثف السكان فيهما من أوائل مدخل أجيادين الى القشاشية الى النواحي القريبة من سوق الليل وشعب بني هاشم ومن سويقة الى قرارة المدحي الى الجزء القريب مما نسميه الشامية.

وبدأت الثروات في عهد عثمان تزيد أرقامها في مكة عما عهدنا في عهد الشيخين ذلك لأنه أضيف الى نشاط مكة التجاري مصدر جديد من مصادر الثراء ذلك هو عطاء عثمان وليس غريبا أن يكون عطاء عثمان مصدرا للثراء فقد كان قبل خلافته من أجواد العرب الممتازين ونوادره في هذا معروفة مشهورة فلما انقادت اليه الخلافة وكانت الفتوحات قد اتسعت وغنائم الأمصار قد انهمرت على المدينة كان لا بد لجود عثمان أن يتسع مداه ولا بد لجلة قريش وكبار أهليها من ذويه وأقاربه أن ينالهم جوده الواسع ، ذكروا أنه أعطى الزبير ستمائة ألف وأعطى طلحة مائتي ألف وأعطى غيرهم مثل ذلك فتدفقت الأموال على مكة إلى جانب ما تدفق اليها من غنائم الحروب وجلب الرقيق اليها من أطراف الأرض المفتوحة شراء أو اهداء فأينعت الحضارة وكثرت الأيدي العاملة في المزارع المحيطة بمكة وأنشئت الجنات في بعض ضواحيها وحفرت الآبار واتخذت السدود من مياه الأمطار ووجدت الاقطاعات

٩٨

الضخمة في أراضي الطائف ، وأكثرها ملك للقرشيين وانتقل الى هذه الاقطاعات كثير من قريش يسهرون على غلاتها وقد ظل كثير من بطونهم يعيش الى اليوم في بعض ضواحي الطائف.

وماجت مكة على أثر هذه الحركة بسكانها من القبائل النازحة اليها والموالي المجلوبين من الفرس والروم وبدأت تستقبل فى عهد عثمان كثيرا من الذين نزحوا عنها في عهد الشيخين للالتحاق بالجيوش الفاتحة .. عاد إليها البعض بما كسبه من غنائم كما عاد البعض الآخر بما في صدورهم من العلوم فحفلت مكة بحلقات المعلمين كما حفلت أسواقها بمتاجر أهل الثراء ولم تشترك مكة في فتنة عثمان التي اشتركت فيها أهم أمصار الإسلام وإذا كان بعض المهاجرين من أهلها في المدينة اتصلوا بالفتنة من بعض أطرافها فذلك بحكم بقائهم فيها واشتغالهم بالسياسة العليا في حكومتها.

ولعلنا لسنا في حاجة الى استقصاء الأسباب التي عصمت مكة من مزالق الفتنة لأننا ألمعنا فيما سلف من بحثنا في عهد عثمان ان مكة بحكم جوارها بالمدينة واتصال عائلاتها بكبار المهاجرين هناك كانت تتمتع في حكومة عثمان بمعاملات خاصة لا أثر فيها للتذمر الذي يدعو الى القلاقل والفتن. وعندما نادت عائشة بقيامها لم يتبعها من مكة إلا الأقلون وأكثرهم من أشياع بني أمية واتباعهم وبعض المشتغلين بالسياسة العليا وهؤلاء لا يكونون الرأي العام في البلاد.

وكما تعاونت مكة مع ولاة عثمان مدة خلافته وساعدت في تنشيط الحركة العمرانية لعهده رضيت بولاة علي وأخلصت الود لهم ولما أراد قثم بن العباس ان يحارب الترف الذي بدرت بوادره كنتيجة لتضخم الثروات التي أشرنا اليها كادت أن تسلس له القياد وتصيخ الى دعوته ، واني أكاد أجزم انه لو طال عهد قثم

٩٩

في ظل خلافة علي لظلت مكة الغنية بما أثرت باقية على حدودها المباحة ولما طغى الترف طغيانه الذي بدت ألوانه فيما بعد واضحة طيلة عهد الأمويين على ما سنبينه في الفصول الآتية :

الاصلاحات : وعني عمر بالاصلاحات العامة فوسع في طريق المسعى وكان لآل الخطاب دار فيها فأمر بهدمها وجعلها رحبة ومناخا للحجاج ويذكر الأزرقي أن بعضهم استغل تلك الرحبة فيما بعد فاتخذوا فيها مقاعد وفي المقاعد صناديق يبيعون عليها ويجعلون متاعهم فيها ليلا ثم صارت لها خيام بالجريد ثم ما لبثت أن بنيت باللبن النيء «في عهد بني أمية» يكرونها في الموسم فخاصم فيها بنو عمر حتى حازوها وكان فيها أصحاب الأدم (١) وفي عهد عمرو دهم المسجد سيل يعرف بسيل «أم نهشل» وهي امرأة في مكة سمي السيل بها لأنه اجترفها فماتت فيه وقد علا السيل مكة من جهة المدعى لا من وادي ابراهيم كعادته فدهم المسجد واقتلع مقام ابراهيم فذهب به إلى حيث وجدوه في أسفل مكة فلما علم ابن الخطاب بذلك ركب من المدينة في رمضان عام ١٧ ه‍ وحقق عن الموضع الذي اقتلع منه مقام ابراهيم حتى تأكد له فأعاده اليه (٢) ثم عالج موضوع السيل بأن أمر بردم أرض المدعى لتعلو عن مستوى السيل فيجري في مسيله بوادي ابراهيم ـ وهو ردم بني جمح ـ وقد كبس بالتراب والصخر العظام (٣) فكان الركبان والمشاة يصعدون في الطريق المردوم حتى يشرفوا في نهايته على الكعبة لذلك سميت المدعى ثم عنّ له اصلاح المسجد وتوسيعه فاشترى بعض الدور الملاصقة للمسجد ولما امتنع أهلها قومت اثمان دورهم وجعلت أمانة لدى بيت المال فلما رأوا عزمه أخذوا الثمن (٤).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقي ٢ / ٢١٢.

(٢) المصدر نفسه ٢ / ١٣٤

(٣) المصدر نفسه ٢ / ١٣٥

(٤) شفاء الغرام ١ / ٢٢٤

١٠٠